الفصل الخامس

العصور المظلمة

عندما كنت أعمل على رسالة الدكتوراه، انضمت رسَّامة إلى فريق الفيزياء الفلكية. كانت تجلس بالخلف تدوِّن الملاحظات في ندوات يوم الإثنين، بينما كان معظم الحضور يغالبه النعاس. لم يكن شعورنا بالنعاس والخمول تعبيرًا عن استيائنا من المتحدِّث، بل كان يعكس ميل الباحثين إلى البقاء ضمن مجال اختصاصهم. إذ طُرحت أسئلة من قبيل: هل تريدون دراسة الكواكب في الأنظمة النجمية الأخرى؟ مَن لديه اهتمام بمعرفة كيفية نشأة الكون؟ هل تريدون دراسة علم الكَوْنيات؟ هل يعنينا حقًّا أن نسمع عن كوكب غريب آخر؟ لكن يبدو أن كاتي باترسون كانت تهتم بكل شيءٍ. وحسبما هو متوقَّع، فبصفتي طالبة دكتوراه شعرتُ أنه لم يكن لديَّ الوقت الكافي للاهتمام بالفنون. ومن ثَم، لم يحالفني الحظ في متابعة أعمال باترسون. وبعد عقد من الزمن تقريبًا، رأيتُ عملًا فنيًّا يصور تطوُّر الكون، وبعد بعض البحث اكتشفتُ أن هذا العمل الفني كان للفنانة كاتي باترسون.1 يا له من عالم صغير! ما فعلته باترسون هو أنها صممت عجلة دوارة ذات ألوان تدرجية متصلة، تصوِّر اللون العام للكون في أزمنة مختلفة من تاريخه. يمكنك إلقاء نظرة على هذا العمل الفني، الذي يحمل اسم «الطيف الكوني»،2 في صورة ١١ في ملحق الصور بنهاية الكتاب.
في البداية كانت حرارة الكون مرتفعة للغاية حتى إن لونه كان أبيض بسبب طاقة الانفجار العظيم (كما هو موضح في الصورة الملونة). مع تمدُّد الكون، انخفضت درجة حرارته، وتغيَّر لونه إلى الأزرق ثم الأصفر والبرتقالي، حتى وصل إلى أطول الأطوال الموجية للضوء المرئي، وهي أغمق درجة من اللون الأحمر. وبذلك أُعلنَت بداية العصور المظلمة. لقد تمدَّد الكون وبردَ الغاز، بحيث أصبح بالكاد ينبعث ضوء بأطوال موجية ضمن الجزء المرئي من الطيف؛ هذا إن كان هناك ضوء ينبعث على الإطلاق. كان ذلك قبل أن تتشكَّل النجوم، عندما كان الغاز لا يزال يتجمَّع لإحداث الاندماج. ثم انبثقَ فجأة وميضٌ أزرق معلنًا عن ميلاد النجوم الأولى الزرقاء الساخنة الضخمة ومجيئها إلى الوجود، مما أدى إلى ارتفاع درجة حرارة الغاز بشدة مع بزوغ الفجر الكوني. لم يَدم وجود هذه النجوم لفترة طويلة، وسرعان ما ظهر الجيل الثاني والجيل الثالث من النجوم، وكانت أكثر برودة واصفرارًا، حتى وصلنا إلى لون الكون الحالي. توصَّل العلماء إلى لون الكون من خلال حساب متوسط ألوان المجرات المرصودة، وتعديله وفقًا لتأثير انزياح الضوء نحو الأحمر، وكذلك وفقًا لمدى حساسية أعيننا تجاه بعض الألوان أكثر من غيرها. كان أكثر لون من المرجَّح أن يراه الإنسان إذا خلط كل الألوان معًا هو اللون البيج، الذي أطلقوا عليه اسم «اللاتيه الكوني»،3 على افتراض أن يكون لهذه التسمية وقعٌ مثير للاهتمام فيما يخص اللون البيج في البيانات الصحفية. لكن هذا اللون مخيِّب للآمال إلى حد ما، مع الأخذ في الاعتبار عمق الألوان الغني والتنوع الموجود في الكون. والأكثر من ذلك أن القرص الدوار (أو العجلة) يكشف لنا ما سيئول إليه الكون في النهاية، حيث تكمل جميع النجوم حياتها كعمالقة حمراء. وعندما يتلاشى النجم الأخير، ويتمدَّد الكون كثيرًا بحيث لا يمكن أن تتشكَّل نجوم جديدة من الغاز المنتشر والممتد، سيسود اللون الأسود إلى الأبد. توقعٌ كئيب، أليس كذلك؟ دعونا ندير العجلة إلى الوراء ونركِّز على البدايات بدلًا من النهايات، فيما يُعرَف باسم الفجر الكَوْني.

قياس درجة حرارة الكون

تخيَّل حين كان الظلام يسود كلَّ شيء. ظلام حقيقي حالك. ظلام حيث لا يزال عقلك يجبرك على النظر حولك، على الرغم من عدم الجدوى. من المحتمَل أنك لم تصادف ظلامًا حقيقيًّا ما لم تكن قد سعيت إلى عيش تلك التجربة. ففي العالم الحديث يحيط بنا الضوء الاصطناعي من كل اتجاه. يعيش ٩٩٪ من سكان أوروبا وأمريكا الشمالية تحت سماءٍ غارقة في التلوث الضوئي.4 وقد أصبح الظلام شيئًا نادرًا، بل وحتى صار سلعة للبيع. في كثير من المدن حول العالم، يمكنك الاسترخاء في خزانات عزل أو تناول العشاء أو حتى قضاء موعد سريع في الظلام الدامس، نظير دفع السعر المناسب. أما أولئك الذين يرغبون في الحصول على تجارب أقل تطرفًا، فبإمكانهم الانضمام إلى علماء الفلك الهواة والمخيمين المهتمين بهذا المجال، والتوجه إلى ما يقرب من مائة مكان تابع للجمعية الدولية للسماء المظلمة. فهناك تكون السماء بمنأًى عن وهج المكاتب المضاءة وضباب أعمدة الإنارة المكشوفة، مما يتيح لنا النظر إلى ما يوجد فوق رءوسنا طوال الوقت: الكواكب التي تجوب السماء، والنجوم التي تتشكَّل لتحكي لنا حكايات، وإذا حالفنا الحظ، فسنرى المجرة تمتد عبر السماء. تذكِّرنا هذه اللوحة السماوية بأننا لا نمثل إلا جزءًا صغيرًا جدًّا من كون كبير، مهما حاولنا أن نمحو الأدلة التي تبرهن على ذلك. والنظر إلى ظلام العصور المظلمة يذكِّرنا الآن بأن أعمارنا صغيرة للغاية.

لتخمين ألوان الكون المبكر، عملت باترسون مع العلماء لحساب درجة حرارة الكون عند مرحلة ما وافترضت أن الكون كان يشع بوصفه جسمًا أسود، وهو ما رأيناه افتراضًا معقولًا نظرًا إلى طبيعة طيف الجسم الأسود المتوقع من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. الشيء الوحيد الذي يميِّز طيف الجسم الأسود هو درجة الحرارة؛ ولذا بالنظر إلى درجة الحرارة، يمكنك معرفة شدة الضوء المنبعث عبر جميع الأطوال الموجية، وحساب متوسطها للحصول على اللون الإجمالي.

يمنحنا الضوء، بمحض المصادفة، طريقة للعودة بالزمن. وبسبب سرعة الضوء المحدودة، كلما ابتعد الجسم الذي ننظر إليه، تأخَّر الزمن الذي نراه فيه: فالشمس تظهر كما كانت قبل ثماني دقائق، ويظهر المريخ كما كان قبل أربع دقائق، ومجرة أندروميدا تظهر كما كانت قبل ٢٥٠ مليون سنة. وفي أفضل الأحوال، يمكننا أن ننظر بعيدًا بما يكفي لمعاينة النجوم الأولى التي تشكَّلت قبل حوالي ١٣ مليار سنة من خلال رصد ضوئها المرئي. إن تقنية بناء تلسكوب بصري قادر على العمل بهذه الحساسية أمرٌ يفوق قدراتنا، ولذا يتعين علينا التوصل إلى طريقة أخرى، والإجابة موجودة في عجلة الطيف الكَوْني لكاتي باترسون. ما تخبرنا به العجلة هو أنه يمكننا تتبع ما حدث فيما يتعلق بتكوين النجوم من خلال النظر إلى لون الغاز المتناثر في الكون أو درجة حرارته. فبينما تندمج تلك السحب الغازية المحظوظة، تتبدد السحب غير المحظوظة لتشكل ما نسميه الوسط بين النجمي: وهو مجموعة منتشرة من الذرات معظمها من ذرات الهيدروجين والهيليوم تنجرف في الفضاء بين نجومنا الأولى. إذا كان الغاز دافئًا، فمن المرجَّح أن تكون النجوم قد تشكلت. وإذا كان الغاز باردًا، فهذا يعني عدم وجود أي نجوم حوله؛ إما لأنها لم تتشكَّل بعد، أو لأنها ماتت جميعًا. ماذا لو تمكنا من العثور على النجوم الأولى ليس من خلال رؤيتها، ولكن من خلال تحديد الوقت الذي استغرقته في تسخين الغاز بدرجة كافية للكشف عن مواقعها؟

fig13
شكل ٥-١: انعكاس اتجاه الدوران المغزلي. إذا انعكس اتجاه الدوران المغزلي لإلكترون ما (e)، فإن دورانه يتغير من دوران متوازٍ إلى دوران متعاكس، وتطلق الذرة فوتونًا (γ) يبلغ طوله الموجي ٢١سم.

لقد حاولت عدة تجارب القيام بذلك على مدى العقد الماضي. وسُميت هذه التجارب بالتجارب «العالمية» بمعنى أنها تشمل كل شيء، أو قابلة للتطبيق في كل مكان؛ لأنها تسعى إلى تحديد عصر النجوم الأولى من خلال حساب متوسط درجة حرارة السماء المرصودة. كان رصد بنزياس وويلسون لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي أيضًا قياسًا عالميًّا؛ فقد اكتشفا درجة حرارة واحدة عوضًا عن توضيح التغيرات التي تطرأ على درجات الحرارة عبر السماء كما فعلت بعثات لاحقة مثل مسبار ويلكنسون لقياس التباين الميكروي وتلسكوب بلانك. ولقياس إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، سار العلماء المعاصرون على خطى بنزياس وويلسون وضبطوا تلسكوباتهم على التردد الذي عرفوا أنه يميز إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. ونحن نطبق المبدأ نفسه عند محاولة اكتشاف درجة حرارة الغاز الأولي. فالغاز الساخن يصدر إشعاعًا؛ وغاز الهيدروجين على وجه الخصوص يصدر إشعاعًا بطول موجي مقداره ٢١سم.

درجة حرارة الدوران المغزلي

نطلق على هذا الإشعاع اسم إشعاع اﻟ ٢١سم؛ لأن الطول الموجي للفوتون (γ) يبلغ ٢١سم، ويبلغ تردده ١٤٢٠ ميجاهرتز. تبعث ذرة الهيدروجين فوتونًا يبلغ طوله الموجي ٢١سم عندما يغير الإلكترون الخاص بها حالة الدوران المغزلي. والدوران المغزلي سمة من سمات الذرات، كما هو الحال مع الكتلة والشحنة الكهربائية، لكنه أقل شهرة بالنسبة لدينا لأنه لا يوجد لدينا نظير له. فعندما يدور البروتون والإلكترون دورانًا متوازيًا، يكونان في حالة إثارة أكبر؛ وتزيد الطاقة في النظام. أما إذا كانت الإلكترونات والبروتونات تدور باتجاه متعاكس، فإن حالة إثارة ذرة الهيدروجين تقل. وإذا تغيَّر دوران الإلكترون من الدوران المتوازي إلى الدوران المتعاكس، كما يمكن أن يحدث تلقائيًّا أو بفِعل مؤثر خارجي، فإنه يطلق حزمة من الطاقة على شكل فوتون يبلغ طوله الموجي ٢١سم. وحينها تصبح الذرة في الحالة الأرضية. يشبه هذا وجود مغناطيسَين جنبًا إلى جنب. فالأمر يتطلب مزيدًا من الطاقة لإبقاء القطبَين المتشابهَين متلامسَين N-N وS-S؛ فهما بطبيعة الحال يريدان أن يكونا متعاكسين N-S وS-N. وذرة الهيدروجين تريد أن تكون في أقل حالاتها نشاطًا، ولذا إذا كان الإلكترون يدور دورانًا متوازيًا، فلن يمر وقتٌ طويل قبل أن تقل حالة الإثارة حيث ينعكس اتجاه الدوران المغزلي وينبعث فوتون بطول موجي ٢١سم. تخبرنا درجة حرارة الدوران المغزلي للغاز بدرجة الحرارة التي يحتاج إليها الغاز لتصل نسبة معينة من ذراته إلى حالة الإثارة وتظل النسبة المتبقية في حالة الطاقة المنخفضة. وتشير درجة حرارة الدوران المغزلي المرتفعة إلى استثارة نسبة أكبر من الغاز إلى مستويات أعلى من الطاقة، وبالتالي تزيد شدة الإشعاع الذي يبلغ طوله الموجي ٢١سم والذي من المتوقع أن يشع من الغاز.

تتمتع درجة حرارة الدوران المغزلي لغاز الهيدروجين بتاريخ مثير للاهتمام عبر الزمن الكوني، حيث ارتفعت وانخفضت وفقًا للعوامل الأكثر تأثيرًا عليها. في بداية الكون، خضعت ذرات الهيدروجين لتغيُّر في اتجاه الدوران عند اصطدامها بذرات هيدروجين أو إلكترونات ذات دوران معاكس، مما ساعد في تحديد درجة حرارة الدوران المغزلي. ومع تمدُّد الكون، قلَّ عدد هذه الاصطدامات ووتيرة حدوثها، وبدلًا من ذلك أصبح امتصاص فوتونات إشعاع الخلفية الكونية الميكروي هو القوة المهيمنة وراء تحديد عدد ذرات الهيدروجين الموجودة في الحالة المثارة، وبالتالي تحديد درجة حرارة الدوران المغزلي. ومع تشكُّل النجوم الأولى، ظهرت آلية ثالثة لتحديد درجة حرارة الدوران المغزلي. فقد أصدرت النجوم الأولى فوتونات أشعة فوق بنفسجية عالية الطاقة أدت إلى تسخين الغاز واضطراب درجة حرارة الدوران المغزلي. وامتصت ذرات الهيدروجين فوتونات الأشعة فوق البنفسجية، مما أدى إلى إثارة الإلكترونات بما يفوق مستوى الطاقة الذي كان يشير إليه انعكاس اتجاه الدوران المغزلي. لا تفضل الإلكترونات مستويات الطاقة العالية، ولذلك عندما تنخفض إلى مستوى طاقة أقل، تطلق الذرة فوتونات. ستجد بعض الإلكترونات الموجودة في بعض ذرات الهيدروجين نفسها تسقط في حالة عكس اتجاه الدوران المثيرة، حينها ستطلق فوتونًا بطول موجي ٢١سم في الخطوة الأخيرة لتصل إلى الحالة الأرضية. يُسمى هذا التغيير في الحالة بسبب فوتونات الأشعة فوق البنفسجية بتأثير فوتهايسين-فيلد. وهو يفصل درجة حرارة الدوران المغزلي عن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي ويربطها بدرجة حرارة الغاز عوضًا عن ذلك. وتعمل فوتونات الأشعة فوق البنفسجية على تسخين الغاز وتحديد درجة حرارة الدوران المغزلي، مما يؤدي إلى ارتباط الاثنين معًا واقتران أحدهما بالآخر.

أول اكتشاف للضوء الأول

تهدف التجارب العالمية على الفوتون الذي يبلغ طوله الموجي ٢١سم إلى قياس شدة إشعاع هذا الفوتون في أوقات مختلفة من تاريخ الكون، وملاحظة تغيراته مع تمدُّد الكون وتكوُّن النجوم الأولى. إنها تجربة بسيطة وصعبة في الوقت نفسه: فهي بسيطة من حيث المفهوم، ولكنها تتطلب الكثير والكثير من حيث التنفيذ. لقد قدمتُ عددًا لا يحصى من العروض التقديمية حول التلسكوبات الرائدة في تحقيق أول اكتشاف للنجوم الأولى، لكنني لم أناقش أي تجارب عالمية مطلقًا. ومع ذلك، تلقيتُ في فبراير ٢٠١٨ مكالمة هاتفية من أحد الصحفيين،5 يطلب تعليقًا على أول اكتشاف للنجوم الأولى من خلال تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي.6 وعصر إعادة التأين هو الفترة التي عملت فيها النجوم الأولى على تسخين الغاز المحيط بها وتأينه.

حُظرَت الدراسة ولم تصدر على الفور، وهو ما كان يعني أنني سأحظى بشرف قراءتها قبل معظم زملائي، وهنا تحوَّل صمتي من هَوْل الصدمة إلى شعور عارم بالإثارة. لم أستطع احتواء حماستي، وقفزتُ في جميع أرجاء المنزل. لقد كانت تجربة منافسة لتلك التي عكفتُ على العمل فيها طوال العقد الماضي. ولكن شعور الإثارة الذي حفَّزته فكرةُ التوصُّل أخيرًا إلى بعض البيانات من هذا العصر، وإزاحة الستار قليلًا عن تلك الحقبة، كان فيما يبدو شعورًا جماعيًّا وليس حكرًا عليَّ وحدي. لقد نجحت تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي في قياس درجة حرارة الغاز بعد ١٨٠ مليون سنة من الانفجار العظيم. وقد عثرتُ على ذلك الموضع على عجلة الطيف الكَوْني الذي بدأ عنده اللونُ الأحمر الداكن للغاز البارد يتحول إلى اللون الأزرق الساطع للكون الساخن، معلنًا عن تكوُّن النجوم الأولى. وهكذا توصلوا إلى نهاية العصور المظلمة، وسطوع أول أشعة الفجر الكَوْني.

تشبه تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي آلة السفر عبر الزمن «تارديس» (ظهرت هذه الآلة في المسلسل التلفزيوني الممتع «دكتور هُو»). فهي تتكوَّن من هوائيين متماثلَين في التكوين مختلفَين في النطاق: أحدهما مضبوط على الترددات العالية لعصر إعادة التأين، والهوائي الآخر المنخفض النطاق مضبوط على فوتونات العصور المظلمة المنخفضة التردد. ويشبه كل منهما في جوهره طاولة معدنية. فهناك هوائيان أفقيان يستندان على هيكل داعم، بالإضافة إلى لوح أرضي من المعدن يهدف إلى تقليل التداخل الناتج عن البيئة الشديدة الهدوء في صحراء أستراليا الغربية. يتملكني شعور بالصدمة في كل مرة أنظر فيها إلى صورة أحدهما. مجرد طاولة! في الصحراء! ويمكنها الرجوع إلى بدايات كوننا!

عندما تقارن هذه التجربة بمسبار هابل المتطور الموجود في الفضاء، فستجد أنها تجربة متواضعة من حيث الحجم والتكلفة والإبهار، ولكنها ليست كذلك من حيث النتائج. فقد قاست تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي درجة حرارة الهيدروجين على مدى حوالي ١٠٠ مليون سنة، مقارنةً بدرجة حرارة الخلفية (عادة ما يُفترض أنها مجرد إشعاع الخلفية الكونية الميكروي). فإذا تجاوزت درجة حرارة الدوران المغزلي درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، فإننا نلاحظ أن درجة الحرارة موجبة؛ أي إن الهيدروجين في حالة «انبعاث». ومع ذلك، إذا كانت درجة حرارة الدوران المغزلي أقل من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، فإننا نلاحظ أن درجة الحرارة سالبة؛ أي إن الهيدروجين في حالة «امتصاص». ولكن لا يمكننا أحيانًا رؤية درجة حرارة الدوران المغزلي على الإطلاق في الجدول الزمني، حيث تكون مساوية لدرجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي … وتكون درجة الحرارة الإجمالية المقيسة صفرًا.

fig14
شكل ٥-٢: درجة حرارة الإشعاع ذي الطول الموجي ٢١سم (T21). نرصد درجة حرارة غاز الهيدروجين (Tspin) مقارنةً بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي (TCMB). في بداية الكون، رُصدت درجة حرارة الهيدروجين وهو في حالة امتصاص، ولكن بمجرد أن بدأت النجوم الأولى في تسخين الغاز حتى أصبحت درجة حرارته أعلى من درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، انتقلت الإشارة إلى حالة انبعاث.
أثناء تشكُّل النجوم الأولى، كانت درجة حرارة الغاز منخفضة إلى أدنى مستوًى. كان الكون يتمدَّد، مما سمح للغاز بشغل مساحة أكبر وانخفاض درجة حرارته. يُنتج الغاز الموجود بين النجوم، أي ما تبقى من السحب الغازية غير المحظوظة، إشارةً أقل من إشارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، مما يدل على أنه في حالة امتصاص. وسجلت تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي درجة الحرارة باستخدام مجموعة متنوعة من الترددات خلال عملية الرصد. عندما تتحرك نحونا هذه الفوتونات ذات الطول الموجي ٢١سم، أو التردد ١٤٢٠ ميجاهرتز، عليها أن تقاوم تمدُّد الكون: وكأنها تصعد سلمًا متحركًا يتجه إلى الأسفل. وهذا يُفقِدها طاقة، مما يعني اكتساب المزيد من الطول الموجي. نطلق على هذه الزيادة في الطول الموجي اسم «الانزياح نحو الأحمر»، وهو تأثير شهدناه لأول مرة في تراجع المجرات وانحسارها. يمكننا الاستفادة بهذا الانزياح نحو الأحمر عن طريق ضبط التلسكوب على الأطوال الموجية أو الترددات المختلفة للفوتونات لاستكشاف أزمنة مختلفة. فالفوتون المنبعث بعد ١٨٠ مليون سنة من الانفجار العظيم سيصل إلينا الآن بطول موجي ٤٫٥ أمتار، أو تردد ٦٨ ميجاهرتز. والفوتون المنبعث بعد ١٠٠ مليون سنة ستكون فترة مقاومته للتمدُّد أقل، ومن ثَمَّ سيفقد طاقة أقل ويصل إلينا بطول موجي ٣٫٣ أمتار، أو تردد ٩٢ ميجاهرتز. اكتشفت تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي إشعاعًا ضمن هذه الترددات، وسجلت أدنى درجة حرارة، مما يعني أنه كان في حالة امتصاص. تدل درجة الحرارة الدنيا هذه أنه قبل تشكُّل النجوم الأولى، أي عند النقطة (أ) في شكل ٥-٣، كانت درجة حرارة الدوران المغزلي مساوية لدرجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، ولذا كانت درجة الحرارة المقيسة صفرًا. وبعد ١٨٠ مليون سنة من الانفجار العظيم، وهو ما تمثله النقطة (ب)، اكتشفت تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي امتصاصًا حادًّا؛ حيث انفصلت درجة حرارة الدوران المغزلي عن درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. واقترنت بدرجة حرارة الغاز بسبب فوتونات الأشعة فوق البنفسجية للنجوم الأولى التي عملت على تسخين الغاز وتغيير حالات الدوران المغزلي من خلال تأثير فوتهايسين-فيلد. كان هذا الامتصاص الحاد هو الإشارة التي كنا نبحث عنها، النقطة التي أصبحت عندها فوتونات الأشعة فوق البنفسجية هي الآلية السائدة لتحديد درجة حرارة الغاز. لقد ظهرت النجوم الأولى بعد ١٨٠ مليون سنة من الانفجار العظيم، وسرعان ما جعلت درجة حرارة الغاز تضاهي درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، ثم تجاوزتها، النقطة (ﺟ). يمكننا الآن إضافة علامة مميَّزة في طيف باترسون تحدِّد نهاية العصور المظلمة بمزيد من الثقة. ويُعَدُّ هذا أول تأثير مباشر لظهور النجوم الأولى. فالانخفاض الحاد في درجة الحرارة يميط اللثام عن عصر خفي ويمدُّنا بمعلومة أساسية، وهي تاريخ نشأتها.

الإشارة غير المبررة

لو انتهت قصة تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي عند هذا الحد، لظلت متصدرة الأخبار ولظللتُ أقفز من فرط حماسي في جميع أرجاء المنزل، ولكنها لم تكن لتصبح سببًا لإحداث ثورة في المجال. أثناء قراءتي لبقية الدراسة، تحوَّل حماسي إلى صمت مربك. فقد أسفرت هذه التجربة عن شيءٍ غريب.

fig15
شكل ٥-٣: الاكتشاف الخاص بتجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي (الخط الأسود). لم يتمكَّن أيٌّ من النماذج النظرية التي أُعدت ما قبل فبراير ٢٠١٨ (الخطوط الرمادية) من إنتاج مُنخفَض طيفي بهذا العمق مجددًا، ولم يتكرَّر في أي نموذج حتى الآن شكل هذا القاع المسطح.
عندما تدخل الإشارةُ في حالة امتصاص (أي عندما تكون درجة حرارة الدوران المغزلي أقل من درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي)، لا يستغرق الانخفاض وقتًا طويلًا؛ حيث إن فوتونات الأشعة فوق البنفسجية نفسها التي تربط درجة حرارة الدوران المغزلي بدرجة حرارة الغاز وتخفض درجة الحرارة تتسبب أيضًا في تسخين الغاز وترفع درجة حرارة كل منهما. لم يتمكَّن أي نموذج معروف من الإشارة العالمية ذات الطول الموجي ٢١سم من إعادة إنتاج شكل وشدة الإشارة المكتشَفة في هذه التجربة. ويعد هذا من أكثر الأشياء التي يمكن أن تحدث في العلم إثارةً وتحديًا، وإن كان الأمر يعتمد على مدى احتكاكك وتعاملك المباشر مع البيانات. ففي حالة مَنْ يراقبون الأمر عن بُعد، فإنهم يشعرون بمتعة اكتشاف شيءٍ لم يكن متوقعًا. أما في حالة المسئولين عن البيانات، فهناك عبء مزعج، يتمثل في الدليل الاستثنائي المطلوب لإثبات النتائج المذهلة. عندما تقرأ الدراسة التجريبية عن تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي،7 يتضح لك هذا العبء. فالشك يطوِّق الدراسة من كل جانب والرسالة الرئيسية واضحة: «ما زلنا نسعى إلى التأكُّد مما توصلنا إليه». عُرِضَت النتائج بموضوعية، على غرار ما كان من بنزياس وويلسون في بحثهما عن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي قبل ٥٣ عامًا. لم يفسِّر القائمون بهذه الدراسة السببَ المحتمَل لهذه الإشارة غير المتوقعة، وقدموا بدلًا من ذلك قائمة شاملة بالأسباب المحتمَلة. وتتبعوا الإشارة استنادًا إلى معلوماتٍ جُمِعَت على مدى عامَين، واكتشفوها على تردداتٍ مختلفة، باستخدام جهازَين مختلفَين وهوائياتٍ على محاذاة مختلفة. وغيَّروا بعض المعدات للتأكد من أنها ليست مصدرًا للضوضاء، واستخدموا طرق تحليل مختلفة، ورصدوها في أوقات مختلفة من اليوم والسنة. وعلى ما يبدو أنهم تحققوا من وجود حمام. ومع ذلك، بقيت الإشارة.

احتفظ المشاركون في تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي بسرية اكتشافهم أثناء فحص التقنيات والعلوم التي تدعمها وإعادة فحصها. في كرواتيا عام ٢٠١٧، اجتمع علماء الفيزياء الفلكية لمناقشة التقدم المحرز في اكتشاف النجوم الأولى. جلستُ واستمعتُ إلى المستجدات الواردة من جميع التلسكوبات الرئيسية، وأتذكر الاستماع إلى العرض الذي قدَّمه عالِم الكونيات جود بومان حول تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي. أو بالأحرى حول غيابها. حينها لاحظت أنه ركَّز على تلسكوبات الجيل التالي، مع ذكر القليل جدًّا عن تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي. لقد اعتبرتُ موقفه رفضًا لتجربة متوقفة، وليس صمتًا عن تجربة ناجحة في مرحلة التأكيد. واستطعتُ أن أفهم في وقت لاحق المغزى من الصمت. فقد كان عليهم أن يتأكَّدوا لأن النتائج كانت استثنائية للغاية.

كانت إشارة تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي أكثر برودة بمقدار الضِّعف عن توقعات أي شخص. وعلى غرار إعلان بنزياس وويلسون الخاص بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، رافق إصدار دراسة تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي التجريبية دراسةٌ نظرية أخرى. وفي هذه الدراسة النظرية،8 يفسح الشك التجريبي المجال لحماسة واضعي النظريات. فالقائمة الطويلة لما لا تمثله هذه الإشارة تمهِّد الطريق أمام فكرة غير تقليدية عما يمكن أن تكونه. ولجعل الغاز أكثر برودة، لا بد أن يتفاعل مع شيء أكثر برودة، و«المكون الكوني الوحيد المعروف الذي يمكن أن يكون أبرد من الغاز الكوني المبكر هو المادة المظلمة».

المادة المظلمة

هل أغفلتُ ذكر المادة المظلمة حتى هذه اللحظة؟ يا إلهي. أرجو التماس العذر لي في هذا السهو الفادح، ولكن هذا يعكس الحال الذي عليه مجالُ النجوم الأولى قبل عام ٢٠١٥، تمامًا كما يعكس حال قاعة المحاضرات التي كنت أجلس فيها بصفتي طالبة دكتوراه في عام ٢٠١١ بجوار كاتي باترسون. ما المادة المظلمة؟ وما علاقتها بالنجوم الأولى؟ لا بد أن أطلب من كاتي ملاحظاتها.

لقد تحدثتُ في الفصول السابقة عن الكون الذي كان الهيدروجين هو المكون الرئيسي فيه، لكنني كنت حذرة في صياغتي. فقد وصفتُ الكون العادي، الكون الذي يمكننا «رؤيته»، حتى لو كانت هذه الرؤية تتطلب أشعة سينية أو تلسكوبًا راديويًّا. والمادة «العادية» تتكوَّن من الباريونات، التي تتفاعل مع الضوء حتى نتمكن من ملاحظة وجودها، باستخدام ولو جزءًا على الأقل من الطيف الكهرومغناطيسي. أما المادة المظلمة فهي لا تتفاعل مع الضوء، ومن ثَمَّ لا يمكن رصدها باستخدام جميع التلسكوبات التقليدية وحتى أحدث التلسكوبات لدينا. فنحن لم نكتشف قط المادة المظلمة على نحو مباشر، وهذا ليس بالأمر الهين لأننا نعتقد أن المادة المظلمة تشكِّل ما يصل إلى ٨٥٪ من إجمالي كتلة الكون.

لا يعني ذلك أن علماء النجوم الأولى تجاهلوا المادة المظلمة تمامًا، بل كانت الفكرة السائدة أن المادة المظلمة لا يمكنها التفاعل بشكل ملحوظ إلا من خلال الجاذبية. فالمادة المظلمة تمثل حجر الأساس في عملية تشكيل النجوم الأولى. في بداية الكون، بعد مرحلة إعادة الاندماج التي حدثت بعد الانفجار العظيم ﺑ ٣٨٠ ألف سنة، كان الغاز ساخنًا للغاية مما حال دون انهياره مكوِّنًا أي شيءٍ قريبًا من النجوم؛ لم تكن هناك سحب غازية محظوظة على الإطلاق. ولكن على حد علمنا، وبالرغم من وجود بعض الجدل حول هذا الأمر، كانت المادة المظلمة باردة. والمواد الباردة يمكن أن تنهار، وهذا ما حدث بالفعل. وتُظهر نماذجنا أن المادة المظلمة قد تكثفت في شكل خيوط سميكة، مكوِّنة شبكة كونية تغطي الكون بأكمله. لكن الانهيار توقف عند هذا الحد دون أن تشكل المادة المظلمة نجومًا أو مجرات؛ لأنه على الرغم من أنها كانت باردة بما يكفي لأن تتكثف قليلًا، فلم يكن بإمكانها التفاعل كهرومغناطيسيًّا (أي مع الفوتونات) لتفقد الحرارة مثل الباريونات. وبسبب عدم قدرة المادة المظلمة على فقدان هذه الحرارة، كان الضغط الداخلي أعلى بكثير. وأدى ذلك إلى منع المادة المظلمة من تشكيل أي شيءٍ أصغر بكثير من المناطق التي تتجمع فيها المادة المظلمة بفِعل الجاذبية عند أماكن تقاطع الخيوط، مُشكِّلة ما يسمى بالهالات التي تبلغ حوالي مليون كتلة شمسية.

بمجرد أن تشكَّلت شبكة المادة المظلمة الكونية، أصبح لدى الغاز البارد ركيزة يتمسك بها بفِعل الجاذبية. وعلى المنوال نفسه، تؤدي قوة جاذبية هذه التجمعات من المادة المظلمة إلى تكثيف هذا الغاز. وتُعَدُّ محاكاة إليوسترس،9 التي يمكن رؤية جزء صغير منها في صورة ١٦ في ملحق الصور بنهاية الكتاب، واحدة من أفضل عمليات المحاكاة لتشكيل الشبكة الكونية. وهذه صورة لأكبر تجمُّع للمادة المظلمة في المحاكاة، عند تقاطع الخيوط. وتحتوي على أكثر من ٥٠٠٠ هالة فرعية؛ الهالات التي يمكن أن تشكل المجرات داخلها. على يمين الصورة يظهر توزيع الغاز؛ ويظهر على اليسار توزيع المادة المظلمة. إن رؤية امتزاج الاثنين بسلاسة أمر مثير للدهشة. وتمثل هذه الصورة إحدى صور الفيزياء الفلكية المفضلة لديَّ. ولذلك استخدمتُها خلفية لسطح المكتب في جهاز الكمبيوتر الخاص بي. فبدلًا من الصور العائلية، وضعتُ صورة بالموجات فوق الصوتية للنجوم الصغيرة؛ لأن هذا ما تمثله بالفعل. فالمادة المظلمة تجمع جزيئات الغاز معًا، لتشكل سحبًا من الغاز تتولد منها النجوم. وعلى نطاقات كبيرة نرى أن الغاز يتبع المادة المظلمة على نحو مثالي، ولكن على نطاقات أصغر، وعند تدقيق النظر نجد أن الغاز يستمر في الانهيار حيث لا تستطيع المادة المظلمة ذلك. وبينما تتوقف المادة المظلمة عن الانهيار بسبب عدم وجود آلية تبريد، يواصل الغاز انهياره كما ذُكِر في الفصل الرابع. وهكذا تشكَّلت النجوم الأولى والمجرات الأولى في هذه الهالات من المادة المظلمة، في صورة ضوء ساطع وسط سحابة من المادة المظلمة.

منحنيات الدوران المسطحة

تقع مجرة درب التبانة وسط هالة من المادة المظلمة، كما هو الحال مع جميع المجرات تقريبًا. في الواقع، إن بنية الهالة غير المرئية هي التي أدت إلى ظهور بعض الأدلة الأكثر إقناعًا عن وجود المادة المظلمة. في سبعينيات القرن العشرين، تمكَّن العلماء من النظر إلى إحدى المجرات بدقة كافية لقياس سرعات النجوم باستخدام تأثير دوبلر، وصولًا إلى حواف تلك المجرة. وتأثير دوبلر هو تحوُّل الضوء المنبعث إلى طول موجي أطول أو أقصر، وفقًا لما إذا كان المصدر يتحرك بعيدًا عنا أو نحونا، كما هو مبين في شكل ٣-١، في الفصل الثالث. وقد أدرجت عالِمة الفلك الأمريكية فيرا روبين رسمًا بيانيًّا يوضح كيف تتغير سرعات النجوم وفقًا لبُعدها عن مركز المجرة. وفي مجرة مكوَّنة من مادة عادية فحسب، نتوقع انخفاضًا في السرعة يتوافق مع قوانين كيبلر، حيث تنخفض سرعة النجوم كلما زادت المسافة. وبعيدًا عن مركز المجرة، تضعف قوة جاذبية الكتلة المضيئة، ونتيجة لذلك تقل السرعة المدارية للنجوم. وهذا ما نلاحظه في المجموعة الشمسية. فهناك ثمانية كواكب تدور حول الشمس، كلٌّ في مداره الخاص، ولكن كلما ابتعدت عن المركز، لا يطول المسار فحسب، بل تقل السرعة أيضًا. فالأرض تدور حول الشمس كل ٣٦٥ يومًا. وتستغرق الدورة الواحدة لكوكب عطارد ٨٨ يومًا، بينما تستغرق دورة كوكب نبتون ١٦٥ عامًا.

بدلًا من انخفاض السرعة المتوقع وفقًا لقوانين كيبلر، قاست روبين منحنيات الدوران المسطحة لكل مجرة رصدتها تقريبًا. في البداية، زادت السرعة مع زيادة نصف القطر. وكان هذا يتماشى مع التوقعات حيث كان الجزء الأكبر من الكتلة المضيئة متضمَّنًا داخل نصف القطر المتزايد وبالتالي زادت قوة الجاذبية. ولكن بمجرد أن تجاوزت عمليات الرصد المناطق الخارجية للمجرات المضيئة، أصبحت المنحنيات مسطحة على الفور. والأهم من ذلك أن معدل السرعة ظل ثابتًا بدلًا من أن ينخفض. وكانت هناك منحنيات دوران مسطحة في معظم المجرات التي رصدتها. وتشير المنحنيات المسطحة إلى أنه عند إجراء عملية رصد بعيدًا عن مركز المجرة، تواصل النجوم التحرك بالسرعة نفسها. ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت كمية الكتلة تزداد طرديًّا مع زيادة المسافة، حتى تستمر قوة الجاذبية التي تؤثر على النجوم. وهذا يتنافى مع شكل المجرات التي رصدناها؛ فالمجرات لها مراكز مشرقة وهالات خارجية باهتة، وليس العكس. والاستنتاج الوحيد هو أن هناك كمية هائلة من مادة ما في المجرة لا يمكننا رؤيتها؛ وهي المادة المظلمة.

fig16
شكل ٥-٤: منحنيات الدوران المسطحة. أشارت فيرا روبين وهنري فورد في الملاحظات التي قدماها عام ١٩٧٨ أن المجرات التي رصداها اتخذت منحنى دوران مسطحًا، حيث ظلت سرعة دوران النجوم كما هي على الرغم من زيادة المسافة بينها وبين مركز المجرة.
المادة المظلمة موجودة في كل مكان. نحن نعيش على كرة كبيرة منها الآن. لكننا لا نعرف شيئًا عنها لأنه لا يبدو أنها تتفاعل مع أي شيء باستثناء قوة الجاذبية، وكثافتها منخفضة جدًّا لدرجة أننا لا نستطيع أن نشعر بها على الإطلاق وفقًا للمقاييس البشرية. على مدى حياتنا، سيمر عبر أجسامنا حوالي ملِّيجرام واحد فقط من المادة المظلمة.10 وهذه الكثافة المنخفضة هي السبب وراء انخفاض سرعة الكواكب في المجموعة الشمسية وفقًا لقوانين كيبلر وليس منحنى الدوران المسطح. فالمادة المظلمة موجودة، لكن كثافتها منخفضة جدًّا بحيث لا تحدث فارقًا كبيرًا. وبينما يشعر نبتون بقوة الجاذبية التي تمارسها جميع الكواكب التي تسبقه وكل المادة المظلمة المحيطة به، فلا تعدو كتلة تلك المادة المظلمة كونها مجرد كتلة صخرة كبيرة. ولكن كل هذه المادة تلعب دورًا مهمًّا على نطاق المجرة. ففي المناطق الخارجية، كلما زاد نصف القطر، يزداد الحجم زيادة هائلة، ويتضمن ذلك القليل فقط من النجوم المرئية ولكنه يتضمن كمية هائلة من المادة المظلمة. وعلى هذا النطاق، نلاحظ دور المادة المظلمة أخيرًا، حيث تجذب تلك النجوم الخارجية وتجعلها تسير بسرعاتٍ تفوق ما كنا نعتقده.

جسيمات المادة المظلمة

ولكن مِمَّ تتكوَّن تلك المادة؟ نحن نعلم أن هناك شيئًا ما يولِّد قوة جاذبية وأن كثافته منخفضة. تدعونا النظريات المؤيدة للمنهج الواقعي إلى عدم الانجراف كثيرًا وراء استكشاف الأمور الغريبة. ولكن علينا ألا ننظر إلى المادة المظلمة باعتبارها مادة جديدة غريبة وغامضة لمجرد عدم قدرتنا على رؤيتها. بل من الممكن ببساطة أن تكون «مظلمة». تحدثنا من قبل عن عدد السحب الغازية غير المحظوظة، وعلى وجه الخصوص الأقزام البُنية المتعددة، التي كانت نجومًا ولكنها أخفقت في إتمام مهمتها. ربما عندما نقيس كتلة المجرة، نجد أنها أيضًا مليئة بالأقزام البُنية التي تضيف الكثير من الكتلة. إنه أمر منطقي، لكنه ليس نظرية مقنعة. أشارت باترسون إلى النجوم الميتة التي لا يمكن رؤيتها في كوننا في كتابها «كل النجوم الميتة».11 وحددت على خريطة المجرة موقع ٢٧ ألف نجم ميت معروف ومُسجَّل في تاريخ البشرية. وعلى الرغم من موت النجوم أو ذبولها أو فشلها في إتمام مهمتها، فإننا نعثر على الكثير منها الآن. فلدينا تلسكوبات جيدة جدًّا، وعلى الرغم من أن الأقزام البُنية باهتة، يمكننا اكتشاف ما يكفي منها في مجرتنا لحساب كتلتها. ولا يؤثر ذلك في كمية الكتلة المفقودة التي يُزعَم أنها تُعزى إلى المادة المظلمة.
تنص إحدى النظريات على أن المادة المظلمة هي عضو جديد في مجموعة الجسيمات المعروفة التي تضم البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والكواركات والنيوترينوات وغيرها. نحن نعلم أنها لا تتفاعل بشكل كبير، وإلا كنا لاحظنا ذلك، ولهذا السبب يُطلق على الجسيم الافتراضي اسم «الجسيم الضخم الضعيف التفاعل». تمثل الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل الأمل في أن عدم تفاعل المادة المظلمة مع الجسيمات الأخرى كثيرًا لا يعني أنها لا تتفاعل على الإطلاق. وقد حصرت ورقة بحثية حول المادة المظلمة هذه التفاعلات في انفجار البشر، وذلك في دراسة بعنوان: «الموت والإصابات الخطيرة الناجمة عن المادة المظلمة».12 اقترح الباحثون أنه إذا كانت المادة المظلمة مكوَّنة من جسيمات ذات كتلة كبيرة، فإن اصطدام الجسيم بجسم الإنسان من شأنه أن يسبب … تداعيات كارثية. فحقيقة أن البشر عادة لا ينفجرون إلا في ظروف لها تفسيرات واضحة تخبرنا أن جسيم المادة المظلمة يجب أن تكون كتلته أقل من كتلة معينة، وأن تكون احتمالية الاصطدام به ضعيفة. ولو كان أضخم أو قوة تفاعله أكبر، لزادت وتيرة حدوث الاصطدامات وأصبحت أكثر تدميرًا، ولكنا قد لاحظنا هذه الظاهرة الآن. نظرية رائعة، أليس كذلك؟! كان البروفيسور أبراهام لوب، ولا يزال، من أوائل المهتمين بعلم النجوم الأولى. فهو عالِم متحمس يحظى باحترام كبير ويرأس قسم علم الفلك في جامعة هارفارد. عندما تحدَّثنا عام ٢٠١٩، أعرب عن أسفه لميل العلماء إلى التخلي عن فضولهم الفطري الذي كانوا يتمتعون به في مرحلة الطفولة. وأوضح قائلًا: «يجب أن نتأسى بالأطفال في تصرفاتنا أكثر من ذلك. كنت أحاول تشجيع زملائي هنا في جامعة هارفارد على التصرف مثل الأطفال … فالأخطاء جزء لا يتجزأ من عملية التعلم.» أحببتُ وجهة النظر هذه بشأن العلم؛ فعملية التعلم يجب أن تنطوي على المتعة وحب الاستطلاع، ويتعيَّن علينا البحث عن إجابات لتساؤلاتنا وعدم الخوف من الوصول إلى طرق مسدودة أو نتائج مفاجئة. يعد بحث «الموت جراء المادة المظلمة» مثالًا على هذا المنهج، وكانت تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي طريقًا لم يسلكه سوى القليل، لكنه انتهى بمفاجأة مذهلة.
تحاول العديد من التجارب حول العالم زيادة حِدَّة أضعف تفاعلات المادة المظلمة، في حالة حدوث أي منها، وذلك للوصول بهذه التفاعلات إلى مستوًى يمكننا تسجيله، وتحقيق أول اكتشاف مباشر للجسيم الضخم الضعيف التفاعل. تجرى هذه التجارب في مختبرات على أعماق كبيرة تحت سطح الأرض في جميع أنحاء العالم: بريطانيا وكندا والولايات المتحدة وأستراليا وإسبانيا وإيطاليا. وتحتوي هذه التجارب، التي لا تتعرض للجسيمات المحتشدة فوق الأرض، على مواد من المتوقع أن ترتد أنويتها عندما يصطدم بها جسيم ضخم ضعيف التفاعل. وتنتج عن الارتداد الطفيف كمياتٌ ضئيلة من الضوء والحرارة، ولكن باستخدام أجهزة كشف حساسة وفي درجات حرارة شديدة الانخفاض ومع التحلي بالكثير من الصبر، يعتقد العلماء أنه إذا حدث يومًا ما أن تعرض جسيم من المادة المظلمة لاصطدام نادر، فسوف يكتشفونه. ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك حتى الآن. وعلى الرغم من استمرار هذه التجارب لما يزيد على عقدين من الزمن، لم تكن هناك سوى نتيجة إيجابية واحدة محل خلاف كبير.13 لكن أغلب التجارب لم تكتشف شيئًا على الإطلاق، مما أدى إلى استمرار ندرة البيانات حول المادة المظلمة. وفي الوقت الذي لم نكن نتوقع فيه العثور على معلومات حول المادة المظلمة، أُجريت تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي.

المادة المظلمة والضوء الأول

لدينا الآن القليل من المعلومات الأساسية عن المادة المظلمة، ويمكننا أن ندرس سبل ربطها بالملاحظات الخاصة بتجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي. ولكن قبل أن نفعل ذلك، لا بد ألا يفوتني التنويه إلى ضرورة توخي الحذر. إذا طالعت الأبحاث العلمية حول تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي، فستجد أن هناك بعض المفاهيم التي يمكن أن تفسر الإشارة التي اكتشفتها تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي، وأكثرها إثارة هو تفاعل المادة المظلمة، وذلك بسبب النتائج غير المتوقعة والواسعة النطاق التي قد يستفيد بها مجال علمي آخر في أمس الحاجة إلى تلك البيانات. ولذا ففي خضم التحمس لاحتمالية تحقق هذا الأمر، علينا قراءة ما يلي بعقل عالِم لديه شكوك بناءة. فهذه واحدة من بين بضع أفكار، ونحن بحاجة إلى المزيد من البيانات قبل أن نتمكن من تقديمها كنظرية قوية. لقد أدركنا العلاقة بين المادة المظلمة والغاز والمجرات والنجوم منذ وقت طويل، وأدرجنا هذه العلاقة في عمليات المحاكاة، ولذا فلا سبيل لأن يبدو الأمر كما لو أننا لا نعلم شيئًا على الإطلاق عن المادة المظلمة. ومع ذلك، بمجرد أن يتحد الغاز ليشكل نجمًا داخل شبكة المادة المظلمة، فلن تكون لدينا حاجة كبيرة للنظر في المادة المظلمة. فالمادة المظلمة لا تتمتع بأهمية كبيرة، تمامًا كما هو الحال فيما يخص تأثيرها الضئيل في مجموعتنا الشمسية. أو هكذا كنا نظن. ما تشير إليه نتيجة تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي هو أن شيئًا ما يتفاعل مع الغاز ليجعله أكثر برودة، والشيء الوحيد الموجود في الكون ويتمتع بدرجة حرارة أقل من الغاز هو المادة المظلمة.

في حال وجود سحابة ساخنة من الغاز وسحابة باردة من المادة المظلمة، تنتقل الطاقة من السحابة الأولى إلى السحابة الثانية حتى تصبح الاثنتان في حالة توازن حراري؛ حيث يبرد الغاز وتسخن المادة المظلمة قليلًا. لكن مهلًا، تشتهر المادة المظلمة بعدم تفاعلها مع المواد الأخرى؛ كما يتضح من اسمها، الجسيم الضخم الضعيف التفاعل. وقد أشارت الدراسة البحثية الخاصة بنظرية تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي إلى أن الكون الحالي مختلف تمامًا عما كان في الماضي. فما يُظهره اللون الأزرق على يمين عجلة باترسون هو أنه بعد الانفجار العظيم بمئات الملايين من السنين، وصل الغاز في الكون إلى أدنى درجة حرارة له على الإطلاق، وكان من المفترض أن تستمر درجة حرارته في الانخفاض حتى يومنا هذا. ولكن، بعد فترة وجيزة، ساهمت النجوم الأولى وجميع الأجيال اللاحقة من النجوم في ارتفاع درجة حرارة الغاز وإبقائه ساخنًا. في الوقت الحاضر، لا تتفاعل المادة المظلمة كثيرًا، وقد لا تتفاعل على الإطلاق، مع الجسيمات المحيطة بنا، وإلا لكنا قد رأينا ما يدل على حدوث ذلك، سواءٌ في تجربة تُجرى تحت سطح الأرض أو في تواتر انفجارات البشر. ولكن ماذا لو كانت المادة المظلمة لا تتفاعل إلا عند سرعات منخفضة جدًّا، أو عند درجات حرارة منخفضة؟ يحدث الكثير من التفاعلات أو التصادمات المختلفة بين الجسيمات، ولن يحدث بعضها إلا في تصادماتٍ عالية الطاقة، بينما يتطلب البعض الآخر بيئة أهدأ. حاول معانقة شخص يركض نحوك وستدرك لماذا يكون التباطؤ في بعض الأحيان أفضل عندما يتعلق الأمر بالتفاعلات. توفر العصور المظلمة أهدأ بيئاتٍ على الإطلاق، حيث كانت جزيئات الغاز تتحرك بأبطأ سرعاتها. لذلك، إذا كانت تصادمات المادة المظلمة تحدث على الأرجح في البيئات الباردة، فغالبًا هذا هو أنسب وقت لتحدث فيه. وهذا ما يفسر بدقة سبب عدم تفاعل المادة المظلمة كثيرًا الآن، وأنها كانت أكثر قابلية للتفاعل في الماضي.

هناك قيود أخرى تعيق المادة المظلمة، كإشعاع الخلفية الكونية الميكروي على سبيل المثال، ومن ثَمَّ يجب على أي نظرية أن تعالج هذه القيود مع توفير تأثير التبريد المذكور في بيانات تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي. وقد تبين أن تحقيق كلا الأمرين صعب، ولا يمكن تطبيق سوى مجموعة صغيرة من نماذج المادة المظلمة الباردة. أحد النماذج البارزة هو نموذج المادة المظلمة المشحونة بشحنة صغيرة.14 فإذا كانت المادة المظلمة تحمل شحنة كهربية صغيرة، فيمكنها التفاعل مع البروتونات والإلكترونات الموجودة في الغاز لخفض درجة حرارته. يبدو هذا رائعًا، ولكن عندما يُشحَن شيء ما، فإن المجالات المغناطيسية تؤثر عليه بالإضافة إلى مجالات الجاذبية. ويمكننا التحكم في النماذج من خلال النظر فيما يمكن أن يحدث لهذا النوع من المادة المظلمة في الكون ومقارنة ذلك بملاحظاتنا. ومن شأن المجالات المغناطيسية المرتبطة بالمستعرات العظمى (الانفجارات النجمية) أن تطرد أي مادة مظلمة مشحونة شحنة صغيرة وتدفعها من قرص المجرة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن المجال المغناطيسي للمجرة سيمنع تلك المادة المظلمة الضئيلة الشحنة من العودة مجددًا إلى قرص المجرة. تشير قياساتنا لكتلة المادة المظلمة في قرص المجرة إلى أن معظم المادة المظلمة، في الواقع أكثر من ٩٩٪ منها، يجب أن تكون غير مشحونة؛ لأنها عالقة بوضوح في مواجهة المجالات المغناطيسية التي تنتجها المستعرات العظمى. ولو طُردت بالكامل، لما رأينا تلك النجوم تتحرك بالسرعة التي تتحرك بها في المناطق الواقعة خارج المجرة. ربما لا يتطلب الأمر تغيير طريقة فهمنا للمادة المظلمة كثيرًا؛ ربما هناك جزء صغير جدًّا يتمتع بمزيد من الغموض وربما يحمل شحنة أكبر مما كنا نعتقد. ربما خضعت المادة المظلمة لنسختها الخاصة من إعادة الاندماج (الحدث الذي اتحدت فيه البروتونات والإلكترونات لتكوين الذرات في بدايات الكون)، لتشكِّل ذرات مظلمة متعادلة (٩٩٪ من المادة المظلمة التي نرصدها الآن)، ولكنها تركت عددًا من عناصر جسيمات المادة المظلمة المشحونة «الحرة» (المادة المظلمة المشحونة بشحنة صغيرة). يتميز هذا المجال بأنه سريع التطور لدرجة أن هذه الفقرات سيتعين تنقيحها وإعادة النظر فيها خلال السنوات القليلة المقبلة. ومهما كان ما تخبرنا به تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي عن المادة المظلمة، فأكثر ما يثير الدهشة هو كونها تخبرنا بأي شيء من الأساس. فقد كان من المفترض أن تمدنا تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي بمعلومات عن النجوم الأولى، وقد نجحت في تحقيق ذلك، لكننا كدنا نغفل هذا النجاح بسبب المكافأة غير المتوقعة المتمثلة في احتمالية استكشاف المادة المظلمة.

مشكلة درجات الحرارة الدنيا

عندما نُشرت نتائج تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي، تصدرت عناوين الصحف تفسيراتُ المادة المظلمة، وهذا أمر مفهوم بالنظر إلى محور الدراسة النظرية الوحيدة التي رافقت الدراسة التجريبية. لكن على مدى الأشهر التالية، ظهرت أبحاث أخرى تحمل تكهنات عديدة. وكان من بين هذه التكهنات، على سبيل المثال، وجود إشعاع خلفية إضافي أو خطأ في معايرة الإشارة. يتطلب فهم الأمر الأول تغيير منظورنا تجاه المادة المظلمة. ماذا لو افترضنا بدلًا من أن يكون الغاز أبرد من المتوقع، أن يكون إشعاع الخلفية أكثر دفئًا: والمقصود هنا إشعاع خلفية إضافي إلى جانب إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وللحصول على قياساتٍ مضبوطة، فإن أي إشعاع خلفية إضافي يجب أن تكون شدته مساوية لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي أو أكبر منها، لإحداث تغيير كبير. كان من بين الأبحاث الأولى التي اقترحت نظرية إشعاع الخلفية الإضافي كان على القدر نفسه من الإثارة التي تمتعت بها الدراسة النظرية الأولى حول المادة المظلمة.15 ومن اللافت للنظر أن النص كان يحتوي على علامة تعجب، وهو أمر لم أرَه من قبل في بحث علمي. فهذا لا يحدث عادة. لا أمانع في وجود هذه اللمسة الحماسية والإنسانية في الأبحاث العلمية، لكن هناك مَن قد يعارضني في ذلك. فهناك مَن يقول إن العلم يجب أن يكون مجردًا من المشاعر الإنسانية، وأن يستند إلى الموضوعية والمنطق البحت. لكنني لا أتفق مع هذا الرأي. عند قراءة الأبحاث العلمية القديمة التي كُتبت في الفترة بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، ستجد هذه الإثارة حاضرة، بالإضافة إلى الإقرار بالأخطاء أو الاعتراف بعدم معرفة الخطوة التالية. من الصعب تحديد متى فقدنا هذا الشعور بالإثارة في القرن العشرين. وقد أدى غياب هذه النزعة الإنسانية إلى المبالغة في أهمية النتائج، والشعور بالعظمة مما أدى إلى الإشادة بأصغر النتائج باعتبارها إنجازاتٍ رائدة. وقد تسبب ذلك أيضًا في التقليل من أهمية الفكر التعاوني واختزال العلم إلى علامة تجارية. لكنني لا أؤيد هذا التوجه. ما يعجبني حقًّا هو عندما أتمكن من الوصول إلى أبحاث تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي الجديدة هذه، وأشعر بحماس زملائي وأقرأ أنهم بذلوا قصارى جهدهم، لكنهم ما زالوا غير متأكدين من النتائج. ولذا عليهم استخدام مصطلحات مثل «افتراضات متفائلة» ليجعلوا النظرية تتناسب مع البيانات المرصودة، مما يضطرهم إلى تقديم «طلب استثنائي يستدعي أدلة استثنائية». فهناك «مسائل مهمة» يتعين على النظريات الجديدة «التغلب عليها». ويجب على الجميع أن يتخلوا عن افتراضاتهم القديمة وأن يفسحوا المجال لمجموعة جديدة من النظريات.
إن فكرة وجود إشعاع خلفية إضافي ليست بالجديدة. فقد كشفت تجربتان — مقياس الإشعاع المطلق لعلم الكونيات والفيزياء الفلكية والانبعاث المنتشر16 ومصفوفة الأطوال الموجية الطويلة17 — عن إشعاعات خلفية لا تفسير لها، وإن كان ذلك بتردداتٍ مختلفة. إذا كانت إشعاعات الخلفية هذه حقيقية وكانت موجودة عند ترددات الفجر الكوني، لكان بإمكانها حينئذٍ أن تفسر هذا الانخفاض الشديد في درجة الحرارة. تنص إحدى النظريات التي تتميز بتناغم جميل أن موت النجوم الأولى يؤثر في صفات النجوم الأولى وتأثيراتها. ويُعتقد أن نجوم الجمهرة الثالثة تنهي حياتها بالتحول إلى ثقوب سوداء أو بإحداث انفجارات عملاقة تسمى المستعرات العظمى. ينتج عن كلا الأمرين جسيمات عالية السرعة تولِّد أثناء تسارعها إشعاعًا، يسمى الإشعاع السنكروتروني. وينتج عن هذا الأمر إشعاع خلفية آخر يتكوَّن من فوتونات، ولكنه ينتج أيضًا تأثيرًا معاكسًا لما نريده. وتنتج الثقوب السوداء أشعة سينية تعمل على تسخين الغاز، مما يقلل من امتصاصه. وبِناءً عليه، لكي تتحول تلك الأشعة الصادرة عن النجوم الميتة إلى إشعاع خلفية، لا بد أن تكون لدينا أيضًا بيئة يحيط فيها غاز كثيف بالنجوم. وبهذه الطريقة، لا تستطيع الأشعة السينية المنبعثة من المستعرات العظمى والثقوب السوداء الهروب وتسخين الغاز المحيط. هناك طرق لإعادة إنتاج الإشارة باستخدام إشعاع خلفية إضافي، ولكن كما هو الحال مع نظريات المادة المظلمة، يتطلب تحقيق ذلك العديد من عمليات الضبط الدقيق. يُعَدُّ المجال البحثي المتعلق بالثقوب السوداء من المجالات التي تحتاج دائمًا إلى المزيد من البيانات، ولذا يتحمس الجميع بشأن درجات الحرارة المتدنية التي اكتشفتها تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي؛ لأنها قد تشير إلى وجود ثقوب سوداء في الكون المبكر. في مركز مجرتنا، ومعظم المجرات الحلزونية، يوجد ثقب أسود هائل، تعادل كتلته حوالي ٥ ملايين كتلة شمسية. إن مثل هذه الثقوب السوداء كبيرة جدًّا لدرجة أننا لا نستطيع معرفة كيف نمت إلى هذا الحد خلال ١٣ مليار سنة «فقط». إذا كانت نجوم الجمهرة الثالثة قد شكَّلت ثقوبًا سوداء في وقت مبكر جدًّا عما كنا نعتقد، كأن يكون هذا قد حدث في العصور المظلمة مثلًا، فلربما منح ذلك الثقوب السوداء وقتًا كافيًا لتنمو إلى النسب التي نلاحظها اليوم. وهذا لغز كوني آخر من المحتمل أن تنجح تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي في حله.

•••

لقد ناقشنا مسألة المادة المظلمة وإشعاع الخلفية الإضافي. وهكذا نصل إلى الاحتمال الثالث، وهو أن البيانات غير دقيقة. على الرغم من بساطة تصميم تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي، فإن تحليل البيانات مسألة معقدة. فعند تشغيل تلسكوب راديوي وضبطه على أحد الترددات، فأنت لا تلتقط الفوتونات الصادرة عند هذا التردد من النجوم الأولى فحسب. بل تلتقط جميع الفوتونات الصادرة عند هذا التردد، بما فيها تلك التي تنتجها الأرض من الهواتف المحمولة والطائرات ومحطات الراديو. وتعد المجرة نفسها مصدرًا ممتازًا للفوتونات، والتي تفوق في عددها عدد الفوتونات المنبعثة من إشارة النجوم الأولى بمئات إلى آلاف المرات. يتمحور مجال اختصاصي المهني حول تحديد كيفية التقاط الإشارة من بين كل تلك الإشارات المتداخلة. ويتطلب هذا الأمر أساليب إحصائية ومعرفة ممتازة بمدى سطوع المجرة عند كل تردد. وقد تمرسنا على اكتشاف هذه الأشياء جيدًا، لكننا يساورنا القلق دائمًا حول احتمالية وجود شيءٍ مجهول، ربما مصدر للفوتونات يساهم في وجود إشارة متداخلة لا نتوقعها ولا نعلم حتى بوجودها. فقد تكون الإشارات المُكتشَفة إشارات متداخلة وعالقة، تتظاهر بأنها إشارات حقيقية. وقد حظيت هذه النظرية باهتمام متزايد في الأدبيات العلمية. وفي أحد المؤتمرات بعد الإعلان عن نتائج تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي، ذهبتُ إلى أحد العلماء المشاركين في تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي وأخبرتُه بأنني أريد التحدث معه بشأن الإشارات المتداخلة. نظر إليَّ نظرة منهكة وتنهَّد قائلًا: «بالطبع تريدين ذلك». أعتقد أن الكثيرين كانوا يطرحون عليه الأسئلة نفسها في ذلك الاجتماع. على سبيل المثال، هل تحققوا من خوارزمياتهم؟ هل جربوا طريقة مختلفة لإزالة الإشارات المتداخلة؟ وكانت الإجابة دائمًا هي نعم، كما تشير دقة البحث الأصلي. إن هذا ليس إعلانًا عن صحة ما اكتشفته التجربة، ولكنه قائمة من واقع معرفتي الذاتية بما لم تكتشفه تلك التجربة. لقد حاولوا كلَّ ما في وسعهم لتفسير هذه الإشارة بحل بسيط. نحن الآن في مواجهة متأزمة مع النظريات التي لا يمكن حلها إلا بتوفر المزيد من البيانات.

متى كانت نهاية العصور المظلمة؟

نحن ندرك أننا نعيش في العصور المظلمة بأكثر من طريقة. تاريخيًّا، تشير العصور المظلمة إلى الفترة بين عامَي ٥٠٠ و١٤٠٠ ميلاديًّا تقريبًا. ويستحضر هذا المصطلح في الأذهان صورة البرابرة، والطاعون الأسود، وغياب التعليم، والرفاهية والثقافة. وقد صكَّ العالِم الإيطالي بترارك هذا المصطلح في القرن الرابع عشر، واستخدمه للإشارة إلى قلة الإنتاج الفكري في القرون السابقة. وعلى الرغم من أن المصطلح ظهر نتيجة انزعاج شخص واحد لعدم تمكنه من العثور على كتاب جيد، فقد ظل المصطلح باقيًا. ومع مرور الوقت، ظهر العديد من الأدلة على حدوث تقدُّم في المجالات العلمية والفنية والثقافية خلال العصور المظلمة. ونتيجة لذلك، فقدَ هذا المصطلح شعبيته، باستثناء عدد قليل من المؤرخين الذين احتفظوا به للإشارة إلى عدم وجود سجلات ومحفوظات خلال تلك الفترة. وقد وسَّعوا نطاق هذا التفسير الأخير ليشمل عصرًا أكثر حداثة: العصور الرقمية المظلمة. ويُقصَد بها العصور المظلمة المعاصرة التي ظهرت نتيجة عدم القدرة على معالجة أو تحليل تنسيقات ملفاتٍ قديمة لا يتوفر منها نسخة ورقية. ففي العصر الرقمي، كثيرًا ما تُحذف البيانات أو تُسجَّل بتنسيقاتٍ لا نعرف كيفية التعامل معها (على سبيل المثال، اطلب من أحد المراهقين تحميل بياناتٍ من قرص مرن). وفيما يخص العصور المظلمة للكون، فقد انتهت حقبة البيانات المفقودة. فلدينا القليل من البيانات ووجدنا سجلًّا تاريخيًّا واحدًا دفعنا بالفعل إلى إعادة كتابة التاريخ الذي اعتقدنا أننا نعرفه. وعلى غرار اكتشاف قرص مرن في موقع أثري من العصور الوسطى، فقد جعلتنا تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي نشك في كثير من الأشياء التي كنا نعتبرها حقائق مؤكَّدة.

هناك تلسكوبات أخرى حوَّلت تركيزها إلى ترددات درجات الحرارة المتدنية في حالة الامتصاص، من أجل الحصول على مزيد من البيانات للتحقق من صحة الإشارة التي اكتشفتها تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي واعتمادها. تستخدم هذه التلسكوبات الموجودة في نصفَي الكرة الأرضية المنفصلَين خوارزمياتٍ مختلفة لتحليل بياناتها. ومن ثَمَّ، إذا كان الاكتشاف ناتجًا عن خوارزمية مغلوطة، فإنه يظل لدينا أمل في ألا يتكرر ذلك في البيانات الواردة من تلسكوب آخر، وحينها سنعرف أن هناك مشكلة.

آخِر إبداعات باترسون التي أودُّ أن أقدمها إليكم هو «الأرض-القمر-الأرض».18 في هذا المشروع، حوَّلت باترسون «سيمفونية ضوء القمر» لبيتهوفن إلى شفرة مورس. عندما أطلقت الإشارة باتجاه القمر، ارتدت منه، بعدما أفسد سطحُ القمر نفسه والغلافُ الجوي للأرض الإشارة. حينها حوَّلت الإشارة مرة أخرى إلى موسيقى، واستخدمت في عزفها بيانو آلي كبير، وبالفعل صدر لحن سيمفونية ضوء القمر لكنه كان نشازًا، غير مطرب للآذان. فقد تأثَّر وضوحُ الإشارة كثيرًا بسبب تلك الرحلة التي استغرقت ٢٫٥ ثانية، ومن ثَمَّ لك أن تتخيل كيف قد تبدو إشارة قطعت مسافة ١٣ مليار سنة. فما لدينا هو النسخة الحديثة من سيمفونية الفجر الكوني، ولكن مهمتنا الآن هي اكتشاف اللحن الأصلي.

•••

يبدو أن تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي قد فتحت الباب أمام حقبة كانت مخفية سابقًا. وقد استخدمت درجة حرارة غاز الهيدروجين في الكون المبكر لتتبع الوجود الضمني لنجوم الجمهرة الثالثة. عندما بدأ الاندماج في النجوم الأولى جديًّا، أدى ذلك إلى تسخين الغاز المحيط، ومن ثَمَّ إلى ارتفاع درجة حرارته مقارنةً بدرجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. تشير بيانات تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأين العالمي إلى أن النجوم الأولى قد تشكَّلت بعد الانفجار العظيم بحوالي ١٨٠ مليون سنة، ولكنها تشير أيضًا إلى أن غاز الهيدروجين كان أبرد بكثير مما كان متوقعًا. قد يرجع السبب في ذلك إلى تفاعل المادة المظلمة على نحو غير معتاد مع غاز الهيدروجين، ولكنه قد يكون أيضًا بسبب وجود إشعاع خلفية إضافي إلى جانب إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. التجربة معقدة، ولذا نحتاج إلى المزيد من البيانات للتحقق من صحة ما اكتشفته واعتماده قبل استخلاص أي استنتاجات مهمة.

إن زيادة وضوح إشارة مشوشة تمامًا واكتشاف النظرية الصحيحة يتطلب بذل الكثير من الجهد. فالنظريات ليست متناقضة. ولكن ربما يمكننا اكتشاف إشارة الفجر الكوني الحقيقية باستخدام جزءٍ بسيط من كل نظرية. وربما نتوصل حينها إلى شيء جديد لم يفكر فيه أحدٌ من قبل. ففي نهاية المطاف، لا توجد حتى الآن نظرية بإمكانها تفسير شكل القاع المسطح للمنخفض الجوي الناتج. ولذا، ربما سنحتاج إلى تطوير نظرياتنا إلى مستوًى جديد تمامًا. فهناك أمور لا نستطيع فهمها. وهذا ما يثير اهتمام العلماء وحماسهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤