الفصل السادس

تشظي النجوم

هناك منطقة خلَّابة في المملكة المتحدة، تسمى «ليك ديستريكت»؛ أي منطقة البحيرات. وهي أكبر حديقة عامة في إنجلترا، وأحد مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو، وتضم العديد من الجبال، وبالطبع البحيرات، حيث توجد بها ١٦ بحيرة. تتميز البحيرات بأنها كبيرة بما يتسع للاستمتاع بالرياضات المائية وقضاء أيام ممتعة في الإبحار، بافتراض أن يحالفك الحظ لتحظى بطقس جيد (وهو أمر غير مضمون في المملكة المتحدة، ناهيك عن منطقة البحيرات). لقد قضيتُ وقتًا لطيفًا هناك ولكنني لم يسعني سوى الشعور بشيءٍ من خيبة الأمل تجاه البحيرات نفسها. والسبب هو زيارتي إلى الولايات المتحدة. فالبحيرات العظمى في أمريكا الشمالية تحتوي على ما يقل قليلًا عن خمس المياه السطحية العذبة على الأرض.1 تبلغ مساحة بحيرة ويندرمير، وهي واحدة من أكبر البحيرات في منطقة البحيرات، نحو ١٥ كيلومترًا مربعًا (٥٫٧٩ أميال مربعة)، بينما تبلغ مساحة بحيرة إيري، رابع أكبر بحيرة في الولايات المتحدة من حيث المساحة، ٢٦ ألف كيلومتر مربع (١٠٠٣٨ ميل مربع)، أي أكبر من بحيرة ويندرمير بأكثر من ١٧٠٠ مرة. أو على غرار العبارة الشهيرة في فيلم «كروكودايل دندي» (التمساح دندي): «أتسمي تلك بحيرة؟ هذه هي البحيرة.»
كانت بحيرة إيري واحدة من البحيرات التي لم أزُرْها خلال جولتي في الولايات المتحدة، ولا أشعر بالندم حيال هذا الأمر بعد أن قرأت بعض التحذيرات الصحية بشأن البحيرة في السنوات الأخيرة. ففي عام ٢٠١٤، تلقى نصف مليون شخص في المنطقة المحيطة بالبحيرة تحذيرًا بتجنب شرب مياه الصنبور بسبب وجود مادة سامة تنتجها الطحالب المنتشرة على طول البحيرة،2 وهي نوع من البكتيريا المجهرية لونها أزرق مخضر تسمى البكتيريا الزرقاء (سيانوبكتيريا).

قد لا يكون اسم البكتيريا الزرقاء مألوفًا لك، لكن لا شك في أنك ستصادفها في وقت ما، على الأرجح أثناء التجول حول مسطح من المياه الراكدة. وعلى الرغم من اسمها، فإنها يمكن أن تتخذ ألوانًا مختلفة. عندما تكون الظروف ملائمة للنمو بكثرة فإنها «تزهر»، وغالبًا ما تنتج على سطح الماء غطاءً أخضر (على الرغم من أنه في بعض الأحيان يكون أحمر أو أصفر أو بُنيًّا أو أزرق). ولكنها ليست جميلة الشكل، والسباحة خلالها غير ممتعة، كما أنها يمكن أن تكون سامة. فهي تنتج طبقة لا يمكن لأشعة الشمس اختراقها بسهولة، مما يحول دون وصول الحرارة والضوء إلى الكائنات الحية الموجودة في الماء، ومن ثَمَّ استنفاد مستويات الأكسجين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تنتج موادَّ سامة ذات أثر قاتل على بعض الكائنات، ويمكن أن تسبب أمراضًا خطيرة للإنسان إذا شرب كوبًا من هذا الماء. وعلى الرغم من مدى انزعاجنا منها الآن، فنحن ممتنون لها كثيرًا. ففي الواقع، لولا تدخلها لما كان للحياة كما نعرفها على كوكب الأرض وجود.

حدث الأكسدة العظيم

منذ أكثر من ٢٫٥ مليار سنة، كانت الأرض دافئة ومليئة بغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان. احتجزت هذه الغازات ضوءَ الشمس القادم إليها، مما أدى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض. كانت درجة حرارة المحيطات تتراوح بين ٦٥ و٨٠ درجة مئوية، أو بما يعادل ١٥٠ إلى ١٧٥ درجة فهرنهايت، وهي درجة حرارة مرتفعة جدًّا حتى إنه كان من الصعب القيام بأي أنشطة مائية. وتقريبًا للفكرة، تبلغ درجة حرارة حمامك وجسمك عمومًا حوالي ٣٧ درجة مئوية، أو ٩٩ درجة فهرنهايت. لم يكن هناك أكسجين في الغلاف الجوي للتنفس، وبالتالي فإن أشكال الحياة المعقدة التي نراها اليوم لم تكن قد تطورت بعد ولم تكن الظروف ملائمة لتتمكن من البقاء على قيد الحياة. ثم حدث شيء ما: حدث الأكسدة العظيم، أو أزمة الأكسدة الكبرى، وهذا يعتمد على ما إذا كنت بكتيريا زرقاء أو أي شيء آخر. من المقترح أن البكتيريا الزرقاء قد لعبت دورين في واحدة من كبرى عمليات الانقراض الجماعي في تاريخ الأرض،3 دور المُحرِّضين ودور الناجين القلائل. ونعتقد أن البكتيريا الزرقاء طورت القدرة على التمثيل الضوئي خلال الفترة القصيرة التي وُجدت فيها.4 والتمثيل الضوئي هو تفاعل كيميائي بين الماء وثاني أكسيد الكربون وأشعة الشمس، ينتج طاقة للنبات في صورة جلوكوز، بالإضافة إلى الأكسجين الذي يعتبر منتجًا ثانويًّا. عندما بدأت جميع البكتيريا الزرقاء في ضخ الأكسجين الناتج، دخل في البداية في تفاعلاتٍ كيميائية أخرى. وقد استُخدِم في تحلل الكائنات الميتة، كما أدى إلى تكوُّن الصدأ على الحديد المُذاب في محيطات العالم، مخلِّفًا طبقاتٍ من الرواسب الحمراء التي تعرف بالطبقات الحمراء أو الحجارة الحديدية. عندما كان لدينا أرض صدئة، لم يكن للأكسجين مكان آخر ينتقل إليه سوى الغلاف الجوي. وهناك، تفاعلَ مع الميثان مكوِّنًا ثاني أكسيد الكربون والماء، مما أدى إلى انخفاض مستويات الميثان مع استمرار ارتفاع مستويات الأكسجين. لقد غيَّرت البكتيريا الزرقاء تكوين الغلاف الجوي ومن ثَمَّ غيَّرت العالم. وبمجرد توفُّر الأكسجين، توفرت الإمكانية لتطور شكل جديد من أشكال الحياة، يستخدم الأكسجين كوقود وينتج تجمعاتٍ ضخمة ومعقدة من الخلايا التي نطلق عليها اسم الأجسام البشرية.

في السنوات الأولى من تاريخ الأرض، أدى إطلاق كمياتٍ كبيرة من الأكسجين في الغلاف الجوي إلى تغيير البيئة بشكل دائم وتغيير ما يمكن أن ينمو فيها. وقد لعبت النجوم الأولى دورًا مشابهًا في الكون المبكر. فقد وجدت نفسها مولودة في بيئة نقية، خالية من البنيات الكبيرة. فالتعقيد الذي نراه حولنا اليوم يتطلب وحدات بناءٍ أكبر من مجرد الهيدروجين والهيليوم، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك سوى النجوم الأولى التي يمكنها توفير وحدات البناء هذه. وإذا قارنا حجم البكتيريا الزرقاء الضئيلة مع حجم الأرض، فسنجد أن هذه المقارنة لا تختلف كثيرًا عن المقارنة بين حجم أحد النجوم الأولى وحجم الكون. وربما كانت النجوم الأولى عبارة عن بكتيريا بالنسبة إلى الكون؛ أي ضئيلة الحجم وغير مهمة.

كتلة جينز

في الفصل الرابع، تركنا سحابة الغاز المحظوظة عند نقطة الاندماج. فقد انهارت السحابة تحت ضغط الجاذبية الهائل، مما أدى إلى اتحاد ذرات الهيدروجين معًا وبدء عملية الاندماج، أي احتراق الهيدروجين، ونتج عن ذلك حرارة وضوء، وضغط اندفع إلى الخارج ووازن قوة الجاذبية التي لا هوادة فيها. في الفصل الرابع، سلطنا الضوء على ولادة نجم واحد. نجم واحد من سحابة غاز واحدة. إنها فكرة متسقة ومتجانسة. وحتى سنوات قليلة مضت، كانت هذه هي الطريقة التي نحاكي بها تشكيلات النجوم الأولية الخالية من المعادن: بالتركيز على نجم رئيسي واحد في مركز السحابة. ذلك أنه لم تكن لدينا الإمكانات الحوسبية للقيام بأكثر من ذلك. فالإمكانات اللازمة لحساب قوى الجاذبية والتفاعلات الكيميائية والمجالات المغناطيسية لنجم واحد فقط تتعدى حدود قدراتنا الحسابية والإمكانات الحوسبية في ذلك الوقت. ونتيجة لذلك، كان من الممكن أن يُطلق على هذا الفصل قبل بضع سنوات اسم «حياة منعزلة»، وهو العنوان نفسه الذي اعتدت أن أعطيه لشرائح العروض التقديمية التي أعدتها حول هذا الموضوع. فقد اعتقدنا أن النجوم الأولى تشكلت على نحو فردي، وعاشت كل منها حياة منعزلة. لكننا نعتقد الآن أنها لم تكن وحيدة على الإطلاق، بل على العكس تمامًا، فقد تكونت في مجموعات، تمامًا مثل حاضنات النجوم التي نرصدها اليوم. وعندما نستخدم ضوء الأشعة تحت الحمراء للنظر من خلال الغاز المعتم الذي تتشكل منه النجوم، نرى سحابة واحدة من الغاز لم تشكل نجمًا ضخمًا واحدًا، ولكنها بدلًا من ذلك تفككت وتحولت إلى مجموعة من النجوم ذات كتلة أصغر.

والسؤال هنا: ما الذي يحدد إذن عدد النجوم التي يمكن أن تشكلها سحابة واحدة؟ تتحدد الكتلة التي يجب أن يصل إليها النظام حتى ينهار من خلال قيمة تسمى كتلة جينز، تيمنًا باسم عالِم الفلك البريطاني السير جيمس هوبوود جينز. ساهم جينز بفكرتَين رئيسيتَين ناقشتُهما في هذا الكتاب. دارت إحداهما حول مساهمته في فهمنا لطيف الجسم الأسود، والأخرى حول دوره الرائد بوصفه أول شخص يقترح نظرية الحالة الثابتة للكون.5 وقد أدرك جينز أن الكتلة التي يُقيَّد عندها النظام بفِعل الجاذبية ستعتمد على حجم النظام ودرجة حرارته. فالسحابة الباردة تنهار بسهولة أكبر من السحابة الساخنة؛ لأن الذرات تكون أقل نشاطًا وحركة ولا يمكنها الهروب بسهولة. وتنهار السحابة الأكثر كثافة بسهولة أكبر من السحابة الأكثر تمددًا؛ لأنها تضغط الذرات في مساحة أصغر. وكلما تقاربت كتلتان، زادت قوة الجاذبية بينهما، ومن ثَمَّ زادت القوة التي تسحب الذرات الهاربة إلى الداخل. تخبرنا كتلة جينز أن نجمًا بنفس كتلة الشمس من المحتمَل أن يكون قد تشكَّل من تجمع غازي يفوق في حجمه حجم المجموعة الشمسية بنحو ٢٥٠ مرة، بافتراض أن متوسط درجة حرارة الغاز يبلغ ٢٠ كلفن.6 في نظام ساخن، تتحرك ذرات الغاز في كل مكان بطاقة حركية عالية، ولذلك تحتاج إلى قوة جاذبية أكبر لإبطائها ودفعها إلى الداخل … ومن ثَمَّ ستكون كتلة جينز أكبر. لو كانت مجموعتنا الشمسية قد تشكَّلت بالقرب من نجم آخر، لكانت درجة حرارة الغاز قد ارتفعت إلى ١٠٠ كلفن. حينها يتعين على نصف قطر التجمع الغازي أن يتجاوز حجم المجموعة الشمسية بما يقرب من ١٢٥٠ مرة حتى يتمكن من الانهيار.

ستنكمش السحابة بمجرد أن تصل إلى كتلة جينز. وبسبب هذا الانكماش ترتفع درجة حرارة السحب كثيرًا لدرجة أنها لا تستطيع أن تتفكك وتتقلص إلى كتل صغيرة بحجم النجوم؛ حيث لا تزال كتلة جينز كبيرة للغاية، لا سيَّما في الكون اليافع الساخن. ولم يتغلب على الضغط الحراري والانهيار سوى السحب الضخمة حقًّا التي ساعدها حجمها الهائل على ذلك. ولتفكيك تلك السحب، علينا خفض حرارتها بعض الشيء وتقليل كتلة جينز حتى تبدأ السحب في التفتت والانهيار في شكل كتل بحجم النجوم.

قد يبدو من الغريب أن نفكِّر في كيفية تبريد سحابة غازية لتكوين نجم شديد الحرارة. ولكن السر يكمن في ترتيب الأحداث. في البداية تظهر سحب الغاز ككياناتٍ شديدة الانتشار وهشَّة أيضًا. وذلك على النقيض من النجم الذي يتميز بأنه جسم أكثر كثافة، ولذا علينا أن نتوصل إلى كيفية تكثيف سحابة الغاز بهذا القدر، دون أن تنفجر بسبب الطاقة الحرارية المتزايدة أثناء انهيارها. عندما تنهار السحابة، فإنها تفقد طاقة وضع الجاذبية، وكما تعلمنا من حوتنا البائس الذي كان يتسارع لأسفل نحو الأرض، فلا بد من خروج تلك الطاقة إلى مكان ما. عندما نجبر الغاز على شغل مساحة أصغر، أو ملء مكان بمزيد من جزيئات الغاز، فإننا نزيد الضغط. يمكننا عمل ذلك عن قصد لنفخ إطار سيارة أو دراجة، على سبيل المثال. وعند فعل ذلك، تقل إمكانية تحرك الجزيئات بحرية، ويزداد اصطدامها ببعضها وبجدران الوعاء الذي يحتويها، وبالتالي تزداد طاقتها الحرارية. وتتحول طاقة وضع الجاذبية إلى طاقة حرارية، مما يجعل الغاز أكثر سخونة وأكثر نشاطًا، ومن ثَمَّ تزداد حركته كثيرًا. أما القوة الناتجة عن هذه الزيادة في الطاقة الحرارية، التي نسميها الضغط، فإنها تعمل في الاتجاه المعاكس لقوة الجاذبية، مما يؤدي إلى إبطاء معدل الانكماش، وتنشأ لعبة شد الحبل بين القوتَين. عندما تنتصر الجاذبية، تنكمش السحابة. وعندما ينتصر الضغط، تتمدد السحابة، الأمر الذي قد يمثل كارثة لنجمنا الأولي المنتظر. وإذا سمحت لي بالعودة إلى الموقع الذي سقط فيه حوتنا البائس من السماء، فيمكننا ملاحظة نتيجة الضغط الزائد. فخروج حوت إلى الشاطئ أمر محزن، ولكن التخلص منه عمل مهم يجب أن يؤخذ على محمل الجد. فالحيتان تتميز بحجم كبير نوعًا ما، ويمكن أن يؤدي تحللها إلى تراكم الغاز داخل الجثة. ومع تراكم المزيد والمزيد من الغاز، يزداد الضغط حتى ينفجر الحوت المسكين، مما قد يتسبب في حدوث «فوضى كريهة. فهذه الدماء وغيرها من الأشياء التي انفجرت على الطريق مثيرة للاشمئزاز، والرائحة كريهة حقًّا»، كما أفاد أحد الأشخاص لقناة «بي بي سي» بعدما شهد حادثًا مؤسفًا لانفجار حوت.7

ولادة النجوم العملاقة

يكمن السر وراء تبريد الغاز في التصادمات. فالإلكترونات الموجودة حول النواة تشغل مستويات طاقة محددة ويمكن للذرة المتصادمة أن تثير الإلكترون لينتقل إلى مستوى طاقة أعلى. لكن الإلكترونات تفضِّل الراحة والاستقرار عند أدنى مستوى طاقة، لذلك تهبط مرة أخرى إلى الأسفل عند أول فرصة، وينبعث فوتون تعادل طاقته الطاقة التي فقدتها الإلكترونات عند الانتقال من مستوى طاقة إلى آخر. وبهذه الطريقة، تتحول الطاقة الحركية لجزيء الغاز إلى طاقة إشعاعية على شكل فوتون يمكنه الهروب من السحابة بسهولة أكبر. في سحب الغاز الأولى الخالية من المعادن، لم يكن هناك تنوع كبير في أنواع التصادمات التي يمكن أن تحدث. ففي أغلب الأوقات كانت ذرات الهيدروجين يصطدم بعضها ببعض. وعندما تصطدم ذرتان من الهيدروجين، يمكن أن تتحدا لتكوين الهيدروجين الجزيئي. والهيدروجين الجزيئي هو الحالة التي نلاحظها في معظم الهيدروجين على الأرض وفي الكون الأوسع. ويمكن الحصول على هذا الجزيء بمساعدة إلكترون «محفِّز»، تلتقطه ذرة الهيدروجين، وينتج عن هذه العملية فوتون. يمكن بعد ذلك أن يتحد «أنيون» الهيدروجين بذرة هيدروجين عادية لتكوين هيدروجين جزيئي، مما يؤدي إلى تحرير الإلكترون المحفِّز، الذي يمكنه بعد ذلك الاستمرار في إثارة المزيد من التفاعلات.

fig17
شكل ٦-١: تبريد الهيدروجين الجزيئي. ينبعث فوتون (γ) أثناء عملية تكوُّن الهيدروجين الجزيئي. يصدر جزء من الطاقة مع هذا الفوتون، مما يؤدي إلى تبريد الغاز.

يلعب انبعاث الفوتون وسط هذه التفاعلات دورًا حيويًّا، حيث يصدر معه كمية من طاقة الغاز مما يؤدي إلى تبريده. يحدث هذا التفاعل بسهولة في سحب غاز الهيدروجين، وتؤدي كثرة الفوتونات المنبعثة إلى انخفاض الطاقة الحرارية للنظام، وبالتالي تنخفض درجة حرارته وضغطه الداخلي، ومن ثَمَّ تنهار السحابة. في سحب الغاز الأولى، أدى تبريد الهيدروجين الجزيئي إلى خفض درجة حرارة سحب الغاز إلى بضع مئات كلفن. هناك طرق تبريد أكثر كفاءة متاحة لسحب الغاز الحالية بسبب أنها تحتوي على نسبة أكبر من المعادن على سبيل المثال، مما يسمح لسحب الغاز الحالية بالوصول إلى درجات حرارة أقل بكثير تصل إلى بضع عشرات كلفن. وكان لارتفاع درجة حرارة سحب الغاز الأولى آثارٌ مهمة على خصائص النجوم الأولى. في عملية تكوين النجوم الحالية، تعني درجات الحرارة المنخفضة للسحب الغازية أن كتلة جينز تبلغ نحو كتلة شمسية واحدة، ولذا فإن معظم عمليات تكوين النجوم تنتج نجومًا بحجم شمسنا تقريبًا. ولكن في حالة سحب الغاز الأولى الساخنة، كانت كتلة جينز أكبر بمئات المرات، وتفككت سحب الغاز إلى كتل أكبر بكثير، منتجة نجومًا أولى ضخمة. وعلى الرغم من وجود نجوم ذات أحجام مماثلة حولنا اليوم، فإنها نادرة. ومع ذلك، كانت هذه الكتل الهائلة أمرًا مألوفًا في حالة النجوم الأولى. فقد كانت المقاييس مختلفة تمامًا.

النجوم السامة

قبل ٢٫٥ مليار سنة، كانت معظم أشكال الحياة لا هوائية، باستثناء البكتيريا الزرقاء، ولذا لم تكن تحتاج إلى الأكسجين كي تعيش ولم تتأثر سلبًا بوجوده. وبِناءً على ذلك، كان حدث الأكسدة العظيم في الواقع بمثابة إبادة جماعية للكائنات اللاهوائية. وكان تأثيره مزدوجًا. فهو لم يقتل كل شيء فحسب، بل جعل الحياة صعبة للغاية على كل من نجا. ومع انخفاض كمية غاز الميثان في الغلاف الجوي، انخفضت أيضًا قدرة الأرض على حبس ضوء الشمس. واستمرت درجة حرارة الأرض في الانخفاض، ودخلت في عصر جليدي استمر ما يقرب من ٥٠٠ مليون سنة. حتى إنه كان من المفترض أن الأرض ستصبح كرة ثلج،8 مغطاة بالجليد، أو على الأقل «كرة من الثلج المذاب»، حيث كانت المحيطات الواقعة عند خط الاستواء مغطاة بالثلج المذاب والمناطق القطبية مغطاة بالكتل الجليدية. وفي النهاية، انتهى العصر الجليدي، ربما بسبب الانفجارات البركانية تحت الماء التي ضخت الرماد وبعض غازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي، مما أدى إلى زيادة احتباس ضوء الشمس.9 وحينها نجت البكتيريا الزرقاء. لقد أثبتت البكتيريا أنها تتمتع بقدرة استثنائية على التكيف. وفي أيامنا هذه، يمكنك أن تجدها تنمو عند الينابيع البركانية في متنزه يلوستون الوطني، وتحت جليد القارة القطبية الجنوبية، وفي وسط صحراء أتاكاما. وفي المقابل، لا يستطيع البريطانيون مغادرة منازلهم إلا عندما تتراوح درجات الحرارة بين ٥ و٢٥ درجة مئوية، وعندما يكون المطر خفيفًا. وبسبب الضغط البيئي للكرة الأرضية الثلجية وحدث الأكسدة العظيم، لم ينجُ سوى أشكال الحياة التي تتمتع بقدرة كبيرة على التكيف؛ أشكال الحياة التي أصبحت فيما بعد متعددة الخلايا، وتطورت في اتجاهاتٍ شتى، إلى مخلوقات مثل الديناصورات وفئران الهامستر والمغني ميك جاجر.

بالمقارنة مع البكتيريا الزرقاء، كان من غير المرجح نجاة النجوم الأولى من التدخل البيئي.

بلغت درجة حرارة سطح النجوم الأولى حوالي ١٠٠ ألف كلفن (تبلغ درجة حرارة سطح الشمس ٥٨٠٠ كلفن)، وهذا يعني أنها أنتجت الكثير من الفوتونات النشطة. المشكلة هي أن معظم الإشعاع كان على شكل فوتونات فوق بنفسجية فيما نطلق عليه اسم نطاق طاقات ليمان-فيرنر: هذه هي الطاقات نفسها القادرة على إثارة الإلكترونات كثيرًا في الهيدروجين الجزيئي، H2. عندما يمتص الهيدروجين الجزيئي الموجود في الغاز المتبقي المحيط بالنجم هذه الفوتونات، يتفكك ويدمر الجزيء. ويلعب الهيدروجين الجزيئي دورًا حيويًّا في تبريد الغاز بدرجة كافية حتى يتكثف ويتحول إلى نجم. ومن دونه، تظل درجة حرارة السحابة مرتفعة للغاية أثناء محاولتها الانهيار، وبدلًا من ذلك، تتمدد وتحافظ على شكلها كسحابة من الغاز. وبهذه الطريقة، كانت النجوم الأولى تضر بيئتها الخاصة، حيث كانت تدمر المادة التي كانت النجومُ المستقبلية تشكِّل منها الغاز الأولي اللازم للتبريد. وقد حال ذلك دون تكوُّن المزيد من النجوم في المناطق المحيطة. فقد كان الهيدروجين الجزيئي هو العامل الرئيسي لولادة النجوم الأولى، لكنه دُمِّر مقابل مجهوداته.

كانت مهمة النجوم هي تغيير الكون من أجل النجوم التي ستخلفها، والحث على الانتقال من البساطة إلى التعقيد. قبل تدخلها، كان الكون مظلمًا: شبكة غير مرئية من المادة المظلمة تحددها سحب غازية غير مرئية. وبعد ذلك، امتلأ الكون بتراكيب وبِنًى مختلفة الألوان والأشكال والأحجام. إذ ظهرت العمالقة الحمراء، والعمالقة الزرقاء، والأقزام البيضاء، والأقزام البُنية، والمجرات الحلزونية، والثقوب السوداء، والبشر، ومناجذ الماء التي تتمتع بمنقار يشبه منقار البط. وكان هناك نجوم تحتوي على معادن قليلة (نجوم الجمهرة الثانية) ونجوم تحتوي على معادن أكثر (نجوم الجمهرة الأولى) … لكن لم يكن هناك نجوم خالية تمامًا من المعادن (نجوم الجمهرة الثالثة). يبدو أن النجوم الأولى لم تكن موجودة للاستمتاع بالعرض الذي مهدت لحدوثه. فقد لعبت دور المهندسين المعماريين وضحايا انقراضها الجماعي. لم يولد الجيل التالي من النجوم إلا عندما ماتت النجوم الأولى وأطلقت معادنها، مما أتاح الفرصة لانخفاض درجة حرارة المعادن.

اعتقدنا لفترة طويلة أن هذا معناه أن النجوم الأولى كانت نجومًا وحيدة؛ بمعنى أنه بمجرد أن يتشكل نجم ما، تتدمر سريعًا منطقة تكوُّن النجوم، بحيث لا يتمكن أي نجم شقيق من التشكُّل بعده. يا لها من فكرة غامضة — كون مظلم وفارغ تولد به نجوم وحيدة. لكن فكرة النجوم الوحيدة بدأت تفقد مصداقيتها.

النجوم الشقيقة

في عملية تشكُّل النجوم الحالية، يمكننا مشاهدة نجوم تتشكل في حاضنات للنجوم. تنهار سحب الغاز الكبيرة وتنقسم إلى كتل بحجم النجوم، مما يؤدي إلى إنتاج مجموعات من النجوم بعضها على مقربة من بعض — أو ما يطلق عليه اسم حاضنة نجمية. ويرجع هذا إلى برودة الغاز، وانخفاض كتلة جينز، ولذلك فحتى الكتل الأقل ضخامة داخل السحابة، يمكن أن تصبح مقيَّدة بالجاذبية وتنهار. ونظرًا إلى التركيبة الفريدة الخالية من المعادن التي كانت تميز الكون المبكر، لم يتمكن من الانهيار سوى سحب الغاز الكبيرة فقط. كانت السحب ساخنة جدًّا بسبب نقص المعادن المتاحة لتبريدها بدرجة كافية، ومن ثَمَّ كانت هناك حاجة إلى كتل أكبر لمقاومة الضغط الإشعاعي. قبل بضع سنوات كنا نظن أن نجوم الجمهرة الثالثة كانت وحيدة. فقد تشكلت بمفردها، وعاشت بمفردها، وماتت بمفردها. ولكن مع تطور أجهزة الكمبيوتر، أصبح بإمكاننا تطبيق المستوى نفسه من التفاعلات الكيميائية المفصَّلة وتفاعلات الجاذبية، ليس فقط على الكتلة الموجودة في المركز، ولكن أيضًا على سحابة الغاز بأكملها.10
بادئ ذي بدء، لا بد من فحص سحابة الغاز الكروية المتناظرة الخيالية فحصًا واقعيًّا. فعندما تتشكَّل هذه الهالات من المادة المظلمة، وهالات الغاز الموجودة داخلها، فإنها تتفاعل بسبب الجاذبية مع أي هالات محيطة بها. ويُولِّد هذا التفاعل عزمًا؛ أي إن سرعة دوران السحابة قد تكون صغيرة في البداية، ولكن مع انكماش السحابة، يمكن أن يزداد هذا الدوران بسرعة، تمامًا كما يدور المتزلجون بسرعة أكبر عندما يضمون أذرعهم إلى أجسادهم. وتجبر سرعة الدوران المتزايدة هذه سحابة الغاز على اتخاذ شكل قرص مسطح يلف لولبيًّا نحو المركز حيث يتشكل أول نجم أولي. ويطلق على هذا القرص اسم «قرص التراكم». ومع مرور الوقت، يتحرك الغاز عبر قرص التراكم، ويتراكم على النجم الأولي الرئيسي ويجعله أكبر وأكبر. في البداية، يكون النجم صغيرًا، حيث تبلغ كتلته حوالي ١٪ كتلة شمسية، ولكن مع مرور الوقت، يتراكم عليه الكثير من الهيدروجين لدرجة أنه يتضخم ويتجاوز نصف قطره نصف قطر الشمس بحوالي ١٠٠ مرة. ويكون معدل التراكم على النجم كبيرًا جدًّا لدرجة أن التدفق يقلل الحجم بدلًا من زيادته. ويستمر هذا الانكماش حتى يصل حجم النجم إلى ١٠٠ كتلة شمسية أو أكثر، ولكن بنصف قطر لا يزيد عن نصف قطر الشمس إلا ببضع مرات فقط.11 كانت هذه هي المعلومات البسيطة التي توصلنا إليها منذ فترة من الزمن، ولم نتمكن إلا في الآونة الأخيرة من إلقاء نظرة أشمل على المشهد بأكمله ومتابعة ما يحدث لبقية قرص التراكم. في شكل ٦-٢، يمكننا متابعة تكوُّن أربعة نجوم أولية، وليس نجمًا واحدًا فقط، على مدى فترة زمنية تبلغ ١١٠ سنوات فقط وفقًا لمقاييس البشر. ما نراه هو تشظي قرص التراكم. ونرى أن هناك مجموعة متنوعة من العوامل تقف وراء ذلك، ومنها — على سبيل المثال — الاضطراب الذي يحدث في القرص والذي ينتج عنه ظهور بقع داخل القرص ذات كتلة جينز قليلة. إن السرعة التي تتراكم بها الكتلة فوق النجم تتناسب مع كتلته، ولا شك أن النجوم الأولية المركزية ضخمة الحجم. تتحرك الكتلة إلى الأسفل وتسقط على القرص بسرعة لدرجة أنها لا تتمكن من الانتقال إلى الداخل بسرعة كافية. ويُغطى القرص بالكتلة، مما يؤدي إلى تقليص حجمه وزيادة كثافته وانخفاض كتلة جينز، وقد تنهار بعض مناطق من القرص بعد وقت قصير من تشكُّل النجم الأولي الرئيسي. هناك العديد من عمليات المحاكاة الآن، وجميعها تظهر الشيء نفسه: أن النجوم الأولى لم تكن وحيدة على الإطلاق.12،13،14 يتوقع البعض وجود نجوم شقيقة يتراوح عددها بين نجم واحد وبضعة نجوم، والبعض الآخر يتوقع وجود ما يزيد على مائة نجم شقيق. تتفاوت كتل هذه النجوم إلى حد كبير بدءًا من أقل من كتلة شمسية واحدة إلى ١٠٠٠ كتلة شمسية. كانت النجوم الأولى «الرئيسية» في عمليات المحاكاة هذه ضخمة، وقد أوقفت عملية تكوُّن النجوم بسرعة، ولكن ليس بالسرعة الكافية لمنع تكوُّن عائلة من النجوم حولها أولًا.
fig18
شكل ٦-٢: تكوُّن نجوم الجمهرة الثالثة. في لقطات المحاكاة الست هذه، نرى قرصًا من الغاز ينقسم إلى أربعة نجوم أولية، في فترة زمنية قصيرة تتجاوز المائة عام بقليل. وحدة فلكية واحدة هي المسافة بين الأرض والشمس. حقوق الطبع والنشر © مملوكة لساينس، كلارك وآخرون ٢٠١١.15
ربما لم تتشكل النجوم الأولى بمفردها، ولكن ربما لم تتشكل أيضًا وسط «عائلات سعيدة». فالنجوم الأولية الأصغر حجمًا لا تبقى بالضرورة داخل قرص التراكم. ويبقى بعضها في صورة نجوم شقيقة منفصلة. ويندمج البعض الآخر مع النجم الأولي، حيث يضيف كل الهيدروجين المقيَّد بالجاذبية إلى مصدر وقود النجم الأول. ويُطرد بعضٌ منها،16 ربما ما يصل إلى النصف، حيث إن سرعاتها المدارية أكبر من أن تظل مقيدة في الهالة. يمكن لهذه النجوم الشقيقة المطرودة، ذات الكتلة المنخفضة، أن توفر لنا طريقة لإلقاء نظرة على هذه الفترة من خلال العمل كحفرياتٍ حية، في مأمن من الامحاء الذي يحدث في نهاية المطاف عند وجودها بجوار نجم عملاق.

حدث أكسدة الكون

بمجرد أن تشكلت هذه النجوم الأولى، لم تدم لفترة طويلة نظرًا إلى طبيعة كتلتها الكبيرة. وأثناء محاولتها لمقاومة ضغط الجاذبية الهائل، استنفدت وقودها بسرعة كبيرة، مما أدى إلى إنتاج معادن ثقيلة خلال هذه العملية. بدأ الهيدروجين في الاندماج في مركز النجم، وعلى مدى عُمر النجم كان يحرق المزيد والمزيد من الهيدروجين، في طبقات ذات نصف قطر متزايد. تحت طبقة الهيدروجين المحترق، يمكن أن يبدأ المستوى التالي من الاندماج: احتراق الهيليوم. وبمجرد أن يتوفر الهيليوم، يمكن أن يبدأ المزيد من التفاعلات، التي ينتج عنها الكربون والبريليوم والنيون والأكسجين. وتستمر هذه العملية مع بقية عناصر الجدول الدوري، حيث تنتج معادن أثقل وأثقل في طبقاتٍ تشبه طبقات قشرة البصل. ينتج عن كل هذا الاندماج الطاقة والضغط اللازمَين لمقاومة النجم لقوة الجاذبية الساحقة التي لا هوادة فيها. ولكن عندما ينفد الهيدروجين من النجم ويبدأ النجم في حرق العناصر الأثقل، تزداد صعوبة إنتاج المصادر اللازمة لمقاومة قوة الجاذبية. وتطلق العناصر الأثقل صافي طاقة أقل لكل وحدة كتلة من الوقود، ومن ثَمَّ فإنه للحفاظ على كمية الطاقة نفسها التي تساعد النجم على الصمود، يُستهلك الوقود بسرعة أكبر. وفي حالة نجم تبلغ كتلته ٢٠ مرة كتلة شمسنا، فإن احتراق الهيليوم سيستمر مليون سنة حيث إن احتراق الهيدروجين في المركز يستمر ١٠ ملايين سنة.17 أما عن احتراق الكربون، فإنه سيستمر لمدة ٣٠٠ عام، وسيحترق الأكسجين لمدة ٢٠٠ يوم. وسيستمر احتراق السيليكون لمدة يومَين فقط، وبمجرد وصولنا إلى الحديد، ستتوقف عملية الاندماج. الطاقات التي تمكِّن الحديد من الاندماج تمكِّن الفوتونات من أن تكون نشطة للغاية بحيث تكون قادرة على تفكيك الحديد والنوى الثقيلة الأخرى. وتتفكك العناصر الثقيلة إلى البروتونات والنيوترونات المكونة لها، ومن ثَمَّ ينهار ضغط النجم. وبمجرد أن يبدأ النجم في دمج الحديد، لا يتمكن من إنتاج كمية الطاقة نفسها، وفي النهاية تتغلب عليه قوة الجاذبية الساحقة. ويتمزق هيكل النجم وتنبعث منه المعادن، وغيرها من عناصر أخرى، إلى البيئة المحيطة، وهي ظاهرة تشبه حدث أكسدة الكون إذا صحَّ التعبير.
تطلق النجوم معادنها داخل هالة تكوُّنها، مما يؤدي إلى تعكير الغاز الأولي النقي بطريقة لا يمكن التراجع عنها. ويصبح الغاز النقي عرضة للتلوث على نحو ملحوظ. ومع موت الجيل الأول من النجوم وتلويث محيطه، تزداد نسبة المعادن في الغاز من صفر إلى ١ / ١٠٠٠ من نسبة المعادن في الشمس اليوم.18 وهذا يكفي لتحديد الانتقال من تكوُّن نجوم الجمهرة الثالثة إلى نجوم الجمهرة الثانية. لقد تكوَّنت النجوم الأولى من مجموعة مكوناتٍ أولية للغاية: مثل الكعكة التي لا تحتوي على خلاصة الفانيليا أو مسحوق الكاكاو، ولا تُزيَّن بطبقة من السكر أو يُوضَع فوقها كرز. فبنية النجوم هي التي تميز الفرق بين النجوم الأولى والنجوم الحالية. وبمجرد موتها، يصبح الغاز غنيًّا بالمعادن بدرجة كافية بحيث لا يمكن أن يتشكل المزيد من نجوم الجمهرة الثالثة داخل تلك الهالة. الآن لا بد أن يبرد هذا الغاز الساخن المخصَّب، ويستقر مرة أخرى في شكل سحب غاز محظوظة وغير محظوظة حتى تشكل جيلًا جديدًا، هو نجوم الجمهرة الثانية. يحدث هذا بسرعة، بالمقاييس الكونية، بعد ١٠ إلى ١٠٠ مليون سنة فقط من انفجار نجوم الجمهرة الثالثة في هيئة مستعرات عظمى. فقد نُثرت المعادن في الكون في غمضة عين بالمقاييس الكونية، كما حدث مع حدث الأكسدة العظيم من الناحية الجيولوجية.

جزر في السماء

بعض انفجارات المستعرات العظمى تكون قوية بما يكفي لطرد المعادن خارج هالة التكوُّن إلى وسط ما بين المجرات الأوسع، لكنها سرعان ما تعود مرة أخرى بسبب قوة جاذبية موطن نشأتها، تمامًا كما هو الحال مع جيل الألفية والغرف الاحتياطية في منزل ذويهم. فانفجارات النجوم الأولى قوية، لكنها لا تنجح في تغيير أي شيء سوى بيئتها المحيطة. وبسبب انحصار قذف المعادن في مكان محدد، تكون عملية إثراء وسط ما بين المجرات بالمعادن عملية عشوائية؛19 فهي تتبع الشكل غير المنتظم الذي تنتشر به الهالات عبر السماء. فالهالات تتشكل عند نقاط التقاطع بين خيوط شبكة المادة المظلمة، وفي عروض المحاكاة يمكنك أن ترى كيف يتبع انتشارُ المعادن الشبكة.* ربما لو كانت المستعرات العظمى أكثر نشاطًا، لكان من المتوقع أن نرى انتشارًا متجانسًا للمعادن بسرعة كبيرة، بدلًا من الانتشار الحالي غير النظامي الذي يتبع الشبكة. بمرور الوقت يزداد نطاق الانتشار، بطريقة تذكرنا بالبكتيريا الموجودة في طبق بتري. يفتح هذا التلوث غير المكتمل الطريقَ أمام الاحتمالات. إذا كان انتشار المعادن في وسط ما بين المجرات غير منتظم، فإن الفراغات الأقل كثافة في الشبكة الكونية ستكون بمثابة جزر في السماء، في مأمن من نمو الغاز الملوَّث بالمعادن حولها. يمكن الحفاظ على الغاز النقي في هذه الملاذات، مما يؤدي إلى تكوُّن نجوم الجمهرة الثالثة في وقت لاحق بسبب الاندماج البطيء للغاز المنخفض الكثافة. نحن نتحدث عن فترة زمنية طويلة مضت، أكثر من ١٣ مليار سنة، وهي مسافة طويلة للغاية لا يسعنا النظر إليها بالتلسكوب لرصد ضوء منذ ذلك الوقت. وأي عملية يمكنها تقريب هذه النجوم من حيث الزمن، وبالتالي من حيث المسافة، ستزيد من فرصة رؤية هذه النجوم الأولى. وإذا تمكَّنا من تركيز تلسكوباتنا على المناطق المنخفضة الكثافة، والفراغات التي يكشف عنها افتقارُها إلى الهياكل الكبيرة، فقد نجد دليلًا على وجود نجوم خالية من المعادن على مسافة أقرب بكثير مما قد نجده في المناطق العالية الكثافة.

•••

كانت النجوم الأولى مختلفة عن النجوم الحالية، سواءٌ في طبيعتها أو في طريقة تشكُّلها. وقد أدى انعدام وجود آليات تبريد تتعدى تبريد الهيدروجين الجزيئي إلى ارتفاع كتلة جينز في سحب الغاز الأولية الساخنة، ومن ثَمَّ لم تتمكن من الانهيار سوى كتل الغاز الكبيرة. كنا نعتقد أن هذا يعني أن النجوم الأولى قد تشكلت على نحو فردي، ولكن بفضل أساليب المحاكاة المحسَّنة يمكننا الآن متابعة ما يحدث في قرص التراكم المحيط. ونعتقد حاليًّا أن السحب الأولى تنهار لتشكل نجمًا مركزيًّا ضخمًا، وتتشكل حوله نجوم أولية أصغر منه. يُطرَد بعضها، ويندمج البعض الآخر مع الكتلة المركزية، وتظل البقية على قيد الحياة، منتجةً أول ثنائيات نجمية. وعلى الفور يحول هذا الانفجار الأول لتشكُّل النجوم دون ظهور جيل ثانٍ من نجوم الجمهرة الثالثة، حيث تدمِّر فوتوناتُ النجوم الأولى نفسها الهيدروجينَ الجزيئي اللازم للتبريد. وتعيش حياتها القصيرة، حيث تدمج المعادن ثم تطلقها في النهاية إلى البيئة المحيطة بها مباشرة، وهي واثقة بأن أي نجوم تتشكل من هذا الغاز تنتمي بالفعل إلى نجوم الجمهرة الثانية. وفي غمضة عين كونية، تختفي النجوم الأولى الضخمة، لكن إرثها يبقى، وهو نثر المعادن في الكون.

في خليج القرش، في غرب أستراليا، داخل منطقة تسمى هاملين بول، شكلت البكتيريا الزرقاء حصائر بكتيرية؛ وهي طبقات من البكتيريا متشابكة معًا. منذ زمن طويل، قبل حدث الأكسدة العظيم ولفترة من الزمن بعده، كان يُعتقد أن هذه الحصائر موجودة في كل مكان. وبمجرد تطوُّر حيوانات الرعي، أصبحت الحصائر مصدرًا للغذاء، واليوم لا يمكن العثور عليها إلا في مواقع قليلة، محمية بطريقة أو بأخرى من حيوانات الرعي. عند مرور المياه فوق الحصائر، تهبط طبقة رقيقة من الرواسب إلى الأسفل، وتلتصق بالبكتيريا اللزجة على آلاف الطبقات التي جاءت من قبل. وعلى مدى مئات السنين، أصبحت هذه الصخور الحية أكبر فأكبر، حيث نمت بمعدل ٠٫٣ملم سنويًّا، لتشكِّل حفريات حية مثل تلك التي تبرز في خليج القرش. وتعد الأمثلة الأقدم من هذه الستروماتوليت من أقدم الحفريات على الأرض. في متنزه جلاسير الوطني في ولاية مونتانا الأمريكية، يمكنك مشاهدة ستروماتوليت عمرها أكثر من مليار سنة، وهي صخور تشبه «شرائح الملفوف» توفر لنا تقريرًا عن بعض أشكال الحياة القديمة التي تتمتع بقدر كبير من المرونة والتكيف. ليس من السهل دائمًا العثور على هذه الحفريات، وقد اكتُشفت بسبب التدخل البشري أو الأحداث الجيولوجية. إذ كانت تخفيها عن الأنظار طبقاتٌ من رواسب أخرى. وينطبق الأمر كذلك على نجوم الجمهرة الثالثة المقذوفة أو المتأخرة التكوين؛ حيث إذا عُثر عليها داخل أنظمة نجمية أخرى أو تتجول حولها، فمن المرجَّح أنها مموَّهة بطبقاتٍ من المعادن التي صادفتها أثناء تنقلها. فاكتشافها ليس بالمهمة السهلة ويتطلب الكثير من البحث.

هوامش

* يمكنك مشاهدة كل هذه العناصر المتفاعلة، من مادة مظلمة، وغاز، ودرجة حرارة، ونسب انتشار المعادن على الموقع الإلكتروني Illustris Project.
لا يشتهر خليج القرش بأسماك القرش حسبما قد يظن البعض. ويحتوي الموقع الإلكتروني الموجه للسائحين على تحذير أسترالي نموذجي: «لم تعد أسماك القرش تشكِّل تهديدًا في خليج القرش أكثر من أي مكان آخر في جميع أنحاء أستراليا. من بين ٢٨ نوعًا من أسماك القرش المسجَّلة في خليج القرش، هناك نوع واحد فقط أو نوعان يمكن اعتبارهما خطرين.» أعتقد أنه لا بأس في ذلك. فلن تواجه سوى سمكة قرش خطيرة واحدة أو اثنتين.
أكبر من بحيرة ويندرمير بمقدار خمس وثمانين مرة.

مراجع مفيدة

  • Greif, T. 2014. The Numerical Frontier of the High-Redshift Universe. Computational Astrophysics and Cosmology, vol. 2, article id. 3: 36 pp.
  • Hallam, T. 2014. Catastrophes and Lesser Climates, The Causes of Mass Extinctions. Oxford University Press.
  • Klessen, R. 2019. Formation of the First Stars, Formation of the First Black Holes. Ed Latif, M.; Schleicher, D. World Scientific Publishing Co. Pte. Ltd, Singapore. pp. 67–97.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤