لم أرغب أبدًا في أن أصبح عالِمة فيزياء فلكية. بينما
كان الكثير من زملائي ينظرون عبر تلسكوبات الهواة، كنت
أحلم بفك رموز اللغة الهيروغليفية وإماطة اللثام عن
القطع الأثرية المخبأة في المقابر المصرية القديمة
المُكتشَفة حديثًا. حاولتُ تعلم اللغة (لكنني فشلت)
وقضيتُ فترة تدريبي في تغليف وتعبئة الأحذية المصرية
التي يبلغ عمرها خمسة آلاف عام في متحف محلي بعد ظهر
أيام الثلاثاء. عندما كنت في السادسة عشرة من عمري،
حذَّرني أحد أمناء المتحف من أن فرص الحصول على وظيفة
في علم المصريات ضئيلة للغاية، وأثناء تجولي في
المكتبة، انصرفتُ عن التاريخ القديم وتوجَّهتُ إلى كتاب
عن السفر عبر الزمن على رف قريب. أتذكر أنني اعتقدتُ أن
الكتاب قد وُضِعَ على سبيل الخطأ في قسم الكتب
الواقعية، لكنني أخذتُه معي إلى المنزل على أي حال.
قرأتُ كل شيءٍ عن النسبية الخاصة لأينشتاين: كيف يتباطأ
الزمن كلما ازدادت السرعة التي تتحرك بها، وكيف تبدو
المسطرة أقصر إذا تحركت بسرعة تقترب من سرعة الضوء.
صعقتُ لأنني لم أسمع بهذا من قبل، ولم أفهم كلمة واحدة
منه. وكان ذلك كافيًا لثنيي في جلسة واحدة فقط عن السعي
وراء الماضي، والاهتمام بشيءٍ بدا وكأنه ضربٌ من الخيال
العلمي. التحقتُ بالجامعة لدراسة الفيزياء كي أتمكن من
فهم هذا الكتاب. ووجدتُ أن الأمر يناسب اهتماماتي
تمامًا؛ لأنه حتى في دراستي للفيزياء انصبَّ اهتمامي
على الماضي. كان بإمكاني صنع أجهزة كمبيوتر كمومية غير
قابلة للاختراق، أو قطارات معلقة لجعلها تسير بشكل
أسرع. كان بإمكاني إجراء بحث حول النقل الآني أو عباءات
التخفي أو الذكاء الاصطناعي، ولكن في النهاية ظل شغفي
متعلقًا بفتح قبر غير مُكتشَف، ولكن هذه المرة على نطاق
كَوْني.
كما هو الحال مع معظم محبي علم المصريات من الشباب،
هناك قصة واحدة تجسد مدى الإثارة والتشويق اللذين
يحيطان بالاكتشافات المصرية القديمة أكثر من أي قصة
أخرى، وهي اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون. في نوفمبر ١٩٢٢،
أمسك عالِم الآثار البريطاني هوارد كارتر بشمعة ونظر من
خلال ثقب صغير في باب المقبرة. سأله راعيه، لورد
كارنارفون، إن كان يرى شيئًا، لكن كارتر أصابته حالة
ذهول، ولم يسعه إلا أن أجابه قائلًا: «نعم، أشياء
رائعة، أشياء مذهلة!»
1 روى لاحقًا أنه، على ضوء الشمعة الخافت،
«كانت تفاصيل الغرفة تتبدى ببطءٍ وسط الضباب … حيوانات
غريبة، تماثيل وذهب — كان بريق الذهب في كل مكان.» بريق
الذهب في كل مكان. لا يزال قلبي يخفق بشدة عندما أقرأ
تلك القصة. تخيَّل تلك اللحظة، وأنت تحفر عبر باب لم
يُفتح منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وتتساءل عما ستجده.
يتملكني الشعور نفسه الآن، وأنا أبحث عن النجوم الأولى،
وأقتفي أثرها في أي شيء ربما خلَّفته وراءها، حتى لو
كان هذا الشيء بعض الأحذية المهملة؛ فلربما تفي
بالغرض.
*
كان اكتشاف
المثوى الأخير لتوت عنخ آمون حدثًا استثنائيًّا لأنه
نادرًا ما يحدث. ففي أغلب الأحيان عند «اكتشاف» مقبرة
ما، يكون لصوص القبور قد وصلوا إليها أولًا، وأحيانًا
قبل آلاف السنين، ونهبوا محتوياتها. وسرعان ما أدرك
المصريون القدماء أن تمييز المكان الذي دفنت فيه الكنوز
بهرم ضخم من شأنه أن يحول دون إبقاء هذه الكنوز مدفونة
لفترة طويلة. ولذلك شرعوا في إخفاء ملوكهم وملكاتهم
والكنوز الموجودة معهم تحت الأرض، لكن حتى ذلك لم يكن
كافيًا لتأمين كنوزهم، مما جعل توت عنخ آمون استثناءً
نادرًا. في الواقع، يعتمد جزء كبير من علم المصريات على
تجميع المعلومات المتفرقة؛ حيث يُعثر على نصف تابوت في
مكان ما، ومومياء في مكان آخر، وجرة كانوبية في عليَّة.
إنه لأمر مثير للدهشة كيف كان يُعثر على بقايا الحياة
اليومية في أماكن غريبة، حيث يتراكم عليها الغبار لآلاف
السنين قبل أن نراها على حقيقتها. يمكننا مقارنة هذا
الأمر ببحثنا عن النجوم الأولى؛ لأن الكون تغيَّر
كثيرًا منذ أن فقدت هذه النجوم الأولى بريقها. فقد
دُوهمت البيئات النقية التي تشكَّلت فيها، وتلوثت
بالنجوم الشابة المتداخلة ومستعراتها العظمى المضطربة،
ومن ثَمَّ لم تبقَ إلا فرص قليلة لمقابر النجوم غير
المكتشَفة. ومع ذلك، قد يوجد في مكانٍ ما بعضُ القطع
الأثرية التي تعود إلى ١٣ مليار سنة مضت تحوم في كوننا،
ولاكتشافها نحتاج إلى انتهاج بعض ممارسات علم الآثار
النجمي.
دالة الكتلة الأولية
لا يفترض أن ينطوي الأمر على صعوبة كبيرة. ففي
النهاية، من الصعب ألا نلاحظ بريقَ ضوء النجوم،
وبالتأكيد هناك أماكن كثيرة للبحث فيها في درب
التبانة. ولكن انتشار النجوم يمثل مشكلة، والبحث عن
نجم خالٍ من المعادن بين مليارات النجوم في درب
التبانة يشبه البحث عن قطع أصلية من آثار مصر
القديمة في سوق لبيع البضائع المستعملة في تكساس.
قد يحالفك الحظ، ولكن من الوارد أيضًا ألا يحالفك،
فتعود بخفَّيْ حُنين، مرتديًا قبعة رعاة بقر
مستعملة بالية. من أكثر العلاقات فائدةً في
الدراسات الخاصة بالنجوم العلاقة بين كتلة النجم
وعمره.†
تختلف أعمار النجوم باختلاف كتلتها؛ حيث تحتوي
النجوم الأصغر كتلة على وقود أقل ولكنها تستهلكه
ببطءٍ؛ إذ تقنن استخدامه على مليارات السنين. تحتوي
النجوم الأضخم على كمية أكبر من الهيدروجين
لاستخدامه كوقود للاندماج، لكنها تستهلكه بمعدل
عالٍ، ولذلك ينفد الوقود في غضون بضعة ملايين من
السنين. وقد أوضحت عملياتُ المحاكاة أن كتلة النجوم
الأولى كانت تصل أحيانًا إلى مائة مرة أو ربما ألف
مرة من كتلة شمسنا. وبإلقاء نظرة سريعة على العلاقة
بين كتلة النجم وعمره، نتوصل إلى أن النجوم الضخمة
الأولى ستعيش أعمارًا قصيرة لا تتجاوز بضعة ملايين
من السنين، وهو أمر محبط لأولئك الذين يأملون في
رصد نجم بعد ١٣ مليار سنة.
ولكن لا داعي للقلق، فما زال هناك بصيص من الأمل.
عندما تحدثنا عن توقعاتنا لنجوم الجمهرة الثالثة،
تطرقنا ضمنيًّا إلى توقعاتنا فيما يخص «متوسط» نجوم
الجمهرة الثالثة. نعتقد حاليًّا أن النجوم الأولى
قد تشكلت في حاضناتٍ للنجوم، ربما مع نجوم أخرى أقل
كتلة. وهذا صحيح بشكل عام، فنحن نتوقع أن يكون حجم
النجوم الأولى أضخم من متوسط حجم النجوم الموجودة
حاليًّا، ولكن كما هو الحال مع جميع القياسات،
نتوقع أيضًا أن توجد نطاقات مختلفة من القيم قد
تزيد أو تنقص عن هذا المتوسط. إذا سبق لك أن اشتريت
ملابس أطفال، فمن المحتمل أنك لاحظت أنها تباع
بمقاساتٍ مثل «٩ سنوات، ١٣٢سم». وذلك ليس لأن كل
طفل في العالم يبلغ من العمر تسع سنوات سيظل طوله
١٣٢سم بالضبط لمدة ٣٦٥ يومًا، ولكن لأن هذا هو
متوسط طول الطفل البالغ من العمر تسع سنوات. وإذا
أخذنا في الاعتبار الأطوال الفعلية لألف طفل في
التاسعة من عمره، فسنجد مجموعة مختلفة من القيم في
نطاق هذا المتوسط؛ بعضها أقصر بكثير، وبعضها أطول
منه بكثير.
2
تختلف هذه الأطوال باختلاف البلدان والأعمار
والعقود. على سبيل المثال، في أمريكا الشمالية، زاد
متوسط طول الإنسان الذكر من ١٫٦٨ متر (٥ أقدام و٧
بوصات) في عام ١٨٩٦ إلى ١٫٧٦ متر (٥ أقدام و١٠
بوصات) في عام ١٩٩٦،
3 ولهذا السبب عند زيارة المنازل
التاريخية، عليك على الأرجح أن تنتبه إلى
رأسك.
‡
يمكننا بسهولة معرفة تلك الأطوال المختلفة في
الماضي، أو دالة توزيع الأطوال، ما دامت لدينا
بيانات، ولكن في مرحلة ما انشغل فيها البشر كثيرًا
بالبحث عن الطعام ومكافحة الطاعون أكثر من انشغالهم
بأطوالهم، ناهيك عن تسجيلها. ومع ذلك، لا يزال
بإمكاننا استنتاج أطوال البشر في العصور السابقة،
عن طريق قياس طول عينة كبيرة بما فيه الكفاية من
الرفات البشرية. فمن خلال قياس أطوال المومياوات في
مصر القديمة، يمكننا أن نتوصل إلى ما يمكن أن نسميه
دالة الطول الأولي، وهي دالة طول واحد من أقدم
المجتمعات. على سبيل المثال، أشارت الأبحاث الحديثة
إلى أن ذكور الأسرة المالكة في مصر القديمة كانوا
في المتوسط أطول من العامة، وأن نساء الأسرة
المالكة كن في المتوسط أقصر، مما يشير إلى وجود
صفات وراثية مشتركة ويؤكد نظريات زواج الأقارب داخل
الأسرة المالكة.
4 مات توت عنخ آمون وهو في التاسعة عشرة
من عمره وكان طوله حوالي ١٫٨ متر (٥ أقدام و١١
بوصة)؛ أي إنه كان يعتبر طويلًا بالنسبة إلى عمره،
حتى بالمعايير الحديثة، مما دفع الأبحاث نفسها إلى
الإشارة إلى احتمالية أن يكون أبوه وأمه شقيقَين.
ومن ثَمَّ، يجب على علماء آثار النجوم اتباع نهج
المؤرخين في النظر في الأدلة غير المباشرة حولهم
لتحديد دالة الكتلة الأولية لنجوم الجمهرة الثالثة.
وإذا تمكنا من معرفة عدد النجوم التي تكونت من كل
كتلة، فإنه يمكننا تحديد ما إذا كان هناك أي أمل في
العثور على نجم قديم منخفض الكتلة من نجوم الجمهرة
الثالثة لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا. وبمراعاة
العلاقة بين كتلة النجوم وعمرها، يمكننا تقدير أن
النجوم التي تبلغ كتلتها ٨٠٪ من كتلة شمسنا أو أقل
هي الوحيدة التي يمكنها البقاء حتى يومنا هذا، وهنا
يبدأ علماء آثار النجوم في التفكير في السؤال
الذهبي التالي: هل انخفضت دالة الكتلة الأولية
لنجوم الجمهرة الثالثة إلى هذا الحد؟
في حالة
مجموعات النجوم القريبة، يمكننا إنشاء دوال كتلة
النجوم بسهولة نسبية باستخدام التقنية المناسبة:
فنحن ببساطة نحسب عدد النجوم التي نرصدها في كل
كتلة. أما في حالة النجوم الأولى، تصبح المهمة أصعب
لعدم وجود عينة يمكن الاعتماد عليها. لم نرَ قط
نجمًا من نجوم الجمهرة الثالثة، أو حتى بقايا
إحداها، ومن ثَمَّ ليس لدينا حتى عظام حضارة قديمة
يمكن أن نستخلص منها استنتاجاتنا. وبدلًا من ذلك،
نستخدم عمليات محاكاة مع أكبر قدر ممكن من قوانين
الفيزياء وما نعرفه عن الكون المبكر للنظر في جميع
السيناريوهات المحتملة. ما اكتشفناه هو أن دالة
الكتلة الأولية لنجوم الجمهرة الثالثة ترتكز على
النجوم المرتفعة الكتلة:
5 تُعزى معظم الكتلة التي عُثِرَ عليها
في عينة النجوم إلى النجوم المرتفعة الكتلة. وعلى
النقيض، نجد أن دوال الكتلة المعتادة للنجوم التي
نرصدها حولنا ترتكز على النجوم المنخفضة الكتلة،
حيث نرصد عددًا أكبر من النجوم المنخفضة الكتلة
مقارنةً بالنجوم المرتفعة الكتلة. ويرجع ذلك
جزئيًّا إلى أن الكثير من النجوم القديمة المرتفعة
الكتلة قد ماتت، ولأن ظروف الكون اليوم تفضل تكوُّن
نجوم ذات كتلة أقل في المقام الأول. في المقابل،
فضَّل الكون المبكر تكوين نجوم مرتفعة الكتلة، وذلك
بسبب نقص معادن التبريد. كانت نجوم الجمهرة الثالثة
ضخمة مقارنةً بالنجوم التي نراها حولنا، وكأنها
كانت في السماء أشبه بذكور الأسرة المالكة (أو ربما
الهولنديين). والأهم من ذلك أنه عند إجراء محاكاة
دوال الكتلة الأولية المحتملة لنجوم الجمهرة
الثالثة، على الرغم من وجود العديد من النجوم
العالية الكتلة، يكون هناك ذيل في منحنى التوزيع
حيث يتكون عدد قليل من النجوم بكتل منخفضة بما يكفي
لرصدها حتى اليوم.
6 هناك تساؤلات كثيرة حول دوال الكتلة
الأولية لنجوم الجمهرة الثالثة، ولكن لا تزال
احتمالية وجود حفريات حية في كوننا قائمة، ونرى أن
هذا يكفي لإجراء الأبحاث اللازمة.
حتى البحث والفشل يعتبران نتيجة بحد ذاتهما في
العلم. تخيل صندوقًا مغلقًا، مملوءًا ﺑ ١٠٠ كرة
ملونة باللون الأحمر والأصفر والأزرق؛ ولإضفاء مزيد
من الإثارة، سنجعل قيمة كل كرة حمراء تخرج من
الصندوق ١٠٠٠ جنيه إسترليني. ربما ستشكِّل الكرات
الحمراء ٨٠٪ من إجمالي عدد الكرات، وربما ٢٥٪، أو
ربما لا يوجد أي منها على الإطلاق. إذا أغمضنا
أعيننا وأمسكنا بكرة ولم تكن حمراء، فهذا لا يخبرنا
بالكثير حيث يوجد الكثير من الأماكن التي يمكن أن
تختبئ فيها الكرات الحمراء ولا تزال معظم
احتمالاتنا ممكنة (باستثناء أن تكون جميع الكرات
حمراء اللون). ولكن إذا اخترنا كرة تلو الأخرى ولم
يكن أي منها أحمر اللون، فسيصيبنا اكتئاب يتزايد مع
استبعاد المزيد من الاحتمالات التي كان من الممكن
أن تكون كرات حمراء، حيث نضيق نطاق احتمالاتنا. لا
تُعد هذه التجربة الفكرية تشبيهًا مثاليًّا، حيث إن
إخراج كرة من صندوق يعد فعلًا بسيطًا، في حين أن
البحث عن نجم خالٍ من المعادن ليس كذلك. بادئ ذي
بَدْء، الصندوق (الكون) أكبر بكثير، ولذا فإن
ذراعنا التلسكوبية لا يمكنها حتى الوصول إلى الكثير
من الكرات، وكما سنكتشف، تقل احتمالية أن تكون
الكرات التي يمكن الوصول إليها، وليس الكرات
البعيدة، حمراء. وكذلك تكلف كل محاولة رصد نقوم بها
وقتًا ومالًا، وكلاهما قيمتان ثمينتان مقدرتان في
الأوساط الأكاديمية؛ الأمر الذي يترتب عليه عدم
إمكانية إجراء محاولات لا حصر لها. بالإضافة إلى
ذلك، فإن تحديد ما إذا كان نجم الجمهرة الثالثة
خاليًا من المعادن وليس فقط لا يحتوي على نسبة
كبيرة من المعادن هو أمر معقد في حد ذاته، فالكرات
كانت موجودة هناك منذ وقت طويل، وكلها مختلطة، وقد
بهت لونُها من الاستخدام، وأصبح غير واضح بسبب
الأوساخ المتراكمة فوقها. وهنا علينا أن نتساءل: هل
الكرة التي نحملها في أيدينا حمراء أم زرقاء؟ من
الصعب معرفة ذلك، ولذا نحتاج إلى طريقة
للتأكُّد.
وفرة من المعادن
يبدو للعين البشرية أن النجم الذي تبلغ كتلته ٨٠٪
من كتلة الشمس ووُلد قبل ١٣ مليار سنة مشابه إلى حد
كبير لنجم تبلغ كتلته ٨٠٪ ووُلد قبل ٤ مليارات سنة.
ومع ذلك، يختلف تمامًا الطيف النجمي لكل منهما. إن
خطوط امتصاص الحديد المتعددة، الناجمة عن مستويات
الطاقة الذرية العديدة في ذرة حديد، تكون أضعف
بكثير في النجم الذي يحتوي على نسبة أقل من
المعادن؛ لأن كمية الحديد أقل. ويجري تقييم ما
يحتويه النجم من معادن من خلال قياس أي جزءٍ من
النجم يحتوي على معدن معين بناءً على قوة خطوط
امتصاص المعدن في الطيف ومقارنة هذا الجزء بالكمية
نفسها الموجودة في الشمس. يحتوي النجم الذي يعاني
من «فقر في الحديد» من نسبة حديد أقل من تلك
الموجودة في الشمس، حتى لو كان النجم كبيرًا جدًّا
ويحتوي على كمية أكبر من الحديد من حيث الكتلة أو
الذرات. هناك الكثير من المعادن للاختيار من بينها،
لكن الحديد ينتج خطوط امتصاص قوية، يمكن قياسها
بسهولة بالتلسكوبات البصرية، وتبين أن الحديد يعد
مؤشرًا جيدًا لإجمالي نسبة المعادن أيضًا. في معظم
النجوم — سنتحدث عن الاستثناءات لاحقًا — إذا أشار
القياس إلى انخفاض نسبة الحديد، فيمكننا استخدام
عبارة «فقير بالحديد» و«فقير بالمعادن» بالتبادل.
وهكذا، بشكل عام، إذا كان النجم يحتوي على نسبة
أقل، أو وفرة، من الحديد الذي تحتويه الشمس، فإنه
يُصنَّف بأنه «فقير بالمعادن»، ويُصنَّف أي شيء
يحتوي على نسبة أكبر من الحديد بأنه «غني
بالمعادن». تتميز النجوم التي نراها من حولنا بأنها
غنية بالمعادن؛ لأنها تشكلت من غاز يحتوي بالفعل
على معادن ناجمة عن انفجارات سابقة لمستعرات عظمى.
تبلغ النسبة الفعلية للحديد في الشمس حوالي ٠٫١٤٪
من كتلتها.
7 ويبلغ عادةً إجمالي ما تحتويه النجوم
الحالية التي تتشكل من معادن حوالي ٢٪ من
كتلتها؛
8 وعلى الرغم من هذه النسبة الضئيلة،
فإننا نصنفها بأنها غنية بالمعادن! ومن الجدير
بالذكر أن الهيدروجين سيكون دائمًا العنصر الرئيسي
في النجم. فالفرق بين نجم الجمهرة الثالثة ونجم
حاليًّا هو مجرد شيء ثانوي، ولكنه يحدث فرقًا
كبيرًا (كما يفعل البقدونس على البطاطس، والريحان
على البيتزا). وبينما نبحث عن أجيال أقدم وأقدم من
النجوم، يتناقص المحتوى المعدني المنخفض بالفعل حتى
نصل إلى نسب منخفضة للغاية من المعادن تتطلب أن
نسبقها بصيغ تفضيل لوصفها
9 (شكل
٧-١). في
الواقع، نادرًا ما يولي علماء آثار النجوم أي
اهتمام لأي نجم ما لم يكن يحتوي على أقل من
١ / ١٠٠٠٠ من نسبة الحديد الموجودة في الشمس؛ وتوصف
هذه النجوم بأنها نجوم فائقة الفقر
بالمعادن.
اكتشاف النجوم الفقيرة بالمعادن
اكتُشفَت أولى النجوم الفقيرة بالمعادن في عام
١٩٥١، على يد عالِم الفلك الأمريكي جوزيف تشامبرلين
والمشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة به لورانس
ألير،
§
اللذين قاسَا وفرة الحديد في نجمَين ووجدا أنها
تعادل حوالي ١ / ١٠ من نسبة الحديد في
الشمس.
11 قد يبدو هذا فرقًا طفيفًا، لكنه كان
اكتشافًا ثوريًّا في ذلك الوقت، وقد حقَّق
تشامبرلين نجاحًا كبيرًا على الصعيد الأكاديمي
أيضًا، حيث كانت هذه أول ورقة بحثية له على
الإطلاق، وتبين أنها أحد أهم الأبحاث الفلكية في
القرن العشرين. حتى تلك اللحظة، كان من المفترض أن
جميع النجوم لها تكوين من العناصر يشبه إلى حد كبير
تكوين العناصر في الشمس. رُصدَت نجوم ذات خطوط
معدنية مختلفة القوة، ولكن فُسِّر ذلك بأن النجوم
من نوع طيفي مختلف فقط، وأنه ليس مؤشرًا على وجود
جيل مختلف تمامًا. وقبل كل شيء كانت الأطياف هي
الأداة المستخدمة لتصنيف النجوم المختلفة وفقًا
لنظام
OBAFGKM في
المقام الأول، حيث أصبحت قوة خطوط الهيدروجين تنوب
عن درجة الحرارة. في بحث تشامبرلين وألير، يمكنك أن
تستشعر عدم تصديقهما للنتائج التي اكتشفاها، حيث
استخدما عبارات مثل «تبدو وفرة [الحديد] المرصودة
أقل مما هي عليه في الشمس، على الرغم من أنه يجب
التعامل مع هذا الاستنتاج بحذر». فهما يشيران إلى
نسب الحديد المقيسة على أنها «العامل الوحيد غير
المرغوب فيه في تفسيرنا». وهذه حالة أخرى من
الضوضاء غير المرغوب فيها التي تحولت إلى إشارة لم
يسبق لأحد اكتشافها، على الرغم من عدم وجود فضلات
حَمَام هذه المرة.
من السهل النظر فيما مضى وانتقاء مثل هذه
التصريحات من الأوراق البحثية المتواضعة التي
غيَّرت نظرتنا إلى العالم، ولكن ما ننظر إليه حقًّا
هو العلماء الأكْفاء. فقد كانت لديهم عينة بحجم
نجمَين فقيرَين بالمعادن، يتعارضان مع المعرفة
السائدة بأن جميع النجوم متشابهة، وجميعها تشبه
شمسنا، وبالرغم من ضرورة أن يكون العالِم واثقًا من
التحليل الذي سينشره، نادرًا ما تأتي اللحظة التي
يقول فيها «وجدتُها» بهذا الوضوح. في كثير من
الأحيان، تتحول كلمة «وجدتُها!» إلى «يبدو هذا
غريبًا! انتظر، ما هذا؟ أعتقد أن هذا قد يكون … يا
إلهي. مرحبًا، هل يمكنكم جميعًا التحقق من الأمر
للتأكد من أنني لم أرتكب حماقة؟» وغالبًا ما يتطلب
الأمر لحظات من التأمل والاكتشاف حتى يشعر المرء
بالاقتناع عند التخلي عن نظرياته الخاطئة التي
اعتاد عليها. عند قراءة أعمال تشامبرلين وألير بشكل
عكسي، يمكنك ملاحظة تلميحات تشكك في صحة نظرية
النجوم المتجانسة، كما في إشارتهما على سبيل المثال
إلى بحث عالِمة الفلك الأمريكية نانسي رومان التي
نشرته في العام السابق على ذلك. كان لنانسي رومان
دور رئيسي في التخطيط لتلسكوب هابل الفضائي وكانت
أول امرأة تتولى منصبًا تنفيذيًّا في الإدارة
الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا)، ولكن قبل
كل ذلك أشارت أعمالها إلى أن النجوم ليست كلها
متشابهة. ما فعلته هو أنها أخذت عينة من النجوم
وصنفتها أولًا حسب مدى ضعف خطوطها المعدنية،
وثانيًا حسب سرعتها.
12 وفي عام ١٩٢٦، لاحظ عالِم الفلك
الهولندي جان أورت أن مخططات هرتسبرونج-راسل للنجوم
العالية السرعة كانت مختلفة على نحو ملحوظ عن تلك
الخاصة بالنجوم المنخفضة السرعة. أكدَّ هذا
الاختلاف بادي الذي كان يراقب النجوم ذات السرعة
العالية والمنخفضة في مجرة أندروميدا من مرصد جبل
ويلسون في عام ١٩٤٤، عندما سمحت بذلك فترات انقطاع
التيار الكهربائي في زمن الحرب.
13 ومع مواصلة استكشاف النجوم المختلفة
السرعة، لاحظت رومان أنه عندما قسَّمت العينة إلى
خطوط معدنية ضعيفة وعادية، لم تُرصَد السرعات
العالية إلا في المجموعة الضعيفة. واكتشفت رومان أن
النجوم التي تحتوي على نسب كبيرة من المعادن قد
عُثر عليها في قرص مجرة درب التبانة. في المقابل،
يميل مزيد من النجوم التي تحتوي على نسب قليلة من
المعادن إلى الوجود في مساراتٍ إهليلجية عالية
السرعة، مما يشير إلى وجودها غالبًا في الهالة. وقد
تطلب الأمر من تشامبرلين وألير إثبات أن الخطوط
الضعيفة تعني بالفعل نوعًا طيفيًّا فقيرًا
بالمعادن، وليس مجرد نوع طيفي مختلف.
البحث في المجرة
هناك الكثير من النجوم المشابهة لنجوم تشامبرلين
وألير الأصلية، والتي تحتوي على ١ / ١٠ من نسبة
الحديد في الشمس، لكن عملية الوصول إلى مستويات
الحديد المنخفضة التي تقع في نطاق اهتمام علم
الآثار النجمي كانت أصعب بكثير مما كان متوقعًا؛
لأن نطاق البحث كبير جدًّا. ولكن علينا ألا نفقد
الأمل؛ هناك قول مأثور مفاده «لا شيء يستحق العناء
يأتي بسهولة»، ولم يُذكَر أبدًا أن هوارد كارتر عثر
على قبر توت عنخ آمون بمحض المصادفة. في عام ١٩١٤،
حصل كارتر وكارنارفون على تصريح لحفر الموقع من
عالِم آثار كان مقتنعًا بأنه قد عثر على كل ما يمكن
العثور عليه هناك، وبسبب اندلاع الحرب العالمية
الأولى، لم يبدأ كارتر العمل إلا بعد ثلاث سنوات.
وحينها، لم يكن منه إلا أن ذهب ومعه مجرفة فحسب،
وأخذ يقسِّم الموقع الأثري إلى مربعات صغيرة وأمضى
خمس سنوات في استكشاف كل مربع على نحو منهجي ودقيق
قبل أن يحالفه الحظ في النهاية. تخيَّل كيف كانت
يومياته: اليوم الأول: لا شيء، اليوم الثاني: لا
شيء، اليوم ١٨٢٤: لا شيء، اليوم ١٨٢٥: آلاف القطع
الأثرية، مومياء الملك الصبي المفقود التي لم يمسها
أحد. العشاء: فول مع خبز
محمص.¶
إذا بحثت في الإنترنت عن عدد النجوم الموجودة في
مجرة درب التبانة، فستجد أن هناك ٢٥٠ مليار نجم،
بزيادة أو نقصان ١٥٠ مليارًا. وهذا هامش خطأ كبير
بكل المقاييس. إن إحصاء عدد النجوم في مجرة درب
التبانة أمر صعب؛ نظرًا إلى مقدار النجوم الخافتة
الهائل التي لا نستطيع رصدها. ونظرًا إلى أنه حتى
ألمع النجوم عبر المجرة تبدو لنا باهتة جدًّا، فإن
الأمر يشبه محاولة التنبؤ بعدد سكان الأرض عندما لا
يتوفر لديك سوى التعداد السكاني لمدينة ميلتون كينز
فحسب. حتى لو افترضنا الحد الأدنى من هذا التقدير،
١٠٠ مليار نجم، فلا يزال هذا عدد هائل من النجوم
التي يجب التدقيق فيها وتحديد نسبة ما تحتويه من
معادن. وحتى لو كان لدينا تلسكوب متخصص (وهو أمر
غير صحيح)، وكان بإمكاننا تحليل نجم واحد في
الثانية (وهو أمر مستحيل)، فسيستغرق الأمر أكثر من
ثلاثة آلاف عام لفحصها جميعًا، ومن ثَمَّ علينا أن
نضيِّق نطاق البحث.
هناك ثلاثة
أجزاءٍ مضيئة في مجرة درب التبانة: القرص،
والانتفاخ، والهالة. القرص هو هيكل كبير يشبه
الفطيرة المحلَّاة له ذراع حلزونية. ويعتبر القرص
موضع تكوُّن النجوم النشطة، وبالتالي فهو موطن
لمعظم نجوم الجمهرة الأولى الشابة، ولذا فهذا ليس
المكان المناسب للبحث؛ فمن الممكن أن تعثر على قطعة
أثرية فريدة من نوعها في متجر سياحي … لكن هذا
احتمال ضعيف. نعتقد أنه من بين ٢٠٠ ألف نجم يوجد
حوالي نجم واحد فقير بالمعادن في المنطقة المجاورة
للشمس في القرص.
14 يتكوَّن الانتفاخ من مجموعة من النجوم
الكروية العالية الكثافة التي تتجه نحو مركز
مجرتنا. تشير عمليات محاكاة تكوُّن المجرة إلى أن
الانتفاخ هو أقدم مكوِّن في كوننا، حيث تشكَّل إما
أثناء الانهيار الأولي أو بعده بفترة وجيزة، ومن
ثَم فإنه يبدو نظريًّا مكانًا رائعًا للبحث. وفي
الواقع، يعتبر الانتفاخ موقعًا واعدًا للبحث، لكن
هناك ظروفًا صعبة للغاية: أصعب من حفر الثعابين
التي كان يقفز من فوقها إنديانا جونز. فنظرًا إلى
كونه أقدم مكوِّن في الكون، فهو غني جدًّا بالمعادن
الناجمة عن انفجارات المستعرات العظمى، وبالتالي
فإنه يحتوي على العديد من النجوم ذات المعدنية
العالية التي يمكن أن تصرف انتباهنا عن نجوم
الجمهرة الثالثة القليلة ذات الكتلة المنخفضة التي
قد تكون موجودة. والأسوأ من ذلك أن كل هذه
المستعرات العظمى تنتج كمية هائلة من الغبار، مما
يربك تلسكوبنا الذي يحاول النظر عبر هذا الضباب.
وبِناءً على ذلك، قد يكون الانتفاخ منطقة بحث
مناسبة من الناحية النظرية، لكنه محفوف بالصعاب
التقنية، ومع ذلك يواصل العلماءُ جهودهم.
15 وهكذا تتجه آمالنا نحو الهالة. تعتبر
الهالة الهيكل المضيء الأكثر ضبابية الذي يحيط
بالقرص والانتفاخ، ويحتوي على تجمعاتٍ من النجوم
تعرف باسم العناقيد الكروية، بالإضافة إلى النجوم
الميدانية التي لا ترتبط بأي عنقود فردي. من خلال
بحث رومان، يمكنك استنتاج أن النجوم ذات المعدنية
المنخفضة تتحرك بشكل أسرع، وهو ما قد يمثل سمة
تعريفية مفيدة إلى حد ما. إذ يمكنك ببساطة قياس
سرعة النجوم واستهداف أسرعها. ولكن للأسف، تفتقر
هذه الصلة إلى السببية؛ فالنجوم ذات المعدنية
المنخفضة ليس من طبيعتها أن تكون أسرع. وهنا يظهر
السؤال التالي: لماذا من المرجح أن تحتوي النجوم
ذات السرعة الأعلى على خطوط معدنية ضعيفة في
أطيافها؟ تحدث عملية تكوُّن النجوم في الغالب في
الذراع الحلزونية، ولكن مع مرور الوقت، يمكن للنجوم
الشابة أن تتحرك خارج مستوى القرص، وتتجه إلى
الهالة. تتمتع الهالة بمعدل دوران منخفض جدًّا
مقارنةً بالقرص، ولذا فإننا في الواقع نتحرك من
موقعنا في القرص بسرعة عالية للغاية. ومن وجهة
نظرنا، تتحرك النجوم الموجودة في الهالة في الاتجاه
المعاكس بسرعة عالية، على الرغم من أنه قد يكون
لديها أيضًا مكوِّن سرعة عمودي على مستوى المجرة.
في الواقع، هذه النجوم التي يطلق عليها «عالية
السرعة» هي مجرد نجوم تدور حول مركز المجرة في
مستوًى مختلف. ومن المرجح أن النجوم القديمة جدًّا
الفقيرة بالمعادن كان لديها الوقت الكافي للانجراف
خارج القرص النجمي إلى حدود الهالة الهادئة، حيث
تبدو بسبب سرعة الدوران العالية لمجموعتنا الشمسية
وكأنها تتحرك بسرعاتٍ عالية، كما لاحظت نانسي
رومان. ومن ثَمَّ، تبدو الهالة مكانًا ممتازًا
للبحث عن نجوم الجمهرة الثالثة، وبالفعل هذا هو
المكان الذي تركَّزت فيه معظم الجهود في علم الآثار
النجمي حتى الآن، بنجاح منقطع النظير.
علم الآثار النجمي
اعتبارًا من منتصف عام ٢٠١٩، لم يُرصَد إلا عدد
قليل من النجوم التي تحتوي على وفرة من الحديد أقل
من ١ / ١٠٠٠٠. تتسبَّب القيود التقنية التي يفرضها
التلسكوب، أو التداخل الناجم عن النجوم الأخرى، في
ظهور أدلة خاطئة مقنعة في خطوطنا الطيفية، ويُعَدُّ
التحليل الذي أجراه علماء آثار النجوم لفهم هذا
التلوث وإزالته عملًا حيويًّا. صاحب الرقم القياسي
الحالي لأشد النجوم فقرًا في الحديد هو
SMSS
J1605-1443.
16 اكتُشِفَ هذا النجم الفقير بالمعادن
الموجود بالهالة في عام ٢٠١٨، وكان يحتوي على أقل
من ١ / ١٠٠٠٠٠٠ من نسبة الحديد الموجودة في الشمس.
والسؤال هنا: هل يمكن اعتبار هذا النجم أحد نجوم
الجمهرة الثالثة نظرًا إلى هذه النسبة المنخفضة
للغاية؟ لسوء الحظ، لا؛ فمستويات المعادن الثقيلة
الأخرى الموجودة في الطيف مرتفعة للغاية بحيث لا
يمكن لهذا النجم أن يكوِّنها بنفسه، لا بد أنه حصل
على مساعدة من مستعر أعظم سابق هو المسئول عن وضع
البذور الأولى لمجموعة أساسية من تلك المعادن في
السحابة التي تكوَّن منها هذا النجم. يعادل هذا
الأمر إتقان تزييف مومياء مصرية، ووضع ساعة ذكية
معها. ربما لم تسمع عن مومياء الأميرة الفارسية
التي عُرضت للبيع في السوق السوداء مع مطلع الألفية
الجديدة. أثارت هذه المومياء ضجة دولية على مدى ستة
شهور، حيث ادعت باكستان وإيران، وحتى حركة طالبان
الأفغانية، ملكيتها لهذه القطعة الأثرية التي قيل
إنها تبلغ من العمر ٢٦٠٠ عام وتقدَّر قيمتها
بالملايين. عُرضت المومياء في المتحف الوطني
الباكستاني، إلا أن هذه الشهرة لم تدُمْ طويلًا.
اكتُشِفَت أمور غريبة بشأن طريقة تحنيطها، وكان
منها — على سبيل المثال — اكتشاف وجود قلبها، ووجود
أخطاء نحوية في النصوص المكتوبة على التابوت، ولفت
ذلك انتباه عالِم آثار أمريكي وحثَّه على إجراء
مزيد من البحث. واكتشف أن هذه لم تكن مومياء أميرة
عمرها ٢٦٠٠ عام، بل جثة امرأة تبلغ من العمر ٢٦
عامًا قُتلت بوحشية وحدثت الوفاة حوالي عام ١٩٩٦.
حاولتُ أن أعرف مَن تكون تلك المرأة المسكينة، لكن
حسب علمي لم يُتعرف عليها مطلقًا ولم توجه لأحدٍ
التهمة بقتلها، ولهذا السبب أقضي معظم وقتي في
النظر إلى النجوم. فالأمور هنا على الأرض كلُّها
مغلوطة. على أي حال، سواء كنا نتحدث عن النجوم أو
عن القطع الأثرية، هناك الكثير من عمليات
التزوير.
كانت
مستويات الحديد المُكتشَفة في النجم
SMSS
J1605-1443 منخفضة، لكنه كان
موجودًا بالتأكيد. هناك نجم واحد لم يُكتشَف أيُّ
حديد فيه على الإطلاق ولم يُحدَّد إلا الحد الأقصى
فقط، وهو النجم
SM0313-6708.
17 وفي عام ٢٠١٣، لم يكشف التحليل الطيفي
العالي الدقة للنجم
SM0313-6708
الذي رُصِدَ عام ٢٠١٢ عن شيءٍ يُذكَر على الإطلاق.
وبدلًا من ظهور مجموعة من خطوط الامتصاص، كشف هذا
النجم عن عدم وجود أي نشاط على الإطلاق ووجود أربعة
معادن فقط (الليثيوم والكربون والماغنيسيوم
والكالسيوم). وفي المواضع التي كنا نتوقع أن نرى
فيها انخفاضًا يدل على وجود حديد، لم يكن هناك سوى
خط مستوٍ، مما يشير إلى عدم وجود حديد. وباستخدام
التقنيات المتوفرة لدينا، لا يمكننا الجزم تمامًا
بعدم وجود انخفاض طفيف مختبئ بين الضجيج العام
للإشارة. لكننا على يقين من أننا نرصد نجمًا يفتقر
إلى الحديد بنسبة ١ / ١٠٠٠٠٠٠٠ على الأقل مقارنةً
بالشمس، ومن الممكن أن يكون أقل بكثير. يبدو هذا
اكتشافًا واعدًا للغاية. فقد عثرنا على نجم يعاني
فيما يبدو من غياب تام للحديد؛ تُرى هل يعني هذا
أنه بالتأكيد أحد نجوم الجمهرة الثالثة؟ حسنًا،
لسوء الحظ، الإجابة لا. ربما اكتُشِفَ وجود أربعة
عناصر معدنية فقط، لكن الكميات التي عُثر عليها
كانت كبيرة لدرجة تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون
المسئول الوحيد عن إنتاجها هو الاندماج النووي داخل
أحد النجوم الأولى. ولك أن تتخيل مدى الغصة التي
شعرنا بها؛ إذ كنا نعتقد أن النجاح بات وشيكًا. إن
مستويات المعادن المُكتشَفة في النجم
SM0313-6708
منخفضة جدًّا لدرجة أن النماذج تظهر أنه ربما قد
تشكَّل من سحابة اكتسبت معادنها من مستعر أعظم واحد
فقط. وعليه، فإن ما ننظر إليه هنا ليس نجمًا من
الجمهرة الثالثة، ولكن من الممكن أن يكون من
سلالتها الأولى. ويمكننا أن نتعلم الكثير عن النجوم
الأولى من نجم ينتمي إلى سلالتها الأولى. ومن خلال
مستويات المعادن المقيسة في هذا النجم، تمكَّن
الباحثون من تحديد أن السلف المحتمَل كان نجمًا
تبلغ كتلته ٦٠ كتلة شمسية، وانفجر في هيئة مستعر
أعظم منخفض الطاقة قبل أن يستقر ويتحول إلى ثقب
أسود. يتوافق هذا النموذج على نحو جيد جدًّا بسبب
وجود عناصر معدنية مثل الكربون، ولكن في الوقت نفسه
لا يوجد حديد. عندما ينهي نجم حياته في هيئة مستعر
أعظم منخفض الطاقة، وهو ما نسميه المستعر الأعظم
المنهار النواة، تُطرد العناصر الأخف فقط مثل
الكربون والماغنيسيوم في طبقات الانفجار الخارجية.
ومن ثَمَّ تظل المعادن الأثقل، مثل الحديد، أقرب
بكثير إلى الثقب الأسود المركزي، والاقتراب من
الثقب الأسود ليس بالأمر الجيد على الإطلاق. ولذلك،
نعتقد أنه على الرغم من إنتاج هذه النجوم الأولى
للحديد، فقد تلاشى كل هذا العمل الشاق في ثقب أسود،
وتشكَّل الجيل الثاني من المعادن الأخف التي هربت
من الثقب الأسود، ولكن ليس المعادن الأثقل مثل
الحديد الذي كنا نستخدمه لتتبع نسبة المعادن بشكل
عام. وكما ذكرتُ سابقًا، يعتبر النجم
SMSS
J1605-1443، وهو أحدث نجم فقير
بالمعادن والنجم الأقل مَعدنية عند قياس نسبة
الحديد، مناسبًا أيضًا لنموذج انهيار النواة هذا،
ويتكرر هذا النمط من وفرة الحديد المنخفضة ووفرة
الكربون العالية في جميع النجوم المعروفة بفقرها
المعدني الشديد مع وجود استثناءٍ واحد. يمكن أن
تكون هذه المستعرات العظمى المنخفضة الطاقة أكثر
شيوعًا مما كان يُعتقَد سابقًا، عندما بدا أن جميع
النجوم الأولى أنهت حياتها في انفجارات مستعراتٍ
عظمى نشطة للغاية. فلو كان هذا صحيحًا، فإنه ينطوي
على تبعات مهمة حول المدة التي كان فيها هذا الجيل
الأول قادرًا على البقاء بشكل عام. لا تؤدي
المستعرات العظمى المنخفضة الطاقة إلى تلوث الكون
بدرجة كبيرة، مما يحافظ على وجود مناطق من البيئة
خالية من المعادن، ومن ثَمَّ ربما تكون نجوم
الجمهرة الثالثة قد تشكلت على مدى فترة أطول مما
كان يُعتقَد سابقًا، مما يفرد لنا مجالًا أوسع
للبحث.
والسؤال هنا: هل وصلنا إذن إلى أقصى حدود علم
الآثار النجمي؟ لقد تعمَّقنا إلى حدٍّ لم يتوقع
أحدٌ أننا قادرون على الوصول إليه. وأصبح هناك
قاعدة أساسية بشأن «حد التلوث» وضعها العالِم إيكو
إيبن الابن في عام ١٩٨٣.
18 حسبَ إيبن مقدار تراكم المعادن
(المعادن التي تسقط بفِعل الجاذبية على النجم) الذي
يمكن أن يحدث على مدى عمر النجم لمعرفة ما إذا كانت
هذه النجوم الأولى يمكن أن تكون موجودة الآن،
ولكنها مطموسة، مثل الكرات الحمراء المتسخة في
تجربتنا الفكرية. إن أي قياس للخطوط المعدنية
الأساسية سيكون دائمًا محدودًا بكمية «التلوث» التي
تراكمت على النجم، فحتى لو كان هناك نجم فقير
بالمعادن تحت كل هذا التلوث، فلن نتمكَّن من رؤيته.
وحَدُّ التلوث هذا ليس قاطعًا وقد تم تجاوزه
بالفعل. كانت حسابات إيبن مبسطة، وكان المقصود منها
أن تكون دليلًا استرشاديًّا، لكن الفكرة الأساسية
المتمثلة في أننا سنصل يومًا ما إلى أقصى ما يمكننا
اكتشافه فيما يتعلق بالنجوم الفقيرة بالمعادن تكاد
تكون مؤكَّدة، ولا تبدو بعيدة جدًّا.
•••
ثمة أمل حقيقي في أن نتمكن يومًا ما من العثور
على أحد نجوم الجمهرة الثالثة الذي ما زال على قيد
الحياة. وعلى الرغم من اعتقاد أن متوسط كتلة نجم
الجمهرة الثالثة يتراوح بين عشرات ومئات المرات من
كتلة الشمس، فإنه يتضح من عمليات المحاكاة أن هناك
مجموعة من النجوم المنخفضة الكتلة قد تكوَّنت في
الوقت نفسه. كلما كان النجم أضخم، كان عمره أقصر،
ولذا لن يظل موجودًا في كوننا الحالي سوى النجوم
التي تبلغ كتلتها ٨٠٪ من كتلة الشمس أو أقل. إن
اكتشاف هذه النجوم ليس بالأمر السهل، لكننا نعتقد
أن هالة المجرة مكان جيد للبحث عنها؛ نظرًا إلى
وجود مستوى تلوث أقل ناجم عن النجوم الأصغر سنًّا،
ومن المحتمل أن تكون نجوم الجمهرة الثالثة الأقدم
قد خرجت من القرص وتتجول في الهالة الآن. وبشكل
عام، تعد خطوط امتصاص الحديد مؤشرًا جيدًا لإجمالي
نسبة المعادن في أي نجم، وتسمى النجوم التي تحتوي
على نسبة أقل من الحديد إلى الهيدروجين مقارنةً
بالشمس بأنها «فقيرة في المعادن».
أحرز علم الآثار النجمي تقدُّمًا ملحوظًا: فقد
توصل العلماء إلى نسب معادن تبلغ ١ / ١٠٠٠٠٠٠ من
وفرة الحديد في الشمس، ووصلوا إلى مرحلة عدم اكتشاف
الحديد على الإطلاق. لقد كان البحث عن النجوم
الفقيرة في المعادن أمرًا صعبًا، وزاد من تعقيده
التلوث المعدني واختلاط جماهر النجوم، ومن غير
المرجح أن نحرز مزيدًا من التقدم في اكتشاف نسب
معادن أقل. ومع ذلك، لا تدع علم الآثار النجمي
يخدعك، فهو ليس مجالًا ميتًا، بل مجال للموتى. فقد
انتقل من البحث عن النجوم الأولى إلى التحدث مع
نجوم الجيل الثاني وسماع حكايات أسلافها. ومع تطوير
تقنياتٍ أكْفأ لاختيار النجوم المرشحة الواعدة من
بين مليارات الخيارات، نأمل في أن نزيد حجم عينتنا
من النجوم الفقيرة في المعادن ونستخلص مزيدًا من
الاستنتاجات المهمة حول تنوع انفجارات المستعرات
العظمى التي تسبَّبت في حدوثها. وبهذه الطريقة،
هناك أمل في أن نتمكَّن من عكس هندسة دوال الكتلة
الأولية لنجوم الجمهرة الثالثة، أو على الأقل وضع
قيود على دوال الكتلة الأولية الناتجة من عمليات
المحاكاة. بغض النظر عن الجهود التي نبذلها في
البحث عن القطع الأثرية المميزة، لا يمكننا أن نأمل
في العثور على المزيد. فآلاف السنين من التعرية
والتآكل كفيلة بأن تدمر معظم الأقمشة والمواد
الغذائية والأدوات الخشبية. إذا كانت هناك مجموعة
من النجوم المنخفضة الكتلة اليوم، فمن المحتمل أن
تكون مغطاة بعوامل التلوث، ومخفية عن الأنظار، مما
يثير تساؤلاتٍ حول ما إذا كان بإمكاننا تجاوز هذه
العقبات وتحقيق مزيد من الاكتشافات.
ربما لم نتمكَّن من اكتشاف النجم الأول، ذلك
النجم الخالي من المعادن، لكننا اكتشفنا ما نعتقد
أنه من سلالته الأولى، النجم الذي ربط بين مجموعات
النجوم الخالية من المعادن والنجوم الفقيرة في
المعادن. لا يعتبر ذلك إخفاقًا. فعلى الرغم من أننا
جميعًا نود مقابلة الملك خوفو وسؤاله عن كيفية بناء
الهرم الأكبر والمكان الذي دُفنت فيه الكنوز، فأنا
متأكدة من أننا سنكتفي بالدردشة مع الملكة
كليوباترا؛ وعلى الرغم من ذلك، فإن إحدى الحقائق
المفضلة لديَّ عن مصر القديمة هي أننا أقرب زمنيًّا
إلى كليوباترا مقارنةً بقرب كليوباترا الزمني إلى
الأهرامات. إن مستقبل علم الآثار النجمي لم ينتهِ
بعد. لقد وجد للتو موطئ قدم له، ومع اكتشاف النجم
SM0313-6708،
ومع استمرار جهودنا الاستكشافية، لمحنا بريقًا
خافتًا من الذهب، أو دعونا نقول في هذه الحالة، من
الحديد.
هوامش
*
من المثير للاهتمام أن لهذه القصة صلة
أيضًا بعلم الفلك. فقد عثر على شفرة
حديدية موضوعة على فخذ توت عنخ آمون
اليمنى. وقد أظهر التحليل الأخير أن
الحديد مصدره أحد النيازك، على غرار
عدد قليل من القطع الحديدية النادرة
التي عُثر عليها في مصر
القديمة.
19
†
في العلم، لا تعني العلاقة شخصًا
مزعجًا تتعين عليك محادثته بأسلوب مهذب
في كل عيد ميلاد، ولكنها ارتباط بين
خاصيتَين. على سبيل المثال، العلاقة
بين الوقت الذي نقضيه مع الأقارب
والضغط النفسي الذي نشعر به هي علاقة
خطية … أو ربما أُسية.
‡
ربما تتساءل عما إذا كانت هذه العلاقة
بين الزمن ومتوسط الطول علاقة خطية، أي
هل سيكون البشر أطول خلال ١٠٠ عام
أخرى؟ والجواب هو على الأرجح لا.
فمتوسط الطول في الولايات المتحدة
حاليًّا مماثل إلى حد كبير لما كان
عليه عام ١٩٩٦، وقد بدأنا نشهد ثباتًا
في زيادة الطول في العقود الأخيرة، مما
يشير إلى أننا وصلنا إلى حدودنا
الجينية في الظروف البيئية التي نعيشها
الآن. حتى الهولنديون تباطأ معدل زيادة
أطوالهم، بعد أن زاد بسرعة مذهلة
بمقدار ١٣سم (٩ بوصات) خلال ١٠٠ عام
ليصبحوا أطول البشر على وجه الأرض
بمتوسط طول ١٨٣سم (٦ أقدام!).
20
§
من المثير للاهتمام أن ألير أصبح
أستاذًا للفيزياء الفلكية على الرغم من
أنه لم يكمل دراسته الثانوية مطلقًا.
بدأ دراسته الثانوية بالفعل، لكن والده
أخرجه من المدرسة وأرسله إلى معسكر
للتنقيب عن الذهب.
21 لكنه تمكن من الفرار وذهب
للتنقيب عن المعادن في النجوم بدلًا من
ذلك.
¶
كان كارنارفون قد ضاق ذرعًا من عدم
الحصول على أي عائد من استثماراته مع
كارتر وسحب تمويله قبل وقت قصير من
الاكتشاف. لكن كارتر نجح في التماس
الحصول على موسم آخر، وبعد أربعة أيام
من الحفر عثر على أكبر اكتشاف أثري في
التاريخ. وهذا يوضح أنه حتى المومياوات
المفقودة يمكن العثور عليها في آخِر
مكان يمكن للمرء توقعه.