الفصل الثامن

الالتهام المَجَري

على مسافة بعيدة جدًّا، حوالي ٧٥ ألف سنة ضوئية على وجه الدقة، تقع مجموعة صغيرة من النجوم، تسمى «سيجواي ١». لم تُكتشف هذه المجموعة إلا في عام ٢٠٠٦. ومع ذلك، فقد أثارت الكثير من الجدل خلال العقد الماضي بسبب الادعاءات والدحوض المتكررة القائلة بأنها يمكن أن تكون المجرة الأقل تطورًا في كوننا. لم يكن الجدل في بداية الأمر حول مسألة عمرها على وجه الخصوص، بل في ادعاء أنها «مجرة». ومن ثَمَّ، بدأت تساؤلات من قبيل: هل عثرنا على أحفورة قديمة، أم أنها في الحقيقة ليست مجرة على الإطلاق؟ أم تُراها مجرد مجموعة من النجوم الأصغر سنًّا والأقل أهمية؟

أفضل مكان لمحاولة البحث عن إجابة هذا السؤال هو تعريف المجرة، لذلك دعونا نكشف عن معنى كلمة Galaxy (أي مجرة) في قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية الموثوق به، وإليكم ترجمة التعريف باللغة العربية:

هيئة أو نظام أو خلافه يشبه درب التبانة؛ (في الاستخدامات اللاحقة) تشير هذه الكلمة تحديدًا إلى أيٍّ من الأنظمة العديدة، التي تتكون غالبًا من ملايين أو مليارات النجوم، والتي ترتبط معًا بقوى الجاذبية وتحتوي على مواد أخرى، مثل الغاز والغبار، تنتشر في جميع أنحاء الفضاء على هيئة أجرام منفصلة.

أزعم أن هذا التعريف ليس واضحًا بما فيه الكفاية، وعلى الرغم من أن عبارة «تحتوي على مواد أخرى» تشمل المادة المظلمة، فلا بد أن يُذكر ذلك صراحة؛ لأن المادة المظلمة هي سبب الحصول على لقب «مجرة». أدت هذه المشكلة بالعلماء إلى اقتراح تعريف جديد للمجرة في عام ٢٠١٢: «المجرة هي مجموعة من النجوم المقيَّدة بفِعل الجاذبية، والتي لا يمكن تفسير خصائصها بمجموعة من الباريونات [المادة «العادية»] وقوانين نيوتن للجاذبية».1
صدر البحث الذي يتضمن اكتشاف «سيجواي ١» بعنوان «قطط وكلاب، شعر وبطل: خمسة رفاق جدد لمجرة درب التبانة».2 وعلى الرغم من الإعلان عن وجود خمسة رفاق، لا يذكر العنوان إلا أربعة أجرام فقط، وهي: كوكبة السلوقيان الثانية (Canes Venatici II باللاتينية، وتعني «كلاب الصيد»)، وكوكبة الهلبة (Coma Berenices، وتعني «شعر برنيس»)، وكوكبة الأسد الرابعة (Leo IV، وتعني «أسد» أو «قط» في اللاتينية)، وكوكبة هرقل (البطل الشهير). ووفقًا لما هو متفق عليه، يُطلق على المجرات القزمة اسم الكوكبة التي نرصدها فيها، وبذلك تكون كوكبة الأسد الرابعة هي رابع مجرة قزمة مكتشَفة في كوكبة الأسد. عند فحص «سيجواي ١» لأول مرة، أدى حجمها الصغير للغاية إلى افتراض أنها عنقود كروي؛ أي مجموعة من النجوم المقيَّدة بفِعل الجاذبية داخل مجرة درب التبانة. تعد العناقيد الكروية أنظمة مقيَّدة بفِعل الجاذبية، ولكنها ليست كبيرة أو ضخمة بما يكفي لتسمى مجرات. سُميت العناقيد الكروية باسم المسح الذي عُثر عليها فيه، ومن ثَمَّ سُميت «سيجواي ١»؛ لأنها كانت أول عنقود كروي يُعثَر عليه في مسح سيجواي. وبالمقارنة مع العثور على أربع مجرات جديدة قريبة من مجرة درب التبانة، لن يتصدر العثورُ على مجرد عنقود كروي عناوينَ الصحف. لكن «سيجواي ١» لم تكن مجرد مجموعة من النجوم.

الكتلة المخفية

يمكنك قياس كتلة جسم مضيء مقيَّد بفِعل الجاذبية بطريقتَين. تتعلق الطريقة الأولى بالكتلة المضيئة. ويتضمن ذلك حساب كمية الضوء الصادرة عن مجموعة من النجوم، ومعرفة مقدار الكتلة التي تحتاج إليها النجوم لإنتاج هذه الكمية من الضوء. أما الطريقة الثانية، وهي الأكثر شمولية، فهي تقيس الكتلة الإجمالية لأي شيء في هذه المجموعة النجمية قد تنتج عنه قوة جاذبية، ويشمل ذلك كل المواد، مضيئة أو مظلمة. ومن ثَمَّ، نستنتج هذه الكتلة الإجمالية من حركة النجوم داخل المجموعة. كان حجم «سيجواي ١» الفعلي صغيرًا جدًّا لدرجة أنها صُنِّفت بكل سهولة على أنها عنقود كروي. ولكن عندما فحص فريق ثانٍ من الباحثين الكتلة الإجمالية مقارنةً بكمية الضوء (كبديل عن الكتلة المضيئة)، وجدوا أن نسبة الكتلة إلى الضوء تبلغ ١٣٤٠،3 وحُدِّثت لاحقًا إلى ٣٤٠٠.‏4 في حالة العناقيد الكروية، تكون نسبة الكتلة إلى الضوء صغيرة، حوالي اثنين أو ثلاثة، حيث تختلف بذلك عن النسبة واحد بسبب بقايا النجوم الميتة غير المضيئة. ولا تحتوي العناقيد الكروية على مادة مظلمة. ومن هنا تحولت «سيجواي ١» من مجرد مجموعة من النجوم غير المثيرة للاهتمام، إلى ما نعتبره الآن أشهر مجرة تحتوي على أعلى نسبة من المادة المظلمة. ويعد هذا اكتشافًا مثيرًا للغاية لسببين. السبب الأول هو أن المادة المظلمة مشهورة بأنها كيان يصعب تعقبه أو تقييده. ونستدل على وجودها من خلال الأدلة الحركية التي توفرها منحنياتُ الدوران وقياساتُ الكتلة الخاصة بالمجرة. ومع ذلك، تعذَّر علينا تحديد خصائصها من خلال تفاعلات جسيماتها. وقد أثار العثور على ما يبدو أنه أعلى تركيز للمادة المظلمة اكتشفناه على الإطلاق حماسَ علماء فيزياء الجسيمات، لا سيَّما أنه كان في محيطنا الكوني. السبب الثاني الذي يجعل تعريف «سيجواي ١» على أنها مجرة مثيرًا للغاية هو حجمها الصغير. الصغير جدًّا. وهذا أمر مثير للاهتمام لأن الطريقة الوحيدة التي تجعل حجم المجرة كبيرًا هي التهام مجرة أخرى. تلتهم المجرات بعضها بعضًا، وبذلك ننتقل بمرور الزمن الكوني من كون مليء بالكثير من المجرات الصغيرة إلى كون به مجرات أكبر بكثير. وإذا عثرنا على مجرة صغيرة، فربما نكون قد وجدنا ناجيًا، أو كِسرة قديمة لفظتها مجرةُ درب التبانة الجائعة. هذا يعني أننا عثرنا على واحدة من المجرات الأولى، وداخل هذه المجرة الأولى القديمة قد نجد نجمًا أول يتجول هنا أو هناك.

المجرات القزمة

إن «سيجواي ١» ليست المجرة القزمة الوحيدة الموجودة بالقرب من مجرتنا. فمجرة درب التبانة جزءٌ من مجموعة مجراتٍ تسمى المجموعة المحلية، تمتد حوالي ١٠ ملايين سنة ضوئية. تتميز المجرات بأشكال وأحجام مختلفة، ولذا يمكننا تقسيمها إلى مجموعات مورفولوجية متعددة. على سبيل المثال، هناك مجرات حلزونية، وإهليلجية، وحلزونية ضلعية، ومجرات غير منتظمة الشكل. فالمجموعة المحلية أشبه بـ «حديقة من المجرات»، حيث تحتوي على عدد لا بأس به من الأنواع المختلفة. أكبر ثلاث مجرات هي بالترتيب: أندروميدا، ودرب التبانة، ومجرة المثلث، وهي أيضًا المجرات الحلزونية الوحيدة في المجموعة المحلية. ربما تكون قد سمعت عن سحابة ماجلان الكبرى وسحابة ماجلان الصغرى، اللتين تحتلان المركز الرابع والسادس من حيث الحجم في المجموعة المحلية، ولكن بصرف النظر عنهما، من غير المحتمل أن تكون قد صادفت المجرات الأخرى. من الصعب تحديد متى تكون المجرة صغيرة بما يكفي لوصفها بأنها «قزمة»، تمامًا كما هو الحال عند وصف شخص ما بأنه «قصير القامة» حيث لا يوجد تعريف دقيق لهذا الأمر. قد نذهب على الفور إلى أنه يمكننا وصف أي شخص أقصر من متوسط الطول المتعارف عليه بأنه قصير القامة، وأي شخص أطول من ذلك بأنه طويل القامة. لا يمكننا بالتأكيد تطبيق ذلك على مجراتنا؛ لأن المجرات القزمة هي في الواقع أكثر المجرات عددًا في الكون، ومن ثَمَّ فإن التسمية غير عادلة بعض الشيء. حريٌّ بنا في واقع الأمر أن نطلق على المجرات القزمة اسم «المجرات»، بينما نطلق على المجرات الكبيرة مثل مجرة درب التبانة اسم «المجرات الضخمة» أو ما شابه ذلك، ولكن مَن أنا حتى أناقش أمرًا كهذا. على أي حال، عادةً ما تحتوي المجرات القزمة على بضعة مليارات من النجوم كحد أقصى، مقارنةً بمئات المليارات من النجوم الموجودة في درب التبانة، ولذا فهي أصغر حجمًا بكثير وأقل سطوعًا.

تنقسم المجرات القزمة إلى عدة أشكال متنوعة، تمامًا مثل المجرات. فكلٌّ من سحابة ماجلان الكبرى وسحابة ماجلان الصغرى مجرتان قزمتان غير منتظمتَين، حيث إنهما غير منتظمتَي الشكل، ولا تندرجان ضمن أنواع المجرات الإهليلجية أو الكروية أو الحلزونية. وهما مجرتان يافعتان، وتحتويان على الكثير من الغاز الذي يغذي عملية تكوين النجوم المستمرة. وفي المقابل نجد أن المجرات الكروية القزمة فقيرة بالغاز وكبيرة في السن، في حين أن المجرات الإهليلجية حالة وسط بين الاثنتَين حيث تتميز بشكل كروي مستطيل مع وجود بعض الغاز المتبقي لتكوين النجوم. بالإضافة إلى ذلك، رُصدت مجرات قزمة حلزونية الشكل، لكنها نادرة حسبما يُعتقَد. فهي تضطرب بسهولة بسبب تفاعلات الدفع والجذب (قوة الجاذبية التي تتأثر بها عند الدوران حول جسم ضخم) مع المجرات الأخرى، حيث تضطرب الأذرع الحلزونية بسرعة أو تتبدد، مما يؤدي إلى تغيُّر شكل المجرة إلى مجرة غير منتظمة أو إهليلجية.* ويُعتقَد أن سحابة ماجلان الكبرى مثال على ذلك، حيث تتكوَّن من ذراع حلزونية واحدة فقط، بعد تفاعلات الدفع والجذب مع سحابة ماجلان الصغرى ودرب التبانة.

أهم المجرات القزمة المثيرة لاهتمامنا هي المجرات الكروية القزمة، والمجرات القزمة الفائقة الخفوت التي تُعد أقل المجرات القزمة سطوعًا على الإطلاق. على الرغم من أن المجرات الكروية القزمة فقيرة في الغاز، فإنها تتسم بدرجة كبيرة من السطوع؛ بحد أقصى حوالي ٢٠ مليون مرة من درجة سطوع الشمس وحد أدنى بضعة آلاف فقط. في المقابل تتسم أندروميدا بدرجة سطوع تُقدر ﺑ ١٠ مليارات مرة من درجة سطوع الشمس. تكشف عمليات رصد المجرات الكروية القزمة أن مخزونها من الغاز لم يستمر لفترة كافية لتكوين العديد من النجوم الغنية بالمعادن التي نراها تتشكل اليوم. يمكننا إلقاء نظرة على هذه المجرات القزمة ودراسة النجوم بالطريقة نفسها التي ندرس بها النجوم في الهالة النجمية في علم الآثار النجمي. فكلما قلَّت درجة سطوع المجرة الكروية القزمة التي ندرسها، قلَّت معدنية النجوم بداخلها. ويعد البحث عن المجرات القزمة الأقل سطوعًا طريقة مركَّزة للبحث عن النجوم الأقل مَعدنية، ويتميز مجال علم آثار المجرات القزمة بأجواء يخالطها قدر كبير من التفاؤل والإثارة. يمثل علم الآثار النجمي وعلم آثار المجرات القزمة نهجَين متكاملَين. فعلماء آثار النجوم ينقبون عن القطع الأثرية المهمَلة، ويبحثون في عليَّة درب التبانة. في المقابل، يبحث علماء آثار المجرات القزمة عن بيئاتٍ غير مضطربة. ويقدم كلاهما أنواعًا مختلفة من المعلومات، ويعملان معًا لحل لغز النجوم الأولى. تتمتع المجرات القزمة بالمقومات التي يمكن أن تجعل منها أقدم مثال للمجرات في كوننا. ولذلك، إذا تمكَّنا من العثور على مجرة قزمة تُركت وشأنها حتى نفد غازها — ومن ثَمَّ لم تسنح الفرصة لتطور ما تحتويه من نجوم — يكون قد توفرت لدينا بيئة نقية لتكوُّن نجوم الجمهرة الثالثة.

الالتهام المَجَري

تشكَّلت الهياكل في عالَمنا في نسقٍ هرمي. في البداية، اندمجت الهياكل الأصغر، التي تحتوي على عدد قليل من النجوم، في مجموعات أكبر، أو مجرات صغيرة. واندمجت هذه المجرات الصغيرة لتشكل مجراتٍ أكبر، وهكذا حتى أصبح لدينا مجرات بحجم درب التبانة. يمكننا أن نستدل على هذا التكوين الهرمي للمجرات، أو التهام المجرات بعضها بعضًا، من خلال رصد اندماج المجرات الذي يحدث أمام أعيننا. هناك مثالان على عمليات اندماج المجرات المستمرة في الصورتين ١٩ و٢٠ في ملحق الصور بنهاية الكتاب. تعتبر مجرتا الفئران ومجرتا الهوائيات مثالَين على اصطدام مجرتَين حلزونيتَين وتمزقهما بفِعل قوى الجاذبية، مما أدى إلى ظهور ذيل طويل لمجرتَي الفئران وقرون استشعار لمجرتَي الهوائيات. عندما تصطدم مجرتان، تختلط النجوم كلها في الداخل. في بعض الأحيان، يسطع نجم جديد في المجرة المدمجة الجديدة، وفي أحيان أخرى يؤدي فقدان الغاز إلى حدوث حالة من الهدوء لفترة.
عندما تندمج مجرتان حلزونيتان، تتعرضان إلى اضطراب كبير لدرجة أنهما تفقدان شكل الذراع الحلزوني وتتحولان إلى مجرة إهليلجية. ومن المرجح أن هذا ما سيحدث لمجرة درب التبانة عندما تصطدم بها مجرة أندروميدا في غضون ٤٫٥ مليارات سنة تقريبًا (وبالمناسبة، هذا أيضًا هو الوقت الذي ستنتهي فيه الشمس، ولذا سيكون وقتًا عصيبًا للبشرية جمعاء). إذن المجرات القزمة هي اللبنات الأساسية لموقع بناء المجرات، حيث تندمج وتتحطم ويتراكم بعضُها فوق بعض حتى لا يكون الجسم الناتج قزمًا بل مجرة حقيقية. على الرغم من أهمية الالتهام المجري في تفسير الهياكل التي نراها اليوم، لم يتخلل ذلك اصطدام آلاف المجرات القزمة في كل اتجاه. في عمليات محاكاة تشكيل الهيكل الهرمي لمجرة من نوع درب التبانة، ساهمت ثلاث مجرات فقط من المجرات القزمة الكبيرة في تكوين المناطق الداخلية للمجرة. كانت مناطق الهالة الخارجية، حيث يُحتمَل وجود تراكم أقل عنفًا للمجرات القزمة العابرة، تحتوي على ثمانية أسلاف من النجوم ذات كتلة أقل.5 يمكننا أن نستدل على حدوث اندماج حقيقي مع مجرة درب التبانة بالهيكل المتعرج الذي يسمى «تيار الرامي». ينشأ تيار الرامي بسبب تعرض مجرة الرامي الكروية القزمة إلى اضطراب مطوَّل، تاركًا النجوم التي كانت تشكلها يومًا ما ملفوفة حول درب التبانة في شكل شريط. فمجرة درب التبانة لا تتعامل بلطفٍ مع المجرة القزمة التي تتجول على مقربة منها.

تعريف المجرة القزمة

نظرًا إلى عملية الالتهام المجري، من المرجح أن تكون المجرات القزمة كبيرة في السن، ويمكن أن تكون بقايا اللبنات الأساسية الأولى لتكوين المجرات الهرمي، إذا تمكَّنا من العثور عليها. لا يزال الكثير من المجرات القزمة مجراتٍ بالمعنى الصريح للكلمة مقارنةً بالعناقيد الكروية، وذلك على الرغم من صغر حجمها مقارنةً بمجراتٍ مثل مجرتنا. في البداية، كان من السهل التمييز بين العناقيد الكروية والمجرات. إذ كانت الأولى صغيرة ومعتمة، بينما كانت الأخيرة أكثر سطوعًا وأكبر حجمًا. وكان من الممكن التمييز بين المجموعتَين عند تمثيلهما على رسم بياني يوضح درجة سطوع كل منهما مقابل حجمَيهما. ومع تطوُّر تلسكوباتنا وتمكُّنها من رصد المجرات القزمة الفائقة الخفوت، تداخلت المجموعتان، ومن ثَمَّ أصبح من الصعب معرفة ما إذا كان الهيكل عبارة عن عنقود كروي أو مجرة قزمة بِناءً على الحجم والسطوع فقط.

لتحديد ما إذا كان الهيكل مجرة قزمة أم لا، علينا أن نبحث عن أمرَين. أولًا، علينا أن نقيس سرعاتَ النجوم. فعند الدوران حول كتلة مركزية، يتناسب نطاقُ السرعات التي تتحرك بها النجوم مع كمية الكتلة في المجرة، سواء للمادة الباريونية العادية أو المادة المظلمة. ومن خلال تتبع سرعات النجوم، يمكننا تقدير كتلة المجرة. كما يمكننا تقدير كتلة المجرة عن طريق قياس كتلتها المضيئة. وبهذه الطريقة، نتوصل إلى تقديرين للكتلة: تقدير ديناميكي أو حركي، وتقدير باريوني. ولكي تكون المجرة مجرة قزمة، يجب أن تكون الكتلة الديناميكية أكبر بكثير من التقدير الباريوني، وهو ما نستدل منه على وجود مادة مظلمة. فالفارق في تقديرات الكتلة هو أول علامة مميزة للمجرة القزمة. ويعتبر فرق قيم نسبة المعادن في النجوم ثاني علامة مميزة. فعند انفجار نجم، يمكن أن تُطرد المعادن خارج نظام صغير مثل العنقود الكروي إذا كانت جميع قوى جاذبية النظام صغيرة بما فيه الكفاية. وفي حالة المجرات القزمة، يضمن المكون الإضافي لهالة المادة المظلمة الحفاظَ على بعض المواد المنبثقة من انفجار المستعر الأعظم أو جميعها لاستخدامها في الأجيال اللاحقة من النجوم. وهذا يجعل تلك الأجيال الجديدة أكثر تنوعًا من حيث نسبة المعادن مقارنةً بأسلافها، ويخلق نطاقًا من قيم المعادن أكبر من تلك الموجودة في العناقيد الكروية.

المجرات الأولى

قد تكون لدينا الآن طرق للتمييز بين مجرة صغيرة وعنقود كروي، لكن هل يعني هذا أننا وجدنا مجرة أولى وليس مجرد نسخة أحدث منها؟ يُعرَّف النجم الأول ببساطة بأنه نجم تشكَّل من غاز أولي، ومن ثَمَّ فهو خالٍ من المعادن. لكن لطالما كان من الصعب تحديد ماهية المجرة الأولى. ففي نهاية الأمر، يمكن لنظام ثنائي من نجوم الجمهرة الثالثة في هالة المادة المظلمة أن يشكِّل مجرة إذا استخدمنا تعريفًا موسعًا للمجرة بوصفها نظامًا نجميًّا مقيَّدًا بفِعل الجاذبية داخل هالة من المادة المظلمة. لكن المشكلة في تسمية هذا السيناريو بالمجرة هي أنه سريع الزوال. فبمجرد أن تموت النجوم وتتحول إلى مستعر أعظم، تصغر «المجرة» وتصبح هالة المادة المظلمة لا قيمة لها، لدرجة أن رياح المستعر الأعظم تبدأ في طرد أي غاز كان موجودًا حولها، ويصبح تكوُّن مزيد من النجوم أمرًا مستبعَدًا. فمن أهم خصائص المجرة أن تكون قادرة على البقاء كمجرة لبعض الوقت. ولكي تُسمى المجرة «مجرة»، عليها الحفاظ على الأجيال اللاحقة من النجوم،6 ولا تكفي الهالات الصغيرة الأولى التي تحتوي على حفنة من النجوم لاستيفاء هذا الشرط.
يقودنا النموذج الكوني نحو تصوُّر أن الهيكل الكبير يتكوَّن نتيجة تراكم الهياكل الأصغر واندماجها، ومن ثَمَّ نعتقد أنه كان هناك انتشار سريع للهياكل الصغيرة في بداية الكون. فهذه الهالات الصغيرة كانت تسمى هالات مصغرة، وكانت كتلتها تُقدَّر بحوالي مليون مرة كتلة الشمس. داخل الهالات المصغرة، انقسمت سحب الغاز الأولى المحظوظة مكوِّنةً النجوم الأولى، كما هو موضح في الفصل السادس. وفي بداية الكون، عندما كان معدل عمليات الاندماج مرتفعًا، كانت الهالات المصغرة ينجذب بعضها إلى بعض بفِعل الجاذبية، وتندمج لتكوِّن هالاتٍ أكبر. وفي غضون ذلك، كانت النجوم الأولى تعيش حياتها القصيرة وتنثر المعادن في البيئة المحيطة عند موتها. عندما اندمج ما يقرب من ١٠ هالات مصغرة،7 نتجت لدينا مجموعةٌ من الغازات الغنية بالمعادن وربما بعضٌ من بقايا نجوم الجمهرة الثالثة، ذلك كله ضمن هالة أكبر بكثير من المادة المظلمة. وعندئذٍ، تحولت الهالات المصغرة إلى هيكل أكثر استقرارًا يُسمى «هالة التبريد الذري».
كانت وسيلة التبريد الوحيدة المتاحة للغاز الأولي هي الهيدروجين الجزيئي. إذ تتحد ذرتا هيدروجين لتكوين جزيء واحد، وفي هذه العملية تنطلق طاقة على شكل فوتون يمكن أن ينتقل بعيدًا عن النظام، مما يؤدي إلى تبريد الغاز بشكل عام. ويؤدي ذلك إلى بدء عملية الانقسام أو التفكك وتكوُّن النجوم الأولى. أما في حالة الغاز الغني بالمعادن، فهناك المزيد من وسائل التبريد المتاحة. فقد أدى اندماج كل هذه الهالات المصغرة إلى زيادة درجة حرارة البيئة المحيطة، مما أتاح لذرات الهيدروجين المفردة المساهمة في عملية التبريد؛ ومن هنا جاءت تسمية هذه الأنظمة النجمية المدمجة بهالات التبريد الذري. تعتبر هالات التبريد الذري هي المجرات الأولى في الكون؛ لأنها كانت كبيرة بما يكفي لتحمُّل التأثيرات البيئية العنيفة الناتجة عن موت النجوم. ومع وجود المعادن، يمكن للغاز أن يبرد ويتفكك إلى نطاقاتٍ أصغر بكثير، بحجم شمسنا. وفي غضون ١٠ ملايين إلى ١٠٠ مليون سنة من انفجار المستعر الأعظم من نجوم الجمهرة الثالثة،8 استقر الغاز المعدني الساخن مجددًا وتفكك مشكِّلًا الجيل الثاني من النجوم. أظهرت عملياتُ المحاكاة أن المجموعة الأولى من المستعرات العظمى قد نثرت بذور المعادن في محيطها بكفاءة عالية لدرجة أن الجيل الثاني قد صُنِّف بالفعل ضمن الجمهرة الثانية.9 ويُعتقد أن نجوم الجمهرة الثالثة وحدها قد هيمنت على المجرات لمدة تتراوح بين ٢٠ و٢٠٠ مليون سنة، قبل أن تصبح نجوم الجمهرة الثانية هي المهيمنة بعد الانفجار العظيم بحوالي ٤٠٠ مليون سنة فقط.10 وبِناءً عليه، من غير المرجح أن تكون هناك مجرة أولى تتكون بأكملها من النجوم الأولى. بدلًا من ذلك، عاشت النجوم الأولى في هالات صغيرة، قبل أن تتجمع معًا لتشكِّل المجرات القزمة الأولى. وسرعان ما أصبحت هذه المجرات غنية بالمعادن وتضمَّنت عددًا كبيرًا من نجوم الجمهرة الثانية. واستمرت في تكوين النجوم وتراكم المجرات القزمة الأخرى، حتى زاد حجمها، وتحولت إلى المجرات العملاقة التي نراها حولنا اليوم. ومع ذلك، لم تتعرض جميع المجرات القزمة لمثل هذا المصير. فالتقديرات تشير إلى أن ما يقرب من ٥٪ إلى ١٥٪ من المجرات الصغيرة الأولى في محيط مجرتنا لا تزال سليمة وكأنها مجرات أحفورية تحيط بمجرة درب التبانة.11

كيمياء المجرة القزمة

تتصدر «سيجواي ١» قائمة أفضل المجرات المرشحة لدينا لتكون مجرة أحفورية أولى. وعلى الرغم من أن حجمها أحد المؤشرات التي استندنا إليها في ذلك، فهو ليس بالمؤشر الحاسم. فالواقع أن الدليل القاطع حقًّا يكمن في الكيمياء النجمية. يمكن لعلماء آثار النجوم الاستعانة بالتقنيات نفسها التي يستخدمونها في مجرتنا لدراسة النجوم في المجرات القزمة، من أجل البحث عن تلك النجوم الفقيرة في المعادن. ويمثل هذا تحديًا لأن المجرات القزمة بعيدة جدًّا مقارنة بالنجوم التي ندرسها في مجرتنا. وهذا يعني أن علينا اختيار النجوم الأكثر سطوعًا فحسب من أجل التحليل الطيفي النجمي. في «سيجواي ١»، على سبيل المثال، لا يمكننا إجراء تحليل طيفي عالي الدقة إلا لسبعة نجوم فقط، من بين نجومها المحددة البالغ عددها ٧١ نجمًا، وهذه النجوم السبعة هي النجوم العملاقة الحمراء الساطعة.12 ومن بين هذه النجوم، يحتوي ثلاثة من أصل سبعة على نسبة حديد أقل من ١ / ١٠٠٠ من تلك الموجودة في الشمس، مما يجعلها نجومًا فقيرة للغاية في المعادن، ويجعل «سيجواي ١» أقل مجرة معروفة من حيث التطور الكيميائي.13 وعلى الرغم من اكتشاف نجوم في مجرة درب التبانة تفتقر إلى الحديد بنسب أكبر، كان البحث عنها شاقًّا نظرًا إلى ندرتها. أما في «سيجواي ١»، يبدو أن نسبة كبيرة من النظام النجمي بأكمله فقيرة في المعادن.
إن نقص الحديد ليس المؤشر الوحيد للنظام الفقير في المعادن. فقد أظهرت جميع نجوم «سيجواي ١» وفرة معززة في عملية ألفا. وعملية ألفا هي إحدى الطرق التي تحوِّل النجومُ من خلالها الهيليوم إلى عناصر أثقل، عن طريق دمج نوى الهيليوم على التوالي. يُطلق على نواة الهيليوم اسم جسيم ألفا، ويرجع أصل هذه التسمية إلى عالِم الفيزياء النووية البريطاني إرنست رذرفورد، حين ميَّز لأول مرة بين نوعَين من الجسيمات المشعة: جسيم ألفا (نواة الهيليوم التي تتكون من بروتونَين ونيوترونَين) وجسيم بيتا (بوزيترون أو إلكترون). والأكسجين والنيون والماغنيسيوم والسيليكون كلها عناصر عملية ألفا، أو عناصر ألفا، لأنها تكوَّنت جميعًا في عملية ألفا هذه ونظائرها الأكثر استقرارًا هي مضاعِفات نواة الهيليوم (يتكوَّن الأكسجين من أربعة ألفا، والنيون من خمسة ألفا). أنتجت النجوم الأولى الضخمة الكثير من عناصر ألفا، وعند موتها أعادت المعادن إلى الوسط بين النجمي لاستخدامها في الجيل التالي من تكوُّن النجوم. ومع مرور الوقت في المجرة، سيصبح الوسط بين النجمي غنيًّا بالمعادن المنتجة داخل النجوم والمستعرات العظمى. في البداية، كانت هذه المستعرات العظمى ذات نوع محدد: إما مستعر أعظم منهار النواة وإما مستعر أعظم غير مستقر الأزواج. ولكن في نهاية المطاف، بعد ١٠٠ مليون سنة أو نحو ذلك، تطوَّرت نجوم سليمة التكوين لإنتاج مستعر أعظم من النوع 1a (انفجار قزم أبيض مكوَّن من نوى الأكسجين والكربون). تنتج هذه المستعرات العظمى الحديد، ومن ثَمَّ بعد أن تصبح نجومًا في حالتها النهائية الواضحة، ترتفع مستويات الحديد في المجرة على نحو ملحوظ. وكما هو الحال مع معظم الأشياء في علم الآثار النجمي، فإننا نجري مقارناتنا مع الحديد. كانت نسبة عناصر ألفا إلى الحديد عالية جدًّا في حالة النجوم الأولى والجيل التالي من سلالتها ذات المَعدنية المنخفضة، حيث تكون كمية عناصر ألفا كبيرة ولكن مستوى الحديد منخفض. وأظهرت النجوم اللاحقة، بعد أن ساهمت المستعرات العظمى من النوع 1a بالحديد، نسبًا أقل بكثير من حديد ألفا. ومن ثَمَّ، اعتدنا في معظم المجرات، سواء كانت قزمة أو غير قزمة، على ملاحظة ثبات في قيمة نسبة حديد ألفا في النجوم الأكبر سنًّا، ذات المَعدنية الأقل، ثم انخفاض في نسبة حديد ألفا في النجوم الأصغر سنًّا، ذات المَعدنية الأعلى. ولكننا لا نرى في «سيجواي ١» هذا الانخفاض على الإطلاق. يشير هذا إلى أن النوع الأحدث من المستعرات العظمى، وهو المستعرات العظمى من النوع 1a، لم يسهم أبدًا بشكل كبير في المجرة … حيث توقفت عملية تكوُّن النجوم فجأة.14 ويشير هذا النمط الكيميائي إلى أن «سيجواي ١» هي في الحقيقة مجرة أحفورية. إنها مجرة أولى لم تشهد تطورًا أبدًا فيما يتعلق بتكوُّن النجوم، بل شهدت تكوُّن بضعة أجيال من النجوم فقط. ومن المحتمل أن «سيجواي ١» لم تنتج إلا نجومًا ذات ١٥٠٠ كتلة شمسية على مدى حياتها، وهو رقم ضئيل حتى على مقاييس المجرات القزمة.15
ثمة أداة تشخيصية أخرى يمكننا استخدامها، وهي عناصر التقاط النيوترونات. تتكون هذه العناصر الثقيلة نتيجة اندماج النيوترونات مع نوى معادن، مثل الحديد. ويُعتقد أن عناصر التقاط النيوترونات هذه قد تشكلت خلال عملياتٍ حدثت بعد فترة طويلة من عصر النجوم الأولى. على سبيل المثال، تعد عمليات اندماج النجوم النيوترونية أحد مواقع الإنتاج المقترحة لهذه العناصر، بينما في الأعمار القصيرة للنجوم الأولى، لم يكن هناك وقت لأن تتشكل نجوم نيوترونية. يوجد موقع إنتاج آخر في آخِر ١٪ من عمر نجم متوسط الكتلة؛ إذ يتحول حينها إلى ما يسمى بنجم في مرحلة العملاق المقارب. تحتوي هذه النجوم على نوى خاملة من الأكسجين والكربون محاطة بالهيليوم والهيدروجين، ولن تنشأ إلا بعد نحو مليار سنة من ظهور النجوم الأولى؛ لأن النجوم المتوسطة الكتلة تستغرق كلَّ هذا الوقت لاجتياز المراحل المختلفة لدورة حياتها واستنفاد وقودها وصولًا إلى مرحلة فناء النجم وموته. تشير وفرة عناصر التقاط النيوترونات في المجرة إلى كمِّ العمليات التي حدثت في مرحلة متأخرة من عمر المجرة والتي ساهمت في إنتاج هذه العناصر وتوزيعها داخل المجرة.16 وتشير قلة عناصر التقاط النيوترونات في «سيجواي ١» إلى حدوث عملية واحدة على الأكثر لإنتاج عناصر التقاط النيوترونات،17 مع ندرة النجوم المتوسطة الكتلة التي من شأنها أن تطلق هذه العناصر عند بلوغها مرحلة العملاق المقارب، وغياب عمليات اندماج النجوم النيوترونية المسئولة عن إطلاق هذه العناصر الثقيلة في الغاز. في المقابل، يبدو أن النجوم الموجودة في «سيجواي ١» قد تشكَّلت من غاز لم يتعرض لأي من هذه العمليات … مما يدل على أن تكوُّن النجوم قد توقف بسرعة، كما هو الحال مع عناصر ألفا.
وعليه، فإن النجوم التي يمكننا رصدها في «سيجواي ١» ستكون النجوم الأقل كتلة التي عاشت أعمارًا طويلة. على الرغم من أن «سيجواي ١» تشكلت على الأرجح من مجموعة نجوم متنوعة الكتلة، فقد عاشت النجوم الأعلى كتلة حياة قصيرة ولم تعد بقاياها مرئية لنا. ولا تمثل النجوم الحالية سوى الطرف الأدنى في نطاق الكتلة، أو دالة الكتلة الأولية. وبما أن لدينا فكرة عن مختلف دوال الكتلة الأولية المحتملة، يمكننا استنتاج وجود نجوم سابقة عالية الكتلة. عندما ماتت النجوم الأعلى كتلة، نثرت المعادن في الغاز — ما يتراوح بين ٤٥ و٩٠٠ كتلة شمسية من المعادن، بِناءً على نموذج دالة الكتلة الأولية الذي تستخدمه.18 في المقابل، لم تتجاوز الكمية المقيسة للمعادن الثقيلة في «سيجواي ١» قيمة ٠٫٠١ كتلة شمسية فقط، ومن ثَمَّ يمكننا استنتاج أن الغالبية العظمى من الغاز الغني بالمعادن قد طُردت خارج المجرة بفِعل الرياح المنبعثة من انفجارات المستعرات العظمى التي تسبَّبت في تكوُّن هذا الغاز. ويشير عدم العثور على أي من هذه المعادن المطروحة خارج المجرة في نجوم «سيجواي ١» الناجية إلى حقيقة أن عملية تكوُّن النجوم قد توقفت بسرعة كبيرة، ربما حتى بعد ظهور أحد المستعرات العظمى الأولى. حيث تحوَّل أحدُ النجوم الأولى إلى مستعر أعظم، مما أدى إلى طرد غاز المجرة، تاركًا «سيجواي ١» من دون المواد الخام اللازمة لتكوين أي نجوم جديدة. ومن ثَمَّ، تُركت النجوم ذات المَعدنية المنخفضة التي كانت قد تشكلت بالفعل في مجرة صغيرة بمفردها، حيث لم يطرأ عليها أي تغيير لمليارات السنين.
إنَّ المكونات الكيميائية الفريدة لنجوم المجرات القزمة، وتحديدًا نسبة عناصر ألفا العالية، وندرة عناصر التقاط النيوترونات، وانخفاض نسبة المعادن الإجمالية، توفر لنا أداة تشخيصية مثيرة للاهتمام. وإذا عثرنا على نجوم تتبع نمطًا كيميائيًّا مشابهًا داخل هالة درب التبانة، فحينها قد نستنتج أن أصلها كان في مجرة أحفورية تشبه كثيرًا «سيجواي ١». يتضح من مقارنة نجوم المجرات القزمة ونجوم هالة درب التبانة أن ما يصل إلى نصف النجوم المفتقرة إلى المعادن في هالة المجرة يمكن أن تكون قد تشكلت في مجرات مثل «سيجواي ١» مع وجود نقص في عدد عناصر التقاط النيوترونات. وإذا افترضنا أن قلة عناصر التقاط النيوترونات من الممكن أن يكون مؤشرًا على كبر العُمر، فيمكننا استخدام هذا المؤشر للبحث عن النجوم القديمة ضمن فهارسنا الفلكية. وفي الأوضاع المثلى، سيشير العثور على نجوم لا تحتوي إطلاقًا على عناصر التقاط النيوترونات إلى أحد النجوم الأولى. ومع ذلك، لم يعثر حتى الآن على نجم لا يحتوي إطلاقًا على عناصر التقاط النيوترونات.19 ولا يزال البحث مستمرًّا.

علم آثار المجرات القزمة

هناك طريقة لتحديد أصغر المجرات الأحفورية، التي تشتهر بأنها من أقل المجرات تطورًا من الناحية الكيميائية. يبدو أنها الهدف المثالي للبحث عن نجم خالٍ من المعادن، وقد بدأ هذا البحث في مجرتنا باستخدام علم الآثار النجمي. ومع أن مجرة درب التبانة تبدو بشكل عام مكانًا آمنًا للعيش فيه، توجد أدلة على أنها قد مرت ببعض عمليات الاندماج العابرة، مما أدى إلى اضطراب هالتها واختلاط نجوم من مراحل سابقة لدرب التبانة مع تلك النجوم التي ساهمت بها المجرات القزمة العابرة. يعتبر هذا أحد الأسباب التي تجعل البحث عن نجوم خالية من المعادن في درب التبانة يمثل تحديًا؛ فنحن لا نبحث في بيئة نقية، ولكن فيما يشبه عليَّة متربة مليئة بمختلف الأدوات التي عفَّى عليها الزمن. شرعت مجموعة من الباحثين في حساب احتمالات العثور على نجم من الجمهرة الثالثة في عدة مواقع مختلفة.20 وعملوا على محاكاة الكثير من المجرات المختلفة، من جميع أنواع الكتل، بدءًا من مجرة درب التبانة إلى أصغر المجرات مثل «سيجواي ١». وبعد ذلك، أحصوا في كل مجرة جرت محاكاتها عددَ نجوم الجمهرة الثالثة التي تشكَّلت، ثم حسبوا النسبة المئوية التي يمثلها هذا العدد من إجمالي عدد النجوم (انظر صورة ٦ في ملحق الصور). كل دائرة في هذا الشكل هي محاكاة لإحدى المجرات، ويمثل لونها نسبة نجوم الجمهرة الثالثة المتبقية. أما الدوائر البيضاء الفارغة، فهي محاكاة لمجراتٍ لم يتشكل فيها أيٌّ من نجوم الجمهرة الثالثة، أو لم يعد أي منها موجودًا في زمن المحاكاة الحالية. تشير الخطوط العمودية إلى كتلة كل مجرة، بما يتوافق مع المحور الأفقي العلوي، حيث تزداد الكتلة كلما اتجهنا يمينًا. نلاحظ أن نسبة النجوم المتبقية من الجمهرة الثالثة تزيد كلما قلَّت كتلة المجرة المَعنية. ولا يتحقق ذلك إلا في موضع معين، عند تجاوزه لا يُعثر على أي نجوم ناجية على الإطلاق. يتضح من هذا الشكل أنه عند تجاوز الحد الأدنى لكتلة معينة، قد تكون المجرات القزمة هي المكان المثالي للبحث عن النجوم الخالية من المعادن، ولكن هناك عاملًا آخر يجب أخذه في الاعتبار، وهو: إمكانية الرصد. في الظروف المثالية، سنوجه أنظارنا نحو المجرة ونقيس طيف كل نجم على حدة، ونفصل الخالي من المعادن عن الغني بالمعادن. لكن هناك مشكلتين في هذا النهج. أولًا، لا يتوفر لدينا كل هذا الوقت لرصد النجوم بالتلسكوب. إذ يستغرق الأمر عدة ساعات للحصول على المعلومات الطيفية التي نحتاج إليها من كل نجم، وهذا ليس خيارًا في المجرات التي تحتوي على مليارات النجوم. ثانيًا، في المجرات القزمة، تكون النجوم بعيدة جدًّا وباهتة بحيث لا يمكننا رصد سوى ألمع النجوم بأي مستوًى من الدقة. والنجوم الموجودة في الطرف الأدنى من دوال الكتلة الأولية لنجوم الجمهرة الثالثة، والتي تبلغ كتلتها حوالي ٠٫٨ كتلة شمسية، من المفترض أن تبدأ حاليًّا المراحل الأخيرة من حياتها كنجوم عملاقة حمراء، وهذه العمالقة الحمراء مضيئة بما يكفي لكي نراها، ولذا فهي تمثل أهدافًا لنا. في الشكل، يمكننا رؤية مجرة درب التبانة ومجراتها القزمة، حيث تُظهر مواضع الدوائر الملونة احتمالية وجود عملاق أحمر واحد على الأقل من نجوم الجمهرة الثالثة في تلك المجرة (في المحور الأفقي السفلي، تعني القيمة ١ وجود احتمال بنسبة ١٠٠٪، والقيمة ٠٫٥ تعني وجود احتمال بنسبة ٥٠٪). على سبيل المثال، هناك احتمال بنسبة ١٠٠٪ أن تحتوي مجرة درب التبانة على عملاق أحمر من نجوم الجمهرة الثالثة، وذلك بسبب حجمها، في حين أن هناك احتمالًا أقل من ٥٠٪ لوجود عملاق أحمر واحد في مجرة التنين القزمة. يمثل لون الدوائر نسبة نجوم الجمهرة الثالثة الناجية. كلما زادت هذه النسبة، أصبح العثور على أحد هذه النجوم أسهل، نظرًا إلى وجود عدد أقل من النجوم غير ذات الصلة التي يجب البحث خلالها. قد تلاحظ أنه من غير المرجح أن يكون لدى «سيجواي ١» أي نجوم ناجية من الجمهرة الثالثة على الإطلاق؛ فهي لا تحتوي إلا على عدد قليل جدًّا من النجوم.
fig20
شكل ٨-١: زاد عدد المجرات القزمة المعروفة مؤخرًا زيادة كبيرة، حيث تضاعف مرتَين بسبب مسحَين نُفِّذا مؤخرًا، مسح سلون الرقمي للسماء ومسح الطاقة المظلمة. يمكننا أن نتوقع تضاعفًا آخر قريبًا، عند بدء استخدام تلسكوب المسح الشامل الكبير. اعتمد هذا الشكل على بيانات من بحث سيمون وآخرين، ٢٠١٩.‏21

يشبه هذا الوضع الموازنة. فإذا استهدفنا المجرات القزمة الأصغر حجمًا، فسنجد نسبة أكبر من النجوم الناجية من الجمهرة الثالثة، ولكن ستقل فرص وجود عملاق أحمر يمكن رصده بينها نظرًا إلى قلة أعداد النجوم المَعنية. وفي المقابل، إذا استهدفنا المجرات الأعلى كتلة، فبينما نتوقع أن يوجد مزيد من العمالقة الحمراء من نجوم الجمهرة الثالثة، فإن نسبة النجوم الناجية من الجمهرة الثالثة منخفضة، ولذا علينا البحث في نجوم كثيرة كي نتمكن من اكتشافها. ومن ثَمَّ، قد تكمن أفضل استراتيجية في الموازنة بين الأمرين.

مختبرات المادة المظلمة على مستوى المجرة

قد لا تكون «سيجواي ١» المكان الأفضل للبحث عن النجوم الأولى، لكن هذا لا يعني أنه لا فائدة من دراستها. فقد كان حجمها أحد أسباب تسليط الضوء عليها؛ والسبب الآخر هو ما تحتويه من نسبة عالية من المادة المظلمة. المجرات القزمة الفائقة الخفوت مثل «سيجواي ١» هي أقرب هالات للمادة المظلمة إلينا، مما يجعلها أهدافًا أسهل لتجارب الكشف غير المباشر عن المادة المظلمة. والمادة المظلمة، كما ذكرنا في الفصل الخامس، هي المكون الغامض في كوننا، والذي لا يتفاعل مع الضوء. ولم يُستدل حتى الآن على وجودها إلا من خلال تأثيرات الجاذبية على المناطق المحيطة بها. على سبيل المثال، يؤدي وجود المادة المظلمة في إحدى المجرات إلى تحرك النجوم حول النواة المركزية بمعدل سرعة أعلى من المتوقع. وفي الوضع المثالي، يمكننا اكتشاف المادة المظلمة مباشرةً، وإنتاج أو احتجاز ذرة أو جزيء من المادة لإجراء مزيد من الدراسات عليها. ولكن نظرًا إلى ضعف تفاعل المادة المظلمة مع المادة العادية أو انعدامه، اضطررنا إلى انتهاج أسلوب غير مباشر لاكتشاف أكبر قدر منها، كالاستدلال على وجودها من خلال الجاذبية، على سبيل المثال. وللقيام بذلك، نحتاج إلى مختبرات في السماء حيث يمكننا تجربة فرضياتنا وتضييق نطاق الاحتمالات حول ماهية المادة المظلمة وسلوكها. ونظرًا إلى تضاؤل وتيرة تكوُّن النجوم، فإن تأثيراتها على هالات المادة المظلمة في المجرات القزمة الفائقة الخفوت كانت ضعيفة، مما ساعد في الحفاظ على هالات المادة المظلمة سليمةً بمنأى عن أي اضطرابات. وبهذا، توفر المجرات القزمة الفائقة الخفوت بيئة اختبار مثالية.

في السنوات القليلة الماضية، استُخدِم تلسكوبان لرصد «سيجواي ١» بعناية، وهما: تلسكوب فيرمي للمساحات الكبيرة وتلسكوب شيرينكوف الرئيسي لتصوير أشعة جاما بالغلاف الجوي بقيادة فلوريان جوبيل. يُستخدَم التلسكوب الأول في الفضاء، بينما يُستخدم التلسكوب الثاني على الأرض. وكلاهما يبحث عن الجسيمات الناتجة عن فناء جسيمات المادة المظلمة الضخمة الضعيفة التفاعل، وهي العملية المقترحة التي يتفاعل من خلالها جسيمان من المادة المظلمة ويفنيان في النهاية، تاركَين وراءهما مجموعة من الجسيمات الأخرى. لا نعرف على وجه اليقين ماهية هذه الجسيمات الناتجة، لكننا نعلم أنها قد تنتج أشعة جاما أثناء هذه العملية. وتمثل أشعة جاما أعلى أنواع الضوء طاقةً، أو أقصرها طولًا موجيًّا. حيث يمكنها السفر في الفضاء دون أن تنحرف متأثرةً بالمجالات المغناطيسية. لذلك، على عكس معظم العناصر المحتملة الناتجة عن فناء المادة المظلمة، فإن أشعة جاما هذه لديها فرصة جيدة لتصل إلينا بعد انبعاثها من المادة المظلمة عقب فنائها. وإذا تمكَّنا من اكتشاف أشعة جاما هذه، فيمكننا حينئذٍ استنتاج الكثير عن المادة المظلمة وكيفية فنائها استنادًا إلى طاقة أشعة جاما وعددها. لقد بحث كلٌّ من التلسكوبَين السالف ذكرهما عن أشعة جاما المنبعثة من «سيجواي ١» على أمل اكتشاف شيءٍ ما.22،23 ولم يعثرا على أي شيء حتى الآن، لكن كما ناقشنا من قبل، فإن عدم اكتشاف شيء في حد ذاته يمكن أن يسفر عن شيء ما. نطلق على الطرق المختلفة التي يمكن أن تفنى بها جسيمات المادة المظلمة اسم «القنوات». على سبيل المثال، هناك قناة لجسيمات تاو وجسيمات تاو المضادة، وقناة لجسيمات نيوترينو وجسيمات نيوترينو المضادة. وقد حسب علماءُ فيزياء الجسيمات مقدار إشعاع أشعة جاما الذي ينبغي رصده من كل قناة للوصول إلى كمية المادة المظلمة المتوقعة في «سيجواي ١». وحقيقة أننا لم نكتشف أي شيء يمكن أن تضيِّق نطاق الاحتمالات وتستبعد قنوات محددة. وما نريده حقًّا هو اكتشاف فائض من أشعة جاما يفوق مستويات أشعة جاما في الخلفية العامة للكون، مما يكشف عن حدوث عملية فناء للمادة المظلمة. لقد اكتشفنا فائضًا من هذا النوع في مكان واحد مميز، وهو: مركز مجرة درب التبانة.24 اكتشف تلسكوب فيرمي للمساحات الكبيرة فائضًا من أشعة جاما في المنطقة المحيطة بمركز المجرة، وقد فُسِّر ذلك على نطاق واسع بأنه دليل على وجود مجموعة غير محددة من المصادر التي تنبعث منها أشعة جاما، أو مادة مظلمة في حالة فناء. تستمر عملية رصد أنظمة المجرات القزمة المتعددة؛ لأن العثور على أي دليل على وجود فائض من أشعة جاما ينبعث من أي من المجرات القزمة من شأنه أن يعزز الرأي القائل بأن تلسكوب فيرمي للمساحات الكبيرة قد اكتشف عملية فناء المادة المظلمة في مركز مجرتنا. هناك أيضًا احتمال أن تصدر العناصر الناتجة عن فناء المادة المظلمة، مثل الإلكترونات والبوزيترونات، إشعاعاتٍ راديوية وأشعة سينية. من الصعب اكتشاف ذلك لأن الإلكترونات والبوزيترونات جسيماتٌ مشحونة، ومن ثَمَّ فإنها تنحرف في كل اتجاه أثناء رحلاتها نحونا. ومع ذلك، يحاول العلماء اكتشاف هذه العناصر الثانوية الناتجة، وقد وضعوا قيودًا على الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل تشبه تلك الخاصة بتلسكوب فيرمي للمساحات الكبيرة ولكن عند مستويات طاقة تكميلية منخفضة.25،‏26
تُعد المجرات القزمة مكانًا رائعًا لاختبار جميع نظريات المادة المظلمة، وليس فقط الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل. ومن المقترح أن تكون الأجرام الهالية المضغوطة الثقيلة نوعًا آخر من المادة المظلمة التي تشتمل على ثقوب سوداء تشكلت في بداية الكون. تتسم الثقوب السوداء بأنها مظلمة جدًّا، وهي تعلن عن وجودها عن طريق قوة جاذبيتها، مما يؤكِّد على صحة فكرة الأجرام الهالية المضغوطة الثقيلة وأهميتها. تتسم هذه الأجرام بخاصية ضخ الطاقة في أي نظام عبر تفاعلات جاذبيتها. وإذا أضفتَ بعض الأجرام الهالية المضغوطة الثقيلة إلى نظام نجمي يحاكي العنقود الكروي، أي يضم نجومًا ترتبط جميعها معًا بفِعل الجاذبية، فإن تفاعلات الجاذبية المتزايدة تؤدي إلى اتساع مدارات النجوم. ويتضخم النظام، أحيانًا لدرجة أنه يذوب في التوزيع النجمي الأوسع في المجرة. ونظرًا إلى أن المادة المظلمة تهيمن بشدة على المجرات القزمة الفائقة الخفوت، فمن المتوقع أن ترى هذا التأثير بوضوح. إذا كانت الأجرام الهالية المضغوطة الثقيلة تمثل المادة المظلمة، فإننا نتوقع أن نرى مداراتٍ أكبر لأنظمة النجوم في المجرات القزمة، وعلى العكس من ذلك، فإن وجود مجرات قزمة لطيفة ذات هيكل محكم، أو عناقيد كروية داخل المجرات القزمة، قد يدحض فكرة الأجرام الهالية المضغوطة الثقيلة. إن وجود عنقود كروي في المجرة القزمة إيردنوس ٢ (كلمة لاتينية تعني «النهر»، ويشار إليها اختصارًا ﺑ «إيري»)، ووجود بعض المجرات القزمة الأصغر حجمًا، قد استبعد فكرة أن تكون المادة المظلمة مكوَّنة بالكامل من جسيمات الأجرام الهالية المضغوطة الثقيلة التي تفوق في كتلتها كتلة ثلاثة أقمار تقريبًا.27 فهذا حجم صغير حقًّا بالنسبة إلى ثقب أسود، وبهذا تتراجع احتمالات تكوُّن المادة المظلمة من الأجرام الهالية المضغوطة الثقيلة أمام احتمالات تكوُّنها من الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل.

المجرات القزمة المفقودة

حتى مع تزايد عدد المجرات القزمة المُكتشَفة على مدى العقود الماضية، ظل القلق يساور العلماء بشأن أعدادها ككل. وفي كون تهيمن عليه المادة المظلمة الباردة، تتوافر هالات المادة المظلمة بشكل خاص عند الطرف الأدنى من مقياس الكتلة، حيث من المتوقع أن تدور المئات، وربما الآلاف،28 من هالات المادة المظلمة الصغيرة حول درب التبانة. ومع توفر أجهزة أكثر حساسية، نتوقع الاستمرار في رصد المزيد من المجرات القزمة، ولكن من الصعب تخيُّل أن هناك ما يزيد على ١٠٠٠ مجرة قزمة غير مُكتشَفة داخل هالة درب التبانة.
على مر التاريخ، أُطلق على هذا الأمر اسم «مشكلة المجرَّات الصغيرة المفقودة». وفي حين أننا نتنبأ بحكم فهمنا للكون بوجود مئات إلى آلاف المجرات القزمة، فقد اكتشفنا أقل من ١٠٠ منها. ومع ذلك، فقد اقتُرح مؤخرًا أن المجرات ليست مفقودة على الإطلاق. فمجرد وجود هالة من المادة المظلمة لا يعني بالضرورة أن هناك مجرة. فتأيُّن الغاز في النجوم الأولى، ورياح المستعرات العظمى الناتجة عن انفجار النجوم الأولى، ينجم عنها تأثيرات يمكن أن تمنع اندماج الغاز بما يتيح تكوُّن النجوم والمجرات الأولى. تعتبر هذه التأثيرات كارثية في حالة المجرات الأصغر كتلة، ويبدو أن هناك حدًّا أدنى لكتلة الهالة يبلغ حوالي مليار كتلة شمسية، حيث لن تتشكل دونه أي مجرة. صحَّح الباحثون عمليات المحاكاة المعنية بعدد الهالات التي ستبقى فارغة وغير مرئية في ظل التقنيات الحالية. وتعد «سيجواي ١» واحدة من المجرات القزمة الفائقة الخفوت بشدة، حيث تبلغ درجة سطوعها ٣٤٠ مرة فقط درجة سطوع الشمس، وعندما نفترض أن جميع المجرات التي جرت لها عمليات محاكاة وتتمتع بدرجة سطوع أقل من هذا الحد غير مرئية، تختفي مشكلة المجرات الصغيرة المفقودة. تحوم حول رءوسنا مئات إن لم يكن آلاف من هالات المادة المظلمة، ولكن لا يمثل الكثير منها سوى كتل داكنة فارغة من المادة لم تكن كبيرة بما يكفي للتغلب على تلك التأثيرات الأولية من النجوم الأولى. وقد تحتوي نسبة كبيرة منها على نجوم، لكن الانخفاض الشديد في درجة سطوع مثل هذه الأنظمة الخافتة يتجاوز قدرتنا على الرصد. في إحدى عمليات الرصد الحديثة، أظهرت البيانات وجود ست مجرات قزمة، مع أن النظرية البديلة المعدَّلة بما يتناسب مع الأخطاء الناجمة عن عدم اكتمال بيانات عمليات الرصد قد تنبأت بوجوب رصد مجرتَين قزمتَين، مما يشير إلى أن النظرية لا تزال بحاجة إلى مزيد من التعديلات، وأن مشكلة المجرَّات الصغيرة المفقودة ربما تكون قد تحوَّلت الآن إلى مشكلة في احتمالية وجود مجراتٍ صغيرة زائدة.29

المجرات الصغيرة والمسائل الكونية

يُعَدُّ علم آثار المجرات القزمة مجالًا جديدًا، حيث لم يُكتشَف إلا عدد قليل من المجرات القزمة حتى وقتٍ قريب. وقد سمح المسح التلسكوبي الجديد الذي أُجري في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مسح سلون الرقمي للسماء، بظهور مزيد من الاكتشافات وتضاعُف عدد المجرات القزمة المعروفة. ومع البدء في تنفيذ مسح الطاقة المظلمة في عام ٢٠١٣، تضاعفت الأرقام مجددًا. هناك تلسكوب كبير آخر ذو صلة بالمجرات القزمة هو تلسكوب المسح الشامل الكبير، والذي بدأ تشغيله في أواخر عام ٢٠٢٢، أو أوائل عام ٢٠٢٣. ويتولى هذا التلسكوب الذي يبلغ قطره ٨ أمتار والموجود على جبال تشيلي مهمة مسح السماء بأكملها في ثلاثة أيام فقط، وسيكرر هذا الأمر على مدى ١٠ سنوات، للحصول على صور أعمق لمجرات أبعد. نتوقع أن يتضاعف عدد المجرات القزمة مرة أخرى، لأكثر من ضعف العدد الحالي المعروف. أجرت مجموعة متخصصة في عمليات المحاكاة في دورهام، بالمملكة المتحدة، محاكاة كَونية لمناطق تشبه المناطق المحيطة بمجرتَي درب التبانة وأندروميدا، وتوقعت وجود عدد كبير من المجرات القزمة التي لم تُكتشَف حتى الآن والتي تتجمع حول المجرتَين في المجموعة المحلية.30 سيكون هناك الكثير من المجرات القزمة، وستتطلب جميعها إثباتًا طيفيًّا عن طريق قياس سرعة النجوم ونسبة المعادن بها. وسيتطلب ذلك قياساتٍ طيفية عالية الدقة، تستغرق وقتًا طويلًا، وأعتقد أنه لكي تصبح عالِم آثار متخصص في المجرات القزمة، فإن الأمر يتطلب قدرًا كبيرًا من المثابرة في السعي وراء الكنوز المُكتشَفة حديثًا.

أحبُّ دورهام حبًّا جمًّا، مثل شعور معظم الطلاب تجاه مدنهم الجامعية، وأستشهد على ذلك بما قاله كاتب أدب الرحلات بيل برايسون في كتابه «ملاحظات من جزيرة صغيرة»: «دعني أقولها صراحةً الآن: إذا لم يسبق لك زيارة دورهام من قبل، فاذهب فورًا. خذ سيارتي. إنها رائعة.» ومن أجمل معالم دورهام كاتدرائيتها التي تقع على تلة مرتفعة تشرف على المدينة الصغيرة. وبينما كنت جالسة في حفل تخرجي في تلك الكاتدرائية، أخبرنا رئيس الجامعة آنذاك بيل برايسون كيف أن كل حجر في الكاتدرائية قد استُبدل في مرحلة ما من عمرها الذي دام ألف عام. لقد خضعت الكاتدرائية لأعمال تجديد وتطوير. ويدهشني أحيانًا أن المجرات الكبيرة التي نراها حولنا تفعل الشيء نفسه. فقد تبدو وكأنها كياناتٌ ضخمة صلبة لا تتغير، تجمَّعت في الماضي السحيق، لكنها في الواقع تتطوَّر حتى يومنا هذا. فالنجوم التي نراها في هذه المجرات ليست هي النجوم التي كانت موجودة عندما تشكَّلت المجرة. ربما يوجد نجم قديم وحيد مختبئ بين النجوم البديلة الجديدة، لكن العثور على هذا النجم ليس بالمهمة السهلة. وعلى مدى مليارات السنين، ربما يكون هيكل المجرة قد تغير كليًّا لدرجة أنه أصبح من الصعب التعرف عليها. عندما ننظر إلى المجرات من حولنا، فإن التنوع المذهل الذي نراه يشير إلى عدد من السيناريوهات التاريخية المحتملة؛ إذ يبدو الأمر كما لو أن شخصًا ما قد استبدل أحجار الكاتدرائية بلون ونمط وحجم عشوائي. هل من الممكن أن تظل إحدى المجرات الأولى في مكان ما في هذه المجموعة، بعد أن تجنبت جميع عمليات الاندماج، ومنعت بطريقة ما التطور المستمر الذي فرضه تكوُّن النجوم، وتحايلت على جميع الأحداث الكارثية التي قد تجبرها على التبدُّد؟ يبدو أن «سيجواي ١» هي الدليل على أنه على الرغم من الاضطرابات التي تعرض لها الكون المبكر، فما زال هناك بعض الناجين بين الأنقاض. ومع تطور درجة حساسية التلسكوبات، سنكتشف مزيدًا من المجرات الأحفورية وربما نعثر بداخلها على أحد النجوم الأولى.

•••

يُقال إن أفضل الأشياء وأقيمها لا تأتي في عبواتٍ كبيرة. وفيما يبدو، ينطبق هذا حقًّا في حالة المجرات القزمة. لقد عرفنا منذ زمن طويل بوجود المجرات القزمة، تلك التي تحتوي على هالة من المادة المظلمة وبضعة ملياراتٍ من النجوم على الأكثر، لكنها كانت ساطعة وقليلة العدد. في العقدَين الأخيرين، ازدادت أعداد المجرات القزمة المعروفة، وتضاعفت مع كل مسح جديد. تحيط بمجرة درب التبانة مجراتٌ قزمة، وهي بقايا عملية تكوُّن الهياكل الهرمية، حيث تشكَّلت المجرات الأكبر من اندماج الهياكل الأصغر. وقد تكون أصغر المجرات القزمة من المجرات الأقل تطورًا في الكون، والتي تحتوي على نجوم الجمهرة الثالثة. فنحن نعتقد أن المجرات الأولى كانت تحتوي بالفعل على نجوم الجمهرة الثانية، التي تشكلت من هالات متعددة من نجوم الجمهرة الثالثة السريعة التطور. وعليه، من غير الواضح السبب وراء اختيار استهداف أصغر المجرات في البحث عن نجم خالٍ من المعادن، حيث تقل فرص وجود أي من تلك النجوم القليلة في حالة يمكن رصدها. وبصرف النظر عن قيمتها في الفيزياء الفلكية، فقد تبيَّن أن المجرات القزمة الفائقة الخفوت هي أكثر الأنظمة المعروفة التي تهيمن عليها المادة المظلمة، وقد حوَّلت تجارب فيزياء الجسيمات أنظارها إلى محاولة اكتشاف جسيم المادة المظلمة المحيِّر. من المقرر أن تنطلق تجارب أكثر حساسية قريبًا، وبهذا سيحصل علماء آثار المجرَّات القزمة على كم هائل من البيانات. وسيتعين عليهم اختيار أهدافهم بعناية للمتابعة الطيفية والتحلي بالصبر أمام العديد من الخرائط التي تحتوي جميعها على علامات تشير إلى اكتشافات جديدة.

في يوليو ٢٠١٩، حظيتُ بشرف العودة إلى دورهام لحضور مؤتمر حول المجرات القزمة بعنوان «المجرات الصغيرة، والمسائل الكونية». في الواقع إنني أحضر الكثير من المؤتمرات، ولكن نظرًا إلى أننا نميل إلى البقاء ضمن تخصصاتنا الصغيرة، فمن النادر أن نحضر مؤتمرًا لا نعرف فيه أحدًا. فعادةً ما ترى الخمسين شخصًا عينهم لبقية حياتك المهنية. في هذا المؤتمر، كنت دخيلة عليهم من مجال الكون المبكر، أحاول أن أستكشف موضوعًا كنت قد انخرطت فيه توًّا، ومن ثَمَّ لم أكن أعرف سوى شخصَين هناك. كان من الرائع حقًّا الاطلاع على مجال مختلف والالتقاء بمجموعة مختلفة من الباحثين. لقد بدأ هذا المجال للتو، ومن ثَمَّ يوجد العديد من فروع البحث التي يمكن استكشافها. وفي إحدى الجلسات أذهلني أن نبرة الخطاب كانت خالية من أي إلحاح. في مجال تخصصي المتعلق باكتشاف خط الانزياح الأحمر العالي الذي يبلغ طوله الموجي ٢١سم (الذي سنناقشه لاحقًا)، نوشك على التوصُّل إلى اكتشاف طال انتظاره، ورغم أننا نتنافس على الوصول، فنحن على استعداد للتحلي بالصراحة والعمل معًا من أجل تذليل العقبات العديدة التي تعترض طريقنا. نشعر دائمًا بأننا في عجلة من أمرنا، وأننا لا نملك ما يكفي من الوقت أو الأشخاص للإجابة عن جميع الأسئلة. على النقيض، لم أشعر بالقدر نفسه من الإلحاح أو التوتر في هذا المؤتمر. بل عوضًا عن ذلك، ساد جو من الاسترخاء، وحماسة مفعمة بالاطمئنان، مثل طفل لديه كومة من الهدايا المفتوحة لا يعرف بأي منها سيلعب أولًا. لقد أذهلتني أيضًا الطريقة التي عُرضت بها المشكلات بوصفها فرصًا للتعلم (على سبيل المزاح). اقترح أحد الحضور أن وظيفة العقل لا يفترض أن تكون حل هذه المشاكل، بل خلق المزيد منها، لاكتشاف المزيد من الأشياء التي لسنا على دراية بها عن المجرات القزمة. حتى لحظة ذهابي إلى هذا المؤتمر، لم أكن أستوعب علاقة ذلك بعلم آثار المجرات القزمة. واكتشفتُ أنني لم أكن بالدخيلة على نادٍ مترابط الأعضاء. بل بدلًا من ذلك، كنت أواجه مجتمعًا جديدًا يتكوَّن من عائلاتٍ متعددة. كان بين الحضور علماء فيزياء الجسيمات الذين تحدوهم الرغبة في استكشاف المجرات القزمة بحثًا عن المادة المظلمة. وكان هناك أيضًا علماء آثار النجوم المتحمسين لإيجاد العديد من المواقع التي تقدم مزيدًا من الفرص للبحث عن نجمهم الثمين الخالي من المعادن. وكان هناك علماء فلك مختصون بمجال تكوُّن المجرات لاستخدام هذه اللبنات الصغيرة وتوظيفها في فهم كيفية تشكُّل المجرات الضخمة التي نراها اليوم. وكان هناك علماء فلك آخرون مختصون بمجال الكون المبكر مثلي، وقد اقترحوا أن المجرات القزمة الأصغر سنًّا التي تتشكل بها النجوم يمكن استخدامها كنظائر للمجرات الأولى التي تتشكل بها النجوم في كوننا. ومع ذلك، في ظل كل هذه المناقشات، لم يُذكر إلا القليل عن «سيجواي ١»، التي كنت أعتقد أنها ستكون الموضوع الرئيسي للنقاش. لقد تلاشت حماسة العثور على أول مجرة أحفورية، وكان علماء الفلك يبحثون بالفعل عن مجرات مرشحة أخرى، ويخططون لمزيد من عمليات الرصد بسعادة. هذا لا يعني أن دراسة «سيجواي ١» غير ذات صلة. بل على العكس تمامًا. ذلك أن «سيجواي ١» هي أول مجرة أحفورية ولكنها ليست الأخيرة بأي حال من الأحوال، والتقنيات التي استخدمناها لتحديد طبيعتها قابلة للتطبيق على نطاق واسع. إن علم آثار المجرات القزمة مجال بدأ للتو في ترسيخ مكانته. وهو يتألف من مجموعاتٍ صغيرة من الموضوعات، تدور جميعها حول هدف واحد: الكشف عن هذه الحفريات الصغيرة واستخدامها كمختبراتٍ لفهم الكيفية التي تشكَّل بها كوننا.

هوامش

* يُطلق على هذه التفاعلات القصيرة والعابرة مصطلح «التحرش المَجَري». وباعتباري ناشطة مناهضة للتحرش الجنسي في الأوساط الأكاديمية، فإن هذا المصطلح يصيبني بالقشعريرة، إلا أنني لا أجد بُدًّا من الإشادة باختيار هذه التسمية. ويمكنني أن أتخيل العذر الذي تقدمه سحابة ماجلان الصغرى كما يلي: «لم أكن أنوي التسبب في حدوث اضطراب لكل جزء من كيانها وتغييرها إلى الأبد، وتدمير كل ما هو جميل وفريد من نوعه، ولكن المشكلة هي أن لديَّ مجال جاذبية كبيرًا حقًّا. ومن ثَمَّ، انجذبت نحوي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤