الفصل التاسع

الغَسَق الكَوْني

في غضون أسابيع قليلة، سيكون عليَّ إعداد عشاء عيد الميلاد لثلاثة عشر شخصًا. وسيكون الأمر بمثابة مزيج متنوع من أفراد العائلة المقربين، والأصهار، والأعمار، والمتطلبات الغذائية، والمعتقدات السياسية. وسرعان ما أصبحت طريقة طي فوط الطعام ولون مفرش المائدة مسائل ملحة، وبدأتُ أضع مخططًا لإعداد الطعام أشبه بمخطط إدارة المشروعات. يضم هذا المخطط وصفاتي المفضلة، ويخبرني بموعد تقشير البطاطس، وموعد طهي براعم الفاصوليا على البخار، والوقت المستغرق في طهي القرنبيط بالجبن لوالِد زوجي، وموعد إعداد الجزر المُحلَّى بالعسل (للابنة الكبرى)، والجزر المسلوق (للرضيع)، والجزر النيئ المقطع إلى شرائح (للابنة الوسطى) والجزر المشوي (لمَن عدا ذلك من الحضور). يعتمد النجاح على التنفيذ المتقن لكل مرحلة. وحتى مع كل هذه التوقعات، لم يكن هناك الكثير من الضغط، فما أسوأ السيناريوهات المحتمَلة على أي حال؟ ربما أحرق طعامًا تبلغ قيمته ٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا وأضطر إلى تحضير فطائر اللحم المفروم المخصصة لحالات الطوارئ. ومع ذلك، كنت أشعر بالتوتر حيال تقطيع الجزر الأبيض؛ لأنها مسئولية مباشرة تقع على عاتقي. ولذا، أتعجب كثيرًا كيف يتحمل الناس مسئولية البعثات الفضائية الحديثة. ولنأخذ مثالًا على ذلك تلسكوب جيمس ويب الفضائي.1 وُضِعَ تصوُّر لهذه المهمة في عام ١٩٩٦، وبالفعل انطلقت في ديسمبر عام ٢٠٢١ على أقرب تقدير، بتكلفة ٩ مليارات دولار. جدير بالذكر أن هذا كان اعتبارًا من أغسطس ٢٠٢٠، ومن ثَم فإن جميع التواريخ والميزانيات عرضة للتغيير.

ظل التلسكوب قيد التخطيط لفترة طويلة لدرجة أن العديد من التقنيات التي أستخدمها لم تكن موجودة أثناء مراحل التصنيع، واختُرعت للاستخدام لأول مرة في تلسكوب جيمس ويب الفضائي. وعلى عكس طريقتي الممنهجة في المطبخ التي تعتمد كليًّا على وصفات كتاب الطبخ لماري بيري، يشبه أولئك الذين يقفون وراء تلسكوب جيمس ويب الفضائي الطبَّاخين المبدعين، الذين يبتكرون أصنافًا لذيذة من الطعام.

تلسكوب جيمس ويب الفضائي

يذكِّرني هذا التلسكوب بالعثور على إحدى ألعاب المتحولين «ترانسفورمرز» القديمة تحت شجرة الكريسماس صبيحة عيد الميلاد، أو ربما فوطة مطوية على شكل بجعة على مائدة العشاء. فهو يحتوي على سطح رصد (يُسمى مرآة) يبلغ عرضه ٦٫٥ أمتار (٢١ قدمًا)، وهو ما يعادل تقريبًا ثلاث مرات حجم تلسكوب هابل، مما يجعله أقوى ﺑ ١٠٠ مرة. ولتركيب المرآة على الصاروخ، كان عليهم أن يبتكروا آلية طي لا تختلف عن تلك الموجودة في مائدة الطعام التي يُبسَط جانباها في المناسبات الاحتفالية، حيث يمكن طي جانبَي المرآة ببراعة. وفي الفضاء، يُبسَط جانبا المرآة للتأكُّد من أن كل أجزاء المرآة تشكِّل معًا سطحًا مستويًا. وهناك أيضًا الدرع الواقية من الشمس، المصنوعة من خمس طبقاتٍ رقيقة من البوليميد في سُمك شعرة الإنسان ولكنها تغطي مساحة كبيرة تعادل مساحة ملعب تنس، وقد صُمِّمت هذه الدرع لتعكس أكبر قدر ممكن من حرارة الشمس والأرض. تُطوى الدرع الواقية من الشمس ١٢ مرة لتتناسب مع حجم الصاروخ، أو بالأحرى، تنبسط الدرع الواقية من الشمس المطوية ١٢ مرة في الفضاء السحيق، تمامًا كما هو مخطَّط لها، لمنع غمر التجربة بالإشعاع الشمسي. إذا شاهدت مقطعًا لخروج التلسكوب من الصاروخ،2 فيمكنك أن ترى كيف ينفتح كل جزء من التلسكوب، ويمتد، ويدور، وينبسط، ويميل خلال شهر كامل من العمل الشاق بعد الإطلاق.
fig21
شكل ٩-١: نقاط لاجرانج. تشبه نقاط لاجرانج أماكن الانتظار في مجال جاذبية الأرض والشمس. تمثل نقطة لاجرانج L2 أهمية خاصة في علم الفلك؛ لأنها تسمح برؤية الفضاء دون أي عوائق، في حين تظل قريبة بما يكفي لإرسال واستقبال الإشارات من وإلى الأرض.
سوف يستقر تلسكوب جيمس ويب الفضائي عند نقطة مميزة في مجال جاذبية الأرض والشمس تسمى نقطة لاجرانج L2. هناك خمس مناطق مميزة في مجال جاذبية الأرض والشمس حيث تعمل قوى الجذب الخاصة بالأرض والشمس على موازنة الحركة المدارية للقمر الصناعي بدقة، بحيث يظل في نفس الوضع النسبي للجرمين الأكبر منه حجمًا. عند نقطة لاجرانج L2، توازن بدقة قوة جاذبية كل من الشمس والأرض قوة الطرد المركزي الدافعة إلى الخارج والتي تشعر بها الحركة المدارية للقمر الصناعي. كانت النقطة L2 موطنًا لكل من تلسكوب بلانك ومسبار ويلكنسون لقياس التباين الميكروي، وهما التجربتان اللتان أنتجتا مخططات رائعة لتغيرات درجات حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي عبر السماء. تتسم هذه النقطة بأنها نقطة مثالية لرصد الفضاء؛ لأنها تسمح للتلسكوب بحماية نفسه من الشمس والأرض معًا، مع البقاء قريبًا بدرجة كافية للتواصل مع الأرض. ومع وجود الشمس والأرض خلفها، ينكشف ظلام الفضاء السحيق. ولكن التلسكوب بعيد جدًّا. فعندما اتضح العطل الذي أصاب مرآة تلسكوب هابل بعد إطلاقه، استطاع رواد الفضاء إصلاحه من خلال سلسلة معقدة جدًّا من الإصلاحات. وذلك لأن هابل كان قريبًا في مدار أرضي منخفض. فهو يقع على ارتفاع ٥٤٧ كيلومترًا (٣٤٠ ميلًا) فقط فوق الأرض، ولذا لم يكن من الصعب على رواد الفضاء التوجُّه إلى إصلاحه. وبالمقارنة، نجد أن تلسكوب جيمس ويب الفضائي يقع على مسافة تزيد على ١٫٥ مليون كيلومتر، بما يعادل أربع مرات المسافة بين القمر والأرض، وبعيدًا جدًّا عن أي مكان يمكن أن توفر فيه ناسا أي بعثات لإصلاح الأعطال. ونظرًا إلى ضرورة التحقق التام من كل شيءٍ، كان لا بد من اختبار كل جزءٍ من تلسكوب جيمس ويب الفضائي وإعادة اختباره وفحصه مرة أخرى للتأكد من أن كل شيء سوف يسير كما هو مخطَّط له في يوم الإطلاق المرتقب. وقد أدت هذه الضرورة إلى زيادة الميزانية عن أي وقت مضى، حيث زادت من مليار دولار عند البدء إلى ٩ مليارات دولار اعتبارًا من عام ٢٠٢٠. وكما أشار أحد علماء الفيزياء الفلكية، فإن هذا هو فقط ما ينفقه الأمريكيون على رقائق البطاطس سنويًّا.3 أليس هذا ثمنًا زهيدًا نظير مشاهدة أقدم الأجرام في الكون؟ يعتبر تلسكوب جيمس ويب الفضائي استثمارًا هائلًا ذا عائد كبير. فهو أشبه بحدث إعداد عشاء عيد الميلاد للملكة، في بث مباشر على شاشة التلفزيون، دون الاستعانة بأي كتاب طبخ.

رأينا في الفصل السابع كيف يمكننا استخدام علم الآثار النجمي لوضع تصوُّر عن عدد نجوم الجمهرة الثالثة ذات الكتلة المنخفضة، وتحديدًا دالة الكتلة الأولية النجمية. من المفترض أن تظل النجوم ذات الكتلة المنخفضة، التي تبلغ حوالي ٨٠٪ من كتلة الشمس، على قيد الحياة لفترة طويلة تمتد حتى يومنا الحالي، وكل ما علينا هو البحث عنها حتى إيجادها. لكن الوضع معقد في حالة النجوم ذات الكتلة العالية، حيث تعيش تلك النجوم حياة قصيرة لا تتجاوز بضعة ملايين من السنين. وهذا أقل بكثير من المدة التي يجب أن تعيشها — وهي ١٣ مليار سنة — حتى نتمكَّن من رؤيتها في محيط مجرتنا. ولجمع مزيد من المعلومات حول النجوم ذات الكتلة الأكبر في دالة الكتلة الأولية النجمية، لا خيار أمامنا سوى العودة بالزمن إلى الوراء، من خلال إلقاء نظرة بعيدة بما فيه الكفاية بحيث يكون الضوء الذي نراه هو ضوء تلك النجوم الأولى، سواء كانت حية أو تُحتضَر.

من أشهر الصور التي نقلها هابل هي صورة الحقل الفائق العمق، التي يمكن الاطلاع عليها في صورة ١٧ في ملحق الصور بنهاية الكتاب. التُقطت هذه الصورة المذهلة في عام ٢٠٠٤، وهي تستعرض تنوع أشكال ١٠ آلاف مجرة في رقعة صغيرة من السماء. توجد جميع هذه المجرات التي يبلغ عددها ١٠ آلاف في المنطقة نفسها من السماء، والتي يمكن حجبها إذا حملت عملة معدنية بريطانية فئة خمسة بنسات، أو عملة معدنية أمريكية فئة عشرة سنتات، على بُعد ٢٣ مترًا (٧٥ قدمًا). تقع جميع هذه المجرات على مسافاتٍ مختلفة، مما يعني أنها كانت موجودة كما هو موضح في الصورة في أوقاتٍ مختلفة من تاريخ الكون. ومن المحتمل أن يعود الضوء الصادر من المجرات الحمراء الأصغر حجمًا إلى بضع مئاتٍ من السنين فقط بعد الانفجار العظيم، في حين أن الضوء الصادر من المجرات الحلزونية، التي تتميز بالتكوين الجيد والإشراق، ربما يعود إلى ما يقرب من مليار سنة بعد الانفجار العظيم.

لديَّ لوحة كبيرة من القماش للحقل الفائق العمق معلَّقة على جدار غرفة المعيشة، ولذا فإنني كثيرًا ما أنظر إليها. وفي كل مرة أفعل ذلك، يحاول عقلي جاهدًا استيعاب أن كل هذه النقاط والدوامات الصغيرة هي مجرات، متجمِّدةً في رقصة لا يمكن تصوُّر نطاقها. يصيبني الذهول في كل مرة أنظر إليها. فهي تجعلني أشعر بمدى ضآلتي. وذلك كله في مجرد جزء صغير من السماء. أعتقد أن تلسكوب جيمس ويب الفضائي أحدث ثورة في عُمر الكون تضاهي الثورة التي أحدثها تلسكوب هابل في نطاق الكون. فقد التقط تلسكوب جيمس ويب أضعف إشارات الضوء الصادرة من المجرات الموجودة خلال فترة الفجر الكوني، مما أتاح لنا إلقاء نظرة مباشرة على كيفية تشكُّل تلك المجرات وتطوُّرها. ومن ثَمَّ استطعنا أن نفهم، من خلال النظر إلى أسلاف مجرة درب التبانة، وندرك مدى صغر عمرنا، وعمر الأفراد، والفصائل، والكوكب، بل وحتى المجرة. أعتقد أننا بصدد دراسة جدول زمني لتطور المجرات، ولنا أن نستشعر كم الوقت الهائل الذي مَرَّ خلال عملية التطور هذه.

على الرغم من أن تلسكوب جيمس ويب الفضائي هو خليفة تلكسوب هابل من حيث كونه التلسكوب الفضائي الكبير التالي، فإنه لم يكن بديلًا صريحًا له. ففي حين أن هابل أداةٌ بصرية ترصد الضوء المرئي، يرصد تلسكوب جيمس ويب الفضائي الأشعة تحت الحمراء. وتتميز الأشعة تحت الحمراء بطول موجي يصعب رؤيته بالعين المجردة. فالغلاف الجوي للأرض يحجب الكثير من الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء، مما يجعل تلسكوب جيمس ويب عديم الفائدة في حال وضعه على الأرض. ومن ثَمَّ، كان لا بد من الابتعاد عن الأرض على أي حال، أو بالأحرى الابتعاد عن جميع الأشعة تحت الحمراء الموجودة على الأرض، والتي من شأنها أن تحجب الإشارات التي نبحث عنها. وبالتالي، تقرَّر إطلاق التلسكوب إلى الفضاء وبسط الدرع العملاقة الواقية من الشمس لحجب إشارات الأشعة تحت الحمراء القادمة من الأرض والشمس. ومع حجب الأشعة القادمة من الأرض والشمس، تمتع تلسكوب جيمس ويب الفضائي برؤية واضحة ومظلمة للسماء، مما أتاح له رصد الأشعة تحت الحمراء. كانت لدى تلسكوب جيمس ويب الفضائي قائمة رائعة من الأهداف العلمية. إذ كان من المقرر له أن يستكشف الغلاف الجوي للكواكب الواقعة خارج المجموعة الشمسية، والبحث عن المؤشرات الكيميائية للحياة، والتقاط صور للمجرات على مر العصور، وإنشاء جدول زمني يتتبع تكوُّن الهياكل. كما كان من المخطط له إلقاء نظرة على حاضنات النجوم التي تقع في الكون القريب، متجاوزًا كلَّ الغبار الذي يحجب الرؤية عن التلسكوبات البصرية. وكان من المنتظر أيضًا أن يدرس تكوين النجوم كما يحدث الآن (حسنًا، أعني كما يحدث على مدى آلاف السنين القليلة الماضية — أو ما يقرب من ذلك — بالنظر إلى الوقت الذي يستغرقه الضوء للانتقال عبر الفضاء). إن الضوء الصادر من المجرات الأولى ينزاح نحو الأحمر لدرجة أنه يظهر لنا مع الأشعة تحت الحمراء، وبصورة مثالية، يمكننا التقاط إشعاع النجوم الأولى بالطريقة نفسها. لكن للأسف، لا يتمتع تلسكوب جيمس ويب الفضائي بدرجة الحساسية اللازمة لرؤية النجوم الفردية التي تشكَّلت خلال فترة الفجر الكوني، حتى في ظل وجود مرآته العملاقة القابلة للطي. وفي حين أن هناك أملًا في احتمالية وجود بعض الاستثناءات إذا تشكلت نجوم فائقة الكتلة على وجه التحديد،4 أو إذا تشكلت نجوم في مجموعات متقاربة،5 لإصدار لمعان مشترك أكثر سطوعًا، فمن غير المرجح أن يحدث استكشاف مباشر للنجوم الأولى. ومن المحتمل أننا في أول نظرة نلقيها على النجوم الأولى سنشهد موتها.

مصير نجومنا

تحدد كتلة النجم مدى سرعة احتراق وقوده، ومن ثَمَّ مدة بقائه على قيد الحياة. والكتلة مهمة أيضًا لتحديد كيفية موت النجم.

أقل من ٨ كتل شمسية: قزم أبيض

في حالة النجوم الصغيرة، عندما ينتهي احتراق الهيدروجين والهيليوم في قلب النجم، يجد النجم نفسه عند درجة حرارة منخفضة جدًّا بحيث لا يتمكن من حرق الكربون. ويتعرض القلب للانهيار وتُطرد الطبقات الخارجية بلطف إلى ما نطلق عليه اسم السديم الكوكبي. لا ينهار القلب تمامًا، بل يثبت بفِعل ضغط جميع الإلكترونات التي تدور حوله. وبهذا يتكوَّن قزم أبيض: وهو عبارة عن قلب نجم بارد، متماسك بفِعل ضغط إلكتروناته. تتميَّز الأقزام البيضاء بكثافة عالية، حيث ينهار النجم بشكل كبير قبل أن يعادل ضغط الإلكترون قوة الجاذبية. تضاهي كتلة القزم الأبيض كتلة الشمس، ولكنه بحجم الأرض. وتبلغ كثافة القزم الأبيض في المعتاد نحو مليار كجم/م٣، وهو ما يعادل تقريبًا القول بأن ديك عيد الميلاد يَزن ٣٠٠٠ فيل.

ما بين ٨ كتل شمسية و٢٠ كتلة شمسية: نجم نيوتروني

في حالة النجم الأضخم حجمًا، يمكن أن يصل قلب النجم إلى درجات حرارة أعلى بسبب زيادة الضغط الداخلي، مما يؤدي إلى بدء جميع مراحل الاحتراق النووي، مثل الكربون والأكسجين والسيليكون. وبمجرد أن يؤدي احتراق السيليكون إلى تحول النواة إلى حديد، ينهار القلب؛ لأنه لا يستطيع دمج الحديد لإنتاج الطاقة، وتستهلك العملية طاقة أكثر مما تنتجها. ومع وجود كتلة أكبر من كتلة القزم الأبيض، يستمر القلب في الانهيار حتى أمام الضغط الناتج عن الإلكترونات. وفي القلب، يُضغَط بحر البروتونات والإلكترونات لتكوين النيوترونات، وفي النهاية يتوقف الانهيار بسبب الضغط الذي تمارسه هذه النيوترونات. ويؤدي الارتداد المفاجئ عند تكوُّن النيوترونات إلى انبعاث موجة صدمية إلى الخارج، مما يؤدي إلى طرد الطبقات الخارجية للنجم في شكل انفجار يسمى المستعر الأعظم. وبهذا يتكوَّن النجم النيوتروني، وهو عبارة عن بقايا نجمية من المقدَّر لها أن تبرد وتتلاشى. وتتسم هذه البقايا بكثافة تفوق كثافة الأقزام البيضاء، حيث تصل إلى ١٠٠ مليار كجم/م٣. وكأننا نقول بذلك إن وزن ديك عيد الميلاد الآن يعادل وزن كويكب صغير.

ما بين ٢٠ و١٠٠ كتلة شمسية: ثقب أسود

تتشكَّل الثقوب السوداء عندما لا يتمكن ضغط النيوترون داخل قلب النجم من الحفاظ على الطبقات الخارجية للنجم. ويستمر الانهيار، مما يؤدي إلى ضغط المادة كثيرًا، ومن ثَم يتولَّد مجال جاذبية قوي للغاية. وفي نطاق مسافة قريبة، تُسمى «أفق الحدث»، لا يمكن لأي شيء الهروب، لا الغبار، ولا المعادن، ولا الغاز، ولا حتى الضوء. ونظرًا إلى أن مجال الجاذبية قوي جدًّا لدرجة أنه سيؤثر تأثيرًا ملحوظًا على قدمَيك أكثر من رأسك، فإنك ستتمدد لتصبح مثل السباجيتي في عملية تسمى «التأثيرات المعكرونية» أو «التمدُّد السباجيتي». يشوه مجال الجاذبية القوي هذا الزمن، مما يجعله يبدو متجمِّدًا للراصد الخارجي. ولذلك ستبدو مثل عود سباجيتي متجمِّد في أفق الحدث، يسقط ليلقى حتفه. في أفق الحدث، ستشعر بالزمن كالمعتاد وسيكون الموت فوريًّا. وسيتحلل جسمك إلى الجزيئات والذرات والإلكترونات والبروتونات والكواركات المكوِّنة له. ولذا يفضَّل ألا تقع في ثقب أسود.

الثقوب السوداء ليست من الأشياء التي يمكنك الاقتراب منها أو إخضاعها للفحص داخل مختبر، وحتى أبريل ٢٠١٩، لم يكن علماء الفيزياء الفلكية أنفسهم متأكدين من شكل الثقب الأسود. وحتى ذلك التاريخ، كانت كل صورة يُحتمَل أن تكون قد رأيتها على الإطلاق لثقب أسود هي محاكاة أو تصوُّر فني لا أكثر، وأزعم أن الفارق بينهما لا يُذكَر؛ فالأمر يعتمد فقط على ما إذا كنت تستخدم في محاكاتك عقلك أم أحد برامج الكمبيوتر. أثار فيلم «بين النجوم» (إنترستيلر) ضجة في المجتمع العلمي بسبب أسلوبه الواقعي في تصوير الثقب الأسود، حيث استُعين بفيزيائيين لضمان التزام المؤثرات الخاصة بنظريات علم الفيزياء.6 وقد أصبح مصطلح «الثقب الأسود» شائعًا في اللغة، على الرغم من أنه يصف ما يبدو وكأنه كيان غير شائع على الإطلاق: فهو نقطة في الفضاء كثيفة جدًّا لدرجة أنه — في نطاق معين — لا يمكن لأي شيءٍ الإفلات من جاذبيتها، ولا حتى الضوء. يشيع كثيرًا التنويه بأن لا شيء يمكنه الإفلات من جاذبية الثقب الأسود، «ولا حتى الضوء»، لدرجة أن هذا المفهوم فقدَ رونقه. فالضوء، بعد كل شيءٍ، يمكنه أن يتحمَّل الكثير. كانت الفوتونات تتجوَّل بحرية منذ الانفجار العظيم، وتتفاعل أحيانًا مع الذرات، وتتعرض لبعض الاضطرابات عندما تسافر عبر أغلفة الكواكب الجوية، ورغم ذلك كانت تكمل رحلتها. يذكِّرني ذلك بواحدة من فِرق العروض الجوية التي تتميز بالتزامن الرائع، حيث تبدأ بتشكيل المجموعات في السماء، والتحليق بسرعاتٍ عالية، ومواجهة الاضطرابات والطقس لتحافظ على تشكيلها الدقيق على مدى عدة أميال. لا يعيق الكون الضوء كثيرًا، ويسمح له بمواصلة رحلته. ففي نهاية المطاف، الضوء هو بطل هذه القصة؛ لأننا نبحث عن الضوء الأول، فضلًا عن كونه الطريقة الرئيسية التي نتبعها في رصد الكون، وكل بطل لا بد أن يكون أمامه خصم. ومن وجهة نظرنا أن الثقب الأسود يلعب هذا الدور. ربما تبلغ السرعة الهائلة التي يسافر بها الضوء ٣٠٠ مليون متر في الثانية لمدة ١٣ مليار سنة، ولكن إذا لم يحالفه الحظ واقترب كثيرًا من ثقب أسود، فإنه يختفي فجأة إلى الأبد. تمثل الثقوب السوداء أجزاءً من كوننا استسلمت فيها الفيزياء القياسية التي نعرفها ونحبها لأخذ قيلولة، تاركةً إيانا على الأريكة مع عمَّة غريبة الأطوار لا يمكن التنبؤ بأفعالها، من النوع الذي «لا يلتزم بأي قواعد».
في يوم الأربعاء الموافق ١٠ أبريل ٢٠١٩، حضرتُ مؤتمرًا لعلم الفلك الراديوي بالقرب من مرصد جودريل بانك، وهو واحد من أوائل هوائيات علم الفلك الراديوي في العالم المصمَّمة لهذا الغرض، مع ٣٥٠ عالِم فلكٍ آخر. كنا نجلس جميعًا في قاعة المحاضرات نشاهد عرضًا حيًّا للمؤتمر الصحفي الخاص بتلسكوب أفق الحدث7 الذي أعلن عن أول صورة على الإطلاق لثقب أسود.8 وشاهدنا المفوِّض الأوروبي للبحث وهو يصرح بأن هذا يعتبر «إنجازًا عظيمًا للبشرية، نحن على وشك التقاط صورة …» وبعد ذلك، بلا مزاح، أصبحت الشاشة سوداء. هل كان هذا ثقب أسود؟ بعد كل شيءٍ، الثقوب السوداء … كلا، لقد انقطع الاتصال ثم عادَ، وفجأة ظهر الثقب الأسود. بقعة قهوة يمتزج فيها اللون الأصفر مع البرتقالي، عين ساورون، أو «بوابات الجحيم» كما وصفها مسئول صحفي مفرط الحماس نوعًا ما. رحنا نصفق من فرط حماسنا وانفعالنا، وذلك لسبيين: أولهما الإعجاز العلمي الذي ينطوي عليه هذا الأمر، والثاني أن الأشخاص الذين نقلوا لنا هذه الصورة هم أصدقاؤنا وزملاؤنا. كنا نعرف مدى الجهد الذي بذلوه على مدى سنوات عديدة لضمان حدوث ذلك، وكَمَّ العوامل التي كان عليهم مواءمتها لإنجاح هذه التجربة الواسعة النطاق. كانت الصورة نتاج تضافر جهود ثمانية تلسكوبات موزَّعة حول الأرض. قبل عامَين، كانت جميع تلك التلسكوبات تنظر في الاتجاه نفسه في آن واحد، نحو كوكبة العذراء، نحو الثقب الأسود الفائق الضخامة داخل مجرة «إم٨٧». وكان مجرد الانتظار حتى تتمتع المواقع الثمانية بطقس جيد يمثل تحديًا كبيرًا. فهذه التلسكوبات لا تحوم في الفضاء في انتظار أن يستخدمها شخص ما، فالطلب عليها مرتفع للغاية، وإذا لم يكن الطقس جيدًا لالتقاط الصورة، فحظ أوفر في المرة القادمة. تُعد صورة أفق الحدث للثقب الأسود الفائق الضخامة في مجرة «إم٨٧» إنجازًا مشتركًا مذهلًا، ومن المقرر أن توفر التجربة قريبًا صورًا للثقب الأسود الموجود في مركز مجرتنا.

لا بد أنك تتساءل الآن كيف نجحوا في تصوير الثقوب السوداء بعد أن علمتَ أنها نقاط لا يمكن لأي شيءٍ الهروب منها. لقد «رصدنا» حتى الآن ثقوبًا سوداء بمساعدة الجاذبية، أي من خلال تأثير جاذبيتها على الكون المحيط. الأمر أقرب إلى اكتشاف وجود شخص مشهور في أحد مراكز التسوق، فمن غير المرجح أن ترى ذلك الشخص، لكنك ستعلم أن هناك خطبًا ما عندما ترى حشدًا من الناس يخرجون من جميع الاتجاهات نحو نقطة واحدة. نحن نعلم أن هناك ثقبًا أسود في مركز مجرتنا؛ لأن النجوم الموجودة في مركز مجرتنا تتحرك كلها نحوه كما لو كانت تدور حول كتلة هائلة، على الرغم من أننا لا نستطيع رؤية أي شيء (أو على الأقل حتى الآن، فمن المحتمل أن يتمكَّن تلسكوب أفق الحدث من تغيير ذلك الأمر). وبسبب قوة جاذبية الثقب الأسود، فإن أي شيء يقع ضمن نطاق معين منه سوف ينجذب نحوه، وعندما يتمزق بفِعل قوى الجاذبية، تشكِّل المادة قرصَ تراكم، يشبه ذلك الذي رأيناه أثناء تكوُّن النجوم. يؤدي الاحتكاك داخل القرص إلى تسخين الغاز، ومن ثَمَّ ينبعث إشعاع يمكِّننا من رؤيته؛ ولذا فما نراه هو ذلك القرص الذي يحيط بظل الثقب الأسود نفسه. على الرغم من أن الثقوب السوداء من أكثر الأجسام سطوعًا في الكون بسبب أقراص التراكم التي تحيط بها، فإن بُعدها عنا يجعل التقاط صورة لظل أحدها إنجازًا كبيرًا.

اتسم هذا الجزء من الفصل بأنه طويل بعض الشيء؛ وذلك لأن الثقوب السوداء مذهلة بصراحة. إنها تتخطى روعة أي حكاية تاريخية أو استعارة بسيطة. تبلغ كتلة الثقوب السوداء الفائقة الضخامة، مثل تلك التي رصدها تلسكوب أفق الحدث، ملايين أو حتى مليارات الكتل الشمسية. أما الثقوب السوداء المتكوِّنة من نجوم منفردة فهي أصغر بكثير، إلا أن حجمها الشديد الصغر لا يقلل من روعتها. فهي بمثابة مصدر الاضطراب المطلق للزمَكان الذي نشغله، ولن نعاني نقصًا فيها لأنها تتشكَّل من معظم النجوم التي تقع في نطاق يتراوح بين ٢٠ و١٠٠ كتلة شمسية.

ما بين ١٠٠ و٢٦٠ كتلة شمسية: مستعر أعظم غير مستقر الأزواج

في هذا النطاق من الكتلة، تصل درجة حرارة قلب النجم إلى مستويات عالية بعد احتراق الهيليوم لدرجة أنها تحوِّل بعض الفوتونات إلى أزواج من الإلكترونات والبوزيترونات في عملية تسمى إنتاج الأزواج. البوزيترونات هي الجسيمات المضادة المكافئة للإلكترونات، مما يعني أن الإلكترون والبوزيترون يمكن أن يَفنيا في شكل طاقة، أو على نحو مكافئ، يمكن أن تتشكل أزواج الإلكترون والبوزيترون من الطاقة. عند إنتاج الأزواج، يفقد الفوتون جزءًا من ضغطه أثناء اندفاعه إلى الخارج. ويؤدي فقدان الضغط المفاجئ إلى انهيار سريع للقلب، حيث تندفع الطبقات الخارجية إلى الأسفل متأثرة بقوة الجاذبية. في حالة النجوم التي تقل كتلتها عن ١٤٠ كتلة شمسية، ينتج سلوك نبضي، حيث تنفجر مجموعة من الطبقات وتندفع إلى الخارج. أما في حالة النجوم التي تزيد كتلتها على ١٤٠ كتلة شمسية (والأقل من ٢٦٠ كتلة شمسية)، فإن سحق المواد الناجم عن قوة الجاذبية يكون كافيًا لينتج الاحتراقُ النووي السريع للأكسجين والسيليكون أثناء انهيار القلب انفجارًا يعطِّل كيان النجم بأكمله. ينفجر النجم بأكمله، ولا يتبقى منه شيء، لا أثر على الإطلاق يدل على أنه كان موجودًا. وينفجر كل شيء في البيئة المحيطة به، بما في ذلك المعادن، مما يجعل هذه المستعرات العظمى غير مستقرة الأزواج موزعًا ممتازًا للمعادن التي تندفع نحو نجوم الجمهرة الثانية. تعد هذه المستعرات العظمى غير مستقرة الأزواج من أكبر الانفجارات النووية الحرارية الموجودة في الكون. فهي تطلق ما يعادل ١٠ مليارات ضعف الطاقة التي تنتجها شمسنا على مدى دورة حياتها. وعلى الرغم من سطوعها، نعتقد أننا لن نرصد الكثير منها بسبب خفوت لمعانها عبر المسافات الشاسعة: ربما لا نكتشف إلا عددًا قليلًا منها خلال مسح مدتُه خمس سنوات.9،‏10

أكثر من ٢٦٠ كتلة شمسية: الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر

تنتج هذه الكيانات، النظرية حاليًّا، عن وجود سحابة غاز في المكان المناسب في الوقت المناسب. ففي حين أن معظم السحب تبرد عن طريق الهيدروجين الجزيئي وتشكِّل نجومًا أولية، سيظل هناك بعض السحب التي لم تصل بعد إلى تلك المرحلة. في حال وجود مثل هذه السحابة بجوار موقع آخر لتشكُّل النجوم، يمكن للإشعاع الصادر عن النجوم الجديدة أن يغمر السحابة، مما يؤدي إلى تفتيت الهيدروجين الجزيئي. يفنى الهيدروجين الجزيئي داخل هذه الهالات المظلمة المجاورة، تاركًا السحابة غير قادرة على التبريد، مما يحافظ على قيمة كتلة جينز عالية ويُوقف التشظي. ثم تنهار السحابة بأكملها في صورة نجم أولي ضخم. وبما أن التراكم يتناسب مع الكتلة، فإن السحابة تتراكم حتى تبلغ كتلتها كتلة شمسية واحدة سنويًّا من الغاز المحيط بها وتنهار بسرعة لتشكل ثقبًا أسود تتراوح كتلته بين ١٠ آلاف و١٠٠ ألف كتلة شمسية. عندما يتشكل الثقب الأسود، فإنه يحتفظ بحوالي ٩٠٪ من كتلة جينز التي انهارت، مما يعني أن كل السحابة تقريبًا تتحول إلى ثقب أسود. أجد هذه الفكرة مثيرة للاهتمام للغاية؛ لأننا كنا نعتقد دائمًا أنه للحصول على ثقب أسود فلا بد من وجود نجم أولًا، ولكن في هذا السيناريو تشكلت الثقوب السوداء الأولى والنجوم الأولى جنبًا إلى جنب. كما يُعتقد أنه تفاعل متسلسل، حيث تُنتج الثقوبُ السوداء ذات الانهيار المباشر إشعاعًا يفصل الهيدروجين الجزيئي في الهالات المجاورة، مما يتسبب في تكوُّن المزيد من الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر. ويستمر هذا حوالي ١٥٠ مليون سنة إجمالًا،11 حتى تطلق النجوم والثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر الكثير من الإشعاع لدرجة أن الغاز الذي يشكِّل النجوم يفنى، ولا يعود بإمكانه تكوين نجوم أو ثقوب سوداء، حتى ينتج عن موت النجوم الأولى معادن للتبريد. وتمامًا كما حدث في عملية رصد تلسكوب أفق الحدث، فإن أقراص التراكم حول الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر ستشير إلى وجودها، ولذا رأينا أنها أمرٌ يمكن أن يرصده تلسكوب جيمس ويب الفضائي.12

الثقوب السوداء ذات الوزن الزائد

نظرًا إلى كتلة النجوم الأولى الهائلة، من المرجح أن تنهي حياتها كمستعرات عظمى غير مستقرة الأزواج أو كثقوب سوداء ذات انهيار مباشر. تُعد هاتان الظاهرتان من أكثر الظواهر سطوعًا في السماء، ولذا كان من المقرر أن تكون لدى تلسكوب جيمس ويب الفضائي على الأقل فرصة لرصدهما. كما أنه يعمل على نحو متكامل مع علم الآثار النجمي: فمن خلال مراقبة موت النجوم الأولى وتصنيف عدد النجوم التي تقع في كل نطاق كتلة، يمكننا معرفة أعلى قيمة للكتلة في دالة الكتلة النجمية، التي لا يمكن وصول علم الآثار النجمي إليها بسبب الأعمار القصيرة.

تعد الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر موضوعًا يستحق الدراسة على وجه الخصوص؛ وذلك لأنها لا تمنحنا طريقة لاكتشاف أعلى قيمة للكتلة في دالة الكتلة النجمية فحسب، بل لأنها قد تساعدنا أيضًا في تفسير لغز أقرب إلى الأرض. توجد من حولنا أدلة على وجود ثقوب سوداء فائقة الضخامة في الكثير من المجرات، وبالعودة بالزمن إلى الوراء — كما تفعل أنت — سنجد أننا قد رأينا ثقوبًا سوداء فائقة الضخامة تعود إلى ٦٩٠ مليون سنة فقط بعد الانفجار العظيم.13 لكننا لا نعرف كيف وصلت إلى هذا الحجم الفائق؟ الأمر أقرب إلى رؤية أحد أبناء إخوتك المراهقين أو بناتهم في مناسبات الأعياد والتعليق بقولك: «يا إلهي، لقد كبرتم (كبرتن) كثيرًا!» تخيَّل لو أنهم ظهروا في عيد ميلادهم وكأنهم في الخمسين من العمر. في هذا العالم الغريب، عليك أن تعرف كيف نموا بسرعة كبيرة ليبدوا في منتصف العمر خلال ١٤ عامًا فقط. فليس هناك ما يكفي من الوقت لتراكم هذا العدد من التجاعيد.
فيما يتعلق بالثقوب السوداء، هناك حد لمقدار الكتلة التي يمكن أن تكتسبها. ومع اكتساب الثقب الأسود مزيدًا من الكتلة، ينبعث مزيد من الإشعاع من قرص التراكم، مما يدفع المواد المتساقطة فيه بعيدًا. وفي مرحلة ما، توازن قوة الطرد الإشعاعي قوة الجاذبية ويصل الثقب الأسود إلى الحد الأقصى للتراكم. يمكننا، على سبيل المثال، أخذ كتلة ثقب أسود من بقايا نجوم الجمهرة الثالثة (تتراوح كتلته بين ١٠ كتل شمسية و١٠٠ كتلة شمسية)، ونفترض أنه كان يتراكم عند الحد الأقصى طوال الوقت (على الرغم من أن هذا غير وارد إلى حد كبير؛ لأنه يتطلب إمدادات ثابتة من الغاز المستخدَم في تكوين النجوم). وحتى في هذه الحالة، أيًّا كانت الطريقة التي تستخدمها لحساب الكتلة، فلن تتمكن من إيصال الثقب الأسود إلى الكتل التي نرصدها.14 ومن طرق الخروج من هذه المشكلة العويصة اقتراحُ أن الثقوب السوداء الفائقة الضخامة تنشأ عن الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر. فالثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر تتحايل على النظام، وتبدأ بكتلة أعلى بكثير: تتراوح بين ١٠ آلاف و١٠٠ ألف كتلة شمسية. ويكون لدى هذه الثقوب السوداء وقتٌ كافٍ لتجميع الغاز لتكوين الثقوب السوداء الفائقة الضخامة التي نرصدها، مما يوفر حلًّا ممتازًا.15 يسلِّط تلسكوبُ جيمس ويب الفضائي الضوءَ على هذا اللغز ويحسمه بشكل قاطع، من خلال السماح لنا بتحديد مدى انتشار الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر وحجمها. وعلى غرار النجوم الأولى، تعتبر الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر نوعًا بحد ذاتها. فهي لا يمكن أن تتشكَّل إلا بعد أكثر من ١٥٠ مليون سنة أو ما يقرب من ذلك، ولذا فإنها نوع آخر مفقود قد يُعاد اكتشافه قريبًا، مثلها في ذلك مثل النجوم الأولى.

موجات الجاذبية

إن تلسكوب جيمس ويب الفضائي ليس التلسكوب الوحيد الذي يهدف إلى تسجيل موت النجوم الأولى. فهناك وجه آخر من أوجه التعاون الضخم بين العلماء، نتجَ عنه مرصد الموجات الثقالية بمقياس التداخل الليزري (يشار إليه اختصارًا بمرصد ليجو).16 ويشتمل المرصد على تجربتَين: في ليفينجستون بولاية لويزيانا، وهانفورد بولاية واشنطن. تهدف كل تجربة إلى الكشف عن الموجات الثقالية (أي موجات الجاذبية)، والتموجات في الزمكان، الناجمة عن تصادم الأجسام الضخمة الثقيلة مثل النجوم النيوترونية والثقوب السوداء. في النسبية العامة لأينشتاين، تصدر الكتلُ موجاتٍ ثقالية عندما تتسارع. يصعب رصد هذه التموجات لأنها ضئيلة للغاية، ولا يصبح حجمها كبيرًا بما يكفي ليلتقطها مرصد مثل مرصد الموجات الثقالية بمقياس التداخل الليزري إلا عندما يدور جسمان ضخمان جدًّا، أحدهما حول الآخر، في اللحظات الأخيرة قبل الاصطدام. عندما تمر موجة ثقالية عبر جسم ما، فإنها تشوِّهه. فهي تشوِّه الزمكان، ولذا يمكنك أن تتخيل موجة تمدِّد الكرة في اتجاه واحد، ثم تمدِّدها في الاتجاه الآخر أثناء مرورها عبرها. صُمِّمت تجربتا مرصد الموجات الثقالية بمقياس التداخل الليزري لقياس هذا التشوه على طول ذراعَين متعامدتَين ومتماثلتَين في الطول. يُرسل ضوء الليزر على طول الذراعَين وينعكس على المرايا الموجودة في نهاية الذراعَين. في حالة مرور موجة ثقالية، يختلف طول الذراعَين، ويحدث تغيُّر طفيف في نمط الضوء الناتج المنعكس. إن التقنية المطلوبة لفعل ذلك هي تقنية استثنائية؛ حيث تُعلق المرايا على أسلاك رفيعة في سُمك شعر الإنسان، وحتى الحركات البعيدة للقمر والشمس تتسبَّب في تأرجح المرايا، ولذا لا بد من وجود مغناطيسات لإبقاء المرايا في مكانها.17
في ١٤ سبتمبر ٢٠١٥، رصدَ مرصد الأمواج الثقالية بمقياس التداخل الليزري إشارة من نظام ثنائي الثقب الأسود، وهو نظام يتكوَّن من ثقبَين أسودَين يدور أحدهما حول الآخر، في اللحظات الأخيرة قبل اندماجهما.18 وأثناء دوران كلٍّ منهما حول الآخر مئات المرات في الثانية، بسرعة تقترب من سرعة الضوء، كانا يرسلان نمطًا مميزًا من موجات الجاذبية يسمى إشارة التغريد (لأنه يشبه تغريد العصافير). يصعب اكتشاف الموجات الثقالية؛ وذلك لأن الموجات لا تصل إلى الحجم الذي يكفي لقياسها إلا في آخِر بضعة أجزاءٍ من الثانية من دوامة الثقب الأسود: يمثِّل تغير طول الذراع عَرض البروتون. ولتكون متأكدًا من اكتشاف بهذا الصغر، عليك التحقق من صحة الاكتشاف. سجَّلت تجربتا هانفورد وليفينجستون الإشارة نفسها في أوقاتٍ مختلفة، لكن لم يكن ذلك إلا بسبب اختلاف موقعَيهما على الأرض. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، نجد أن الإشارتَين قد وردتا في الوقت نفسه تمامًا؛ وبهذا تكون كلٌّ منهما قد أثبتت صحة الأخرى. كان الاندماج الذي اكتشفه مرصد الموجات الثقالية بمقياس التداخل الليزري لأول مرة اندماجًا نجميًّا-نجميًّا: فقد نشأ الثقبان الأسودان بالطريقة «المعتادة» لانهيار نجم تتراوح كتلته بين ٢٠ و١٠٠ كتلة شمسية. ولاكتشاف الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر التي تعود إلى زمن الفجر الكوني، سنحتاج إلى ليزر أكبر. من المقرر إطلاق هوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي في عام ٢٠٣٤، وهو عبارة عن مقياس تداخل فضائي من المنتظر أن يضم ثلاث مركبات فضائية منفصلة في شكل مثلث يبلغ عرضه ملايين الأميال.19 تكمن الفكرة في أن تردد بعض الموجات الثقالية منخفض جدًّا لدرجة أن الأطوال الموجية أكبر من الأرض نفسها، ولذا علينا إجراء عمليات الرصد من مسافاتٍ أكبر. ومع مرور موجة ثقالية، ستتغير المسافات بين المركبات الفضائية تغيرًا طفيفًا. لكن نجاح هذه التجربة غير مضمون في حقيقة الأمر، لا أدري كيف ينام أي من علماء الفلك وهم في الفضاء، فعن نفسي سأكون في حالة من الذعر والترقب المستمرَّين.

•••

من المرجح أن تكون النجوم الأولى قد أنهت حياتها كمستعراتٍ عظمى غير مستقرة الأزواج، أو ربما انهارت مباشرة في ثقب أسود في وقت مبكر من تكوين النجوم الأولية. هناك طريقتان واعدتان لإلقاء نظرة على الفجر الكوني، أو بالأحرى الغسق الكوني، حيث ظهرت النجوم الأولى للمرة الأخيرة. تعتمد الطريقة الأولى على تلسكوب قابل للطي يعمل بالأشعة تحت الحمراء على أمل رؤية المستعرات العظمى، في حين تنطوي الطريقة الثانية على مثلث فضائي قد يرتعش عند مرور موجات ثقالية ناتجة عن تصادم الثقوب السوداء ذات الانهيار المباشر. وكلتاهما تتطلبان دقة في التخطيط والاختبار، علاوة على التمويل اللازم لتنفيذ ذلك. كما أنهما من التجارب التي ستصيب علماء الفيزياء الفلكية بتوتر شديد عند انطلاقهما في الفضاء للشروع في رحلاتهما الطويلة. لكن النجاحات الكبرى لا تأتي إلا بخوض المخاطر. فلو لم يكن هناك غلاف جوي للأرض، لكان بإمكانهم إلقاء نظرة أعمق على أركان الكون الصغيرة، وإماطة اللثام عن حالات الموت الأولى للنجوم، إن لم تكن النجوم الأولى نفسها. وحينها، كان الأمر سيبدو كما لو أن جميع أعياد الميلاد قد جاءت دفعة واحدة.

مراجع مفيدة

  • Bartusiak, M. 2015. Black Hole, Yale University Press, New Haven and London.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤