هريستي وزبوني
شاء صديق لنا أن يدافع عن «عبقر وصاحبها»، فكتب فصلًا ذكرنا بقول ابن القارح في مخاطبته المعري: «فاعجبوا من هريستي وزبوني.» إنني أشير على الأدباء والمتأدبين أن يقرءوا ذلك المقال الكيِّس، ليتعلموا أساليب الرد المدملك، والنقد المفذلك، وخصوصًا «الأدب» بكل ما تتحمل هذه اللفظة من معانٍ.
طرح صاحبنا شبكته في حوضنا، فخرج له أخطبوط وتوتيا وسراطين، وغير ذلك، وفزنا نحن منه «بالأسماء الحسنى»، سبحان مَن هي له! فاسمع بعضها، جلَّ شأنك: مجنون، سطحي، ضيق الصدر، بليد، منهوك الأعصاب، فج غير ناضج، حجر، مكشِّر … إلخ. فأنا كما نعتني هذا الكامل وزيادة، فمَن سمعني قلت إنني فرفور، وكيوسف الحسن في الجمال والبهاء؟
الخلاصة ما خلَّى صاحبنا ولا بقَّى، وكأنه استحى أن يخلع عليَّ لقب سميِّي مروان الجعدي، فقاله بمعناه لا بحروفه، وهو لو فطن لكان تهجَّاه كما كنا نفعل صغارًا. رحم الله طريح بن إسماعيل الثقفي الذي قال: «عقول الرجال تحت أسنان أقلامها.» ولكن شيئًا من هذا لم يكن، فجلُّ ما فعل صاحبنا، إنه حاربنا بسلاحنا، فمسخ صورنا، ناسيًا قول المثل: الحديث المعاد، والطبيخ المزاد …
قيل: سأل البحتري ولده أبا الغوث، عن الفرزدق وجرير أيهما أشعر، فقال: جرير. قال: وبِمَ ذلك؟ قال: لأن حوكه شبيه بحوكك. قال: ثكلتك أمك، أَوَفي الحكم عصبية؟!
وإلا فلماذا يكتب بديع زماننا بالمسّاس؟ هل ظن جلدي متمسحًا؟ قيل لي إنه مسخر، فكدت أصدق، ولكن قوله «إنني لا أجد حسنة في الأحياء، وأجدها كلها في الأموات.» نمَّ عليه وذكرني ما كنتُ نسيته. لهذا قصة ستذاع في حينها، وفيها خير كثير عند مَن يدري ويعنى بالأدب، فكثيرون منا يرون أنفسهم دنيا المتقدمين والمتأخرين، قُلْ:
ولهذا لا نحمل حقدًا على أخينا كما خشي، ومَن يحقد على الدنيا جميعًا … كان من المجانين.
عاب عليَّ أخي نقدي النحو واللغة فلم أستغرب هذا، فكلنا يعلم أن مَن يعجز عن مصِّ العظم يستطيب الحريرة، غفرانك اللهم، أأنا «مغربي» لأعالج الأدب بالبخور القاطع، والبخور المانع، والبخور الشافع، والمرار الهندي؟ ثم اخضخض الدواء قائلًا للمريض: اشرب وتوكل على الله، وادعُ للحاج إبراهيم!
إننا ندع هذا «للمغاربة» الذين يحملون الأعشاب بالخرج، وينادون في الضياع: دوا للعين، دوا للحبَّة، دوا «للربَّة». أما نحن فلا بد للمريض من أن يزور كل مختبراتنا، فهناك فحص الدم وتحليله، وتصوير العليل، ودرس السلالة، فللإرث عمله في الأدمغة كما نعلم، ومَن لا يصبر على هذا فلا يشرف محلنا. لا ننكر أننا نلجأ إلى الفصاد إذا رأينا «الضغط» عاليًا، ثم إلى الكي إن كان آخِر الدواء، فلا صديق ولا خليل في المختبر.
إن «مبذرنا» يفحص إفراديًّا، والبذرة المذرة غير الصالحة للتفقيص تُنفَى خارجًا، فالنقاد «الصخور» لا يحركهم إلا ديناميت الفن، وإن صدق ظني فعندي منه على الرَّفِّ، ويومئذٍ يرى هذا المحبُّ أننا لا نجنف عن طريق الحق، نرذل الأحياء الأموات، ونمجِّد الأموات الأحياء.
فهذه الهيصات والهمرجات، وحُكَّ لي أحكَّ لك، تذهب مع الهواء السارح، فمهما دافعنا عن أحبابنا فهيهات أن نرد قضاء الأدب فيهم، وإن وقيناهم فإلى حين كما يعالج الطبيب تهوُّر القلب. لسنا نلعب بالسيف والترس، وليس النقد تهريجًا وبهلنة وألعابًا كالتي يقوم بها داهش وسالمون … إن إمامة الأدب لا تؤخذ بالدعاة والأنصار، وما هي بيعة مساء. قد يصير الرجل الخامل ملكًا أو إمبراطورًا أو ديكتاتورًا، أو بابًا كما حدث ويحدث في التاريخ، أما أن يصير أديبًا معدودًا، أو شاعرًا كبيرًا، فهذا لا يأخذه إلا بحقه، أما حقه فالابتداع، فمَن أراد أن يدخل ملكوت الأدب فَلْيبدع، إن الصنوج والمباخر لا تفتح بابه لأحد.
لا يكون النقد والرد مهارشة، والسب والشتم لا يدحضان حجة، فدانتي أفهمنا في أول سطر ما سوف يعترضه من أهوال، أما الشاعر شفيق المعلوف فاستعار ابتداء الخيام، ولكن ابتداء الخيام يدل على مذهبه، وكلام شفيق أنبأنا أنه سيكون خياميًّا، فإذا به يصير كمار بولا أول الحبساء.
هذه الكلمة وحدها استحقت هذا الرد، ولن نجيب — فيما بعدُ — إلا مَن يقرع حجتنا بالحجة، فعمرنا قصير والعمل كثير، نريد أن نفتش عن الأدباء الحقيقيين لنُجلِسهم على كراسيهم، ونُقصِي مَن لا يستحقون الوقوف في الدار، هذا كان في نيتنا، ولا يزال منذ احترفنا النقد.
وا عجبًا! بل ألف وا عجبًا! كيف يفرقعون والمكاوي بالنار؟! يهولون علينا بأسماء أجنبية طويلة، كأننا نخاف من طول أسماء الأعلام وغرابتها. إن شيء الغريب حلو، كما يقولون، ولكن في عين غيرنا، أما نحن فنحترم هذه المخاخ الكبيرة ونجلُّها، إننا نزورها كغيرنا لنستنير لا لنأخذ، فقد نسايرها وقد نعارضها، فلها كلامها ولنا كلمتنا، والحكم للتاريخ. إننا نشتغل للدهر العتيد، ولخدمة الجيل الجديد، نشتد على الكبار لنهذِّب الصغار، فقُلْ: ربِّ لا تجعلني عبرةً لغيري.
إنني أسمع وأنظر وأقرأ، وأقول كلمتي — كما تفهم بلادتي وبلاهتي — فإن اعوججت فحسبهم أن يقوِّموني لا أن يصارعوني ويناطحوني، لهم أن يَسْخَروا بما أكتب ما شاءوا، أما شخصي فَلْيعفوا عنه كرمًا ولطفًا، وهَبْ أنهم فعلوا ذلك فلا بأس عليهم، فأنا أحمل خشبتي منذ سنوات فلا أجد مَن يصلبني عليها …
وعلى كلٍّ فالشكر لنقد عبقر الذي نفَّسَ عن هذا الوعاء وإلا لكان انشق.