ثلاثة دواوين للعقاد
(١) وَحي الأربَعينَ «نمط (موديل) ٣٣»
لا أدري لماذا يحل بنا الفزع الأكبر وينخلع قلبنا كلما ذُكِر أدباء مصر الفرعونية، أغولٌ هيَ؟ أتضرُّ الأدب العربي شيئًا هذه الفرعونية التي يتبجَّح بها بعضهم؟ يا ليت شعري أين هي؟ ومَن يدلني عليها وله مني دنيا أعرض من الجنة؟
ومَن يخلقها؟ أهؤلاء الذين يفتشون عن دفاتر جدودهم العتيقة؟ أليست أكثر منسوجاتهم أكفانًا مغسولة مبسطة؟ إنهم لم ينبشوا بعدُ ناووسًا واحدًا مصريًّا لأنهم عاجزون عن الخلق، وهذه آثارهم تدل عليهم.
سألني واحد كيف تجد فرعونية طه حسين؟ قلت: لا أهتم ولا أنصب مما يقوله الأستاذ ويدعو إليه؛ لأنه هو لا يعرف ماذا يريد، فأقصى أمانيه أن يذكره الناس، وخير زلفى للشهرة عنده هذا البدع، ليته يرينا نموذجًا من هذا الأدب الفرعوني الذي يحلم به فنجعله فرعونًا جديدًا في دولة القلم، وهل إذا ذكر المصري رع، وأبيس العجل الإله، واللبناني أدونيس وقدموس والزهرة نسمي أدبهما فرعونيًّا فينيقيًّا؟ إذن الفرد دافيني عبراني فقد نظم موسى، وبنت يفتاح، وشمشون وغير ذلك. والأخطل جاهلي وثني لأنه حلف برب الراقصات، بالهدي المحمرة مدارعها. وإذا شئنا الرد على كل ما يقوله طه حسين فني الزمان وما انتهينا، ما لنا ولطه؟ هذا عارض من حُمَّى الشهرة يعاوده كل سنة. لقد صدق المتمشرق التركي — إسماعيل أدهم — حين شبَّهَه بولد ورش يخرب آنية البيت ويشوش نظام متاعه، حتى إذا غضبت أمه وهزَّ له أبوه القضيب، استدار وقبع في الزاوية يضحك كأنه يبكي.
لا أنكر أن الأستاذ طه دكتور بلدي من الجامعة المصرية، ودكتور سربوني من الحي اللاتيني، وأمس حاز واحدة أخرى ويحوز أيضًا، الله كريم، ولكنه ولو نكح من هؤلاء الجامعيات ما طاب له رباع وخماس يبقى خير ما عنده أنه شيخ أزهري يستطعم كلام العرب. ربما صار طه رئيس الجامعة المصرية لا عميد إحدى كلياتها، ولكن كل ما خلق الله وما لم يخلق من ألقاب لا يمنعني من أن أعده مشاغبًا في دولة الأدب يشغلها بما لا طائل تحته. إن قلت أزرق قال أحمر، وهلم جرًّا. فخير البر السكوت عن شنشنته.
لا تعجب إنْ ذكرنا طه في معرض كلامنا عن العقاد؛ فقد كان بينهما — في أيام العز — محالفة هجومية دفاعية، أما اليوم فلا أدري ماذا فعلَتْ بهما الأيام.
موضوعي اليوم العقاد الشاعر، خبَّرُوني أن له — غير دواوينه الثلاثة التي بيدي — أربعة أخرى سمَّاها «الديوان»، كما سُمِّي نحو سيبويه الكتاب؛ إذن للعقاد سبعة دواوين، لك أن تسيمها ضربات بني إسرائيل السبع، أو سبع بقرات فرعون العجاف، أما أنا فهي عندي كرجال الكهف تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، لو اطَّلَعت عليهم لولَّيْتَ منهم فرارًا، ولملئت منهم رعبًا، فإياك أن تفعل كمعاوية …
وبعدُ، فَلْنَعُدْ إلى الثلاثة وأوَّلها «وحي الأربعين»، وإخاله سمَّاه كذلك تيمُّنًا بالأنبياء الذين يكلفهم الله برسالته في هذا العمر، لا عملًا بقول الشاعر: وماذا تبتغي الشعراء مني …
فالعقاد — متَّع الله الأدب بطول بقاه — سيلزم باب ربة الشعر، ولو فات المائة والأربعين وردَّه الله إلى أرذل العمر، فهو شاعر برغم أنفي وأنفك وأنف كل مَن نطق الضاد، يرِدُ الفراتَ زئيره والنيلا …
أما الديوان الثاني «هدية الكروان» فالأستاذ يستسفر فيه نفسه عنا إلى عالم الطير، جعله «بعض الهدايا التي يتصل بها السبب بين عالم الطير وعالم الشعراء.» (ص١٠)، فعسى أن تذكر الطيور أن الهدايا على مقدار مهديها، فتقبلها منه وتئوِّب معه.
أما ثالثة الأثافي فآخِر ما أنزل على قلم مولانا الجليل، وعنوانه «عابر سبيل»، اتضع الأستاذ في مقدمة هذا الديوان وأفهمنا أنه يؤدي رسالة الحياة الحاضرة، تلك رسالة هذا الديوان الجديد «عابر سبيل» وهو اسم يدل على مرماه، ولست أقول أنه أدى هذه الرسالة ولكن أرجو أن يقنع القرَّاء بأنها رسالة قابلة الأداء (ص٨).
ولكنها يا سيدي المتصابي، ستظل في شباك البريد بشرط التأدية حتى يقبض الله لها مَن يؤديها. العقاد ككاهن ذَرِب اللسان يحفظ التوراة والإنجيل والكتب البيعيَّة كلها، فيحسن الوعظ والإرشاد ولكن غرائزه تعوقه عن العمل بما يعلم ويعلِّم. إنه الأستاذ القدير حين يضع دساتير الفن بمرسوم أو إرادة سنية، ولكنه يعجز عن المطابقة لأن الشعر سليقة، وإن صقله المرن بعض الشيء، كما توهَّمَ العقاد، فلا يجعله شعرًا، وبرهاني أن الأستاذ الجليل بلغ الخمسين من عمره المديد ولا يزال نظمه كما كان.
كان بشار بن برد جالسًا أمام بيته وبيده مخصرة، وأمامه طبق تفاح، فحاول أحدهم سرقته فضربه على يده، فقال له الرجل: أنت أعمى؟ فتكشَّر أبو عبدة ضاحكًا وأجابه: يا أحمق، وأين الحس؟ إن في الشعر شيئًا أُدرِكه إدراكَ بشار ولا أدري كيف أعبِّر عنه، ولكنني أشهد أنني لم أحس بشيء منه عند العقاد.
أقرأ مقدمات دواوينه فأصيح: يا بارك الله! أحسبني أمام شاعر لا يجارى، حتى إذا تجاوزت الوصيد رأيت شعرًا هزيلًا كذئب البحتري، وظننتني أقرأ دفاتر المتمرنين في الصفوف الوسطى لا نظم أديب كبير. إننا لفي زمن كثرت فيه «الأصول» فأكثر الشعراء يضعون لنا في صدور كتبهم خريطة دنيا وحيهم لئلا نكون من الضالين، والعقاد أول مَن فعل هذه الفعلة، يقول في مقدمة «وحي الأربعين»: إن «التعبير الجميل عن الشعور الصادق» هو حد الشعر. فَلْنجعل هذه التميمة في أعناقنا، لعلها تنفع وتقينا شر توابع العقاد.
هذا كلام أحلى من العسل، ولكن هل استطاع العقاد شيئًا من هذا؟ نعم، لقد طبَّق مفصل الشق الثاني، أي الشعور الصادق، أما الشق الأعلى — التعبير الجميل — فيعجز عنه ولو عمَّر مثل نوح.
لستُ أشك بشعور العقاد الصادق، ولكن هذا لا يكفينا، إن هذه الحجة لا تقلي عجة، كثيرون جاءونا بها فما غفرت لهم وزرًا. ليت للعقاد شيئًا من التعبير الجميل فيستر به هذه العورة! أما الإخلاص وحده فلا يفتح باب الخلود، لا بد من الفصاحة وحسن التصوير في الفن، وإلا فهيهات أن يدخل العبد ملكوت العبقريين.
قال العقاد في كتابه «الفصول»: «الكلام العاطل ليس أدبًا، وإنما الذي يستحق ذلك هو الذي يكسو الفكرة ثوبًا من الجمال والجلال.»
فأين الجمال والجلال في هذه الكتب التي يسميها دواوين شعر؟ هذا نسل معوه يحتاج إلى وقف ذرية ليعيش؛ فَلْيوصِ به الأستاذ أمينًا من بعد العمر الطويل. لست أجحد تجديده في العناوين، فوحي الأربعين وهدية الكروان وعابر سبيل أسماء لا يستهان بها، وليست بالشيء القليل، قد فعل العقاد كشعراء العالم اليوم، ولكن الملبوس لا يصيِّر القسوس. لا يغضب العقاد أن نصارحه بما في نفسنا، فهذا شعر جاف كأنه الحطب اليابس، ويا ليته الحطب فيخرج نارًا ونورًا! فما هناك إلا دخان يعمي الأبصار قبل أن تأتي السماء.
كأني بهذا الفقير حين وضع حدود الشعر والشعراء للناس قد وقف أمام المرآة، فوصف لنا ملامح تخيَّلها في ذاته الكبرى، فقال: «ولكن المبتدع مَن يكون له ينبوع يستقي منه كما استقوا — أي القدماء — ولا قِبَل بذلك إلا لمَن كان له سائق من سيلقته يهديه إلى مواقع الماء، وبصر كبصر الهدهد، يزعمون أنه يرى مجاري الماء تحت أديم الأرض وهو طائر في الهواء.»
يتوق العقاد أن يكون الهدهد أو زرقاء اليمامة، وهذا هو «الشعور الصادق»، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، فتجمَّلْ يا صاحبي ولا تنسَ أن الله مع الصابرين! إن نيتك حسنة جدًّا، فلعل الآلهة ترقُّ لك وتعرف بابك فتزورك ولو مرة، فلا تروح من هذه الدنيا وفي قلبك شيء من حتى. انظم ولا تيأس من رحمة الله، فلولا تسمع مني وتسهر ليلة القدر لعل الفن يهبك من لدنه وليًّا!
ويقول العقاد: «لكل ذهن جلوة، ولكل طبع بارد سورة، والريشة الميتة قد ترفعها الريح إلى حيث تحوم أجنحة الكواسر.» ثم يقول: «نحن عسيُّون أن ننظر إلى ذلك الشعر، فإن كان صادقًا مؤثرًا فهو من شعر الطبع، وإلا فهو من شعر التكلف.»
هذا بعض ما قاله في مقدمة ديوان حليفه المازني، والعقاد — كما قلت — من أفهم كتَّاب مصر للفن، إنه لم يغفل شذرة مما قاله الأجانب فيه، ولكنه — وا حسرتاه! — غير فنان، فهو حرٍ بأن يُرثَى له، وماذا يصنع إن كان شيطانه حرونًا؟
والعقاد يحدِّد الشعر في «خلاصة اليومية» هكذا: «ليس الشاعر مَن يرصع قصائده بما يبهر ويخلب من الخواطر البرَّاقة، والمعاني الخطابية المتلألئة، وليس مَن يزن التفاعيل، ولا صاحب الكلام الفخم واللفظ الجزل، ولا مَن يأتي برائع المجازات وبعيد التصورات، فالأول ناظم أو غير ناثر، والثاني كاتب أو خطيب، والثالث رجل ثاقب الذهن حديد الخيال، إنما الشاعر مَن يشعر ويُشعِر.»
ونحن نقول: إن الشاعر غير مَن يحب الشعر، والعقاد يحب الشعر حتى الاستشهاد، ولكن ما الحيلة وجنة الشعر مفتاحها البيان؟ ما قول الأستاذ بجميلة مزينة نظيفة، وبأخرى تحاكيها جمالًا ولكنها منخرقة السربال علقت بأردائها روائح القتار، صفراء الوجه من وقود الأدخنات كقوم جرير؟ يضحكني جدًّا أن أراهم ينشدون خمرة التجديد من معصرة الأوزان والقوافي والأغراض، فما هناك الشعر، إن النفس واللسان يخلقان الفن لا المدارس والدرس، فما بضاعة العناوين التي ترعب إلا طلاسم ورُقى، وما أشبهها بصرر اليوم المغشاة بورق القصدير البراق.
لا يراود آلهة الفن الرفيع عن نفسها إلا العبقري! وما أحلى البله والجنون إذا كانا عبقريين. وإن يعجبني في العقاد شيء فهو هذا الإيمان المكين بفنه، إنه كأولئك المتهجدين في دنيا الفن يقومون الليل إلا قليلًا، على رجاء الساعة التي يحملون فيها كتابهم بيمينهم.
كاد العقاد يكون منقطع النظير، فهو كثير الاطلاع ثاقب الفكر، يناقش أكابر مفكِّري العالم، ولكن تعبيره الشعري ليس كما يجب، فانحطت منزلته قليلًا عن شكسبير وغوت، ولا نقول راسين وهيغو؛ لأنه يرى الشعر الفرنسي جلجلة، وهو لا يحب أن يقعقع بالشنان.
إذا طالعت دواوينه الثلاثة — التي أنفق على تحبيرها برميل حبر وقنطارًا من الورق وغابة من الأقلام — تحسبه سمسارًا يصدر شعرًا في دواوين، وبضاعته أشكال وألوان، فكأنه دكان الضيعة فيه جميع حوائج البيت. وليس الذنب ذنب الأستاذ، فهو عارف بأصول الفن، ولكن الكلام يتعصَّى عليه، وفنه كقناة عمرو بن كلثوم لا يلين ويشج قفا المثقف والجبين، نفسه تطلب ومعدته لا تقطع، فيقعد ملومًا محسورًا.
خُذْ هذا العنوان الرائع «عيد ميلاد في الجحيم»، فماذا ترى في تلك القصيدة وهي من خير وحي أربعينه؟ بيانًا دون الوسط، وشعرًا أجش تغلب عليه صنعة النثر وصبغته، وعلى ضوء قوله: «إنما الشاعر مَن يَشعر ويُشعر.» رحت أفتش في جحيمه ولا فرجيل يهديني، فما وجدت خيالًا يرضيني، ولا شعورًا يسلِّيني، فعدت بخيبة أردد: ما لي لا أرى الهدهد …
القصيدة غراء فرعاء مصقول ترائبها، ولكنها مقعدة، تخلو من الاهتزازات والنبرات والصدى البعيد، كأنها الشوحة في إسفافها. أنكون في جهنم ونبرد؟ أنحضر عيدًا ونحزن؟ ثم نقول: إن الشاعر مَن يَشعر ويُشعِر!
إذا تصفَّحْنَا «وحي الأربعين» رأيناه مبوَّبًا أحسن تبويب، فيه تساوق أكَّد لي أن العقاد يفتش عن مواضيعه تفتيشًا، بل هو ينظمها ليسد بها فراغًا، ويملأ بياضًا معلومًا من الورق يخرجه كتابًا للناس. وللأستاذ فلسفة، بل الأستاذ يحب الفلسفة جدًّا، وفلسفته لا مطَّ فيها ولا عطَّ، مَن شاء فليؤمن … اقرأ فلسفة حياة (ص١٧)، فهي تتناول الكون وما وراء الكون: الإله، الخلود، السعادة في الدنيا، الخير والشر، الحلال والحرام. كل هذه المعضلات يدرسها الأستاذ الأعظم في خمسة عشر بيتًا فقط، وهذا كثير، فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ. وهأنذا أذكر لك الخاتمة لتذكرني بها:
بخ، بخ، إلا اثنتين فلا تقربهما أبدًا، هذا هو الكلام، وهذا هو التعبير الجميل عن الشعور الصادق، حد الشاعر العظيم والشعر الرفيع.
هذه آية صغرى من الباب الموسوم «تأملات في الحياة»، وهناك أشياء غيرها لا تحصى. في هذا الباب خمسة وثلاثون عنوانًا في ستٍّ وعشرين صفحة منها هذا العنوان: «إنذار الغضب إلى الحق المحتجب»، وقد فهمت معناه فما هي اللفظ إغراب، ذكرني هذا السجع بطالب اسمه كنعان، سأل رفيقه أن يكتب له سجعة في أول كتابه كعادتهم في ذلك العهد، فكانت: يا رب يا رحمن احفظ عبدك كنعان. فزاد عليها صاحبنا اسم والده الكريم وضيعته فصارت: يا رب يا رحمن احفظ عبدك كنعان ديب من دلبتا. أما العقاد فحافظ على روعة السجع وبلغ الحق المحتجب هذا الإنذار الخطير:
فأي وليد لا يستحي بشعر كهذا؟
وفي هذا الباب ثلاثيات ورباعيات كرباعيات فيلسوف العراق المرحوم الزهاوي، اسمع قول العقاد:
وعندي أن الزهاوي قال أحسن من العقاد ألف مرة يوم نظم:
وتحدَّث الإمام عن النور فوفَّقه الله إلى بيت عليه مسحة شعرية، ولكن بعد زحير كزحير إمام عصبة أبي نواس في محرابه، فقال:
فكأنها خمرة ابن الفارض فما سكنت والهم يومًا بموضع …
ها نحن على وصيد الباب الثاني وعنوانه «خواطر في شئون الناس»، فَلْنقف قليلًا عند ثلاثة أبيات عنوانها «عدل الموازين»، ولا تعجب لكثرة العناوين وقلة الشعر فالحياة قصيرة، والأستاذ يريد أن يقول في كل فنٍّ ومطلب:
أما عدم عدل الموازين بين الحليِّ وأحجار الطواحين، فلا يكون إلا إذا كان ناصبوها بهاليل. ليت الأستاذ وضع هذه السفسطة في ميزان منطقه، ووضع قبالتها العيار ليعرف قيمتها، وقد أضحكني بعدها بيتان عنوانهما «شطور»:
أتقول لي ماذا ينظم الأستاذ؟ وأية فكرة يخرج لنا هذا الهدهد المتوَّج؟ اللهم أين أنت، أأخرجت أبوينا من الجنة لتنزل بنا هذه الدواهي؟
وكأنه يعارض أخاه ابن الرومي بهذين البيتين، فاسمع لعلك توافقني:
ثم لا يحجم عن نظم الكلمات المأثورة مثل: اعرف ما ترميه تعرف ما تجنيه، فيقول:
رحم الله أبا العتاهية وساحة الملوك، وليسمح لي الأستاذ أن أذكره أنه وقع هنا بما خطَّأ به جبران من تَرْك الجزمِ بمَنْ، ولكن فَلْينعم بالًا فهذا جائز، كما قلنا منذ أعوام.
وفي شعر الأستاذ كثير من الرجع المعدِّ والرواسم البالية، وإن لم تكن هذه جاء بكلام كأنه الحديث كقوله في تكاليف العظمة:
قلت: إن العظماء لا يحتاجون إلى مَن ينصفهم، فهم يأخذون حقهم غلابًا لا التماسًا، إنهم يفرضون أنفسهم فرضًا على الناس كما قال بودلير.
وقال الأستاذ بيتًا في العبوسة ينمُّ عن نفسه الكبيرة:
أما حكمته في مصائب النخوة:
فنيتشيَّة عربية، والأستاذ ممَّن قرءوا الاثنين.
وهذا باب ثالث عنوانه «قصص وأماثيل»، افتتحه الأستاذ بأسطورة أكاروس اليونانية، فقال في هذا الموضوع قصيدة هي أطول منظومات «وحي الأربعين» تدل على طول نفَس الناظم، وإنْ ذكَّرَتْنا بعض قوافيها بيوم عصبصب وهلوف. وما عليها، فللشعراء العظام مثل المتنبي وغيره هفوات بلاغية كهذه. لا تخلو القصيدة من شعر رصين ينسينا بلادة ما سبق من الفلسفة الرخيصة الركيكة، وقد لفت نظري منها بيتان لسبب أذكره لك، البيت الأول:
شرحه العقاد هكذا: أي إنك إذا طرت للأمام أو إلى فوق، فالمطار واحد، ولكن المطار إلى فوق لا يقربك إلى قصدك، وإنما يقرِّبك إليه أن تطير إلى الأمام.
والبيت الثاني:
وهذا شرحه: لا يحب الأب أن يموت ابنه قبله، فيكون كالغد الذي غرب قبل أمسه.
قد رأيت العقاد في هذه الشروح والتعليقات يفعل فعل المكاري حين يسعف بغله إذا أسند في الجبل وركَّ تحت الحمل، فيا لضيعة التعب!
ثم تأتي قصيدة «هو وضميره»، فإذا بها حوار على طريقة الشاعر الإنكليزي هاردي، ثم تليها خير قصائد الديوان تفكيرًا وتعبيرًا وتلويحًا وإيماءً ورمزًا، عنوانها «كعبة الأصنام بعد الزلزال»، إنها خير ما قرأت للعقاد بعد تلك اللعب التي ضيَّعَ وقته في نظمها وقتلنا بقراءتها، فهنا مسرح خيال وفكرة شاعر. ولكن إذا قِسْنا الأستاذ على قوله السابق: لكل ذهن خامد جلوة، ولكل طبع بارد سورة … إلخ. وجدناه لا يستحق لقب الشاعر، لينتظرْ لعل الله يفتح عليه بشيء آخَر.
ليته يقلِّل من إدخال المضارع على المضارع كقوله: لم أَشَأْ أهجرها، فهذا قبيح.
وتليها قصيدة بين الشاعر وعروس شعره فيزجرها بقوله:
انعم بالًا يا أستاذ، فليس في الموت شماتة، إن عروس شعرك عانس ولا أدري أعليك الحق أم عليها، فلا تفلتها متى أقبلت، ولا تقل لها كأبي تمام: ليس ذا وقت الزيارة. فأعذب الأكل القنص، افعل ولا حرج.
أما الخيم فمخمَّة في الشعر، ومثلها «أبخع نفسي حزنًا كمَن بخعا …» أَلَا تراها بنت عمِّ الهعخع؟ وإنْ جاء، فلعلك باخع نفسك، فالشعر غير النثر.
وأثقل منها هذه اﻟ «حفزت» و«حفزي» في قولك:
إن هذه الزعارير في الشعر العقَّادي فوق العدد والحساب، ولو شئنا استئصالها جميعًا من شعر «أمير الشعراء» لاستعنا ﺑ «جَلَم» الأستاذ كافور.
«وحي الأربعين» أيضًا
كدت مرات أكفُّ يدي عن قصاع العقاد فنفسي لا تشتهيها، والغريب أن نفسي ما كانت قطُّ عيوفًا، فلماذا هذا الغنج والدلال؟ إنها غير ملومة، أما قطعت جهيزة قول كل خطيب، واختارت معارف مصر ديوانًا لعلي الجارم ولم تختر للعقاد غير النثر؟ يا ليت أمر هذا الاختيار يصير إليَّ لأوجب على معاهد العالم العربي جمعاء تدريس دواوين العقاد ثلاثتها، فيكون لنا منها ألفيَّات فلسفية علمية تفوق حقًّا ألفية ابن معطي، وهكذا يتكافأ عصرنا وعصر ابن مالك والشيخ ناصيف اليازجي!
أليس عجيبًا أن أخرج من هذه الدواوين كما تخرج الشعرة من العجين، لا يعلق بذاكرتي بيت واحد؟ وإن تحلِّفني حلفت لك، غير آثم بربة شعر العقاد، فيا ضياع تعب سيد قطب! لقد خسر قوة تذكر في تمشيط الأستاذ وجلوته … فتعمقه في درس «غزل العقاد» لا يقل عن تنطع مار توما في تحقيق الثالوث الأقدس وإثباته.
لا يستبعد أن يكون في «غزل العقاد» تلك الشخصية التي كشف عنها الغطاء سيد قطب فأرانا ستة وجوه، لو يشتد أكثر لسبَّعها وكان لعصرنا رؤيا جديدة وتنين جديد. قد يكون لشخصية العقاد هذا المدى البعيد، ولكنها — يا ويحها — شخصية بلا شعر؛ فبيانه لا يطاوعه، ويده لا تؤاتيه، وهو شاعر بعينيه فقط، والحرب هيِّنة على النظارة.
هذا رأينا في العقاد، أما العقاد فيحلم، وهو راقد في الظل الخلف البنفسجي، بأن سيقوم في أعقاب الدهور، عند ظهور الإمام الذي يملأ الدنيا عدلًا، عقاد آخَر ينتبه لمحاسن عقَّادنا الحاضر، ويفلي شعره كما فلَّى هو شعر ابن الرومي. فإن صحَّ هذا الحلم وأصبح الشعر رصينًا يزدري الموسيقى والرقص لأنهما يخففان الوقار، صار عباس محمود العقاد أول الشعراء الأربعة، وإلا بقي ثالثهم — لا أقول رابعهم — لا يبرح مكانه الذي وضعناه فيه حتى تقوم ناقة صالح، ويَهِبُ كافور للمتنبي ضيعة أو ولاية.
نحن الآن عند باب «وصف وتصوير» من وحي الأربعين، وفي وصف العقاد غنة دموسية حلوة، يطالعك بها الفتح المبين في مشروع حليم الجديد، أي تحويل شعر القرآن نظمًا، وإليك منه نموذجًا بلا ثمن. قال حليم ينظم سورة البلد:
ليت صاحب الملحمة الجديدة تعقَّل فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فدونها ما جاء في الآية الثالثة عشرة من هذه السورة، أي فَكُّ رَقَبَةٍ — بالمعنى الأصلي اللبناني.
أما مولانا العقاد فيصف خليج ستانلي أو حمامات البحر في الإسكندرية على النمط الدموسي، فيقول في وصف المستحمات:
ومنها:
قد أفاض غيري في تحليل القافية الأخيرة فلا أدنو منها، بل أدبر وأنصرف كقزح، وإن أهاب بي العقاد:
أجبته: تعذرني وأنت كريم، فقافيتك تستغيث بموت المتنبي وعوده.
أرأيت الخرابيش التي يسميها هذا الفقير تصويرًا؟ إن الشاعر يجسد الجماد ويريك الأساطين عذارى مائسات، كقول شوقي في «أنس الوجود»:
لا فرق بينهما سوى أن أحمد شوقي يُحيِي، وعباس العقاد يميت، سيحشرني العقاد مع الذين مدحوا أحمد شوقي لأنه هو نقده، أما أنا فأتلو عليه آية الأعشى:
أَوَتَرَى الحياة — يا أمير نفسك — مائجة صاخبة في حمامات الإسكندرية فما تزيد على أن تنصب قلبك هدفًا؟ الفنُّ يا معلم، هو أَسْر هذه المشاهد الهاربة وحبسها إلى الأبد بين دفتي كتاب، أو صلبها على لوحة، أما أنت يا صاحبي:
فبدلًا من أن تصف لنا الجمال الزاخر الذي تغنَّيْتَ به في نثرك، وناقشت أكابر المفكرين، رحت تسجِّل نظمًا ماجريات رخيصة تذهب مع الدويِّ، وما تفيد إلا الدلالة على أنك تفهم الشعر كلامًا أبعد غاياته مطابقة الصرف والنحو والعروض، فما عذر زورقك الشعري، والرياح تجري كما تشتهي؟ إذا كنت تضحي وتخصر، كعمر صاحب نعم، فهلمَّ إلى قطرنا، إلى حمامات طبريا، فلعل قريحتك الجامدة تسيل.
وتحت عنوان «القمراء» يعارض العقاد صاحبه ابن الرومي في: «تبرجت بعد حياء وخفر»، فيقول بيتين جيدين:
لقد قللت «في الليل» من وقار البيت وجلاله، والعقاد يعلم أن القمر سراج الليل المنير ولا يطلع نهارًا، ولكن الوزن استقام بها، وهو لا يرمي إلى أبعد من «التعبير الجميل» في الفن.
إن للفن فتنة الشبكة على وجه المليحة، والعقاد لا يُحسِن حَبْك هذه الشبكة، يطوف حول أسوار أريحا نافخًا في أبواقه، والأسوار لا تسقط لأن زمن سقوط الشمس قد انقضى، فالشاعر شاعر يتمثل أغراضه ويخرجها من نفسه كما تصنع النحلة شهدها. لا حياة فنية بدون هذا الهضم، فالعشب لا تخرجه الدرة لبنًا صريحًا إلا بعد أن يمر في ألف مأزق، وكذلك الفكرة لا تُحوَّل شعرًا إن لم تمر بخلايا النفس الشاعرة. والذي يزعم أن العقاد يجهل هذا يأثم، ولكنه يحاول الاندغام بالأشياء فتتنكر له وتنفر منه وتقوم العداوة بينهما، ولا إكراه في الحب، فما يسمونه رقة وحنانًا لا أثر له عند العقاد، ولهذا يرسل الشعر معقَّدًا كذَنَب الضب، لا شدَّ ولا لزَّ في نظامه كأنما هو حياكة الخوص.
اقرأ باب «غزل ومناجاة»، ففي هذا الباب تصوُّرٌ لا بأس به، لولا حبسة في لسان ناظمه، بل لولا تلك اليبوسة التي تجفل المحبوب. في القصيدة الأولى «مباراة بين الشفاه» يصطنع العقاد الأسطورة ويجعل الربَّ حَكَمًا في هذه المباراة فيحكم ذو الجلال لشفاه الملاح غير مبالٍ بشفاه العباقرة والجبابرة؛ لأنه عزَّ وجلَّ جميل — كما خبَّرونا عنه — ويحب الجمال، ورب العقاد هذا عنده ما عندنا نحن البشر، فسجَّل حكمه ومهره؛ إذ دعا أقرب الملاح إليه:
أما العقاد الذي هو أشد عارضة من الرب، ففورًا اعترض واستأنف، وميَّز ونقض، وأبرم قائلًا:
يظهر لي أن صاحبي العقاد يحب شيئيين في الدنيا: الضياء وخصوصًا اليوم المشمس، والقبلة وهي أولى لباناته من الحياة. إنه يؤثر القبلة على كل هنات الحب والله أعلم … ولكنه لا يحسن التحدث عن مفعولها، فمكان الخجل الذي تضرم حين قبَّل الرب مبسم المليح غير بارعة.
وتلي هذه المباراة الطريفة قصيدة «المعاني الحية»، أي الوجوه. في هذه القصيدة بعض الشعر، فعليك بها في الديوان ولا تنسَ أن عنوانها أشعر منها.
ها قد بلغنا أشهر قصائد العقاد وعنوانها الكبير «غزل فلسفي»، وعنوانها الصغير «فيك من كل شيء»، قد شرحها سيد قطب في الرسالة شرحًا لاهوتيًّا، وإليك مطلعها:
لا أناقش نظم العقاد كلمة كلمة، ولكنني أتعجَّب لتوفق العقاد إلى لفظة شعرية هي «أحلامه»، فقد كادت تقيم البيت لولا عَجُزه الذي يكوكي كدابة أصابها البيطار.
وماذا أيضًا في حبيب العقاد؟ فيه من كل ما خلقه الله في التوراة في ستة أيام، وأليكه جدولًا مطعميًّا، فيه من طلعة الربيع، وبرق وغمام الشتاء، وغناء الطير، ونوح الحمام، وخرير الجدول، ونظر الوحش، وانفتال الحوت، وسطوة النسر، وخوف النعام، إذن هذا الحبيب بر وبحر كما يقول العوام. إن الأمانة الفتية تقضي عليَّ الآن بإيراد الكلام بحذافيره بل بنصه وفصه كما عبَّر السلف الصالح:
إن عَجُز هذا البيت فلسفة طبيعية فتفهَّمه جيدًا، أما عَجُز البيت التالي:
فقد قصر فيه العقاد عن بيت البارودي، فأين قوله: «هجرك المدعو بالموت الزؤام»، من قول ذاك: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر …»
قيل: إن أحدهم نادى غلامًا باسمه عبد الله، فما ردَّ عليه حتى نسبه إلى أبيه، فقال له: أطرش أنت؟ أدعوك مرات ولا تردُّ عليَّ؟ فضحك الفتى وقال: كلنا يا سيدي عبيد الله. فأجازه معجبًا بذكائه، وسمعها غلام آخَر اسمه حمزة فخزنها يحلم بالجائزة، ولكن جوابه المدخر: «كلنا حماميز الله» لم يطعمه خبزًا! وكهذه قول العقاد: «هجرك المدعو بالموت الزؤام …»
فَلْنعد إلى الجدول لئلَّا يفوت القارئ شيء من هذا المحبوب، وفيه: من نقص الدنيا وتمام الآخرة، وطيب الملائكة، وغي الشيطان وآثامه، وسكرة الخمرة، وغذاء القوت، وري الماء، وهيام الجوع، وحظ وافر من الأرض، وحظوظ من سماء لا ترام:
ولا تعجب إن رأيت أسلوبًا إفرنجيًّا في القول، فشاعرنا يحب التجديد. وفي هذا الحبيب شيء من هندسة علوية لم أذكرها لك، وفيه من الشاعر ومني ومنك، ومن جميع الناس، ومن كل موجود وموعود توءم — هذا شعر — فهو إذن أزلي أبدي وسع كرسيه السموات والأرض. فليت الشاعر لم يسهُ في هذه القصيدة «النورانية» عن ذكر كل ما في هذا الحبيب اللذيذ، ليته نظم لنا شعرًا كل المقادير التي فيه من كربون، وكلسيوم، وحديد، ويود، ومغنيزا، وفوسفور، وكبريت، وسود، وبروم، وفليور، وسليسيوم، وأكسجين، وهدريجين، ونيتروجين! بل ما ضره لو ذكر أيضًا المواد المركبة مثل كربونات البوتاس، وكلورير السوديوم، ليرى الغناء العظامي، والكرماتين، والنيكلايين ليثق من متانة خلاياه ونشاطها، والألبومين، وغيرها ليرى كيف دهنه وشحمه، والفلوكوجين ليرى كيف تكون كبده أرقيقة أم غليظة، فيأخذ حذره ويأمن غدره … ناهيك بما في هذا من فائدة جزيلة للطلبة إذ يتعلمون أهم «دروس الأشياء» بسهولة، فالشعر سهل حفظه.
رجاء: ليت الأستاذ الجليل يشبع هذا الموضوع درسًا وتحليلًا فيحدِّثنا عن نفس ذلك المخلوق العجيب، أحلَّتْ فيه عند الولادة كما يزعم أفلاطون، أم بعد الحبل بأربعين يومًا إن كان ذكرًا، وثمانين إن كان أنثى، وهذا رأي أرسطو المعلم الإلهي وعليه مار توما. فالأستاذ يحب الفلسفة وله فيها جولات تُذكَر فتُشكَر.
حقًّا إن الشعراء في كل وادٍ يهيمون، ولكن العقاد يهيم وهو غير شاعر، إنه يقول الشعر كالزجل وهاك البرهان: يبدأ الزجال اللبناني كل دور بآخِر شطر من الدور السابق، وكذلك يفعل العقاد، وإن كنتَ تتهمني فاسمع قوله:
انتبه جيدًا، فهو يهدي إليك رأي داروين منظومًا، ثم يقول:
أليس هذا كأسلوب الزجل؟ وما في فصاحته هذه خير، فهو دون عروضنا البلدي شاعرية وتصورًا وعاطفة، وزاجلنا لا يقول: قبلما تتقنها الأيدي الكرام، ولا يذكر حبيبه كالقصَّاب فيقول: لحوم وعظام.
ونمر بأربعة أبيات عنوانها «مائدة» أحسن الشاعر الرمز إليها والتعبير عنها:
فللأستاذ تهنئاتنا الحارة بهذه المائدة الدهرية التي أوحت بيت شعر. أما «سعادة في قمقم» فأسطورتها تافهة، ومثلها «عيد ميلاد» التي ألف بها العقاد ثالوثًا من الشمس والمسيح والحبيب صاحب العيد، وقد وصف الشاعر ثالوثه الجديد بمنظوم دون النثر الوسط، وإليك نموذجًا منه لتحكم عني:
أما فك هذه الرموز الهيروغليفية فهكذا: النور للشمس، والحُسْن لصاحب العيد، واليقين للمسيح، والثلاثة وُلِدوا في يوم واحد، فافهم ولا تنشغل عمَّا بقي من بلاغة ساحرة:
أي عمر صاحب العيد ٢١ ربيعًا.
قد لا تصدقني وتقول في قلبك: هذا كلام منحول. لا والله، أنا شككت مثلك، وقد فركت عيني مرات وحملقت جيدًا لأنني كدتُ لا أصدق أن أديبًا كبيرًا كالعقاد يذيع شيئًا كهذا على الناس، ولكن وحي الأربعين حي يُرزَق فافتح «ص١٣١».
ونمر «بنبضات جديدة» فنهفو إليها ولا نقع إلا على سراب، وتسير قافلتنا في هذه الصحراء، فنبلغ فصلًا جديدًا عنوانه «قوميات واجتماعيات»، أوله قصيدة عنوانها «إلى المحسنين» ألقيت في احتفال سنوي لجماعة بطنطا سنة ١٩٣٠، فاسمع بعضها:
ومن روائعها:
وطندتا لغة في طنطا، وقد تهم علماء اللغات القديمة، والمولعين بالآثار. وللشاعر ما لا يجوز لغيره، ويلي هذا البيت الأخير نظم بعض آيات الكتاب العزيز ببراعة يقصر عنها حليم:
ويعقب هذه أبيات وجَّهَها إلى غاندي يوم إفطاره، منها بيت يعلمنا فيه العقَّاد نظرية التلقيح للجدري وغيره، إذ يقول لغاندي:
ومَن يقول بعد هذا لا جديد تحت الشمس؟!
وتلي الدرة «الطندتاوية» قصيدة «الاستقلال السوري»، وقد قضينا لها ما يجب منذ ثلاث سنوات وأكثر، وهأنذا أسرد لك ختامها البديع لأذكرك بذلك الجمال الفني:
أَمَا رأيت أنوار الجمال الفني تتدفق من: خذوا التهاني، ومن مهنئ نفسه، ومن يطالعكم؟ أمَّا المعنى فليس ظاهره كما تسمع وتقرأ كل يوم: نهنئ أنفسنا ونهنئ بكم الوظيفة … إلخ. بل هنالك أسرار دفينة لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم من شرَّاح العقاد. عاب العقاد على شوقي شعره القومي الاجتماعي وانتقده انتقادًا غليظًا، ولما حاول هو أن يقول مثله وقف حمار الشيخ في العقبة!
أما باب «فكاهة» فيتألف من عشر صفحات لا فكاهة فيها، شبهت فكاهة العقاد بفكاهة صاحب لي كان يقول في نهاية نكتته: انتهت اضحكوا! فليت عقَّادنا يلحق بديوانه ليدلنا على ما يحسبه فكاهة!
أما وقد أعييت ولم أجد تفكهة واحدة فخُذْها من قصيدة الاستقلال السوري فتكون فاكهة في غير أوانها، كما يقال:
هل طرق سمعك قبل الآن مثل «في حيثما»؟ هذا هو السحر الحلال بعينه، فتعلَّمْه ولا تعْمَلْ به.
أما «متفرقات» وهي عشر صفحات أيضًا، ففيها — والحق يقال — بيت جيد وهو مطلع رثاء حافظ:
ولو أرجعنا تفاريقه لأصحابه لم يَبْقَ للعقاد شيء، وهنا ينتهي «وحي الأربعين»، أعاننا الربُّ وإياك على احتمال «هدية الكروان»، و«عابر سبيل».
إنني لأرحم العقاد رحمتي لقبيحة تحشر نفسها بين الحِسَان وهي مؤمنة بجمالها! فما أكثر المغرورين في الدنيا! وأولهم العقاد الشاعر الذي يردِّد بينه وبين نفسه: وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
(٢) هدية الكروان «نمط ٣٣»
موضوع بحثنا اليوم «هدية الكروان»، وهذا صنع ﮐ «وحي الأربعين» عام ١٩٣٣، والغريب أن يكون «هدية الكروان» له ما قبله وما بعده، وهو خيرٌ نظمًا من «الوحي» و«العابر»، فبعد ما ظهرت مخايل النجابة على عقَّاد «هدية الكروان»، أمحقت في «عابر سبيل» الذي تحسن قراءته تحت مصباح السكة الحديدية الأحمر خوفًا من التصادم.
ما أفلحت سفارة «هدية الكروان» إلى عالم الطير، بل كانت كرحلة ملائكة الله إلى قوم لوط، رضوا من الغنيمة بسلامة الجلد. فدواوين العقاد ثلاثتها بيضات دجاجة واحدة، كلها طرح. لا أحدثك اليوم إلا عما لا يجوز السكوت عنه، العقاد طماح وفي نفسه آمال، وليس في القدر فطانة. يريد أن يكون أمير شعراء بل يريد أن يكون فاتحًا، وهذا هيِّن عليه، فهو جد مُطَّلِع على الشعر العالمي، ولكن القريحة حرون لا تسعفه، وموسيقاه موسيقى صنج مشقوق، وأغرب ما في شعره أنه كله باج واحد، أروعه تحت الوسط، ورذله دون كل رذل، فهو بهذا يبذُّ الشعراء طرًّا. والعقاد يؤيد قولي ويشير إليه من حيث يدري أو لا يدري، إذ يقول مخاطبًا الكروان:
إننا لا نظلم ولا نجهل، وقد آلينا أن نقول للأعور: أنت أعور! فليطرطر العقاد ما شاء، فليس له غد في عالم الشعر.
ويقول في قصيدة أخرى:
هذا رأي العقاد في نفسه، وهو يحدث الكنة لتسمع الجارة، أما نحن فما نراه يشبه الشعراء إلا في النقص، ويقصر عنهم في الكمال، وما أكثر الأدلة على ذلك، خُذْ مطلع قصيدة عنوانها «على الجناح الصاعد»:
وقابله بشطر بيت لشاعر وسط هو ولي الدين يكن:
لترى الفرق بين شطرين تكاد تكون ألفاظهما واحدة، وحسبك هذا دليلًا على ذوق العقاد الفني، إذا كان العقاد يصأى كالفرخ على الجناح الصاعد فيقول:
فكيف يكون على الجناح النازل؟ وللأستاذ أبيات يشفع فيها للغراب، فعسى أن يقوم — بعدنا — مَن يشفع له بين طيور الشعر، ويرق لفاقته الروحية ومجاعته الفنية، فهو كما قال عن نفسه:
ولكنه عاجز عن تحويل تلك القراءة شعرًا؛ لأنه لا يستمرئ ولا يهضم، والقراءة وحدها لا تعمل الشعراء. الشعر يحتاج إلى الكيمياء التي تخلِق من اتحاد عنصرين عنصرًا جديدًا، وهذا لا يحسنه العقاد.
والأستاذ يحب القبلة على رضا لا قنصًا كما يأكلون «التبُّولة» عندنا، يريد على كبر هامته أن يزق كالفرخ، ولهذا قال:
وفي «ص٥٨» يقوقي كذلك الشاعر في:
ومن أين له طرافة تلك؟ فهل مَن يقول لي ماذا يعني بقوله:
إن «يا زين الحسان» رقيقة ناعمة لا تشكو من شيء، ولكنها ليست كزين الشباب لأبي فراس. إن للكلام مواطن يدركها الشاعر الملهم ويرشده إليها ذوقه الفني، وهذه الغريزة ضئيلة جدًّا عند العقاد، لم نبلغ بعدُ ما نعني، فاسمع غير مأمور:
أسمعت قبل اليوم بتجلِّي الباب؟ وهل حلمت بركاكة كالتي تلي هذا التجلي؟ وأن سيقوم في القرن العشرين مَن يسميها شعرًا في ديوان؟ لم ينته الشوط بعدُ فاسمع:
الأستاذ ينظم نظرية اختلاف النظر باختلاف الأحوال والأخلاط، فافهم إنْ كنتَ لبيبًا! أما قصيدة «ساعي البريد» فصالحة جدًّا للترتيل الكنائسي، وهي على لحن:
وإليك قول العقاد للموازنة:
ليت شاعرنا «العالمي» يطالع رواية إيفان بونين — ضحية الحب — ليعرف كيف يتحدث الأدباء الكبار عن الخطاب «المكتوب» في العرف المصري.
ويحدثنا في صفحة (٦٥) عن قبلة بغير تقبيل، أي قبلة لاسلكية، أو لحس الفرن على ريحة الكبة:
حدثنا ابن خلدون عن أحدهم قال: ذاكرت يومًا صاحبنا أبا العباس بن شعيب، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له، وهو هذا:
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه. فقلت له: ومن أين لك ذلك؟ فقال من قوله: ما الفرق؛ إذ هي من عبارات الفقهاء … إلخ. ونحن نرى في أكثر دواوين الأستاذ نظمًا لا ندري بمَن نلصقه، كقوله مثلًا:
وعلى ذكر ابن خلدون نقول: إن في شعر عقادنا شيئًا كثيرًا من نثر ابن خلدون، والعقاد متأثر جدًّا بأسلوب صاحب المقدمة وعلومها، وقد تكون هي التي أوحت إليه «عدل الموازين»، فقد جاء فيها ما يشبه ذلك (ص٤٦٠، طبعة بيروت).
وهناك قصيدة «تسلم» يبيع فيها العقاد الكون كله من حبيبه بيعًا صحيحًا باتًّا تامًّا بالتسلم والتسليم، فأين هتلر وموسوليني يقصداه ويريحا المستر تشمبرلين من متاعبه ومظلته التاريخية!
لسنا نطالب الأستاذ بلات نظم، ولات نثر (ص٥١)، فأخوه المتنبي قال: «حتى لات مصطبر …» وعليه أن يفوته، ولكننا بكل حشمة ووقار ننبِّه إلى قوله عند تسليم الزهر:
فجَزْمُ «تراه» واجب هنا وهو لا يحتمل التعليل والتأويل، وإن رأى فعل أمر غير جازم الجواب فيكون من غير هذا الضرب. وللعقاد قصيدة في «المنديل» يفضِّل فيها الكتَّان على الحرير، زاعمًا أن «الحرير نسج الديدان التي تذكِّر الإنسان بالموت والقبر، فيجمد من يذكرها»، هذا الشرح نثرًا أما النظم فهذا:
وما ذكر «يجمد» في نثره إلا لقوله جمدا في شعره، قلت: إذن ومَن يرَ التفاحة يذكر الزبل، ومن يأكل البيض يذكر ما يذكر. وأخيرًا، والذي يراني ويرى العقاد مثلًا يذكر أشياء كثيرة، فما أبشع تقليد العقاد وأثقل فلسفته! يريد أن يجاري ابن الرومي بهجو الورد، وابن المعتز بهجو القمر، وإلا فما يدرينا أنه شاعر كبير؟!
وتمر نفحة شعرية في صحراء العقاد لا أدري من أين هَبَّتْ؟ أحب أن تستنشقها معي لتفرج عنك وتقول: سبحان محيي العظام وهي رميم. العنوان «حلم اليقظة»:
•••
والعقاد معاشه هين تكفيه بوسة، اقرأ قوله في ثرثارة (ص٨٠)، أَلَا تراه كقول الزجال المصري الذي حدَّثَنا عنه الأستاذ المازني، وروى من قوله في الرسالة (عدد ٢٧٧):
وفي «النجوم السواغب» يوزع العقاد البوس بلا حساب، يهب نسيم الليل عشرين، والروض كذلك، وهلم جرًّا:
أي لا تزعلش، وهكذا يعدل الأستاذ ويجبر الخواطر كلها، وما على الكريم شرط.
أما هذه الواو في: «ومسكينة هذي الكواكب» (٨١) فخطأ شنيع من كاتب حريص على اللغة وقواعدها، ونحن لا نغفر له ما دمنا نعلِّم أولادنا: البلاغة معرفة الفصل والوصل.
أما «كلماتي» فقصيدة حركتها خذروفية كمكفوف بديع الزمان، وإذا شرح ابن الرومي بيتًا ببيوت، فالعقاد يشرح كصاحبه نثرًا وشعرًا، مفردات ومعاني حتى مثل: عن كثب، وشتات، وكوى، وكثيرًا ما يكتب فصلًا في هذا الديوان وينظمه شعرًا، وهو على حق لأن نظمه كما قلنا لا يؤدي فكرته كنثره. اقرأ (١٣١).
لا أحدثك شيئًا عن قصيدته «صنوف حب»، بل أحيلك على الرسالة لتسمع الأستاذ سيد قطب ينادي عليها كصاحب صندوق الفرجة — صندوق الدنيا بمصر: تفرج يا حبيبي على عنتر، صاحب السيف البتار، عنتر أبو الشوارب … والعقاد يغزو صاحبه ابن الرومي أحيانًا فيئوب بالنهاب وبالسبايا، مثل صبغة الله، ومثل:
فيقول:
كم يكون للرجل، لحية أو لحى يا تُرَى؟ العامة لا الشعراء عندنا يقولون: «تضرب في لحاك»، فهل أخذها المعلم من هناك؟ ويزيد بيت العقاد رونقًا وبهاءً وفنًّا وجمالًا قوله: أليس كفى. فيا ضيعة التعب في الدرس وقراءة الكتب الطويلة.
أما قصيدة: البيلا، البيلا، البيلا، فقد ذكرناها بما تستحق في غير هذا الموضع، وليس هنا إلا تصفية الحساب نهائيًّا بيننا وبين هذا الفاضل.
وللعقاد هجاء ولكنه لا يُقرَأ؛ لأن الهجاء يحتاج إلى شاعرية فذة، والعقاد لم يكن يوم قسمة الحظوظ على الشعراء. ويختم هدية الكروان ببعض الرثاء، والذي عندي أن قصيدته في رثاء حسن الحكيم تشبه الشعر الرصين.
حاشية طاووسية
كان الذي خفت أن يكون! وسألني أحد أدباء العاصمة وهو لا يصدق أن الشعر الذي رويته من نظم العقاد، ظنَّ أنني نحلته إياه تهكمًا به، فنفيت التهمة عني، فقال: إذن اخترت لنا أردأ النظم؟ قلتُ: من ذا وذا، ولو تعلم أن «فيك من كل شيء» آية العقاد الكبرى لما قلتُ هذا، لقد نشرتها أرصن المجلات وأخطرها كما نشرت غيرها من آياته، وكلها بعون الله من هذا الحوك. إن دواوين العقاد فوق الأرض لا تحتها، فاطلبها إن تشكَّ بأمانتي.
فأما هدية الكروان فقلت عنها: إنها منتهى النضوج الفني للعقاد، إنها سلمت من بعض أشياء كانت تغض من الجمال الفني الكامل لبعض شعر العقاد، وهي ما أسميته «قسوة القالب»، وعنيت به أن يحتجن الشعور الطليق في ثوب أضيق وأقسى مما يلائم هذا الشعور الطليق.
تلك كانت أرائي التي أبديتها بعد دراسة كاملة، والتي لا زلت أعتقدها، رغم ما دار من الأحاديث بشأن، ولكن فَلْيسمع الناس ما أعقب هذا النقد من أحاديث ومن غضب ومن عتاب. فأما العقاد فهو ساخط حانق؛ ساخط لأنني جمعت بينه وبين أبي شادي في مقال، وحانق لأنني أقول شيئًا عن قسوة القالب في بعض شعر العقاد، وأقابله فيعلن هذا السخط، وهذا التبرم، ويذكر أنه لا يفهم معنى للجمع بينه وبين أبي شادي في مقال. وهو كذلك لا يسلِّم بقسوة القالب في بعض شعره، ولا يبيح لي أن أوجِّه هذا النقد لأن منشأه هو قصوري عن فهم شعره، وأن على الناقد أن يرتفع لمستوى الشاعر، وليس على الشاعر أن يهبط لمستواه.
وكان العقاد مهتاجًا ولكنني كنت هادئ الأعصاب، فشرحت النقطة الأولى بما أعتقد، وأما النقطة الثانية — قسوة القالب — فكنت فيها عند موقفي الأول كذلك، وذكرت أن الناقد الذي يكتب محاضرته عن ديوان «وحي الأربعين» للعقاد، فيفهم دقائقه فهمًا يرضى عنه العقاد لا يقصر عن «هدية الكروان»، وهي أسهل من «وحي الأربعين»، «… كذا» وافترقنا وفي نفس العقاد شيء أحسه، ولكنني آسف له وإنْ كنتُ لا أنوي التأثُّرَ به. (الأسبوع عدد ٣٥).
بل إنني لأريد أن أفهم كيف يكون الأسلوب العربي الرصين المشرق، إذا لم يكن كالقطعة الأولى من الديوان الأول بعنوان «فرضة البحر» حين يقول:
بل كيف يكون الأسلوب العربي المشرق إذا لم يكن مثل قصيدة «عزاء» حين يقول:
فأما حين يطلبون الرصانة وقوة الأسر وجزالة الأسلوب وفخامة التعبير، فإن الجزء الأول من ديوان العقاد يجيبهم إلى طلبتهم في عدة قصائد، أذكر منها «وقفة الصحراء» وفيها يقول:
وأما حين يطلبون السلاسة والعذوبة، فما أكثر ما يجيب ديوان العقاد الأول وحده إلى ما يطلبون:
تلك نماذج مختلفة من أسلوب العقاد، فإذا استغنينا بالجزء الأول وحده فنحن واجدون للعقاد كثيرًا من شعر الأساليب الفخمة الجزلة، والأساليب الرصينة المتينة، والأساليب العذبة السلسة، وكل ما يعنيه الأسلوبيون ببدائع الأسلوب. ودَعْ عنك ما وراء أسلوب العقاد من معانٍ وفكر وأحاسيس وعوالم واسعة من الفن الفريد.
هذا ما كتبه الأستاذ سيد قطب ردًّا على الرافعيين، وقد زالت — والحمد لله — «قسوة القالب» العقَّادي التي انتقدها، وصار أسلوب العقَّاد عربيًّا رصينًا مشرقًا، قويَّ الأسر جزلًا، فخمَ التعبير سلسًا، عذبًا متينًا، في لغة قطب، وناعمًا لينًا كفراء القطط والثعالب في لغتي.
قد يكون الشعر كالفحم يصبح ألماسًا إذا طمر زمنًا طويلًا، فليطمر العقاد دواوينه ولينتظر.
أما صاحبي البيروتي فَلْينتظر في هذا الشعر الذي سردناه له، فهو خير ما في يدي من نظم العقَّاد، والعقاد ممَّن يرفعهم الله إلى أسفل — في النظم!
(٣) عابر سبيل «نمط ٣٧»
وقد نظرت إلى العصور الحديثة بعد الإسلام، فلم أعثر على شاعر واحد أنبتته مصر يُذكَر بين أعاظم الشعراء، وتسمع له رسالة من رسالات الحياة، فكل شعرائها عرب أو مقلِّدون للعرب، وكل هؤلاء وهؤلاء عالة على الأدب، ونفاية ضئيلة أولى بها أن تنبذ وتهمل.
ونظرت إلى العصور القريبة فأحصيت مَن نظم شعرًا في مصر منذ خمسين سنة، فإذا هم كلهم — إلا قليلًا — يرجعون إلى أنساب غير مصرية ويُحسَبون في المصريين، وليسوا منهم في غير النشأة والإقامة، وأغرب من هذا أنك لا تجد في هؤلاء واحدًا يثابر على النظم بعد الثلاثين أو الأربعين، كأنما هي شاعرية الشباب التي تخفُّ بهم إلى النظم والغناء في إبَّانهما، وليست هي بشاعرية البيئة وسليقة القومية التي تفتأ فتية في الإنسان طول الحياة. (ساعات بين الكتب ص١٠٣).
لعلك أدركت مثلي أن العقاد ينظم «عن سابق تصور وتصميم» كما يعبر المحامون، ويظل ينظم حتى يقتل الكثيرين من قرَّائه فتحل عليه عقوبة المتعمد.
ليتني أترجم لك نقد جورج ديهامل لشعراء فرنسا الذين يفتشون عن مواضيعهم في قاموسهم لاروس، كما يفتش العقاد عنها في السكة. ارجع إلى هذا الفصل الطريف في كتابه «الشعر والشعراء» (ص٦٤) واذكرني بالخير، فالعقاد يلتقط مثل أولئك، مواضيع «عابر سبيل» ليؤدي رسالة مصر التي لم يؤدها شاعر مصري — فكل شعرائها عرب أو مقلدون للعرب — فهو إذن «عابر سبيل» حقًّا في أزقة الأدب، يموش كروم مصر بعد ما نامت النواطير عن ثعالبها. حاول تمثيل الكنانة المحروسة في مدينة الشعراء، فكان نموذجًا غير مرغوب فيه، وإلا فما هذه المواضيع العجيبة الغريبة التي يعجز عنها الفحول فكيف بالثنيان؟ قال النابغة الذبياني:
هكذا يكتفي الشاعر العربي بإيقاظ شعورك ويتركك في شغل، فشعارهم خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، أما العقاد فركب كتفي «البيت» كأنه غريمه، وأنطقه بالكلي والجزئي حاسبًا أنه يخلق أدبًا مصريًّا، كأنما ليس في بيروت وحيفا ودمشق وبغداد وجدَّة بيوت تُؤجَّر، وفنادق فيها الناس من كل الأجناس، ودكان كواء وواجهات دكاكين، كما سترى إذ نعرض عليك حوائج «عابر سبيل».
خبرنا النابغة أن الدار عندها أخبار كثيرة وما سألها شيئًا، أما العقاد فكان مستنطقًا بليدًا؛ افتتح «عابر سبيل» بقصيدة عنوانها «بيت يتلكم»، فوصف السكان الذين تعاقبوا عليه وأبقوا فيه مخازيهم، كالذي ردَّ مدح ابن الرومي، وكان العالم أحد المستأجرين فقال فيه العقاد:
أظن «حيشاني» خطأ صوابه حيطاني، إلا إذا كانت من غريب العقاد، أو لونًا من ألوان الأدب المصري الذي يخربشه! أما نظرية النشوء والارتقاء التي أقام نفسه وصيًّا عليها — بعد الزهاوي — فتجدها في «أمام قفص الجيبون»، قدَّمَ لها بصفحتين إلا ربعًا من النثر كانتا أشعر من قصيدته، فتعلَّم الجلَدَ مني واقرأها، ثم يعطف على الجيبون بقصيدة أخرى لأنه لم يصدق قوله فيه حين زاره أحد أصحاب العقاد، فكانت هذه كالخيار عند رخص السعر ينفخ البطن ولا يغذِّي.
وينتقل إلى «واجهات الدكاكين» و«أصداء الشارع» و«عصر السرعة» و«عسكري المرور»، فيقول في هذه كلها شعرًا يستحي الوليد أن ينسبه إليه، وشرٌّ من هذه كلها قوله في «طيف من حديد» أي السيارة، فاسمع بعضه:
إن تعقد المعنى فاقرأ الشرح، فنثر العقاد وشعره متكافلان متضامنان. أما «هايهات» فشرحها لنا: بَعُدَ جدًّا، لئلا يفوتنا معناها، فكأنما زيادة الألف الهاوية احتملت زيادة جدًّا، لقد اضطرت عبقرية العقاد إلى هذه اللغة في «هايهات» وإلا فكيف يرزأ الأدب المصري بهذا البيت الفريد، ولا يغيض النيل ويزلزل الهرم كما قال بشارة الخوري؟ وأحب لك أن تعلم أن الصغاني روى في هيهات ستًّا وثلاثين لغة، وصاحب القاموس أوصلها إلى إحدى وخمسين، فليت العقاد يستعملها كلها في نظمه العتيد فتكون أدبًا عقاديًّا حقًّا! أليس من التجني أن تموت مثل «هيهاه وأيهاه وأيهان وهايهات»؟
ويرى العقاد في مصر فنادق تتجمع فيها الناس من كل جنس فيقول:
هكذا يؤدي كبار الأساتيذ رسالة بلادهم ويخلدون أمتهم في كتاب! أما قصيدة «بعد صلاة الجمعة» فلا بأس بها، وهي خير ما عمل العقاد من شعر حتى الآن، فيها وصف جيد وتعبير مقبول ودرس وتحليل لأشكال المصلين، وكلهم في نظره ذوو رياء:
قوام الشعر شيئان: شخصية عامرة مسيطرة تسوقك بعصاها ولا تسأل إلى أين، وموسيقى وخيال فاتنان، وفي هذه القصيدة تسيطر شخصية العقاد فتحس أنك أمام مشهد حي.
ثم يصف «القطار» و«الحي» و«الدينار»، فيرى المال يجرُّ المال كما يقول العوام، ولا يحرم «كوا الثياب ليلة الأحد» من قصيدة تضحك المجدلية تحت الصليب، وسأحكمك هذه المرة فاسمع بعضها وهو خيرها — بذمتي يا أخي:
قلت: وفي غد يأكلون ويشربون ويتكلمون ويضحكون ويهضمون و… إلى آخِر كل ما انتهى بواو ونون، رحم الله توفيل غوتيه ونونيته الشهيرة.
وفي «بابل الساعة الثامنة» يصف صراخ الباعة، وهي قصيدة تُقرَأ أيضًا، إذا استعنت بالله، ويقبح في «وليمة المأتم» أشنع عاداتنا فيجيد إذ يقول:
وينتقل إلى «سلع الدكاكين في يوم البطالة»، فيقول فيها هذا الشعر الذي أعجز عن نعته:
ماذا تقول؟ أَمَا في مصر عاقل ينصح هذا الرجل؟ المروَّة يا ناس! انقذوا أخاكم وكفوا عنا شعروركم!
راجع «عابر سبيل» فالقصيدة هناك بجلدها وعظمها، وفي مكنتك أن تضيف إلى هذه أيضًا كل ما انتهى بألف وتاء، مثل ثرثرات شعوذات و… فتصير شعرًا عقَّاديًّا مثلها، وتزيد في ثروة الأدب المصري.
ألْهَمَ اللهُ أختنا القديمة أجمل الصبر على رسالة يؤديها باسمها هذا البافنوس الجديد، وطواط أناتول فرانس.
تعذرني إن عدت بك إلى الوراء لمحة لأنقل إليك أبيات «عصر السرعة» فهي مصرية عالمية. قال لا فُضَّ فوه ولا عاش مَن يشنوه، وأولهم هذا المارون عبود الغاشم الجائر، اسمع:
وأين مار توما العقاد — سيد قطب — يشرح لنا هذه الدواهي؟ فوالله، وحَقِّ مَن نفسي بيده، لو قدَّم لي أحد تلاميذي ورقة كتب عليها مثل هذا الحكي، لصفعته بها وأعطيته صفرًا. وما أنا في ذا يا لهمدان ظالم، أمِثْل هذا يتهكم بشعراء العرب ويقول ما قال؟
ويصف «المنازل في الشتاء»، و«الطريق في الصباح»، و«معرض البيت»، و«متسوِّل»، و«بعد الغروب»، وكلها من الباج العقَّادي الفريد. والغاية تأدية الرسالة العظمى، رسالة الأدب القومي، رسالة البيئة، رسالة الفرعونية، فيا خجلة الذي طغى من هذه المومياءات!
أما «أناشيد وأغاني» ففيها رائحة الشعر، فالنشيد القومي والنشيد الآخَر «على مقتضى الحال»، والأناشيد التي نظمت للآنسة نادية تشبه الشعر لأنها تقليد للعرب. ولا غَرْو أن أجاد الأستاذ في «على مقتضى الحال» الذي طعن فيه على وزارةٍ كانت مولعة «بمكايدته» كما قال، فهو أبلغ ما يكون حين يكتب بالنبوت، فتغطي عاطفته عورة فنه.
وفي «عابر سبيل» قوميات أيضًا أحسنها «يوم الجهاد»، و«عيد بنك مصر» قصيدة حية فيها أبيات تجري مجرى الأمثال! كقوله:
أما قصيدة «نفل سعد» والرائية التي أولها «أحسنتم الصبر»، فقد أشبعناهما درسًا وتحليلًا.
وينتقل إلى باب «تأملات» فتعاوده النوبة، ثم تقرأ ست عشرة صفحة، كل كعكها من العجين العقادي، فترثي لناظمها لأنه قاسَى أهوالًا في صبِّها بقوالب شعرية لا هندمة فيها ولا ذوق، ولكنه إن لم يغنم بها إعجابنا فقد غنم ثناءنا على ثباته في محنته تلك، والثبات فضيلة، فعسى أن لا يكف عن قول الشعر فيكون شاعر البيئة، ويعرب عن سليقة القومية التي «تفتأ» فتية، كما توهم فعبَّر.
وفي «عابر سبيل» لون جديد عنوانه «ربيعيات»، فيه قصيدة على الحاء عنوانها «عودة الكروان». لقد صدق القائل: مَن صبر نال ومَن لج كفر، ولولا وقار الأدب لزغردت كالنساء في جلوة العروس! قد بلغتُ قصيدة فيها شعر على غير عادة العقاد الرزين الرصين صاحب البرج الحصين، كما سمَّاه الدكتور إسماعيل أدهم المتمشرق التركي:
لا فُضَّ فوك يا سيدي الشاعر الكبير، فآية الليل الفصحى تسوى ديوانًا كاملًا.
عشت ونعشت يا أستاذ:
إن كلمة العصافير لا تملأ البيت الأخير، فليت للعقاد ديوانًا صغيرًا — حتة ديوان — من هذه البضاعة، ففي قليلها غنى عن كل صرره وبقجه. وهنا أيضًا يدرك الأستاذ أنه لا يقول شعرًا إلا إذا كان عالة على العرب.
وَلْيعذرني العقاد أن أسترد ما وهبت، فبناءً على دستوره للشعر والشعراء — راجع مقالنا الأول — لا نستطيع بقصيدة أن نسميه شاعرًا كبيرًا؛ ولهذا نستعيد لقب الشاعر الكبير الذي خلعنا عليه، فقانونه حرمه هذا الميراث الأدبي، وقديمًا قالوا: «على نفسها جنت براقش.»
والعقاد نظَّام متفائل يرى العيش جميلًا — وهذه طبيعة مصرية — فيناديك:
ويجد متاعه الجديد في الشتاء والخريف:
ولكنه وحي مَن يحبو إلى الخمسين، وهذا أيضًا خلق مصري يرضى بما قسمه الله له ويضرب الدنيا «صرمة»، أما في باب «رثاء» و«متفرقات» فيعود إلى نهج الحليِّ وغيره من شعراء عصر الانحطاط، فيقول للذي اسمه «موفق»:
ثم يجانس ويورِّي في «تحية موسيقية» إلى ملك العراق، أرسلها ليكون له «شراع وراء دجلة يجري» كشوقي، فقال: «غازي قلوب الشعب … غازي العدى. كعهد أخيك مأمون، في موطن بهداك مأمون.» وهذا كما تراه علك صدئ.
ويقول في رثاء صديقه غانم محمد:
لقد انقضى زمن البهلوان، أما أراحتك منه مطالعة نيتشه يا أستاذ؟ مضت أيام كان الشاعر مَن يقول:
ويختم العقاد ديوانه بفكرة دلَّتْ على عقله الراجح، وعلى طبيعته المصرية التي سمَّاها الدكتور أدهم فرعونية، فهو ليس كبعض أدبائنا الذي لا يريدون أن يموتوا، هو عقَّاد واحد لا غير، إذا راح راح، بعكس صديقنا الأستاذ نعيمه الذي هو في الوجود كالوكيل الدوري: كلما عزلته فهو وكيل. وَهَبَنا الله قدر حبة خردل من هذا الإيمان الذي يقول للجبل انتقل فينتقل.
إذا انطوت الدنيا ولم يبقَ من أبنائها أحد، فليس هناك خسارة وليس هناك مَن يشعر بالخسارة.
إلى أن قال: «وإذا حسبنا ما للدنيا وما عليها فالنتيجة صفر؛ لأن النتيجة هي العدم.» وإليك هذه الفذلكة وهي خاتمة الكتاب:
انتهى الديوان.
ليست حسبتنا تختم بصفر، بل أرى العقَّاد يستحق ثلاثة من عشرين — المعدل المدرسي اللاتيني — أو ١٥ من مائة في المعدل الأنكلوسكسوني. وما إخاله إلا راسبًا في امتحان القريض ولو عمَّرَ كلبيد.
•••
لقد عدَّتْ مجلة الهلال الغراء في تقويمها سنة ١٩٣٨ ديوان «عابر سبيل» حدثًا أدبيًّا جديدًا، فهل دفعها إلى ذلك بعض مواضيعه، مثل: «كوا الثياب»، و«واجهات الدكاكين» وغيرها؟ أراد العقاد أن يؤدي رسالة مصر شعرًا فهل أدى شيئًا؟ وهل تكون الرسالة في هذه المواضيع؟ وهل يكون التجديد بالتعبير عن الأهرام بالآطام المخلدة؟ يرى العقاد التعبير لا شيء ويحاول خلقه فلا يقدر، فهل نفعه بنافعة هذا الشعر، بل هذه المواضيع التي يلمها ويضعها في كشكوله؟ يقوم الشعر على الحق والجمال — كما قال شلي — وصاحبنا إنْ عرف الحق فشعره بريء من الجمال كنسوان تغلب في عين جرير. وشلي يقول أيضًا: «لِلُغةِ الشعراء لون خاص وصدى موسيقي يوافق الصوت، وبدونه لا يكون الشعر.» فهل للعقاد شيء من هذا؟ ليفحص شعره في غرفته كما فعل الخليل يوم وضع علم العروض.
يعلم العقاد أن المفاجآت من عناصر الشعر الجوهرية، فيحاول خلقها فتأتي صوره رخوة متأثرة بحرارة الإقليم، فليس لخواتيمه زخم المضخات، وهو يبقّها بقًّا فعل الأطفال حين يتراشقون بالماء. أما الموسيقى التي يقلِّد بها الشاعر أصوات الطبيعة وحركاتها كما فعل المتنبي، والتي يعبِّر بها المعنى عن عاطفته، فلا يعني العقاد منها شيء، كل ألفاظه وضعية حقيقية لا تتسع لأخيلة الشعراء، فالشعر عنده انطباق أضلاع وزوايا.
قال بول كلودل: «لا يعرف الإنسان الطبيعة حين يمتزج بها، بل حين يضيف ذاته إليها.» والعقاد يعرف الدنيا ويريد أن يضيف ذاته إليها، ولكنهما يظلان كالماء والزيت.
يقول هازلت: «الشعر لغة الخيال والعواطف، وهو اللغة العالمية التي تصل القلب بالطبيعة. ليس الشعر فرعًا من فروع التأليف، وكل شيء يسمو في الحياة بمقدار ما فيه من شعر.» فهل في دواوين صاحبنا شيء من هذا؟
لا، إن شعره حكي لا أكثر ولا أقل، وأغراضه تخرج من شق قلمه هزيلة كالمسلول، يريد أن يخدع أبصارنا بعناوينه لتقوم الساعة، بَيْدَ أن الساعة لا تقوم لأن العقاد لا يقول شيئًا، «فالوصف المجرد للأشياء الطبيعية، والإفصاح المحدود عن الشعور الطبيعي مهما كان قويًّا فعَّالًا لا يستطيع أن يحدِّد الشعر وغرضه دون أن يسمو بالخيال.» فهل للعقاد شيء من هذا؟
قال ديهامل أيضًا: غاية الشعر هي التعبير عمَّا هو خالد، وليس كل مَن حمل قلمًا خليقًا أن يخلد أية مادة كانت، هؤلاء نادرون.» أما العقاد فالشاعر في نظره مَن يعلن أنه يحب الحق والجمال، وكفى، كأنما الشعر هو فعل الإيمان — نؤمن — في المسيحية، أو كلمة الشهادتين في الإسلام، فمثل ابن عمنا العقاد يقوم ألف شاعر في كل دهر، ولكن العشب ييبس ولا يثبت للقيظ إلا القمح.
وخشونة النثر وهلهلته وركاكته قاضية على فيض الخيال الشعري، ولكن الشعر يقضي على هذا، فهو موسيقى اللغة مجيبة لموسيقى العقل.
فليت العقاد يأخذ من نفسه ساعة نشاطها، ولا يبل يده بكل موضوع. على كل مَن يؤدي رسالة كما يتمنى العقاد أن ينتظر الوحي، فهذا الشعر العقادي الذي هو كنضو الطغرائي لا يؤمِّر أحدًا، ولا يجعل الشاعر قوميًّا. والحمد لله أن بشارة وعديله العقاد المتزاحمين على الإمارة، قد انقضى حلمهما الذهبي وانقلبا على الجانب الوحشي.
إن طابع العقاد منطقي وجدلي لا يعرف الألوان والظلال، يحب النور والضياء، ولعل هناك سببًا أجهله أنا، قد يكون المزاج الفرعوني الذي دلَّني عليه الدكتور أدهم، فالجماعة عبدوا الشمس.
والعقاد يؤمن بالمران، فَلْيتمرَّن لعله يفلح، ولكن أيهان — لغة في هايهات العقاد — أن يخلق التمرين جبَّارًا، والغريب أن يحلم واحد كهذا بشاعرية عالمية، فقد قرأت في مجلة الإمام — التي تكرَّم بها عليَّ مُحِبُّوه — أنهم ترجموا له قصائد إلى اليونانية لتقابل بشعر زميله هوميروس … (الإمام، أول ديسمبر ١٩٣٤).
يا للهول! لكلما قرأت هذه القطعة سرَتْ رعدةٌ في مفاصلي وقشعريرة في كياني، وأحسست أمامي بإنسان يعتصر نفسه قطرة قطرة في ألم مبرح عظيم.
ولكن أيقول لي قطب ماذا خلف الجبل بعد هذا المخاض؟ كأن سيد قطب خال نفسه أمام ذئب الفرد دافيني، فهنيئًا لمَن له في الدنيا سيد قطب، وإن كان هذا لا يجدي فهو يسلي ويضحك، رحم الله المتنبي.
ماذا يجدي تعدُّد الأحباب وتلبُّد الأفكار كخضرة الدمن، والشعر نظم تذهب بنضرته لفحة حر؟ وهل ينماز الأدباء إلا بالأسلوب؟ إن العقاد ينظم بعقله، والعقل لا يعمل الشعر الخالد، وعنايته بالوحدة التي اكتشفوها عند صاحبهم جورجيس — ابن الرومي — لا تعمل الفن، فالشاعر الملهم يخلق الوحدة دون أن يفكر بها، العقاد كطفل يلعب بالفراشة ويتصيدها كأصحاب المجموعات ليحلِّلها علميًّا، بينما الشاعر يتأملها ويصفها ويعجب بها.
«العالِم — الكلام لهازلت — يحمل الحباحب إلى بيته ليراها على ضوء العلم، فلا يرى في الغد إلا حشرة رمادية اللون، أما الشاعر فيزورها مساءً عندما تشيِّد لنفسها قصرًا من النور الزمردي، تحت فروع السوسن العطرة وأشعة الهلال الباردة.»
أما العقاد السياسي الجريء، فأثره ضئيل في دواوينه الثلاثة، إنها تصوِّر العقاد المحب القاعد الذي يأتيه رزقه رغدًا ولا يخرج من البيت، وقد خفَّتْ أشواقه وبردت همته القعساء في «عابر سبيل». والعاهة الكبرى في هذا الكلام الذي يسميه العقاد شعرًا، أنه كله من طراز واحد، ولو كانت وجوه الناس هكذا لاشمأز الناس من رؤية الناس. وبالاختصار إن العقاد الفنان نائم منذ ثلاثين سنة حول البركة — بركة حسدا — ينتظر الساعة التي يحركها بها الملاك ليلقي بنفسه فيها، فيا ليتني مسيح لأقول لهذا المقعد المسكين: احمل سريرك وامشِ.
وإذا صحَّ تشبيه شيء بصبيرة طمسون فذاك شعر العقاد، لا أقابله بناجي وأبي شادي وطه والصيرفي والخفيف وبشر فارس وصالح جودت ومبارك وكل مَن يقول شعرًا بمصر، فكل هؤلاء حتى زكي مبارك خير منه — في الشعر — وإن عدلت شعراء هذا العصر فهو سكيت الحلبة، ودواوينه كأنابيب اللقاح تصلح لوقت محدَّد.
إلى الدكتور طه حسين بك
يا صاحب العزة
فتشت كثيرًا في منظومات صاحبك العقاد، فما رأيته ذكر أمًّا أو أبًا، فما تراك تقول فيه بعد خمسمائة عام — لو عُدْتَ إلى الدنيا — أكما قلتَ بالمتنبي؟