الشعراء
لولا الشاعر لَماتت الآلهة، فالشعراء خالدون ومخلدون.
لا نعني بالشاعر كل علَّاك وقوَّاقة، فمن مقلع واحد يصنع المثالون شخوصهم، فمنها ما يُرفَع ليصير إلهًا في المحراب، ومنها ما يبطح لِيُجعَل أُسْكُفَّةً للباب.
ولا نعني بالشاعر ذلك الصاف الكلمات، الغواص على «درر» الألفاظ، فمَن يعجز عن التفكير والإبداع يعتصم بالفصاحة الجوفاء، ومَن لا يحسن رمي الطير في مهابها يقبع في الداموس، ومَن يفته إبداع الجديد يُكثِر من اجترار القديم، فحتامَ ننبش القبور لنلبس الأكفان عربية وأعجمية؟! وإِلَامَ يهيم شعراؤنا المناكيد في كل وادٍ؟!
فمنهم مَن ينكت الطلول والدمن ويستوحي دارة جلجل؛ حيث توقَّح امرؤ القيس وقعد على ثياب العذارى، فأخرجهن من مستحمِّهن على حدِّ قول أيوب: عريانًا خرجْتُ من بطن أمي …
ومنهم مَن يفتِّش عن نفسه بين حِكَم ابن أبي سلمى الجافة كرمال الصحراء، وزُهْديات أبي العتاهية الملمومة من هنا وهناك كخبز الشحاذين، أو كالرداء المعدِّ يصلح لجل الناس ولا يليق بواحد.
ومنهم مَن ينشدها في طويلات الأخطل التغلبي، فيقفو أثره حتى يغرق في موطئ رجله، وتهبَّ هوج الرياح فتزدرده الصحراء.
ومنهم مَن يتعنتر فيعرض سيفًا ورمحًا، ويناجي عبلةً وهميةً كغول تأبَّطَ شرًّا.
ومنهم مَن يتبع النابغة إلى دار مية، ويلحقه مع مَن لحقه في يوم صيده المشهور، فيختفي عنه زياد، ويتركه مع واشق وضمران.
ومنهم مَن يهدج حول بيت الفرزدق كالقنافذ، فيراه موسعًا لكيره في المقعد … فيدعه ويتبع جريرًا فيظمأ في فيفائه، ويتوه في يهمائه التي تكذب فيها العين والأذن.
ومنهم مَن يشوقه ابن أبي ربيعة فيتضمَّخ ويقف مثله في الدروب، حتى إذا أدرك أن مطلبه عسير قعد حسيرًا، والعين بصيرة واليد قصيرة.
ومنهم مَن يتغلغل في ماخور أبي نواس، ويأوي إلى خمَّارته، فيضرب معه بسهم ظفر، كما قال البديع، فيحلو إنشاده لأنه صادق نفسه.
ومنهم مَن يغزو أبا تمام ويشنُّ الغارة على البحتري، ويقف بباب المتنبي، فيصدف عنه شيخ الشعراء هازئًا متمتمًا:
ومنهم مَن يقصد البهاء فيرى في الفسطاط رجلًا مخنَّثًا حتى الميعان، فيتفيأ في ظلال راحته، مستروحًا نسيمها البليل، ثم يُسفُّ ولا يقع.
إن معظم شعرنا العربي لا تزال في أنفه الخزامة، وفي حنجرته هدير الفحول، وفي رجله خلاخيل تُخشخِش، لقد صور الجاهليون والعباسيون أنفسهم ومحيطهم في شعرهم، أما نحن فنصوِّرهم هم في شعرنا، كما كان يفعل مصوِّرونا منذ نصف قرن؛ إذ يصوِّرون مار جرجس ومار شليطا ومَن إليهم — كأننا صِبْية مدارس ينسخون المثل ليأخذوا العلامة.
أَمَا كان أولى بالبحتري أن يسأل أبا تمام متى يأكل حين سأله متى ينظم؟ أتسأل الطير متى تغرد، أم الرياح متى تهب، أم النار متى تتَّقِد؟ إن الشاعر يقول متى جاش صدره. عفوًا، لا يفعل هذا إلا شاعر وجد نفسه، أما مَن يفتش عنها بين طلول الجاهليين وخمَّارات العباسيين وقصور الغربيين، فينظم كل ساعة.
يسألون لماذا أخرج المهلهل وعمرو بن كلثوم شعرًا رقيقًا جيَّاشًا، وهما قبل الفرزدق الخشن الذي ينحت من صخر كما قيل فيه؟ فقُلْ لهم إن الفرزدق قال قافية لا يعدلها شعر عربي هلهلةً ورِقَّةَ نسجٍ وهي: «هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ»، وكذلك فعل دعبل الشاعر في قصيدته: «مدارس آيات خلت من تلاوة …» التي احتذى مثالها حافظُ إبراهيم في رثاء الإمام محمد عبده، فكانت خير ما قاله.
ويسألون لماذا يخشن الشاعر الواحد الجاهلي ويرق؟ أليس هذا دليل النحل، كما يزعم نقَّاد اليوم؟ فقُلْ لهم: لا، فالشاعر المطبوع يلبس لكل حالة لبوسها، يخشن ويرق في قصيدة واحدة، فما الشعر إلا عودٌ أوتارُه ألفاظُه، يصفِّفها الشاعر ويُصلِحها لتُخرِج اللحنَ الذي يودُّ.
أما الشاعر المتلمس بين خرائب المتقدمين وقبور المتأخرين، فاكسعه وقُلْ له: ارجع إلى بيتك وفتِّشْ عن نفسك في: حنايا ضلوعك، وثنايا لحافك، وبين جدران مخدعك، وإنْ لم تجدها هناك أولًا فلن تلتقي بها أبدًا.
لا تفتش عليها في شكسبير وشلر وغوت وهيغو وموسه وبودلير؛ فهؤلاء قد عتقوا وإن أبدعوا، ولم يروا ما ترى من العجائب، قُلْ له: انظر يا أعمى القلب، فكلُّ ما حولك يدعوك، فلماذا تزجُّ نفسك في الأعماق كالخلد؟ طالِعْ كتاب الطبيعة فكل كلمة منه جبل، إلا أنها لا تضطرك إلى نظارتين! اسمع يا أطرش، إن أحاديث الدنيا كلها في بيتك، تسمع روزفلت إنْ سعل، والميكادو إن تنحنح … انظر يا أعمى! فالسينما تُرِيك غرائب الكون متحركة ناطقة!
كان أبو تمام فَطِنًا فأخرج معاني جديدة، فلماذا لا تأتي أنت بمثلها؟ إنك عيي ما دمت تسأل: ما ترك الأولُ للآخِرِ؟ الجواب عندي: ترك له الراديو والراديوم والسينماء والطائرات والغازات التي تخنقك …
نحاول التجديد فنتقمَّص ثيابًا بطلت في بلادها، ثم نتبَالَه ونقول: انظروا إننا جُدُد. لقد أسأنا من جهتين: التقليد، ولبس ثيابٍ أخلاقٍ.
قال العجَّاج: «كان الكميت والطرماح يسألانني عن الغريب فأخبرهما به، ثم أراه في شعرهما، وقد وضعاه في غير مواضعه لأنهما قرويَّان، يصفان ما لم يَرَيَا، وأنا بدويٌّ أصف ما أرى فأضعه في مواضعه.» فهلا نتعلم من هذا البدوي؟
كثيرون منا يفتشون عن أنفسهم في ألفاظ هاموا بها، وكثيرًا ما يسوقون المعنى لأجلها، ثم يطلبون منَّا أن نتذوقها كما تذوقوها هُمْ، ونستحليها كما استحلوها، كأمٍّ بلهاء تستغرب كيف يَغْبَى عليكَ جمالُ ابنها البَشِع.
إن مخيلة الشاعر المبدع راديو يلتقط حديث عوالم الأثير، وقريحته راديوم يشع نورًا خالدًا، فعبثًا يحاول قرع باب الفن إن لم يكن في عونه قلب متَّقِد وعين ثاقبة، وإنْ فعل فهو كالنادبة تُبكِّي ولا تَبْكِي، أو كأبي الطيب عندما استزادوه، في اللاذقية، رثاء ونفي شماتة …
ما الشعر إلا حلم يقظة، فالذي ليس له عين ترى، وقلب يحس، وأذن تسترق، وعقل يحلم، والذي لا يصغي ليسمع صراخ نفسه، وعويل قلبه؛ فهيهات أن يرتقي قمة الفن، فكَمْ من إناء طريف حُطِّم وسُحِق بعدما قال سيلي بريدوم قصيدته «الإناء المشعوث»! وكَمْ بين النساء مثل شولمية سليمان السمراء، ناطورة الكروم! وما أكثر أصحاب الزهريات والربيعات! بَيْدَ أنهم لم يتحدوا بأقانيم الطبيعة كالشاعر المتشائم ابن الرومي، حقًّا إن في الكلام عقدًا ورقى، وليس بضخامة تآليفه يُقوَّم الشاعر، فقد تخلده أسطر ولا يُخلَّد بألف قصيدة كلها ثرثرة وهذيان محموم، فشهرة صمت خير من وأوأة دهر، وقد قال شكسبير: «أشعر أني أقل وحدة حين أكون وحدي.»
إن الفن قيد الأرواح والدهور، فلولا الذي تركه الجدود من فنٍّ خلفهم ما عرفنا أنهم مرُّوا من هنا في طريقهم إلى الأبد، والشعر والتصوير توءمان مدادهما ألفاظ وأصباغ، تترك الشمس عند المغيب مشاهدَ وألوانًا فتَّانة، والفنان الجبَّار يلتقط تلك المشاهد ويقيدها، أما المشهد فيتلاشى ثم يتجدد، وأما القصيدة والصورة فتخلِّدهما العبقرية الفنية.
دخل أحدهم معمل مصوِّر فأعجبَتْه صورة حمار، فساوم المصور عليها فأغلى ثمنها، فقال له الرجل: أشتري بهذا المبلغ عشرة حمير! فأجابه المصوِّر: الحمير كثيرة ورخيصة.
أجل إن الفن الرفيع عزيز ندر، فلعل لهذا العصر من وده نصيبًا، فنضم إلى متحفنا الفني طرفًا جديدة، أما أكثر ما نقرأ ونسمع من الشعر فالنثر الحي خير منه.
متى انحدرت الشهوة المتَّقِدة إلى أعماق القلب يَتَّلد المقطع الجميل، ويسري الدم في العروق، وتسير الكلمات مشتبكة متساندة هاتفة كأنها ذوات أفواه متفجرة كالينبوع المتدفق …
فهلا نتعلم منها ولا نفجِّر قوافينا كما فجَّرها بشارة «العربي القحاح» نبعة نبعة، رغم أنف بشَّار، ولا نقول قصيدة كالتي أنشدها العقاد بعد انقلاب أرقص الناس:
يرحم الله شوقيًّا وحافظًا، فكانا إذا أنشدا أطربا، إن لهما من مقلدات الشعر ما نذكرهما به في مثل ساعة الوفديين، وقد انقشعت عن مصر العزيزة ظلمات الإرهاب والإرهاق.
كم وددتُ أن أرى طه حسين ساعةَ كان يلقي «أميره المفن» قصيدته في الانقلاب الخطير لأقول له: «دائمًا الفرح عندكم يا دكتور، ولكن حَدَثًا كهذا يجعل عالي مصر سافلها، ويُعِيدك إلى منصب لا تصلح إلا له. لا يلذ لنا، نحن العرب، حدث بلا شاعر، ففتِّشْ في قابل عن غير صاحبك هذا.»
وبعدُ، فللهِ درُّ ظرفاء مصر الذين ردوا على إمارة الشعر الشعرية، فأمَّرُوا «البرنسا» على الشعراء في حفلة أحيوها لهذه الغاية.