عبَّاس محمُود العَقاد
هكذا ينفجر العقاد بعد أن أسكت دهرًا، وهكذا يخاطب أمةً محمومة شاعرٌ أحصى عليه المستبدون أنفاسه، فلزم بيته خوفًا من عيونهم، ما زاد في صدر براعة استهلاله على الكلمة الحائرة في أفواه الناس: مَن صبر ظفر. عفوًا، بلى إنه قالها بلغة حلزونية عوَّدناها شيوخ أدباء مصر في نثرهم الفني.
أما العجز فهو أدنى إلى اللغة العامية منه إلى الفصحى، فما رأيك يا أخي ﺑ «قولوا اليوم؟» أليست أخت احكوا اليوم؟ وما قولك في «ائتمروا» بعد «قولوا اليوم»؟ أما هما بَيْضَتَا دجاجة واحدة؟ أتقول إن العقاد عندما جعل «ائتمروا» قافيةً فكَّر في أمرين: في مؤتمر الوفديين، وفي الآية: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، ولكنه هذه المرة اتكل على ذكائنا، ولم يحشِّ كما فعل في «وحي أربعينه» ص١٥٨، عندما قال:
ثم شرح قائلًا: الوصيد العتبة، وفي البيت إشارةٌ إلى الآية: وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ.
ما كنا لنعنى بقصيدة كهذه هي برمتها من الشعر المقيت الغث، لو لم تكن للعقاد، والعقاد مجاهد وطني، مكين المبدأ، صلب العقيدة حتى التحجَّر، لا يتزعزع يقينه ولا تني همته، قد ضحى براحته وصحته على مذبح وطنيته الصادقة؛ فلله العقاد مجاهدًا صامدًا للاضطهاد والمضطهدين! وإنْ لم يحسن التعبير عن عاطفته شعرًا، فهو لا يعجز عن أدائها نثرًا، ولكنه يحاول أن يقول الشعر، وما أراه يفلح ولو عمَّر كلبيد.
وقبل نبش ما في قصيدته من خبايا — إنْ كان هنالك شيءٌ من ذلك — لا بد من الجهر برأيٍ أعتقد صدقه؛ وهو أن العقادَ أَسَفُّ في الشعر «القومي الاجتماعي» منه في غيره من أغراض الشعر، وآية ذلك مطلع قصيدةٍ قالها في ذكرى الاستقلال السوري، سنة ١٩٣٠ (وحي الأربعين ص١٤٦):
وهكذا دواليك …
ما لنا ولهذا، أو دَعْ ذا كما يقول زهير في استطراده، وعُدْ بنا إلى قصيدة هذا العام، فبعدما يذكر الشاعر كيف انقضت السنون المُرَّة ببيتين مبتذلين لفظًا ومعنى ككل القصيدة، ثم كيف اجلولت أخيرًا، يطلع علينا بهذا البيت الحماسي:
لست محامي الأعشى لأستعدي التاريخ على العقاد الذي مسخ هذا البيت، ولكنني أستغرب هذه العجلة التي حملت الناظم على استعمال حرف التنفيس … فهل هناك مَن يحاول هدم المقطم في الغد كما حُفِرت ترعة السويس؟ ثم ما رأي طه «بيبغيه» وكيف يرى «معتديًّا»؟ أأعجبتاه يا تُرَى؟ ألَمْ يعرض العقاد قصيدته هذه على مَن دعا الشعراء لبيعته يوم «النشيد» ولم يفلح؟ أم نهاه طه عن إنشادها ونشرها فما انتهى؟ الله أعلم.
وببيت وسط وطَّأ العقاد لهذا البيت الجيد، وهو واحد أبيه، فقال:
أما قول شاعرنا في البيت الذي يليه: كنانة الله كم أوفت على خطر … إلخ. فكنانة الله تعبير شائخ بائخ، وأشهد أنني فتشت القصيدة كلها فلم أقع على تعبير جديد، ومعنى يصح السكوت عليه — كما قال النحاة في تحديد الكلام — بلى وقعت على ألفاظ عجراء محصرمة، وتوطئات للقوافي كما كان يفعل أبو تمام في صنعته، ولكنَّ حبيبًا يضع اللفظ موضعه، ويسهِّل طريقه، أما العقاد فيعقِّدها! ينماز الشاعر بخَلْق التعابير والمعاني وهذا محرومٌ منه العقاد، سبحان المعطي! ثم يقول:
في هذا البيت اهتزازة شعرية إلا أنها بليدة، فأين تذهب مصر وغير مصر؟ هل أخذ الفاتحون والغزاة جبال لبنان ونهر العاصي؟! قد يكونون أخذوا من مصر مسلَّاتها وآثارها، رحم الله القائل:
ثم لا يلبث صاحبنا أن يطلع علينا بأين وأين وأين، مقلِّدًا بائية أبي تمام، ولكن بلا روعة ولا قشعريرة، فذكَّرَني بالندَّاب اللبناني العامي القائل: «وين نيرك؟ وين صندك؟ وين جرابك للبدار؟ …»
وأتانا في مطاوي هذه الأبيات بالزبانية الفتَّاكة الشزر، ألفاظ يابسة كالمومياء لم تصوِّر لنا شيئًا، حتى استغربت كيف يكون شاعر بلا مخيلة.
ومضى يسبُّ ويشتم، فتكردست ألفاظ دارت على لسان قلمه، ووسعها بحر البسيط، والبسيط بحر يتسع لتتالي الألفاظ، فأجاد وأبدع في شتمه لا في نظمه، حتى أسمعنا:
حقًّا إنَّ زهيرًا لم يُوفَّق في حولياته إلى مثل هذه «الأي نعم»، بل لم يُوفَّق إلى مثلها إلا أبو فراس بقوله:
ﻓ «أيضًا» أبي فراس، و«أي نعم» العقاد يتجاذبان ملاءة الحسن …
ثم أخذ يعدِّد أشياء جمة هي بالأخبار المحلية أشبه منها بالشعر، إلى أن قال:
حقًّا إنها لتورية لطيفة، وخصوصًا هذا العطف مبنى ومعنى. نحن في غنى عن شرح هذه الفكرة السامية، هذه الصورة الشعرية الرائعة النظيفة، فالعقاد، والحمد لله من روَّاد شعرنا الحديث.
ويمضي الشاعر على سننه، كما جاء في وحي المتنبي، ويسير لا زيغ ولا غرر حتى يُسمِعنا:
أجل، ونحن يا مولانا رعاياك الشرقيين، انتظرنا أن نسمع شعرًا ممَّنْ سلم عليه المجاهد مكرم عبيد بالإمارة، فإذا بك تُسمِعنا منظومة كلها من عريان الكلام، كألفية ابن مالك وأرجوزة اليازجي، يقول خيرًا منها متمرن موهوب لا فنَّان مثلك يدين بالفن والجمال.
وأنْ آسَف لا آسَف على تصافح صحفيَّيْن جليلَيْن — لا أذكرهما احترامًا — من أجل منظومة كهذه لا تستحق الإذاعة والنشر بل الطمر.
وبينا كنَّا نقرأ للعقاد وغيره من أدباء مصر نعيهم على الشعراء المحدثين والمعاصرين تعمدهم الجناس والطباق وما إليهما من الصناعات اللفظية، إذا بهذا الفاضل يطلع علينا بقصيدة كلها من هذه البضاعة.
ما قولكم، دام فضلكم وفضله بما يأتي: ربحتم أنتم العقبى وهم خسروا …
وثروة من ثراها … إلخ.
وظل هكذا يقول شعرًا حتى أتانا بهذا البيت الذي يتكلم شيطانه بالهندية:
يظهر أن صاحبنا نسي عند شكسبير وملتون وشلي وغوت فصاحة المركب، أو أنه شاقه أن يقول كالفرزدق:
وأخيرًا جرَّب العقاد أن يقول حكمة كالمرحوم شوقي، وكلاهما مؤمَّر علينا، كما قالت نعم عمر، فأسمعنا، لا فُضَّ فوه، ولا عاش مَن يشنوه:
كيف ترى أيها القارئ الكريم هذه الحكمة، أقال مثلها شاعر عربي بعدُ؟!
وبعدُ، فالعقاد من عشَّاق الفن، ولكنه يحسن التحدث عنه نثرًا لا شعرًا، فاسمع رعاك الله:
ما هذا يا أستاذ! هَبْنَا رضينا بازدهار الأرواح، أيرضى مؤمِّرك طه بصناعات الأكف؟ أضاقت بك الألفاظ إلى هذا الحدِّ؟ كنت استغنيت عن ذكر الفن والصناعة الذي أبعدك عن فن النظم هذا البُعْد. عفوًا نسيت حكمةً ثانية، فاسمعوا:
الشعر يا أميرنا يجب أن يُنزَّه — في مثل هذه المواقف — عن مثل هذه التعابير … أأنت تحمل سلامًا لغائب حتى تتكلم كعجائز لبنان: أمانة في رقبتك سلِّمْ على فلان؟!
وإليكم بيتًا أبدع فيه من حيث ألفاظه المنتقاة:
أَلَا ترون كيف أن العقاد كرر في عجز البيت حروفًا تنافرت ومر بها، ثم لم يحس شيئًا … إنني أتوسل إليه أن يراجع هذا البيت علَّه يهتدي إلى ما رمزت إليه فيصلح العطار ما أفسد الدهر، هذا إذا شاء أن يضم هذه القصيدة إلى ديوانه الجديد.
ويلي هذا البيت قوله:
فهذه «الكبرى» تعبير ابتدعه أبو تمام فيما أبدع، فقال:
فأخذه شوقي — رحمه الله — بالحرف الواحد، وقال بيت أبي تمام في شطر هو: أعدْتَ الراحةَ الكبرى لِمَنْ تَعِبا. وللقارئ الحُكْم.
أما العقاد فقد لاءم بين الكبرى والثقة فوفَّق، وقد انطوت قافيته «ويفتكر» على معنى كبير وإنْ نبتْ لفظًا.
وأراد العقاد أن يرد العجز على الصدر مختتمًا، كما كان يفعل البديعيون، فما خلص له ذلك وكانت الصنعة في قوله:
وقصارى الكلام: أعجبني من القصيدة بيت واحد — فقط لا غير — عليه مسحة الشعر، وفيه رائحة الخيال الذي هو ملاك الشعر، وإذا أردت تلخيص رأيي في هذه القصيدة قلت:
«أراد العقاد أن يحكي شعرًا فحكى، والأعمال بالنيات».