محصول الشهر
الشعراء الكبار نادرون، بل هم أندر جدًّا من العلماء الكبار.
١
وإن شئتَ فقُلْ محصول شهرين ثلاثة، منذ وفاة جلالة فؤاد الأول ملك مصر، حتى إفلات المتنبي من بلوى أنسته وحشته عند كافور، وكان أشد سهامها إيلامًا له قصيدة حليم دموس، فصحَّ فيه — بعد ألف عام — قوله:
قال أحد الكتَّاب الفرنسيين بمناسبة ذكرى الشعراء الرمزيين: «أوحد أمجاد الفن أن يحبنا أبناء مَن احتقرونا وازدرونا.» فمَن مبلغٌ هذه الكلمةَ إخوانَنا الشعراء كيلا يستندوا الأكف في المحاضر، ويستعطوا الاستحسان في زوايا المقاهي، ويحكموا الجماهير في رقبتهم؟ فقد أحسن الرصافي هذه المرة إذ عدَّى عن الشعر وقال نثرًا في حفلة الشام، فغلب المسك على ريح «البصل». أنا لم أقرأ كلمته، ولكنها بلا شك خير من ألفية لا إبداع فيها ولا تجديد، فليس الشعر أن نعود القهقرى، بل أن نثب إلى الأمام لنضرب الأرقام القياسية للأجيال الآتية، ليس الشعر أن نحملق في الأرض مفتشين على السنابل الساقطة لنلتقطها بأصابع رخوة وجبين مغبر، بل أن ننظر إلى السهل المنبطح أمامنا فنبذر فيه حبوبًا سليمة بكف كأن كل أصبع منها سهم يبلغ أبعد مدى، ثم نشق الأرض بمحراث تدفعه ذراع قوية كذراع الرب … تحلم بالشتاء والربيع وتترجى حلول الصيف للوقوف على البيدر بجبهة عالية، كما يرجو المؤمن ساعة الدينونة ليلقى وجه ربه.
فقبل الخوض في موضوعنا الصاخب لا بد من ترصيد الحساب بيننا وبين بعض قرائنا، وصلني مكتوب بواسطة «صوت الأحرار» عليه طابع بريد بروكلن، توقيعه «عابرة سبيل»، وتاريخه ٤ حزيران. إن تاء التأنيث المربوطة لم تُخْفِ عليَّ ذكورةَ الكاتب، ولكنني سأخاطبه، تيمُّنًا وتبركًا، كالأنثى، وإن خُدِعت فلي مثيل في التوراة، ذلك الأب القديم ابن جدنا إبراهيم الذي افتداه الرب بكبش، ألم يقل: الصوت صوت يعقوب، واللمس لمس عيسو، حين بارك يعقوب مشتري بكورة أخيه بطبخة عدس؟ فَلْتحيَ «المجدرة» التي أبقت لفلسطين نسل يعقوب المبارك!
قالت لي هذه السيدة أو الآنسة بل العفريتة في كتابها: «بما أن الوقت وقت مطالبات كما تصرحون، لا أعلم لماذا لم تنشر صوتُ الأحرار خطبةَ عكاظ الحكمة؛ لأن مَن يقرأ مداعبتكم للشيخ يكن كالأطرش بالزفة وأكثر.» ومع ذلك زغردت لنا من بعيد، سلم فمك «فهل صوت الأحرار إخبارية يا تُرَى؟»
أنا يا مولاتي لم أنشر خطابي، الذنب ذنبي فلا تلومي غيري، وأنا لا ألوم غيرك فقد جعلتني في حديثي معك كمَن يلحس الفرن! والبقية عندك لأنك لبنانية تفهمين كلامنا وأمثالنا، والدليل قولك لي: «وأخيرًا، لا بد من يعطيكم العافية، والتحية القروية لدفاعكم الحار عن حشو أدبنا العربي بالتبن بدل الزبيب الدربلي، كما قلتم مرة، فالشعر ابن الإلهام لا عبد المقام، هذا وإذا وثقنا برأي قادةِ الشعر في العالم … إلى الآن لم ينظم جون مايسفيلد شاعرُ الدولة في إنكلترا قصيدةَ رثاء للملك السابق، ولا قصيدة مدح أو تهنئة للملك الجديد، لأنه ما لم تُوحِ له الآلهةُ ذلك لا يفعل.»
اسمعي يا عزيزتي جوابي على هذا: قد تكون آلهة مايسفيلد شاعر دولة إنكلترا آلهة إنكليزية باردة لا طائرة مطوقة حنون كآلهة المتنبي التي تخيَّلها شاعرنا. وبعد تناولي رسالتك، عفوًا، بعد أن شرَّفني كتابك العزيز، جاءتني بواسطة «صوت الأحرار» مجلة عربية — «البرازيل المصورة» — أرسلها «أحد المعجبين»، فوجدت فيها مطلوبك، أي شاعرًا عربيًّا سدَّ غيبة مايسفيلد شاعر الدولة الإنكليزية — في ذمتك هذا اللقب — فرثى بعَبْرة حرَّى صاحبَ الجلالة الملك الإمبراطور جورج، ومدح خليفته إدوار وهنَّأه، وهذا مطلعها الساحر:
إلى أن يقول:
نعم، أن الملك جورج أخ لنا وهو حامي الإيمان والماسونية في العالم.
لا تعجبي من «يجلسنه يمينًا»، فهذه من طراز «يمينًا سِرْ، وشمالًا دُرْ» لغة الكشَّاف الذي ابتدعته إنكلترا، ثم شاء شاعرنا الفحل الهدار أن يحاكي الشاعر العربي الذي قال: هنا محا … إلخ. ولكن في ذنب قصيدته لا في رأسها، فانتقل إلى مدح إدوار، فاسمعي كيف يقول «مايسفيلدنا»، وهذا إبداع لا يأتي بمثله إلا دموس في الشرق:
مسكين هذا الملاك العجي، فكلما عَنَّ لشاعر غرض اتخذه مرسالًا أو بوَّابًا، كما جعله بشارة بدلًا من باسيل القمر بوَّاب بكركي يوم مات البطرك إلياس. ولم يُحرَم الشاعر الملك إدوار من طير أبابيل فقال:
ولم ينسَ هذا الشاعر الكبير مصيبتنا القومية، وهذا ما يؤهله للقب شاعر العروبة، فذكَّر بها صاحب الجلالة رأسًا، غير مكتفٍ بمعاتبة جون بول، كبشارة الذي يأتيك خبره، فاسمعي الآن قول شاعر «البرازيل المصورة»:
والابن والروح القدس، وربما يقصد الآب الضابط الكل، ما يرى وما لا يرى … كيف رأيت؟ أأعجبك هذا الشعر يا أختي؟ قولي معي يخزي العين، فالمجلة بجملتها مدفع رشَّاش، ولكنني سأكتفي منها بكلمة أخرى وجَّهَها الشاعر تهنئةً لفخامة الرئيس الأستاذ إده، فاسمعي الغرائب العجائب:
أَلَا ترين معي أن الله رفع شاعرنا هذا إلى أسفل، فحلَّق في جو أعلى من جو شعرائنا الذين مدحوا فخامة الرئيس؟ ويكفينا منه هذا الختام لنعدَّه مع الفحول:
وإذا قلبت الصفحة الأولى قرأت على الصفحة الثانية قوله أيضًا لرئيس ولاية سان باولو:
فافتحي مناخيرك يا أخيتي وتنشقي عبير هذا الأدب، واسألي مار شليطا، إن كنتِ تؤمنين بشفاعة القديسين واختصاصهم مثلي، أن يشفع بنا لدى الله، فلا تقع هذه المجلة في أيدي المتمشرقين فتُتَّخَذ نموذجًا للشعر العربي في القرن العشرين، عصر الأعاجيب، فيطول عمر الانتداب سبع سنين … وتعود وفود العرب من باريس ولندن تلعن الشعر والشعراء.
وإن لم تعجبك بضاعة البرازيل التي أهداها إليَّ هذا الشيطان «أحد المعجَبين»، حتى وضعت بين «المعجب» و«العابرة»، فدونك ما قاله شاعر مصري يوم مات المرحوم الملك فؤاد، الشاعر هو عبد الله العفيفي، وقصائده تحلُّ اليوم في جريدة الأهرام الخطيرة محل قصائد شوقي:
لا يا سي عبد الله، ما عرفنا مَن نكس العلم، وليتك ما خبرتنا! لقد ذكَّرتني بكاهن أخذ جمجمة من المقبرة قبل أن وقف ليعظ، وعرضها على المؤمنين وأخذ يسألهم عنها على نمطك حتى أزعجهم، فقال له واحد ساذج: هذه جمجمة طنوس يافث يا محترم، ماذا تريد منا بعد …
ثم ضاق الوزن فلم يَسَعْ «إلى»، فقال عبد الله:
لا أعلم، وشاء الشاعر أن يورِّي فجاءنا بهذا البيت المفكَّك الأوصال الممزَّق كالأشلاء:
ثم خبرنا أن يراعه كان يستمد الوحي من الفقيد العظيم بقوله:
صدق الشاعر فقد نظم بمناسبة الأربعين قصيدة طويلة لا وحي فيها، ومع ذلك افتتحت بها الأهرام نشرتها، وضبطتها بالشكل الكامل خوفًا من أن تضيع بعض الفائدة، أو أن يغرب شيء عنا من أسرارها البيانية. القصيدة منتقاة الألفاظ، جيدة الوصف، حافلة بالعاطفة، ولكنها عاطفة مَن لا يؤاتيه الإبداع فيخرجها بصورة رائعة.
نظم قصيدته هذه على وزن قصيدة ابن سينا العينية التي قال مثلها الحوراني في رثاء إبراهيم اليازجي. وقد رأيت في قصيدة عبد الله بيتًا ينظر — كما يعبِّر صاحب اليتيمة — إلى بيت الحوراني، ولكن شتان بينهما، قال الحوراني:
وقال العفيفي:
وأغرب عبد الله كما يغرب عندنا أبو عبد الله، فخبرنا أن النيل والهٌ — كناقة الخنساء — متعثر، يفيض بعَبْرة منهلة وهم مترع — لا بدع فالأيام أيام الفيضان — حتى لبس السواد وسعى زهره بقادمتي غراب أبقع، هذه عادة شعرائنا في الرثاء لا يقلعون عنها ولو انقلعت عيون النقاد كلهم، إنهم يسخِّرون الطبيعة لما يريدون ويشهدون عليها زورًا. إن مصيبتنا بشعرائنا كبيرة، يقولون بل ينظمون الشعر لا أدري لماذا، أتريدين أيضًا من هذه البضاعة؟ خذي، لديَّ منها أكثر من ذنوب أبي نواس، نظم العلامة الأستاذ عيسى إسكندر معلوف عضو المجمع الملكي المصري تاريخًا لوفاة الملك فؤاد، قال:
إلى أن يقول:
وفي القصيدة تنجيم وكشف بخت، وهذا يقتضي الحساب، أما الحساب فمضبوط، ولكن الشاعرية خاثرة خائرة، يذكرني نفس الشاعر بالمرحومة عائشة الباعونية. ليت الأستاذ المعلوف يعمل بمثلنا اللبناني: «طلعت ذقن ابنك أحلق ذقنك.» لقد جرَّب الأستاذ آلهة الشعر طويلًا فما حنَّتْ وما رقَّتْ، وما نظرت عطفًا إليه كما ترجى ابن الفارض، فَلْيدعها وشأنها، أما تجاوز حد الأربعين؟ فَلْيترك الشعر للمحروسين.
وماذا تريدين مني أيضًا يا عزيزتي، ذكِّريني. وأخيرًا قلتِ لي: «عسى ألَّا أكون أزعجتكم بتطفُّلي على ساحة أدبكم، أو عكرت دقيقة من وقتكم أو أن العطلة … إلخ.»
قلتُ بنبرة قوية تكادين تسمعينها من بروكلين، لو تمسكت بخيط مخائيل نعيمه الذي مدَّه لماري هاسكل: «حاشاك يا ست، أهلًا وسهلًا بك، شرَّفت وما كلَّفت، ثنِّي ولا تجعليها بيضة الديك، وإذا زرتنا مرة أخرى فارفعي إزارك — بلا معنى — لا تؤاخذيني ما قلت اخلعي عذارك. لا تقطعي عني رسائلك ففيها إلهام ووحي. عشت يا عروس وسلمت للأرمل الذكر — كما قال جرير — الذي يغتنم الفرصة ليسرق إعلانًا في «صوت الأحرار» وينشره بلا ثمن ولا رقم …»
حيَّا الله روحك الخفيفة، أما ما بقي من كتابك فسيبقى سرًّا مطويًّا لا يُنشَر إلا بعد موتي، وهو أبيض كقلبك، أسود كحظِّي من الدنيا.
٢
أما الأديب الأستاذ محمد أسعد الكيلاني الذي أحال عليَّ غريمه (المنار ٢٣ تموز) ببراعم الشاعر الأستاذ عمر يحيى، فهو عندي باليمين وحوالته مقبولة، ولولا انصرافي إلى درس محصول الشهر لأديتها «غب الاطلاع»، فللأستاذ عندي مبلغ من الفضل، بل أمانة في صندوقي تخوله حق التحويل على مصرفي ساعة يشاء، ولصاحب «البراعم» أيضًا كرامة يستحقها ديوانه الذي أهداه إليَّ منذ أشهر.
ولا بد أيضًا من ردِّ كلمة جاءتنا من خلف سبعة بحور — كما يقولون في لبنان — بعث بها إلى «الهدى» حضرة الأستاذ حنا الخوري الفغالي. تجاهل الأستاذ حنا وقال: «إنه لا يعلم ولا بشارة الخوري يدري أسباب غضبتنا.» قلت: «والداعي، أيضًا، لا يعلم أنه غضبان.» وأخيرًا افترض أخونا حنا الأسباب ليقول: «إن كانت ليعرب وثاراته فقد أخفق مارون عبود، وإن كانت سياسة فهل دخلت السياسة شيئًا إلا أفسدته؟» أما ثارات يعرب فندع الكلمة الفصل فيها للمنصفين الذين رُفِعت عن أعينهم الغشاوة، وأما السياسة فما أبعدنا عنها! إنا نؤمن إيمان بطرس بإفسادها، ونصدق هذه الكلمة المأثورة تصديق أبي بكر، وعندنا على ذلك براهين قاطعة، أولها إفسادها شعر أخينا بشارة، فلو ظلَّ أبو عبد الله زهيريًّا كما نشَأَ، يبكي وينوح وينتظر الحبيب في الزاوية، حتى إذا أخلف الميعاد صرخ من قلب مقروح بلسان البهاء زهير:
لكان له الشعر الغنائي المحبوب على علَّاته، ولكنه عدا طوره ومزاجه، شاء أن يقول شعرًا قوميًّا سياسيًّا، وعضلاته رخوة، فأخرج هذا الشعر المشرشر، الذي رأيت وترى نقده.
إن بشارة شاعر مقاطع، وإنْ أردتَ كلمةً أوضح فقُلْ «طقاطيق» مثل: الهوى والشباب، وجفنه علم الغزل، وغيرها من شعره الرائق، فهو لا يسكُّ في هذا الميدان.
وهناك رسائل شتى لا ينفسح المجال لذكرها، منها واحدة توقيع صاحبها «أخوكم أبو أحمد» طواها على «حاملات الطيب» — طرابلسية معلمنا شبلي الملاط، فطوينا الثنتين معًا لمَّا بدا لنا من مرسلها عيب نفسه، فهو يتمثل بشمشون حين قال: «عليَّ وعلى أعدائي يا رب.» أما الآن فَلْنَعُدْ إلى موسم الشعر في مصر.
•••
إن الحصاد كثير والفَعَلة قليلون، فنسأل ربَّ الحصاد أن يرسل فَعَلة لحصاده. يظهر أن عالَم الأدب العربي جارى الطبيعة هذا العام، فكانت هذه الآونة أيام حصاد. الحصاد كثير كما قلنا ولكنه خفيف، البيادر كبيرة ولكنها قش سنابله هيفاء، فحظُّ الأهراء منها قليل، أما حظُّ المتبن فكثير، هذا ملخص رأينا العام في بيادر هذا الشهر، فَلْنذرِّ أولًا بَيْدر مصر.
إن حلم فرعون الذي عبَّره له يوسف بن يعقوب يصح في مصر الأدبية أيضًا، ابتلعت البقرات السبع العجاف، القباح الهيئات جدًّا، البقرات السبع السمان الأبدان، الحسان الصور، وقد ذهبت السنابل الجافة الدقاق — كما تقول التوراة بالحرف — فموسم الشعر الذي أقيم هذه السنة — بعد استعداد سنوات — قحل قبل أن أكتنز، فلم يبيِّض الوجه، ولكنه أبشع جدًّا من البقرات السبع العجاف، وكأنهم شعروا بفشل موسم الرز فشاءوا أن يعتاضوا منه بموسم الفول … فقد بلغنا أنهم سيقيمون موسمًا آخَر سمَّوه أولًا «موسم الشباب»، ثم «مهرجان الشعر الحديث»، فأغضبوا الدكتور زكي، فقامت قيامته عليهم في «الجهاد». إن تسميته بالمهرجان ألبق وأليق، فمن الموسم ترجى الغلة … أما المهرجان فاسمه يدل عليه، ولماذا نستعجل الأمر قبل أوانه؟ قد يكون بين فتيان هذا المهرجان مَن يحقِّق قول شاعر الشباب الخالد: ويأتيك بالأخبار …
وكأني بالدكتور مبارك قد شعر بمحل «الموسم»، فكتب في «الجهاد» يخاطب العرابي باشا وزير معارف مصر: «لو كان الشعراء ينتظرون منك هذا الصدر الرحب لما طوى الهراوي قصيدته في معاتبة رئيس الوزراء، ولما أخفى الأسمر قصيدته في «الامتيازات الأجنبية»، ولما أغفل صاحبنا فلان — أي هو الدكتور زكي — قصيدة «غريب في مصر» لينشد قصيدة «غريب في باريس».»
قلت: وأيُّ فرق بينهما؟ فليس في هذه من ملامح باريس إلَّا:
فلولا هذا البيت لاستطعت أن تعنونها «غريب في تلِّ أبيب»، ومع ذلك فأنت لا تخطئ إذا عنونتها «غريب في وطن بلفور». إن «غريب باريس» قصيدة الدكتور زكي، من البضاعة الرائجة في البندر لفظًا ومعنى، فهي معرض للألفاظ المسوَّسة، والصور البائخة؛ كرقابة النجم، وشهود الوهر، والصبا والشمول، وعيون المها، ومجنون ليلى. ليت دكتورنا استبدل المجنون بابن أبي ربيعة، فمحيط باريس ربيع قلبه، إنه يلائمه جدًّا، ولا يرى فيه مثل أبي الأسود … إنه يغنيه عن «عتيق» فيكون عتيق نفسه في بلد يريه كل ساعة جديدًا، كما نتوقع الجديد من دكتورنا الذكي وهو يأتينا بشيء من مثله إنما في غير الشعر.
هذا ما أزعم للدكتور، فعسى أن أقرره عليه، فنصيحتي له — إن جاز لمثلي أن يعالج دكتورًا — أن يطلِّق النظم ثلاثًا، فليس لِمَا ينتجه هيئةُ مَن يعيش. قلت هذا لأن طعم قصيدته «يا أهل أسيوط» ما زال تحت أضراسي، ولا أزال أذكر مطلعها الرائع بإعجاب:
عوفيت يا صاحب، وشفاك الله من وجدك بالشعر، الزمِ المنثورَ يا شيخي، فلا خبز لك في معجن عبقر، ليس الفن الشعري أن نردِّد ما قيل، بل أن نقول ما لم يُقَل، ومَن يعمل غير ذلك ضل وانتحر على أقدام الآلهة.
إني أخاف عليك الضجر والممل، أيها القارئ، إنْ فصَّلْتُ لك وصف هذا الموسم الماحل؛ ولذلك أُجْمِل قائلًا لك: إن أغراضه مما قرأتَ وتقرأ كل يوم، فهناك وصف خمر، وحكم، وقوميات، حتى الوقوف على الأطلال … ما في وقوفك ساعة من بأس. إن أكثر شعره مقول، بل هو محصول أعوام سالفة تشم العطن إذا استروحته، وترى العفن إن تأمَّلْتَه، أما المستبضع مثلي فلا مفر له من احتمال الروز والتقليب، فاسمع كلمتي في ثلاث أربع قصائد:
افتتح الموسم الأستاذ الجميل بكلمة من منثوره كانت خيرًا من شعر الموسم، ودلَّتْ بوضوح على ثقافة أنطون العميقة وروحه الشعرية التي عرفناها يوم كان بيننا يحرِّر «البشير»، أما «عاصفة روح» — قصيدة ناجي التي استغربها بعضهم — فهي من الشعر الحديث الذي يتعمل شبابنا اليوم لقول مثله، ويسمونه الشعر الرمزي، إن موسيقى قصيدة ناجي وافية، والتزاوج بين ألفاظها ملائم، فلا خوف من الطلاق الباكر، أما أن نطلب المعاني المستقلة من مثل هذا الشعر فليس هذا غرض نظَّامه …
وعندي أنه لو أبقاها كما قالها ذاك لطابقت المرام أكثر، فالسُّكْر أحرى من الغضب بزورق يتقلب بين أكف الأمواج.
أما الشاعر الحاج محمد الهراوي، داعية الموسم الذي لم يتحقَّق إلا بعد ثلاث سنوات — ليته ما كان! — فقال قصيدة عنوانها «التجديد والتقليد»، افتتحها بهذين البيتين:
الحمد لله!
لا أدري إذا كانوا ردُّوا عليه السلام، أم اضطر الدكتور زكي أن ينهج نهج الحجاج في العراق، ليجبرهم على ذلك. ثم أخذ مولانا يفند زعم المجددين ويزدري قصصهم، ويقول أن سوقها بارت في الغرب — مَن خبَّرك هذا يا حاج؟ — ويخبرنا أن الشرق سبق إليها، حتى قال:
إذا كان الهراوي يعد القصص إعادة حديث، فما تراه كان يقول في شعره لو قرأه وهو يعلم أنه له؟ وشاء الشاعر أن يحدِّد لنا الشعر تحديدًا قاطعًا مانعًا فقال — ولم يجد:
ألم تهزك هذه «الموسيقية»؟ ألم تتذبذب كرقاص الساعة حين سمعت «ما هو غير»؟ والله ما قتلنا إلا مثل هذا النظم الذي يعده صاحبه أنموذجًا، ولكنه أيضًا بلا قيمة. وتخطى الشعر إلى بحث النثر فعيَّر الناثر قائلًا له:
شاء أن يتهكم فجاء بالسمج البليد! ما سمعنا أحدًا عبَّر هكذا حتى ولا طه حسين الذي يفتخر بأنه يفتكر في الفرنسية، فاثنين يوم أبشع من ربابة بشار، و«مدى يومين في الأيام» معفنة، ثم هل يكون اليومان من الحيوانات؟! عفوًا لم أنتبه إلى الضرورة التي تحلُّ من الناموس، فداود أكل خبز التقدمة لما جاع، فالقصيدة ميمية وأنت في حاجة إلى كلمة — في الأيام — لتسد بها فم الفراهيدي … ليتك لم تنظم هذه التوافه شعرًا، فالشعر براء من كلام ليس فيه حسن قافية كما قلت، ولا هو نظم كلام كما أمرت.
قاتَلَ الله الجمود والتحجُّر! أنناضل الجديد بهذا السلاح الصدئ؟ والأستاذ يريد في بيت آخَر أن لا نصف الثغر إلا بالدرِّ المنظوم، فلا فُضَّ فوه ليظل حريًا بهذا التشبيه … وتطرَّق إلى ذكر الألفاظ الدخيلة مثل «أوكازيون» و«ركلام» فأصاب، إننا في غنًى عن تعريب لفظة تؤديها لغتنا، ثم ختم هذه المنظومة الفريدة بقوله:
ولكن النقاد لا يعفونك، وسيان عندهم سمعت أم لم تسمع، فهم ينتقدون ولا يبالون بالمنقود، بل يجعلونه عبرة للأجيال الآتية التي يُرجَى صلاحها.
وأخيرًا توارى عنَّا الهراوي وهو يردِّد هذا البيت الفذ:
ولكنه رسام مخربش، وجديدك أعتق من توتنخامون، والحق نقول لك، بعد هذا الموسم: تمخض الهراوي فولد ثمامة.
وبعد هذه المرة العجلى بالموسم سنذهب بك إلى ساحة أمير الشعراء الأستاذ العقاد، فتسمع قصيدته التي قالها في رجل مصر المرحوم سعد، فتطرب وتهتف: إن من البيان لسحرًا!
٣
لم تمسح مصر دمعتها الحرَّى على ملكها المحبوب حتى قام فيها «موسم الشعر»، وما أنفخت دفَّ الموسم وتفرَّق العشَّاق حتى جاء يوم سعد.
قرأت بعد كتابة الفصلين السابقين من محصول الشهر قصيدةً لشاعر مصري هو علي الجارم، قالها في جلالة الملك فؤاد. على القصيدة رزانة المشايخ، ووقار الخوارنة والأئمة، خلعت عليها قافيتها شدة وأسرًا، فقرأنا عاطفة صماء في معرض الرثاء الذي يقتضي رقة ولينًا. ما عرضت لهذه إلا لأتحدث إلى أخت لها، وأقابل بينها وبين «عذراء» العقاد في سعد.
في علي الجارم نخوة عنترة وتأنٍّ، أنبأني بها إنشاده في الراديو، فهو ينتخي حتى في الرثاء، أما نظمه فعربي التفكير، كأنه لم يقرأ في حياته غير العربية، لا تلتمس عنده صورةً ولا تعبيرًا جديدين، فهو من نوع الشاعر الذي يريده الهراوي. يقول لك كالأقدمين:
فتخالك تقرأ دالية البحتري، أو كأنك أمام شاعر في الخيام يهجس بهزتها، وناظم كالشنفرى يتصور الرمي فالإرداء … إن الألفاظ أمنية الجارم لا المعاني، فهو يقول لك لا لشيء:
ذكَّرني هذا بقصيدة رفيق لنا قالها يوم عيد أستاذنا الخوري أنطون رومانوس، كانت كلها على هذا الحدو:
والشاعر يصور هول المصاب فيُوفَّق إلى هذا البيت الجميل، على ما فيه من مبالغة:
ورأى شيخنا الحشد العظيم فشبَّهه — على عادة شعرائنا الكبار — بالبحر والجبال، ولم ينسَ أن يقول أيضًا:
لماذا يا شيخ؟ وماذا يصير لو عدَّ؟ … آه! تذكرت الآن، كانوا ينهونا عن عدِّ النجوم خوفًا على أصابعنا من الثآليل … وبعدُ، فعند أبي شادي الخبر اليقين؛ لأنه أدرى بالنحل … وتجتاز القصيدة من الباب إلى المحراب، فترى الشاعر لا يتخيل إلا سيفًا وزهورًا، وكواكب ودوحة تمد الظلال في مصر مدًّا، إلا أنه لم يقل كالأخطل: ما إن يقاس بأعلى نبتها الشجر. ثم رأى رأيًّا يفضح الصبح، وجبالًا تسير في يوم حشر، وصخرًا وشوكًا ووردًا، ودرعًا وسدًّا، حتى إذا أراد أن يُظهِر مقام الملك الراحل قال هذه الحكمة البرزة، وإن لم تكن أعيت رياضتها كسرى وصدت عن أبي كرب كقول حبيب، بل افترعتها أقلام كثيرة:
لا نجرِّم الجارم إن استعار «إنما الناس بالملوك»، فقد تكون المعارضة بغيته، ولا يريد بنيان الممالك على الأسل، كما قال أبو الطيب. وبعدُ، فالشعراء جيران على بعد الزمان والمكان، والعارية مألوفة بينهم، واليوم نحن كلنا إخوان بنعمة المستعمرين، ثم شاء الشاعر أن يحدِّثنا عن الموت فما عدا كلام المعزين البلداء في كل مأتم:
وبينما هو يسحق النمال إذا به يقنص الأسود، وكل مهد يصير لحدًا، لا ينقصه إلا: ضاحك من تزاحم الأضداد، وغيرها من مجتر الكلام والأفكار. ثم لا أدري ما الحكمة التي حملت الجارم على تفضيل «سوح» على ساح؟ قد يكون عدها تجديدًا، فتجديد إخواننا المصريين كثير في مثل هذه الصيغ، فهم يقولون بلا ضرورة: أخلاد بدلًا من خلد، وحسيس أصوات، وقراب ذلك، وعكوف عليه، و«عَوْضُ» بدلًا من «أبدًا»، وندوات بدلًا من نوادٍ، ونحن عسيون … إلخ.
وقال الجارم قصيدة أخرى في سعد وهي غرضنا، نظمها على طراز قصيدة شوقي في استقبال أم المحسنين، وكاد يبدؤها مثله، قال:
ومضى يبعث الصور والمعاني القديمة، ولا جرم، فنحن في موقف بعث، وإخراج رفات من ضريح، فقال في الأبيات التالية للمطلع دون أن ينقطع نفسه: ابعثوه عسجدًا، ثم اجتلوه درة، وانتضوه سيف وغى، وقناة هي كالحق صفاة لا تلين، هزت جيش الأباطيل ثم السناء والسنى، والمحراب، وعرين الضيغم، وقصب المجد، وعلمًا في فدفد، وروضة ثم دوحة وشمسًا، كأنما شاعرنا هو المرشال فوش يوم كان يعرض الجنود القدماء أمام قوس النصر. والأستاذ الجارم — كما أريتك — مولع بالتلاعب الذي كانوا يسمونه بديعًا، فيقول لك: إن للحقِّ يمينًا لا تمين.
ومع أن الشيخ — كما ظهر لي — كثير العناية بالديباجة لم يتورَّع عن أن يقول: ذاك بعث «حييت» مصر به. ثم: هل ترى للشمس في الأفق تنين — جمع تنٍّ أي مثل — نجنا يا رب من محشر القافية … وهذه «التنين» مثل «صبير» أحمد رامي في «أوبة الطيار»، و«غسيل» بشارة الخوري في قصيدة فلسطين. ويمضي الناظم حتى آخِر منظومته يعرض علينا صوره العجائز، النظم رصين، والقافية طنانة كالنحل الذي رآه على السطح ونهانا عن عدِّه، أما الأفكار فمن جيل الخبز، إلا أنها مهما جار عليها الزمان تظل أقرب إلى النَفَس الشعري من قصيدة العقاد. الجارم يخشى الهلاك إذا تعدَّى ناموس الأقدمين، واللغة ككل الكائنات تحتاج إلى التطور، أما العقاد فيتأبى التقليد، وهو عاجز عن التجديد، فسبحان واهب اللحم لمَن ليس له أضراس!
قصيدة العقاد
كلما وضعت هذا الرجل على مائدة التشريح، أنكمش وأهز رأسي وأحس قلبي يتعصر شفقةً ورحمةً، ولكن ما حيلة الجراح وقد رأى «نملة فارسية» تتهدد الدم بالتسميم والجسم بالهدِّ؟ إن هذه الأدوار الخبيثة تكاد تقضي على أدبنا، فعلينا أن نكافحها بالمبضع والمصل الواقي، وأخيرًا بالكيِّ آخِر الداء والدواء.
عندما شاخ الزهاوي ولم ينقد له الشعر على طول تمرسه بآفاقه، أخذ ينظمه أسماطًا كما فعل العقاد اليوم، ولا غرو فهذان الشاعران أصدق دليل على زعم تين وبرونتير في تصنيف الأدباء كالنبات. نظم العقاد قصيدة سعد عناقيد عناقيد، ولكنها حصرم يفت في عين العروض، وما أظن رأس واضع هذا العلم انشقَّ إلا انتقامًا للشعر منه؛ إذ عبَّد طريقه للناس فسلكها الكسيح والمقعد.
أجل، إن العقاد انتحل مذهب شلي في الحق والجمال، ولكنه لم يستطع أن يدخلهما في شعره، قد يكون أذعن له «الحق» أما «الجمال» فغليظ الرقبة. لست أحاول هذه المرة درس قصيدته هذه بيتًا بيتًا كما فعلت فيما مضى، فهي نثر إذا استثنينا الوزن، فاسمع مطلعها، وفي طلعة البدر ما يغنيك عن زحل:
في البيت وصف واقعي، ولكن الواقع وحده لا يعمل الشعر والشاعر، كما أن الحلم وأخاه التذكار لا يكونان «عالم» الشاعر الحقيقي، فالويل للشاعر الذي لا يضم ارتعاشاته الخاصة إلى ما ورثه عن الأجيال السالفة. فلو كان الشعر سَرْد أخبار بأسلوب جاف — كقصيدة العقاد هذه — لقلنا لك: هذا هو الشعر، والعقاد أمير الشعراء، ولا يموت كالفرَّاء وفي قلبه شيء … ولكنه — ويا للأسف — غير هذا، الشاعر لا يقول: كلما أقصوه عن دارٍ له، إن الشعر لا يقبل كل الألفاظ، فبلعومه أضيق من بلعوم النثر، ومعدته لا تقبل «فتَّة» العقاد القائل:
وفي العنقود الثاني يجعل العقاد قبر سعد كعبة في جوار البيت أو سفح الإمام، فبنو مصر حجيج وزحام، ولولا زحمة القافية ما كانت زحام ولا أختها تمام، ولولا ذكره الكعبة ما جاء ذكر الحج والنسك والاستلام، عقبى كل هذا الخلد المقيم كما يقول الشاعر لسعد في هذا البيت الرائع:
لو كان العقاد من المجدودين، وكان قبل ١٤٠٠ سنة، وأنشد بيته النابغةَ في عكاظ لجعله ابن أخيه وأشعر العرب.
وتأتي العنقود الثالث فتجده كأخيه لا تبرق فيه حبة، خاطَبَ الناظم فيه سعدًا وأمره بعبور القاهرة، ووصف ساعة العبور بأنها من ساعات الفردوس لا تشبه الساعات بدءًا وختامًا، وهنيئًا لك يا فاعل الخير! وختم هذا المقطع بقول الواعظ على قبر الإسكندر:
وينتحي العقاد في الفوج الرابع، ولكنها نخوة مُقْعَد، ويحمى حمي حالم مصاب بالكابوس «مروبص» فيصيح:
إن الشاعر المفنَّ يستغني عن «من أغمادها» ويشعر بضعف «في آفاقها»، فيأتي في مثل هذا الموقف بألفاظ تجعل اليد على القائم، والقلب خفاقًا كالراية، إن الشاعر مَن أوتي قريحة كناقة طرفة، ترقل ولا ترقل ولا تخاف مثلها الملوي … ومع ذلك أشهد أنه مرَّ أمامي في هذا الفوج جندي يشبه الجنود لولا شحوب بارد عليه:
فلو نظم هذا المعنى غير العقاد لحرَّك سامعيه وقارئيه، فكأنما شاءت آلهة العقاد البليدة أن تريه أرض الميعاد كموسى ثم لا يدخلها، فقال:
آه من «الولاء والوداد»! ما أبغضهما إليَّ في هذا الموطن يا أستاذ! ثم قال:
فهذه «البعيد» بعيدة عن الشعر بُعْد العقاد عن الفن، ليته نفضها مع الحزن، ولكنها ستحلو حين نرى أبشع منها وأشنع كقوله:
أتعرفها أم أدلك عليها؟ إنها آخِر الأمر وأختها المعيقون، وسأريك أبشعين وأشنعين، فبعد ما حدَّثنا العقاد عن «نقلة الشمس» مع أننا فتنا آذار، ورأى أنها ترمز إلى نقلة سعد، قال:
أظنك عرفت أنني أعني «هو أيضًا»، أما «الكذاب» فلا ترعك، فهي من تجديد بعض المصريين. والخلاصة أن العقاد قد مُنِعَ من الشعر بعلتين قتالتين: الركاكة وضعف الخيال، فلو صار مثل «آرجو» له مائة عين مبصرة، وركب نسر حيقار، ومركبة إيلياء، وعلا صهوة البراق، فلن يبلغ سماء الوحي ولا يقارب آفاقها.
وخبرنا العقاد في آخِر القصيدة عن كتابه في سعد، فآمنا وصدَّقنا أنه يكون كتابًا قيمًا، فالعقاد كاتب مفكِّر، ولعله يفطن ولا ينشر فيه ما قاله نظمًا في فقيد مصر، فينجو الكتاب من النحس. فاتني أن أخبرك أن العقاد استحلى اللام فحشرها حيث شاء:
وإليك بيته لتحسن الحكم عليه:
ثم قال أبياتًا بعدها جاءت على نسق زجلية رواها لنا الدويهي في تاريخه، وهذا مطلعها:
وإذا سألتني ماذا في قصيدة العقاد من حسنات، قلت لك: إنها وثيقة صادقة تفضح الدسائس السياسية حول سعد بعد موته، وحول قبره هذا، فالعقاد ينبئك — وما ينبئك مثل خبير — ماذا فعل فريق من المصريين، وكيف عارضوا نقل رفات البطل. كان هذا أبلغ لو قاله العقاد نثرًا، فالنثر أطوع له، ولكن العقاد عنيد يظن النظم خصمًا سياسيًّا لا بد له من قهره، فعبثًا ننقده وننصحه فهو كأَسدِ بِشْر يظن مقالتي زورًا وهجرًا …
إذا كان النقد كما يريد سنت بيف أن نشعر ونخبر عن شعورنا، فإنني لم أشعر بشيء من الشعر في هذه القصيدة، أرى مصر في سني القحط السبع، فعسى أن يطول عمري إلى انتهائها. قد ذهب الزمان بدنيا شوقي الواسعة، نعم إن تخطيطها قديم، بَيْدَ أنه فيها من الفن العربي الخصيص بصاحبه، أما العقاد فأشبه بتلبيسة — قرية على طريق حلب — كل بنيانها من الحواري على طراز كوم الخلد. إنه يعرف مقاييس الفن كطالب يعرف أسرار الاختراعات من الكتب، أما العاطفة الحية التي تدب في النشيدة فما رُزِق منها شيئًا، وهو ينظم بعقله وليس لقلبه عمل.
قال الله في كتابه العزيز: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ، ونحن عسيون — التعبير من تجديد العقاد — أن نلقح هؤلاء النائمين في ظل سنديانة الكنيسة، ولم يدخلوها ليشعروا بقشعريرة المتهجدين، فعونك اللهم على هؤلاء الذين يطلبون «الحسنة» بالدبوس.
أما الآن فقد حان أن نعود إلى برِّ الشام، فغربتنا طالت في مصر، والغريب يشتاق إلى أهله، فَلْندع العقاد يغازل ربة الشعر مستعينًا على تليين قلبها بقول أبي فراس: معللتي بالوصل …
٤
لا ديك الفجر ولا بلبل الصباح يغنيان الأنشودة التي يشتهيانها.
خطب المستر ستانلي بلدوين — وزير إنكلترا الأول ومستشار جامعة كمبردج — في مائتي مندوب ممثِّلي جامعات الإمبراطورية البريطانية، فجاء في خطابه: «إن الشعراء الكبار نادرون، بل هم أندر جدًّا من العلماء الكبار الذين يخلق علمهم الشيطاني المواد التي تبيد الإنسانية، فلذلك أسألكم — أيها السادة — أن تكثروا بين نتاج جامعاتكم عدد الشعراء الذين ينفخون في أوروبا، بل في العالم أجمع، روحَ الاتحاد والحرية.»
فاستغرب هذا الطلب كاتب إفرنسي فقال: «إن الشعراء لا يعملون توصية، فمهما كانت قوة الوزير البريطاني الأول، ومهما اشتد ميل الجامعيين الأنكلوسكسون، فلن يستطيعوا أن يفبركوا الشعراء جامعيًّا، ولا أن يصدِّروهم بالجملة كالمحامين والأطباء والمهندسين … إلخ.»
أجل، إن حاجة العالم إلى شعراء حقيقيين كحاجة الغابة الخرساء إلى طيور فصيحة تخفِّف من الذعر الذي تلقيه وحوشها في النفوس، فكلما ابتعد العالم عن الشعر اقترب من الهمجية، ولكن خلق الشعراء مستحيل، أما تجويدهم فممكن. ليس الشعر علمًا ولا التغريد صناعة، ولو كانا كذلك لأتقنهما المتشاعر والغراب، ومَن يحاول أن ينتج من نفسه ما ليس فيها، فإنما يدرك فشلًا مخزيًا. كثيرون من الشعراء — كالعقاد والزهاوي مثلًا — يتعبدون ويجاورون طول العمر، فلا تتعرف إليهم الآلهة ولا يرون لها صورة وجه، فكم من كاهن يأكل ربه كل يوم، وربه لا يدخل تحت سقف بيته، بل يصرخ به: اغرب عني، لا أعرفك. وكم من مؤذن يذكر الله ورسوله، كل يوم خمسًا، فيرقص صوته على السطوح ويتغلغل في النوافذ. إن مناجاة رجل عامر القلب بالإيمان، لا يسمع جاره هسهسته، تسبقه إلى أذن مَن وسع كرسيه السماء والأرض.
بعض الناس يصلح شماسًا للكنيسة فيريد أن يكون واعظًا، وبعضهم يحسن التكهين فيطمع إلى عرش راعي الرعاة، وهذي مصيبتنا الكبيرة بأخينا بشارة الخوري: الأخطل الصغير، شاعر لبنان، شاعر العرب — ميراث حلال زلال عن الكاظمي في حياته — واليوم شاعر الأقطار العربية … مسكين خليل مطران عاقل جدًّا، تأكل الدجاجة عشاه ولا يكشها، إنه لا يهشُّ ولا ينشُّ ولا يسائل عن شيء.
لا بد لمحصول الشهر من بشارة، فالزيتون شيخ السفرة، وما شيَّخوه إلا لأنه مجهز كشعر أبي عبد الله الذي لا يبخل، كلما سنحت الفرصة، بقصيدة تناسب المقام، حتى صار كالخوري الذي ينتظر مَن يرقدون بالرب ليرفع عقيرته مرتلًا: حوين لحاطويه … إن بشارة ينظم ونحن نقدره، ونعنى خصيصًا بشعره، كلما قُدِّرَ لنا ذلك، أما رجاله الذين يطلعون علينا من هنا وهناك ظانين أنهم يدافعون عنه، فيشبهون متَّى الأطرش. مرَّ رجل على متَّى هذا وهو يحرث حقله فحيَّاه قائلًا: عوافي يا متَّى، فأجابه متَّى: ازرع بطاطا … فتبسم له الرجل وقال: تأكل عزرائيل يسحب روحك. فقال متَّى: أنا وابن عمي سليمان.
إننا نرثي جدًّا لرجل حَادَ عن الطريق فقلنا له: من هنا يا أخ. فنتأ وأجابنا: ماذا يعنيك مني؟ لا أناقش بشارة في قصيدته لغبطة البطريرك، فهي من نوع «نظم المنثور» وأكثرها مما يقوله رافعو الكئوس في المآدب، والمؤهلون بالضيف، ولكن لي كلمة أقولها قبل كبِّ السلة. إن بشارة لم ينسَ عيسى بن مريم في يوم الشعانين، فشبه به البطرك أنطون، وكاد يكون هذا طبق ذاك لولا أن المسيح الملك — كما لقبه البابا أخيرًا — ركب جحشًا، وصاحب الغبطة أقلته سيارة جلس فيها عن يساره ممثل قيصر، مشى حوله وحواليه مَن يعتصرون الزيت ولا يحملون أبدًا غصن الزيتون. وأغرب من هذا جمزة الشاعر المبدع بل قفزته العالية من على ظهر الأتان إلى جناحي النسر، فتدهوره من علٍ، كحصان امرئ القيس، ثم اندفاعه إلى الغابة ليشبه بليثها قائلًا:
صرت أكره جدًّا هذا التشبيه بالنسر وزميله الليث، فقد خمَّ لكثرة ما ناشته الأيدي، ولا تنسَ أن العامة سبقونا إليه فقالوا فيه أحسن منَّا، وإليك ما سمعته مرةً من مغنٍّ يزعق في عرس:
فما يقول بشارة في هذه البلاغة؟ وهل يجوز له ولغيره من الشعراء أن يطاولوا النسور؟
وإن نسي بشارة جعل «مار أنطون» قافية بيت يزيد على قامة قصيدته أصبعًا، ويربحه تصفيقة حادة، فإنه لم يَسْهُ عن ذكر العهد — الانتداب — والوعد، فحمد القوم قبل وبعد … وأقر لهم بالفضل أيضًا، وهو ممَّن عرفوه أكثر منا، ثم لم يحرمهم من العتاب الذي هو صابون القلوب، فاسمع بيتيه الجامعين:
كل القصيدة من هذا الشعر الرذل كأكثر شعر بشارة السياسي، وشر البلايا المضحكة. إن «أخطلنا» ينظم محليات الجرائد ويزعم أنه شاعر العرب بلا منازع! فإياك، مثنى وثلاث ورباع، أن تمنعه من هذه الجبة الفضفاضة فإنه يغضب ويحرد، فاللقب حلي بعينه، وهو يتمسك به بكلتا يديه تمسُّك الطفل بلعبته، ولا يفلتها إلا باكيًا.
قصيدة بشارة في فلسطين
فلسطين أختنا، بنت عمنا، حبيبتنا، جارتنا، ومصيبتها، والله مصيبتنا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نحن ننقد شعر بشارة الخوري فقط. إن قصيدته في فلسطين عليلة منهوكة بليتها تقطع النبض، فالشاعر ينط فيها كراقص الشارلستون، أو هو كعصفور دوري يسقط على الحب ينقر ويتلفت، فبينا يسائل عنا العلياء والزمانا إذا به يرتمي في «زبلين» جديد، ليطير بنا إلى «لندرة» لمعاتبة جون بول:
أتقول إنه مشتاق كثيرًا إلينا؟ بل مَن قال لنا أنه يقابلنا إذا لم نمشِ إليه مشية بشار. إن هؤلاء الإنكليز لا يعاتِبون ولا يعاتَبون، فهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ إلى آخِر الآية. القافلة ماشية فقُلْ ما شئتَ، ثم قال لجون بول أيضًا:
فذكرني بقول القائل:
لم يقل شاعر العرب الأكبر شعرًا يبيض وجوهنا السمراء في الأبيات الخمسة الأولى، أما البيت السادس:
فحسن، وهو من الشعر الفذ مبنى ومعنى، وإن كان بشارة على دين بشَّار، يرضى من القصيدة ببيت جيد فقد بلغ مشتهاه، فَلْيُكْثِرْ من النظم ليكون له مثله اثنا عشر ألف قصيدة؛ إن هذا ممكن فالموت متلاحق، والفرح لا ينقطع، وباب بشارة مقصد، ولكن ما يأتي بعد هذا البيت الجيد ينسينا حلاوته، فاسمع ما قال:
أليس هذا تصورًا صبيانيًّا يضحك أكثر مما «ضحك المجد لنا» في وحي بشارة وخياله؟ فلا تنسَ أيها القارئ ما تطالع الآن، فلا بد من رد العجز على الصدر عند الأستاذ، أما الآن فاسمع:
هذا عرس لم ترقص به الشاعرية، وبشارة حط النقوط — أي النقود — ثم راح يخبرنا نظمًا عن «العهد الذي نحرته دون ذنب حلفانا»، والعهد والوعد أصبحا من لوازم شعر بشارة، ولو ضيع العهود الشعرية — كعبلة — وقال لنا: «نزرع النصر ويجنيه سوانا»، فما تراه زاد على مغني الميجانا القائل: نحن زرعنا الزرع وأجا الغير حصد …؟ إن الزاجل قال أبلغ لأن الجني للثمر والحصد للزرع، الزاجل رمز، وبشارة صرح. ثم لم يكتفِ بذلك بل حاول أن يزيدنا إيضاحًا، زاده الله صلاح شعر، فتعلَّل لخيبتنا السياسية بقوله:
كأنما هؤلاء الإنكليز أبناء عمنا لحًّا! الفرنسيون أحبة — في قصيدة غبطته — والإنكليز أخوة ودٍّ … وما عساه أن يقول بعد غد إذا حاكى الطليان. ناهيك بما في صرعة الدهر من بلادة، فتبًّا لدهر صيَّر أخطل هذه الأيام لمامًا يجمع ما تجتره الأقلام كل يوم، فيشبك بعضه إلى بعض عاملًا منه مسبحة الدرويش.
وانتقل إلى وصف جهاد فلسطين الذي «صفَّق المجد له» كما «ضحك لنا» من قبلُ، و«لبس الغار عليه الأرجوانا» كما تلبس المرأة فسطانها العنابي فوق تنورتها «درعها» الخضراء. ثم تصوَّر هذه الداهية العظمى فشبهها على جسامتها بجرح في جبهتها «لثمته بخشوع شفتانا»، كما تلثم المرأة ولدها إذا سقط إلى الأرض وصرخ، قد تكون الجبهة أدت المعنى الذي في قلب الشاعر، أما أنا فأرى جرحها غير ذي شأن؛ لأن عظمها سميك، كشعر هذه الأيام، يتحمل الشجَّ، بَيْدَ أني لا أنكر أن الجبهة عذب مقبلها لذة المطعم، وأكبر الظن أن هذا هو الذي استحلاه شاعر … ضَعْ في هذا الفراغ اللقب الجديد الذي يمليه عليك بشارة.
ورأى أيضًا في هذه الثورة الصاخبة التي أيقظت الإنكليز — على ثقل نومهم — «أنينًا باحت النجوى به»، ثم كان هذا الأنين «عربيًّا رشفته مقلتانا» والأحرى بهما أن تسقيا. وبعد هذه البدائع والطرائف أنبأنا قائلًا:
مع آلامك يا يسوع! لست أقول شيئًا في «غسيل» بشارة، فيحكم القارئ على النظافة والإتقان، ولكنني أتعجب لماذا يبكُّون، كلما شاءوا، هذا الإله الشاب؟ أيظل إلى الأبد بكَّاء سخي الدمعة؟ وكيف يكون ذرف الدموع حنانًا؟ لا أدري، دمعة واحدة محتملة أما دموع وذرف فكثير على الحنان! إن يسوع أشجع الناس وإن لم يقاتل، وكيف يقاتل مَن لم يجد مع تلاميذه «الأبطال» غير سيفين، والشعب الذي هاش أمامه يوم الأحد انقطع صوته صباح الإثنين. وبعدُ، فليس بكاء يسوع عجيبًا، قد يقوم شاعر إسباني يبكيه في الغرب لأن البلاشفة نيشنوه، أي رموه بالرصاص، فهل لبشارة أن ينظم درَّة يخفِّف بها من آلام يسوع، ويسد بها أفواه هذا الجيل الشرير الذي يطلب آيةً، ولا يعطى له إلا قصائد بشارة؟
لا شك أنه نسي هذا، فهو كثير النسيان في هذه الرحلة، قد غفل عن «عرس قانا» في هذه القصيدة، كما سها عن «مار أنطون» في تلك، مع أنها تواتي القافية والوزن، وفيها ما فيها من التورية، فلو كلف أبو عبد الله صاحبه عيسى بن كريم عمل عجيبة في «عرس الأحرار»، فإني أؤكد لك أنه لا يقول له: ما لي ولك يا … لم تأتِ ساعتي بعدُ.
ثم انفجرت نجوى «أخي الود» على أختنا الحبيبة فلسطين، فأعرب عن حبنا وارتباطنا بعهد «قد رضعناه من المهد كلانا»، مع أن الخلاف كان على المهد، وأكثر ما تكون المجاحشة حول «المذود». ثم قال: «إن يثرب والقدس منذ احتلما كعبتانا»، وهو صحيح إن صحَّ أن يكون الاحتلام في الشيخوخة، أي في هذه الأيام، حين لم يبقَ في الكرم إلا الحطب. ومضى بشارة يفتش عن الأعلام — قوام شعر المناسبات — فمرَّ بضريح عدنان وغسَّان، فنشرهما باسم صديقه يسوع، ولكن ليطوينا نحن:
حسنًا قلت، وقد سمعنا جاهليًّا يقول: إنَّا لنرخص يوم الروع أنفسنا. ولكن أَلَا ترى أنه ليس من حسن الذوق أن تجعل طريقنا على النار بعد ما ذكرت الموت، وجعلتنا في يده؟ فكلنا يا أخي من المؤمنين بالله واليوم الآخِر، نخشى ساعة نقف فيها على النار، ارحمنا يرحمك الله! وكم يكون حظ الناس أبيض إذا حالت النار جِنَانًا، فَدَمُ المسيح الذي افتداك ونجاك من الخطيئة الأصلية ما استحق كل هذا!
ثم قال فأجاد:
ولكنه لثلث بيتين بعده حتى قال بيتًا مقبولًا لم يشنه الجناس بين العنف والعنفوان. والآن قد بلغنا المحجة فاسمع ما يقول الشاعر بعدما أشبع الدنيا ابتهارًا:
آه من هذه اﻟ «الله» التي ملأت أفواهنا حتى انقطع رزقنا، إن مَن يتهدد بالبركان والعنف والعنفوان وغيرهما من وزن فعلان الطنَّان الرنَّان لا ينتهي إلى القول «أمان جانم» أَوَليس قولك للإنكليز: «قرع الدوتشي لكم ظهر العصا … إلخ.» كقول صبي لآخَر ضربه: «كنت ضربت ابن فلان الذي فرك مناخيرك أمس! أنا لست من قدك!» فتروَّ يا أخي، غير مأمور، إنْ قلتَ شعرًا سياسيًّا فيما بعدُ، فالسياسة تتطلب التحفظ، نحن لا ننهاك عن خوض غمارها، ولكننا نقول لك: توقَّ الدول.
وبعد أن استحم بشارة بمياه جوفانس الحمراء، توهَّمَ أنه رجع شرخًا فقال:
ذكرني هذا الأمر بالقيام رتبة العنصرة التي يقول فيها الكاهن للشعب: قوموا بقوة الرب الصباووت الراكب على المشارق والمغارب.
قمنا يا أخي فماذا تريد؟ وما الفائدة من لمس الجرح؟ ألنوجعهم فقط؟ سائِل المتنبي عن أيِّ دم يستحيل مسكًا، فما لك وهذا الطيب تكثر منه في منظوماتك القومية؟ أتصبوا أيضًا إلى لقب أبي المسك؟ إن «لمسة تسبح بالطيب يدانا» مشوشة التركيب، فلماذا عنَّيت نفسك للاشيء؟ إنك لم تزد على ما قلتَ في رثاء هنانو إلا إغاظتك النحاة المناحيس، فيا ضياع تعبك!
إني أسألك فأخبرني، لماذا أمرتنا بالصوم قائمين؟ أَلَا تراه أهون على القاعد؟ بل ما حملك على نظم فكرة سبقك إليها فعلًا أخونا المجاهد سامي سليم؟ ليتك قلت مثله: فَلْنَجُعْ، فَلْنَصُمْ يومًا من العمر لهم، وارحتنا من القيام في هذا الحرِّ، أَمَا أزعجت نفسك وعرَّقتنا؟ وبعدُ، فما لي ولك فقد تكون رأيت في «قُمْ» بلاغةً لم نَرَهَا نحن، أما أرجح الظنون فإنك تطمع لنا بزيادة الأجر، عظَّمَ الله أجرك وأجر كل شاعر يطول لقريحته في هذه المراعي.
كان الأخطل الذي انتحلت اسمه يرد التسعين ثلاثين، فما بالك أنت تمط الثلاثة لتجعلها ثلاثين وأربعين؟ هل خبرك أحد أن قصائد هذه الأيام تُشرَى بالباع كحبال القنَّب، أو بالأقة كبعض بضاعة سوق سرسق؟
وأخيرًا، لا بد من ملاحظةٍ على «هَبْه صوم الفصح»، إنَّ صوم الفصح، يا سيد العارفين، لا يوفِّر إلا السلفة «الترويقة»، وإن كان فينا مَن يصوم حسب الطقس اللاتيني فلا نوفر شيئًا، فهلا تستدرك هذا في الطبعة الثانية؟ إنْ كسر الصفراء لا يعبئ الكيس اللائق، أما إذا أمرت أن يكتب عليه: إن الهدايا على مقدار مهديها، فلا بأس.
وما تركنا القلم لنستريح من هذه الفجاجات حتى وقع نظرنا على نفثة جديدة من نفثات شاعر الأقطار العربية — بشارة لا خليل — ودرَّة من درره المكنونة، قالها لا فُضَّ فوه، ولا عاش مَن يشنوه — لو كنت أنا كما يزعم — في الفقيد العزيز الغالي المرحوم رحمة واسعة عبد الرازق الدندشي، فأمرنا لله.
٥
تشتغل الطبيعة من الحول إلى الحول لتصنع زهرة رائعة، أما الشوكة فتخلق شوكة.
حقًّا إن هذا العام عام غرائب وعجائب، فكما ظهر في فلكنا نجم ضخم، كوجه الفرزدق، كاد يخرب الأرض، كذلك لاح في أفق عالم الشعر نجم أعظم من كوكب أبي تمام الغربي ذي الذنب، وهو مطلع مرثاة الدندشي للأستاذ بشارة أفندي الخوري، شاعر الأقطار حتى الصين والهند، وهذا هو بنصه وفصِّه:
أرأيت في حياتك أغرب وأعجب من ذنب هذا البيت؟ أما أنا — والله يشهد عليَّ — فما رأيت بيتًا يقاربه إلا: فكأنني أفطرت في رمضان، إن صدق الرواة.
لما منحت مدام دي نواي وسام جوقة الشرف — اللجيون دونور — من رتبة كومندور التي يقضي مرسومها بتعليق الوسام في الرقبة، أخذت جريدة إفرنسية تداعب وتمزح، فقالت ما يقارب هذا: ترى أين تنيط الوسام مدام دي نواي؟ أبعنقها مكان العقد؟ أم في صدرها ولا يعوقها ما فيه من قمم؟ بل أين تشكُّه يا تُرَى؟ أتستعيض برباطه الحريري الأحمر عن محزم ضفائرها فتدليه فوق صدغها الأيسر أو الأيمن؟ أم تُرَاها تعلقه على ظهرها من خلف؟ … إلخ، وهكذا برزت تلك الجريدة الفكهة مصورة الشاعرة الكبيرة بالوسام الأكبر صورًا شتى من خلف ومن قدام، في الشَّعْر وفي النحر وتحت النحر.
فهل لهذا العاجز — كما عبَّر الأستاذ خليل تقي الدين مرة — أن يسأل الخلق من ذكور وإناث عن هذا «المنديل الحيي» بصدر فتاة أين يكون؟ وكيف يكون، ليجيء أقرب إلى الصورة التي استنبطها رافائيل الشعراء؟ — رافائيل المصور الطلياني لا رافائيل طوبيا، أبو لحاف.
قال أعداء شاعرنا الأعظم الذين يقول بشارة فيهم:
إن بشارة شاعر قديم غير مجدِّد ولا مبدع، شاعر غنَّى يا ليل، فقال أحسن ما عنده واستراح، وهو لا يقدم اليوم في مضيفته غير طعام بائت، وقد حمَّض رزَّه المسكوب في قصاع من الفخار المشقق ناصل صباغها … إلخ، فما عسى هؤلاء الحسَّاد الكذابون يقولون إذ يرون هذا المنديل العجيب معلقًا بإحدى قرانيه أمام دكان بشارة؟ لا شك أنهم يسطمون أفواههم حين يشاهدون هذه الآية التي لم يحلم بها أحد من الأولين والمتأخرين، لا في الشرق ولا في الغرب، ولهذا سميته — كما مرَّ — شاعر كل الأقطار، وكفى الله المؤمنين القتال. إنه أشعرهم بهذا «العجز» ولكن بدون يا ابن أخي، ولا أحاشي من «النظَّام» من أحد، إلا شاعرًا عاميًّا ضيَّع منديلًا خطيرًا، في زمان ستِّي أم إلياس، فقال فيه:
وبعدُ، فما قول القراء الألباء، أي منديل يعني أخونا بشارة، أمنديل العرق والامتخاط؟ فذاك يختفي ولا يبين منه شيء، فهو بحق كلي الحياء والوقار والاحتشام، أم منديل السعوط وهو أثقل الأعباء على جيبي؟ أم منديل الزينة الذي يبين منه شيء يشبه الأذنين، وقد يكون أطول منهما أحيانًا فيلوي عنقه ويتدلدل فوق الصدر ولا يمسها إلا مسًّا خفيفًا، فيظهر حييًّا مهذبًا أديبًا؟ أم المنديل الذي يكون في عبها احتياطيًّا لأمر يأتي، كالتلويح والإيماء ومآرب أخرى … فيقعد عاقلًا، ولا يتشيطن كجرير لنهواه، بل يبدو رزينًا، عفَّ الحركات، أبيًّا نزيهًا وقورًا برغم ما في المحيط من مقبلات ومغريات وتوابل؟
ثم ما تقولون في اللون؟ فأنا أظنه بنفسجيًّا، بل الأرجح أنه أبيض، من لون زنبق مار يوسف البتول، شفيع النجارين، أو من لون عصاه التي أزهرت يوم اليانصيب، أي الخيرة لستنا مريم التي حبل بها وحبلت بلا دنس.
صدق الله العظيم، إن الشعراء — وأزيد عليهم المجتهدين في اختراع العجائب — في كل وادٍ يهيمون. أما كيف أضاع بشارة ذاك الذوق السليم، وخيم في الشاطئ … فلا أدري أين هذا يا أخي من قولك الفذ — إذا صحَّ أنه لك:
أما اختراعك الجديد هذا ففات «المنديل السليماني» وسبقه ستين مرحلة، وأخرس القائلين ما ترك الأول للآخِر.
عندما كنَّا في مدرسة مار يوحنا مارون نتلقى الدروس السريانية حمي الجدال في مجلة المشرق (راجع السنة الثالثة ص١١٠٣، والخامسة ص١٤٤) حول عبارة سريانية من الشعر الرمزي، وهي «شوشافو شلامونوبتو، إلخ …» وردت في الشحيمة — كتاب الصلوات الخمس اليومية للخوري الماروني — فاختلفوا في تفسيرها، وأخيرًا تقرر أن الشاعر السرياني عنى بقوله: المنديل السليماني في أرض داود العطشى، أم الله مريم بنت داود، مشيرًا بهذا الرمز إلى قول الشاعر سليمان في سفر الأمثال: مَن حصر المياه في منديل. فالمسيح هو الماء الحي الذي حُصِر في أحشاء مريم البتول.
فهل يقوم بعد ألف عام مَن يفسِّر منديل فتاة بشارة، كما فسَّر الأب يوسف حبيقة وغيره منديل الشاعر السرياني؟ قد يكون هذا إن ظهر المسيح الدجال الذي ينتظرون، وحينئذٍ يصير شاعر العروبة الأكبر أكثر من شاعر، فأبشر يا بشارة!
أهذا شعر؟ فلماذا نخدع الرجل وهو صاحبنا، فيبعط في قصائده الوطنية بعطًا، قد كرهنا يا أخي هذا الشعر المقرف، فإن كان عندك شيء من غير هذه البضاعة فهات.
وفي البيت الثاني تأتي لفظة تدل كل الدلالة على ذوق شاعرنا الثنيان، فاسمع ما قال لتحسن الحكم:
فهذه الوقاح وقحة خشنة مثل كباكب الشوك، ولولا القافية لعنة الله عليها، لاختار بشارة كفؤًا لليث غير الشاة، ولولا الوزن أيضًا لترك العضة للكلب. ثم علق بشارة يخبرنا ما لا نعلم، أي إن السيف لا يلقى بالعصا، والأعداء لا تدفع بالصلوات، وإن:
أي مكشرة. لم يقل بشارة هذا إلا بعد ما «سأل الله الأمانا» في قصيدة فلسطين، ولم يستجب له فعاد إلى زعمنا، والعود أحمد.
وكاد يكون ما تمنَّاه من أمان، وكدنا نستطيع لقيان السيف بالعصا لو أعطينا نحن مثل عصا موسى، وأعطي المرحوم الدندشي مثل قضيب مار يوسف البتول الآنف الوصف؛ لأن بشارة أفاض في حديثه عن طهره وعفته حتى قال في ذلك ثمانية أبيات، كأنه كان ينام وإياه في غرفة واحدة، فجزم لنا أنه «لم يعط الشبيبة حقها»، و«زجر الهوى إلا إذا كان حلية لمكرمة.» إن هذا لا يكون إلا في «لاهوت» أخينا بشارة، أما نحن فما رأينا منه في «الغوري» الذي درسناه وحفظناه كالماء الجاري، حتى ولا في «الأنطوين والليكوري» من كتب المرحوم جدي اللاهوتية. والغريب أن الشاعر يتوسل إلى تطهير الدندنشي بتنقيته من الحب، كأنما الحب رجس أو دنس من الأدناس، وكأن بشارة نسي أن الله محبة هو …
وبعد طحير مزعج قال لنا هذه الحكمة المحجلة الثلاث المطلوقة اليمين:
وأراد «حسن التعليل» لموت الفقيد مصطدمًا بعمود القطار الكهربائي، فجاءنا بقضب الماذي لضرورة الوزن، وإن تسألني ما معنى قوله:
أحلتك على «حاشية» بشارة لتستنير فتفهم أن الدندنشي والكهرباء كفؤان، وأنك لا تستطيع بعد هذا التعليل العليل أن تقول: الويل للمغلوب. فالكهرباء كالنحلة التي تشك إبرتها في الجلد وتموت على الأثر.
ثم لذَّ للشاعر أن يعظ فقال كلمتين من حواضر البيت، وقد عجَّبتني غفلته عن نهر بردي، و«دُمر» والعهد، وغيرها من ألفاظ الشعر الوطني الدبلوماسية، مع أنه يحب النهور جدًّا حتى كاد يُجرِي في كل قصيدة نهرًا عبقريًّا؛ ففي قصيدة شوقي نهر، ولكنه نشف كالبحر الأحمر حين انشق حتى جاز فيه موسى، وفي قصيدة حافظ نهران حافظ والنيل، وفي قصيدة الفردوسي نهر طوس، وإنْ لم يذكر نهر قويق في «الحلبية» فلأن تركيا قطعته عن الشهباء … وإلا فكيف ينساه مَن لم يحرم الفيدار — نهر شتوي عندنا — من درة كاملة؟
ما لنا ولهذا التدقيق كله، فهو حرام في شعر بشارة السياسي، فالنهر والعهد والوعد من لوازمه، وخصوصًا يسوع الحمل الوديع، فهو له أطوع من الخاتم في الخنصر.
صح: دمر غير منسية، وأظن القارئ يوافقني على أنه يعنيها لا غيرها بقوله:
ولم يكتفِ بشارة بذكر الصداق — كما مَرَّ — بل أحب أن يقطع الشك فقرَّر في أذهاننا ذلك المعنى ثانيةً فقال:
وأين الفتاة؟ رحم الله عهدها، فلو عادت أيامها وأيام الكبش والمنجنيق والضبر، ونحَّى المستعمرون غازاتهم وطائراتهم ودباباتهم ومدافعهم الرشاشة لسُدْنا العالم، قاتل الله المجبرين، فهم لا يعدلون بقديد اللغة شيئًا، وحسبك القناة قديدًا. فوا حرَّ قلباه من هذه الصور الباردة، ووا طول شوقي إلى الجديد، إنما ليس كمنديل بصدر فتاة!
وختم الشاعر قصيدته الفريدة بقوله:
والصواب عن أزهارها، فالأرز من الفصيلة الصنوبرية … إلا إذا كان يعني بربى الأرز «جبل الأرز»، وهذا أغرب من المنديل السليماني وتفسيره. ثم قال:
وكلٌّ يدعي وصلًا بليلى … ثم هل نحن تتر يا بشارة؟ كنت حسبتنا من المهتدين «المجذوبين»، ماذا تركت لسيدنا البطرك المبجل؟ ومهما يكن من الأمر فأنت تستأهل «قبل وبعد» يعطيك العافية … ولكن — هذا سرٌّ بيني وبينك — أَلَا ترى مثلي أن هذه «الكاسات» ألبق بالجلاب واللبن الرائب — العيران بلغة حلب — منها بنغماتك الساحرة؟
يرحم الله شيبان ابن الرومي، قد تأخرت جدًّا يا إبرام، فتسميت إبراهيم عتيًّا واختتنت مثله ابن تسع وتسعين … وإن لم تفهم نكتتي فإنني محيلك على التوراة، فخُذِ الكتاب بقوة، وافتح الفصل السابع عشر من سِفْر التكوين، في ذمتي أنك تضحك لها ضحكتك النقية الناصعة البياض.
ليتك تنشر يا أخي قصيدة واحدة — ولو عتيقة — من شعرك المطبوع لأقول فيك كلمة طيبة، فقد كدتَ تسيء ظن الناس بي، كما ساء ظننا أجمعين بشاعريتك. فهلا تعود إلى أيامك! أَلَا تذكر شيئًا من شعر الشباب الذي كنتَ تُسمِعنيه على السطيحة أمام غرفتي «المعلقة» في بيروت؟ لست أزعم أنك أبدعت هناك إبداعًا مجتمعًا أشده كالحجاج، ولكني أقول إنك كنتَ مخلصًا، وأعزز قولي بالأيمان المغلظة. إن مَن لا يستطيع أن يكون جبَّارًا كما تشتهي فالإخلاص حيلته وزينته، وإن ظللت تفتش عن نفس غير نفسك لتصورها لنا، فإنك تطلب المستحيل، وتصير نفسك شيخًا قاحلًا في عيون الشباب المتفتحة علينا.
فابكِ وعنِّ، ونُحْ وإنَّ، فخير شعرك الولولة! ألا اعمل — ودم شاعريتك في رقبتي — بقول سميك بشار — إن تركت التاء — ما لك ولقول صديقنا الريحاني، فأمين فيلسوف يقيس الشعر بالأنش والقدم، ويعرضه على الترجمة التي تمسخ حتى: يا جمل يا بوبعا … ومَن يعمل مثله كان كمَن يستغني بنقطة عطر عن جمال الزهرة، فأمين في هذا الزعم كأم تتعزى على فقد ابنها بأن روحه خالدة في ملكوت الله. أقول هذا ولا أغضب صديقي الريحاني لأن الفلاسفة كبار العقول واسعو الصدور.
قد تقول لي وما يقول بشار؟ قلت:
فتشكَّ إذن يا أخي، فشكواك في الشعر حلوة، وتقهقرك أحلى، وأنت لا شك واجد بين القراء أحد أصحابك الثلاثة، وما هو شرهم يا أم عمرو … أما أن تصيِّر الشعر الوطني أرخص من الفجل بيعة مساء، فهذا كثير.