البَراعِم لِعُمر يحيَى
١
صفحات هذا الديوان ٢١٥، أما الطبع فبين بين، موشوم الوجه تنبئك تصويرة الناعورة أن الشاعر حمويٌّ، أما اللون المحلي فيه فكأطلال خولة …
قال عمر في (صفحة ١١٥):
فحدَّد شعره تحديدًا قاطعًا مانعًا، فديوان عمر كما قال: لسان يندب مجد العرب، وقلب خافق يشكو النوى، بل قل الجفاء وسوء البخت … أقول هذا بعد ما ركبت البحر كما كان يسأل المبرد، وأؤكد لأخي الأستاذ محمد أسعد الكيلاني أني لم أترك زاوية ولا تكيَّة من ديوان صاحبه عمر إلا وتغلغلت فيها، سحت فيه سياحة أحمد فارس الشدياق في الأقطار، فعسى أن تكون لي لاحظة ذلك النسر الخالد.
إن عمر النظَّام يتكلم قبل عمر الشاعر، لا أعني بكلمتي هذه أن ليس في الديوان شعر، بل عنيت أن النظم أغلب، فالشعر مزروع فيه هنا وهناك كالنواعير على ضفتَي العاصي، والأنين في كل مكان، قوام الديوان أنات محروم قلما رأى يومًا أبيض، فهو رهن الشكوى والرثاء كما وصف نفسه، وسبحان مَن يرزق مَن يشاء بغير حساب.
تقرأ في الديوان شعرًا ولكنه كخمرة أبي نواس التي شبَّهها بدم الجوف فتقطب منها وتعبس، ما ظننت ولا إخال غيري يظن أن شاعرًا في هذا العصر يتهافت على الغريب تهافُتَ عمر يحيى على قصاعه، فهو ينصبُّ عليها ويأكل أكلًا عنيفًا كشيخ بني الهجيم عند البحتري المَكرُمان، مع أن بشارًا الأعمى البصير أدرك منذ اثني عشر قرنًا أن الأغراب طاعون الشعر، والفن كل الفن في الملائمة، فقال يصف لنا شعره:
فماذا جنينا يا ترى حتى يعود بنا عمر إلى الوراء، إلى نواريس القدماء، ويرينا قيام الساعة قبل الموعد، إذ بعث هذه المخلوقات من الألفاظ، فوقفت بين أيدينا كالأشباح تحمل في يدها كتابها. فماذا يقول العم بشار لو نهض ورأى أهل الكهف يُبعَثون بعدما دفنهم هو وحطَّ على رأسهم حجرًا؟ أَلَا يقول بنا مقالته لذلك البصير الذي دلَّه على البيت؟
فما قول القارئ بالعدملي، والأطم، ولعا، وأشغى، والنغر «بدلًا من البليل»، والضحيان، والطخياء، وخمت ومشتقاتها في شعر عمر؟ أما العدى فالكذب من خيمهم، لماذا فضل خيمهم على طبعهم؟ لا أدري، ثم الضيح أي الشمس، والعياب القيسية، ولولا القليل استعمل البعاع وأماتنا فزعًا، والخيس الحبيبية، والعجول الخنساوية، وأغطش الشنفرية، والأنف العنترية، والأواذي النابغية، والمرقال الطرفية، وأختها الأمون، والعقرقوف النواسية، والأفتيات العقادية، وأخيرًا مهيم: أي ما حالك، وهي أبشع من ملجن بشارة، الموروثة عن شوقي عن عمر بن أبي ربيعة، ثم جبرين أخت بغدان شوقي.
وقد أضاف عمر إلى حب الغريب ولعه بالجموع الكريهة كأصحابنا الأئمة المصريين، فهو يستحلي مثلهم هذه الصيغ المنبوذة: كالرئمان والتربان جمع تراب، وغصنة جمع غصن، وشجراء أي الشجر، وزاد في بلوانا أن ليَّن هذه الأخيرة فقال:
وخبرنا في الشرح أن «بابا» اللغة المعصوم، المثلث الرحمات امرأ القيس استعملها، وعندي أنها كريهة ولو استعملها جدُّ جدِّ امرئ القيس، بل لو نطق بها أبونا آدم حين رثى عمنا هابيل أول شهداء المرأة.
وعمر يحدثنا كشيخنا امرئ القيس عن القلب المقتَّل والمقسَّم، ويجيئنا بالهدون ثم بالركز بدل الجرس، إلى آخِر ما هنالك من أحداث جديدة، ومفاجآت غريبة من الألفاظ مثل «تواليف» العقاد مقيَّد الأوابد، ومحرر الدواجن. إننا نعلم أن مصر بلاد الموميات، والشام بلاد الدمقس، فإذا كان في نيَّة الأستاذ عمر منافسة الجارة العزيزة في خلق المومياءات اللغوية، فَلْنبن المتحف.
لا أظنك تستكبر ما أقول متى علمت أن عمر استعمل الجبين بدلًا من الجبان، لا أنكر أنه مرَّ على رأسي حدث يكاد يشبه هذا، حين نقل المرحوم لويس شيخو قصيدة بشر بن عوانه إلى كتابه «مجاني الأدب» فاستبدل الهصور بالهزبر، فقال: هصورًا أغلبًا لاقى هصورًا، وضرب مخَّ الخليل بأسطوانات عروضه، حين رأى الهزبر خطرًا يتهدد الأخلاق الصالحة، ويوسوس في صدور الناس … أمَّا لماذا آثَرَ عُمَر الجبين فذلك لا يعلمه إلا الراسخون في العلم.
قال لنا مَن مهدوا لديوان الشاعر — وهم كُثُر، كقتلى صاحبة أبي فراس المنحوس الطالع: إن عمر يطالع كثيرًا. فقلت في نفسي: وأين هو من كتاب أبي الذوق اللفظي، ابن الأثير؟ أتراه لم يطالعه بعدُ؟ ثم هل كل مَن يطالع كثيرًا يعود إلى الناس عودة تأبَّطَ شرًّا؟
وإذا نظرنا إلى صور الشاعر رأيناها قديمة كألفاظه، أو عدمليَّة كما يحب أن نعبر، فربيب عاصي حماة، يذكر لنا توضح، ونعمان الأراك، وسنداد، ويضع سلمى — اسم جبل لطيء — زاوية لبيته الشعري، ويجرى عليها الشاقول. قد فعل مثل هذا سميِّي الخوري مارون غصن حين قال منذ أسابيع: رضوى بكركي راسخ الأوتاد فخلته يبني عرزالًا، إنما أعجبني منه أنه تيقَّظ للهواء الغربي القالع فرسَّخَ الأوتاد. أنا لم أقرأ لسميِّي الخورأسقف شعرًا منذ أطلق مائة مدفع ومدفع لعينطوره، في عيدها المئوي، إلا هذه الأبيات، ولسوء حظِّنا كلينا وقعت على رضوى الذي انتقاه، وترك ألف جبل قبالة عينيه، إنه الاجترار اللاشعوري مرض الأدب العربي، أرانا رضوى الخوري وسلمى عمر وسنداده، فلا حول ولا قوة.
قد رأيت أن غريب عمر يحيى يجني على صوره وقوافيه، وقد يكون السبب دورانه في حيز الأقدمين، فكل أغراض شعره كأغراضهم، ولا جديد في الديوان إلا «رسالة الورد» التي أدَّاها عمر كما يؤدي الشاعر رسالته، أما «قلب أم» فأذكر أنني قرأتها لغيره.
وإذا أردت أن تعلِّل حب عمر الشديد للتضمين أمكنك أن ترده إلى العلة الأصلية التي ذكرتها، فهي التي سبَّبت كل هذه الأدواء — الاشتراكات — حتى صحَّ فينا قول المثل العربي: ما ينفع الكبد يضر الطحال! وعمر يشير طورًا إلى «العارية» وأحيانًا ينسى لانشغال باله بالأحباب القساة، والحسَّاد الذين يضايقون الشعراء في كل بلاد الله.
ظهر لي، من المقدمات الأربع التي صُدِّر بها ديوان عمر، أن شاعرنا يحب النقد الصحيح ولا يغيظه، ولهذا صارحه أصحابها بكل ما عندهم، وتلك لعمري مأثرة جديدة نسجِّلها لحماة مدينة العلماء والأئمة، ونتمنى أن يشايعهم عليها كتَّاب المقدمات في الأقطار، فلا يجعلونها كما عودونا: نشيد الأناشيد.
فالمقدمة الأولى كتبها شاعر هو أحمد الصافي النجفي، فانتقد قوافي عمر، والثانية للأستاذ قدري العمر الذي قال لنا إن عمر لو أراد لَجعَلَ ديوانه غريبًا كله، ولو أراد لَجعَلَه سهلًا كله. قلت: يا ليته أراد وأراحنا من ألفاظ أعقد من ذنب الضب، والمقدمة الثالثة للأستاذ إبراهيم العظم، الذي يقول: إن لعمر سرقات ظاهرة يستحق عليها الجزاء بمقتضى قانون الشعراء.
قلت: أبشر بطول سلامة يا مربع! فالجزاء عندنا على السرقات الشعرية لقب الإمارة
ويقول الأستاذ العظم أيضًا: إن شعر عمر قليل الحشو، وهو يكره الضعف في القافية، ويأبى النفور، مع أنني كثيرًا ما لمحت في الديوان حشوًا ونفورًا، حتى قام في ذهني أن عمر كالصافي قليل الجلد، فهو يكثر من «إن» و«ما» الزائدتين وغيرهما من طفيليات الشعر كقد وأخواتها، التي أراها كالحصاة تُسنَد بها الخابية، وشر هذه الألفاظ «سيَّما» في قوله:
إنها أبشع من الغدة المندلقة على الصدر. ثم هل يقول مَن يكره الحشو:
•••
إن أمثال هذه الثآليل كثيرة في الديوان، وخصوصًا «إن» أكثَرَ منها الشاعرُ حتى جعلني أتصورها كالزائدة الدودية تحتاج إلى مشراط طبيب لبق، كما أن «المسي» وغيرها — وإنْ صحَّ استعمالها لغويًّا — ليست من بضاعة الشعراء.
وإنْ تدقِّق تَرَ عمر يزج في شعره من كعابير الكلام ما يبرأ منها الفن إلى كلِّ مَن يعبقر، مثل قوله: من جرَّا ذنوبي، فوالله، لئن غفر الله له ذنوبه كبيرة وصغيرة، أو مميتة وعرضية كما يعبِّر النصارى، ولم يستمهله دقيقة واحدة عند الحوض، فأنا لا أغتفر له استعمال «من جرَّا» وأنزه عنها النثر، بلهَ الشِّعْرَ.
ويعرف عمر الشعر فيقول لنا:
قلت: أما الصدق فحظ الشاعر منه كبير، أما الخيال فكحظه من الحب الذي يقول فيه:
ومن أين يأتي الخيال مَن هامَ بالقدماء حتى بات يصب في قوالبهم ولا يحسن ذلك، ويريك في كل قصيدة صورهم حتى النابغية منها، ومن نوع «وما الفرات» أيضًا … اقرأ قصيدة ذكرى الهجرة الأولى لا الثانية، فهذه ندعها للأستاذ العظم الذي ادَّعَى أن مطلعها للمرحوم جدِّه أسعد بك العظم، ودافَعَ عن حقه الموروث وختمه بقوله: إن عمر أخذ ديباجًا وحوَّله ساجًا.
وفي قصيدة «فيصل» يحاول الشاعر التلميح إلى حادثة يشوع بن نون البطل المغوار الذي وقَّف الشمس، وأبى عمر كعادته إلا أن يشرح المعنى، وعندي أنه لو تركه للقارئ اللبيب كانت العاقبة أسلم، ولكن عمر أحبَّ الشرح كثيرًا فتعب وأتعب، فهو يشرح لنا حتى الأملود، وقاطبة، وأخيرًا يفسِّر أيار بمايس …
وفي القصيدة عينها يتعرض لبيت أبي فراس ولا يُحسِن القبض عليه فيقول:
وأبى إلا أن يستصحب حبيبته «ما» الزائدة في هذه الغزوة، فأمعن في البلوى، وترك زين الشباب يبسط يد الشكوى، ويسبل دمعًا من خلائقه الكبر. وفعلها أيضًا بالنابغة حيث قال: تعدو الذئاب على مَن لا كيان له. مع أن «كلاب» النابغة مشهورة، وهي هنا لا تثمن.
٢
وفي قصيدته «يا طير» وهي رشيقة تمشي الهوينا، كهريرة الأعشى، وصف رجال العرب الذين حموا فلسطين فقال:
فأنصتُّ له عَلِّي أرى كلمة كبيرة، وإذا به يقول: «أخطأت يا هذا فعُدْ للصواب»، فذكرني فعله شاعر العراق وفيلسوفها المرحوم الزهاوي حين قال:
وطاف عمر حول لسان جميل مغتاب فمصَّه مصًّا حين قال:
قلتُ: أَلَا ترى معي أن في العضِّ قصاصًا أوجع، كما فعل مَن قال قبله لحبيبته: هذا لساني الذي أخطأ فعضيه …
ها قد وصلت إلى صفحة ١٩٣ فأطللت على «دفنة»، ودفنة فتنة الدنيا، فإذا بالشاعر يصف لنا نفسه بدلًا من أن يصف دفنة المسماة اليوم بالحربيات، هذي مصيبتي بعمر في كل سياحتي في ديوانه، فكأنه الخنساء يذكرها طلوع الشمس صخرًا، وتذكره لكل غروب شمس. أما ختام الديوان فقصيدة المتنبي لذكرى الألف، نظمها على منوال «جللًا كما بي فليَكُ التبريحُ»، فجاءت رائعة تحليلًا وتصويرًا، على ما في الحاء من طحير وزحير في رأيي، ومن اتساع وانبساط في رأي شيخنا الأعظم الشدياق، ولكنها لم تسلم من الغرابة ميزة شعر عمر يحيى.
في ديوان عمر وثبات ولكنها قليلة، وفيه شعر ولكنه يطير من براثن قلمه ملهوفًا مذعورًا، كعصفور أفلت من يد الصائد بالدبق. وقد رأيت أنه لا ينتهي حيث يجب أن ينتهي كما في قصيدته «كلنا يبكي على وطنه»، بل ينتهي حيث تظن أن هناك شيئًا بعدُ كما في: «الغريب في العيد».
كنتُ توهمت أن اللون المحلي سيكون كثيرًا في الديوان، فإذا به قليل، كما قلتُ لك، وإن لم يخلُ منه كقوله في وصف قلعة حماة:
لا تستغرب الوصف في الدجى فحماة في الصيف تنور، وخير أوقات التفرج منها قرب الغروب وبعده، وهذا ما أوحى إلى الشاعر ما أوحى، لا يلطف ليل حماة الحامي إلا العاصي، أما سحرها فكما يصفه الشاعر:
وتلي وصف القلعة قصيدة «على العاصي»، وهي حافلة بشعر لا يخلو من برد النهر وسلامه، وهبَّات بليلةٍ من نسيم أشجاره، في آب اللهَّاب الذي كنتُ أزورُ حماةَ فيه.
وعمر يُكثِر من المعاني المبتذلة مثل: مَن جدَّ وَجَدَ، ويقطع الجوهر في السيف الفرد، والحق يعلو ولا يُعلَى عليه، ولم يضع حق نحاه طالب … إلخ. وهو لو ترك نفسه على سجيتها وأرخى لقريحته زمامها — كما رغب امرؤ القيس إلى التي حرمته من جناها المعلَّل — وقال كثيرًا مثل هذا البيت:
وكقوله:
لست أزعم أن تعبيره الشعري بلغ الذروة في ما قدمت، فقد كان في الإمكان أكثر مما كان، لو تأنَّى عمر، وقصيدته «يا قلب» تؤيد زعمي بأن الشعر يرسل إرسالًا تحت خفارة اثنين: الفن والقريحة، وليس على الشاعر أن يركض وراء الغريب، فلو كان في الغريب خير لما قال المَثَل: «زوان بلدك ولا القمح الصليبي.» ولقصيدة «يا قلب» أخت في الديوان اسمها «الكآبة» التي لا تفارق شاعرنا، ولو كنتُ ممَّن يسمون الشعراء لسميتُ عمر شاعر الكآبة والحرمان.
وفي قصيدة فلسطين قال بيتًا بديعًا:
على ما في «صوى» من صفير ويبوسة، ولكن متى حلت اللفظة محلها برئت ذمة الشاعر من دين النقاد المتنطِّسين. وتمر في ديوان عمر فترى نتفًا عديدة عنوانها «من قصيدة»، وهذا يدلك على أن عمر يحب بناته كثيرًا فلا يئد منهن واحدة، إلا أن بين هذه النتف بيتًا كاد يبكيني:
أما وداع غرناطة فشعر حي لولا هذا النمش الذي يقبح وجوه الحِسَان على ما فيها من معانٍ، فشرط الحسن التمام. ويدهشني أن ينتقل بنا من قصيدة «ذكرى الهجرة» التي مطلعها: «ذكرى تحول لنا في نشرها عبر»، انتقال سيدنا الجاحظ من حديث نبويٍّ شريف إلى قصة ماجن متهتك. نعم هكذا فعل عمر؛ فقد أخرجني من جنة الهجرة الفواحة العبير إلى أقذار سدوم وعمورة، قال:
لا يا أستاذ، هذا من الكلام النازل بالمرة، أيصحُّ بك قول البهاء زهير: فافتضحنا واسترحنا. أَمَا أُمِرْنَا بالاستتار إذا بُلِينا بالمعاصي؟ أعلى رأس السطح يا سيدي؟!
ليت أخانا الشاعر والأستاذ استغنى عن هذه الأبيات فليست بالأَبِيَّات، ثم انتقل إلى قصيدة عنوانها «لقد قصَّتْه» — الضمير يعود إلى شعرها — فيصف لنا نعيمه هناك حتى يقول:
قلت: نعيمًا يا أخي. فلمثل هذا خُلِق فردوس عدن، فاسرح هناك وامرح ما شئتَ، وافقأ حصرمًا في عين الحساد والعواذل، ولا بأس عليك فأوراق التي تستر، ولكن إياك ثم إياك أن تلتفت فيما بعدُ صوبَ البحرِ الميِّت؛ فلا ورق هناك يُستتَر به.
أما في مناجاة الورد فقال أبياتًا فيها شيء كثير من قوس الشنقري الهتوف، وخيرها حين تجاهل الشاعر فقال:
مسكين عمر! لا يهجس إلا بالأسى! وفي قصيدة «تشرين» قال شعرًا، ولكنه ركَّ في آخِرها حتى أرانا أوراق تشرين متناثرة أمامنا، كقوله:
ولم ينسَ أن يحشر «جبرين» قافية في هذه القصيدة كما بكَّاه كثيرًا على المرحوم فوزي الغزي حتى أسمعنا رنينه:
ما أرق قلب هذا الملاك! وما أطوعه! فهو شريكنا في كل أجر، ولكن ماذا يبكيه هنا؟ أَوَليس المرحوم فوزي ذاهبًا إليه؟ أما كان الأولى أن يفرح؟ ولكن شاعرنا لا يعرف إلا الكآبة، ولو كان كغيره لكلَّفه عملًا آخَر، وجبريل هو أطوع للشعراء من الخاتم بالخنصر.
وفي قصيدة «بين دمشق وبغداد» مقطع جميل، وأجمله هذا البيت:
لولا غرابة اجتماع الآل والعثير في وقت معًا كما أفهم من كلمة بين.
أما رثاء نورس الكيلاني — وهو موشح — فثورة عاطفية تجيش فيها نفس الشاعر جيشان الفرات الأخطلي، اتبع الشاعر في موشحه هذا خطى لسان الدين الخطيب، وختمه أيضًا: بجادك الغيث إذا الغيث هَمَى، وشبه الفقيد بيذبل، فاجتمع له الشرق والغرب، رغم أنف كبلنغ شاعر الإمبراطورية البريطانية الذي قال: إنهما توءمان، والتوءمان لا يجتمعان.
أما الهفوات النحوية — وإنْ قلَّ اهتمام الناس لها — فمنها: وإنْ ننسَ لا ننسى، وإنْ نسلُ لا نسلو، ولا الليث ليثًا بعد ما قعدت بنا، وقوله:
فهذه العشرون سنينًا تعبير غريب، ولا تقل عنها: لاهِ المصائب، أي لله المصائب، كأن الأستاذ درس ابن عقيل مثلي فهو لا يزال يذكر الشاهد: لاهِ ابن عمِّك … إلخ. ولكن هذا من الشذوذ، وما أغنانا نحن عن مثله، فما لنا والعنزة الثانية!
وبان لي أيضًا أن الشاعر يقطع الجملة العربية — أي يستأنفها — متى شاء، مع أن ربط الجمل حسن عربي، انتبه ونبَّه إليه شيخنا الشدياق حين قابل بين العربية ولغات الغرب فَلْيراجع. نحن لا نطالب الشاعر باختلاس ياء العاصي، فهذا بالقياس لجبرين مقبول، ولا بد من التصريح بأني أخشى كثيرًا أن يؤدي رفع الكلفة بين إخواني الشعراء وبين هذا الملاك الذي يزورنا كثيرًا، أن ينادوه أخيرًا: «يا جبر» ويستريحوا.
وشاعرنا يسكِّن أواخر الأفعال فيقول مثلًا: قضي على، وهذا خلل لا يتسامح فيه مع شاعر حموي نشأ كبشار بين شيوخ وأئمة تتذكر، متى حدثتهم، العرب الخلص، فهم جميعًا يتكلمون الفصحى ولا يلوكون ألسنتهم، وهذا قلَّمَا تجده في غير حماة العربية اللسان واليد والبيوت.
أقول البيوت وأعني ما أقول، وشاهدي إعلان كتبه الزبروئي صاحب فندق العاصي، وإليك نصه: «على الذوات الذين يأخذون الزبائن إلى بيوتهم أن يؤدوا لنا البدل، أو يشاركونا في دفع أجرة الفندق يوم الاستحقاق …»
أَلَا يدلك هذا على أن صاحب الفندق مهدَّد دائمًا بأخذ زبائنه الذين ينتظرهم بفارغ الصبر؟ أقول هذا لأنني كنت ممَّن أُخِذوا، وكيف لا أنوه بفضل ذوي الفضل؟ فَلْيسعد النطق إن لم تسعد الحال!
إن صباح العاصي ومساءه يوحيان الشعر، فأتمنى لصاحبي الشاعر عمر يحيى ديوانًا أنضر من «البراعم»، وهو فاعل في ديوانه العتيد، فقد رأيتُ آخِر شعره خيرًا من أوله، أما في هذا، وهو براعم كما سماه، فلولا بعض حوادث تاريخية كذكرى المتنبي مثلًا، ولولا ومضات كنار الحباحب، لظننا شاعرنا عمر يحيى ممَّن عاشوا قبل الهجرة.