المقدمة

لا بدَّ لي من الاعترافِ أنَّ فكرة عمل بحثٍ علميٍّ عن الرَّجل والجنس لم تكن في ذهني، وأنَّ دراساتي كانت تتجه إلى المرأة، بسبب القهر الذي عانت منه في مجتمعٍ سيطر عليه الرِّجال، لكنِّي ما إن أصدرت كتبي السَّابقة عن المرأة، حتى أصبح الرِّجال هم الأغلبيَّة ضمن هؤلاء الذين يطلبون مني الرَّأي والمساعدة لعلاج مشكلاتهم النَّفْسية والجسديَّة، ولأنَّني أغلقت عيادتي الطِّبيَّة منذ سنين طويلة، ولا أُومن بأنني يمكن أن أفتح عيادة أخرى، أبيع فيها الصِّحة أو النَّصيحة الطِّبيَّة والنَّفْسية للنَّاس؛ فقد أصبح تليفون بيتي يرنُّ على الدوام وينقل إليَّ أصوات رجال ونساء يعانون الألم والتمزُّق والمرض، وأصبحت حجرة المكتب في بيتي أشبهَ بعيادة مجانية بغير مواعيدَ سابقة، وبغير إخطار بالزيارة أفاجأ بالمرأة أو الرَّجل أو بالزوجين معًا، وقد دقَّا الجرس ودخلا البيت.

وقد جاءني كثيرٌ من الرِّجال من مختلف الأعمار والطَّبقات، لكنَّنِي توقَّفت طويلًا أمام مشكلة أحد الأزواج، وكان يعاني خوفًا شديدًا، ويظن أنه فقدَ قدرته الجنسيَّة أو على وشْك أن يفقدها، وأن زوجته سوف تكتشف ضَعفه أو عجزه فتذهب إلى رجلٍ آخر. وكنت قد مررتُ بكثير من الحالات الشبيهة، وأدركت أن عددًا كبيرًا من الرجال ينطوون في أعماقهم على خوف أو قلق من هذه الناحية.

وبدأتُ أدرس هذه الظواهر بعد أن اكتشفت أن هذا الخوف أو هذا القلق يفسد حياةَ الرجال النفسية والجسدية، بدرجاتٍ متفاوتة حسب شدة القلق ودرجة الخوف. وقادتني الدراسة، وهي على ما يبدو تدخل تحت علم الجنس أو تحت علم النفس، إلى علومٍ أخرى مثل الاقتصاد والفلسفة والدِّين والمجتمع والأخلاق، بالإضافة إلى علم البيولوجي والفسيولوجي والتشريح.

ووجدت نفسي كالذي يسير بين الألغام فعلًا؛ فالأرض كلها ملأى بأفكارٍ قديمة مقدَّسة نُسِبتْ إلى الأديان، والطريق أيضًا وعْر شديد الوعورة، لم يمهِّده من قبل إلَّا قليلون جدًّا من العلماء (رجالًا ونساءً) من ذوي الشجاعة الخاصة، ومن ذوي العقول المتكاملة والنظرة الشاملة إلى الإنسان، لا يَفصلون بين الجسد والنفس، ولا يفصلون بين الإنسان والمجتمع، وبالتالي لا يمكن لهم أن يَفصلوا بين العلوم الجسدية أو النَّفْسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. بمعنًى آخر: لا يَفصلون بين علم التَّاريخ وعلم الأحياء والطبيعة والكيمياء والطب، وعلم النفس وعلم الجنس، وعلم الاقتصاد وعلم السياسة.

ومن أهم أخطاء وعيوب الحضارة والعلم الحديث، أنهما قاما على التخصُّص وعلى فصْل العلوم بعضها عن بعض. ونتج عن ذلك علومٌ ناقصة وحقائقُ مشوَّهة. أول مبادئ العلم هو أن ظاهرةً ما (مادية أو غير مادية) لا يمكن دراستها في ضوء الحاضر فقط، وإنما لا بدَّ من دراسة ماضيها؛ لأن هناك قانونًا عامًّا في الحياة هو قانون المسبِّبات والسببيات، يقول إن لكل شيء سببًا Cause & effect لكنَّ التخصص جعل بعضَ العلماء يدرسون المسبِّبات، وهم علماء التاريخ والاقتصاد والمجتمع والدِّين والفلسفة، وعلماء آخرون يدرسون السببيَّات أو الظواهر التي نتجت عن هذه الأسباب، وهم علماء الأحياء والطبيعة والكيمياء والجنس والطب والنفس، ونتج عن ذلك الانفصالِ جدارٌ كبير يحجز بين الأسباب وظواهرها. العلماء الذين يدرسون الأسباب لا يواصلون بحثَهم لدراسة ظواهر هذه الأسباب، حيث إن هذه الظواهر تقع في مجال وتخصُّص علماء آخرين.

مثلًا لو أخذنا ظاهرةً ما واضحة في حياتنا أردنا دراستها، مثل ظاهرة «العدوان»، فالحضارة التي نعيشها أصبحت تتَّسم بالعنف والعدوان والقتل والحروب المشتعلة في كل مكان، يأتي علماءُ الطب أو الأحياء (البيولوجي) ويذهبون إلى السجون أو يأخذون عيناتٍ من الخنازير أو الرجال، ويُجرُون عليهم أبحاثًا في المعامل من حيث رسم المخ وقدرات الذكاء وشكل الجمجمة وشكل الكروموسومات وعدد الجينات، ونِسب الهرمونات الذكورية والأنثوية في الدم … إلخ، ثم يخرجون إلى العالم بنتائجَ تقول إن العدوان طبيعةٌ بشرية ذكورية بسبب الكروموسومات الذكرية أو الهرمونات أو الجينات.

لكن العلماء الذين درسوا التاريخ والمجتمع والفلسفة يصِلون إلى نتائجَ أخرى ويقولون إن العدوان لم يكن موجودًا في المجتمعات البشرية قبل أن يعرف الإنسان المِلكية وامتلاك الأرض. وأن الرغبة في الامتلاك هي التي جعلت الرجال يتنافسون ويتقاتلون. إن المِلكية امتدَّت من الأرض إلى امتلاك العبيد والنساء، فأصبح جسدُ العبد وجسد المرأة مِلكًا للرجل، والرجل له مطلَق الحرية في التصرف فيما يملك، سواء كان قطعةَ أرض أو جسدَ امرأة أو جسدَ عبد، ويضربون لنا الأمثلة والدلائل على ذلك في مختلف العهود والمجتمعات.

بالطبع لا يمكن أن ننكر أن هناك أمراضَ المخ العضوية الناتجة عن حادث تمزُّق أو التهاب في بعض خلايا المخ بسبب ميكروبٍ ما، وغيرها من الأمراض العضوية في المخ التي تصيب بعضَ مراكز الذاكرة أو الغرائز أو الكلام أو النطق، والتي قد يصاحبها بعضُ الانحرافات في السلوك، مثل الميل إلى الإجرام أو الانحرافات الجنسية الشاذة. لكن عدد هذه الحالات قليلٌ جدًّا، ونسبة الإصابة بين البشر بهذه الأمراض العضوية ضئيلةٌ، بحيث لا يمكن تعميمها والقول بأن ظاهرة العدوان والتنافس والحروب وانتشار العنف والجريمة في عالمنا الراهن سببُها بعض خلايا مخ الإنسان، أو الهرمونات الذكرية أو الكروموسومات الموروثة من الأب.

وقد تعلَّمنا من الطب أن العلاج الصحيح لمرضٍ ما أو ظاهرةٍ ما لا يمكن أن يحدث إلا بعد أن نعرف الأسباب الحقيقية لهذا المرض أو هذه الظاهرة. والعلاج هو القضاء على الأسباب. ومن هنا أهميةُ معرفة الأسباب الحقيقية لأية ظاهرة نريد علاجها.

لا يمكن أن نعالج ظاهرةَ العدوان والعنف والجريمة في عالمنا الراهن إذا تصوَّرنا أن السبب داخل مخ الإنسان، ووجَّهنا العلاج نحو مخ الإنسان. قرأتُ أن بعض العلماء في أمريكا يقولون إن في مخ الإنسان «مراكزَ للعدوان»، ويمكن أن يُعالَج العدوان باستئصال هذا الجزء من المخ أو إضعافه بالكهرباء أو الأدوية أو الأجهزة الإلكترونية. ولكن هل مثل هذه العلاجات تقضي على ظاهرة العدوان في العالم؟ إنها قد تعالج بعضَ أمراض المخ العضوية (نسبتها لا تزيد عن ٢٪)، ولكنها لا تعالِج الظاهرة المنتشرة في العالم. أم هل يشير هؤلاء العلماء باستئصال خلايا العدوان من مخ الرئيس الأمريكي، قبل أن يُعلن الحربَ على بلدٍ صغير في آسيا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا؟ وهل يشير هؤلاء العلماء باستئصال خلايا العدوان من مخ الرؤساء والحكَّام، الذين يسحقون الأغلبيةَ من شعوبهم قهرًا وجوعًا وظلمًا؟ وهل تُستأصل خلايا العدوان من أمخاخ رجال السينما والتلفزيون والإذاعة وأجهزة الإعلام، التي أصبحت ترتكز في معظم مواردها على الجريمة والعنف؟ وهل تُستأصل خلايا العدوان من رءوس الأزواج الذين يَعتَدون على زوجاتهم أو أطفالهم بالضرب العنيف لأي سبب؟

إن علم التَّاريخ وعلم الاقتصاد يقولان إن امتلاك الأرض (عامل اقتصادي) أدَّى إلى امتلاك إنسانٍ آخر (العبيد والنِّساء والأطفال)؛ أي إن المِلكية أنتجت الرِّق من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى امتلاك الرَّجل لجسد المرأة،١ وأصبح عقْد الزواج عقدًا اقتصاديًّا وجنسيًّا في وقت واحد.

وقد نتج عن امتلاك الرَّجل لجسد المرأة مشاكلُ جنسية ونفسية لكلٍّ من المالك والمملوك، كما أنتج الرِّق مشاكلَ اجتماعية واقتصادية ونفسية لكلٍّ من الأسياد والعبيد.

ومن هنا لا يمكن الفصل بين علم الاقتصاد وعلم الجنس أو علم النَّفس. إنَّ الجشع الاقتصادي قد أدَّى إلى قهرٍ جسدي وجنسي، وإلى ازديادٍ مطرد في العنف والعدوان بازدياد الرَّغبة في المِلكية والتوسُّع في الأملاك.

وإذا كنتُ في هذا البحث أحاول دراسةَ مشاكل الرَّجل الجنسيَّة وخوفه من فقدان القدرة الجنسية أو خوفه من الجنس بصفة عامَّة، فإنني بالضَّرورة لا أستطيع أن أَفْصِل الأسبابَ عن ظواهرها (أو المسبِّبات والسببيات).

ولهذا يجد القراء أنَّ هذا البحث بالرَّغم من أنَّه يتناول المشاكل الجنسيَّة والنَّفْسية للرِّجال إلا أنَّه لم يستطِع إلا أنه يتعرَّض أيضًا لبعض الأفكار الأخرى المندرِجة تحت الفلسفة أو الدِّين أو التَّاريخ أو المجتمع.

وليس الغرضُ من هذا البحث هو وضْع الرَّجل في قفص الاتِّهام وإصدار الأحكام ضده، ولكن الغرض الأساسي هو محاولة فهم الأسباب التي أدَّت إلى تشويه حياة الرِّجال والنِّساء معًا ومحاولة القضاء على هذه الأسباب من أجل بناءِ مجتمعٍ أفضلَ وأسرةٍ أفضل وحياة أكثر سعادةً وعدالةً وحبًّا.

د. نوال السعداوي
١  سبق شرحُ هذا بالتفصيل في البحثين الأول والثاني من هذا الكتاب «المرأة والجنس» و«الأنثى هي الأصل».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤