الإله الذَّكر والأنثى الآثمة
أذكر أنَّني رأيت وجه أستاذ التَّشريح يحمرُّ قليلًا ويده ترتجف بعضَ الشَّيء حين أمسك أحد الأعضاء الجنسيَّة لجثةٍ في المشرحة، مع أنه كان يمسك الأعضاء الأخرى كالرئة أو الكبد أو الطحال في الجثة نفسِها دون أن يحمرَّ وجهه أو ترتجف يده.
وأذكر أيضًا (وكنت طالبة في كلية الطِّب) أنَّ ضِمن الأشياء التي حيَّرتني موقفَ أستاذ الفسيولوجي المتناقض إزاء نظرية التَّطور التي تقول بأنَّ الإنسان تطوَّر عن القرود، والفكرة القديمة بأنَّ المرأة وُلِدَت من ضِلْع الرَّجل.
وكان هذا الأستاذ نفسُه هو الذي أعطاني كتاب دارون «أصل الأنواع» لأقرأه، وهو الذي شرح لنا نظريةَ التَّطور وكيف تطوَّر الجنس البشري من إحدى فصائل الثَّدييات الرَّاقية من الغوريلا، وعرض علينا الهياكلَ العظمية والجماجم التي تثبت التشابه والتسلسل التطوري بينهما.
وحدَث حوارٌ بيني وبين هذا الأستاذ — لا أنساه حتى اليوم — ودار على هذا النحو: قلت له: تقول إنَّ الغوريلا هي التي وَلَدت أوَّل إنسان ظهر في تاريخ البشرية!
قال: نعم.
قلت: وحيث إنَّ هذا الإنسان الأوَّل عُرِف باسم «آدم»، فإنَّ آدم وُلِد من رحم الغوريلا.
قال: نعم (وأذكر أنَّ وجهه احمرَّ قليلًا وارتجفت شفتاه بعضَ الشيء وهو يقول نعم).
قلت: وبالمنطق نفسِه فإنَّ أوَّل إنسان أنثى (أي المرأة) وُلِدت من بطن الغوريلا؟
قال: بالطبع.
قلت: وحيث إنَّ هذا الإنسان الأنثى عُرِف باسم «حواء»، فإنَّ حواء وُلِدت من رحِم الغوريلا.
قال: نعم (وأذكر أيضًا أنَّ وجهه احمرَّ قليلًا وارتجفت شفتاه بعضَ الشَّيء).
وأدركت على الفور شيئًا: أنَّ هذا الأستاذ كان يُفكِّر بطريقةٍ منطقية علمية حينما كنا نتحدَّث عن الإنسان الأول، لكن ما إن أُعطي هذا الإنسان الأول اسم «آدم» أو اسم «حواء» حتى اعترى تفكيرَه العقلي شيءٌ من العاطفة والانفعال ظهر على وجهه وفي نبرةِ صوته.
في حوارٍ آخرَ حول الموضوع نفسِه مع أستاذ الأجنة (الإمبريولوجي) اتضح لي أنَّ هذا الأستاذ الكبير يعتقد أن الإنسان تطوَّر فعلًا عن القرود، لكنَّه يعتقد في الوقت نفسه أنَّ المرأة وُلِدت من ضِلع الرَّجل، بمعنًى آخر أنَّه يضع الغوريلا في وضعٍ أعلى من الوضع الذي وضع فيه المرأة. فالغوريلا هي الأصل الذي خرج منه الجنس البشري، أمَّا المرأة فليست إلا فرعًا صغيرًا يُنْسَب إلى الجنس البشري كعضوٍ خارجي.
وقد وجدت من بعدُ أنَّ هذا الأستاذ ليس هو الأستاذ الوحيد الذي يقسِّم عقله إلى حجرتين منفصلتين يضع في كلٍّ منهما حقيقةً أو فكرةً تناقضُ الفكرة الثانية، ويفصِل بين الحجرتين بجدارٍ سميك.
إنَّ الذين يعيشون هذا القرن العشرين والذين تابعوا العلمَ في مختلف فروعه لا بدَّ أدركوا أنَّ العلم الحديث قد كَشف عن خطأ الفكرة المقدَّسة القديمة التي كانت تقول بأنَّ الأرض مسطحة، وأثبت العلم أنَّ الأرض كروية. كذلك كشف العلمُ عن كثير من الأفكار الخاطئة التي كانت مقدَّسة أو شبه مقدَّسة، وعرَّف النَّاسَ بحقائقَ لم يكونوا يعرفونها.
ومن أهم علامات العصر الحديث هي التَّفسيرات العلميَّة للكون والتطور والحياة والإنسان، التي قادها علماءُ مثل نيوتن وأينشتاين وجاليليو ودارون وبافلوف وابن سينا وغيرهم ممن قضَوا على كثير من الخرافات التي كانت تبدو للنَّاس كالحقائق الثَّابتة.
على أنَّ من أهمِّ علامات الحضارة التي نعيشها أيضًا أنَّ معظم المفكِّرين والعلماء كانوا رجالًا، وكل الفلاسفة كانوا رجالًا، وكل رجال الأديان الذين فسَّروا الدِّين كانوا رجالًا، بمعنًى آخر يمكن القول إنَّ الأفكار التي وصلت إلينا هي من إنتاج الرِّجال.
نحن إذن في هذه الحضارة التي نعيشها نتعامل في كل وقت وفي كل مجال من حياتنا مع الفكر الرُّجولي؛ أي إنَّنا نتعامل مع نصف عقول البشر فحسب.
ولا يمكن أن نُنكِر أنَّ نساءً نادراتٍ ساهَمْن في هذه الحضارة (وأنَّ عددهن يزداد باستمرار)، لكنَّ عددهن كان ولا يزال قليلًا جدًّا بالنسبة لأعداد الرِّجال.
- (١)
تقسيم العقل إلى حُجراتٍ مُنْفصلة في كل حجرة حَقائقُ تتناقض مع الحقائق الموضوعة في الحجرة الأخرى، وذلك من أجل الهروب أو التَّوفيق الظَّاهري بين الأفكار العلميَّة الجديدة وبين الأفكار القديمة الموروثة.
- (٢)
الاستمرار في الاعتقاد بأنَّ المرأةَ أقلُّ من الرِّجال عقلًا بالرغم من الظواهر الجديدة التي صاحبت خروج المرأة وإسهامها في الحياة الفكرية، بل وتفوُّق عقول بعض النِّساء.
- (٣)
الاستمرار في الاعتقاد بأنَّ الجنس نوعٌ من الإثم، وأنَّ حواء هي التي أَغْرَت آدمَ بهذا الإثم، فأصبحت مسئولةً عن الخطيئة في العالم ومن بعدها تحمَّلت النِّساءُ الوزر نفسه.
- (٤)
الاستمرار في الاعتقاد بأنَّ الملكية هي التي تحدِّد قيمةَ الإنسان، وأنَّ الذي يملك أعلى من الذي لا يملك، وأن من ممتلكات الرِّجال: الزَّوجة والأطفال.
- (٥)
الاعتقاد بأنَّ العدوان جزءٌ من طبيعة الرَّجل من أجل حماية أملاكه وازديادها، ومن هنا تبرير التنافس والحروب المشتعلة في كل مكان.
والسؤال الآن الذي لا بدَّ أن نسأله هو: لماذا نظر الرِّجال إلى المرأة على أنها أقلُّ من الرِّجال؟ لماذا نُظر إلى الجنس على أنه إثم؟ وتقتضي الإجابة عن هذين السؤالين أن نعود إلى التَّاريخ ونبحث في حياة الرِّجال القديمة والحديثة عن البذرة التي أنبتت هذه الفكرة.
ويقودنا البحث بطبيعة الحال إلى أوَّل رجل، وأوَّل امرأة ظَهَرَا على الأرض وقد عُرِفَا باسم آدم، وحواء. لا بدَّ أنَّهما ظَهَرَا على الأرض منذ ١٢٠ مليون عام؛ لأنَّه ثَبت أخيرًا أنَّ عُمر البشرية ليس ٢٠ مليون عام فقط، وإنَّما عُثِر على ما يدل على أنَّ الإنسان كان يعيش منذ ١٢٠ مليون عام فوق هذه الأرض.
ومعظم الدراسات توضِّح أنَّ الإنسان في علاقته الجنسيَّة البدائيَّة كان يَنشد المتعة واللَّذة وليس الإنجاب فحسب. كان الإنجاب أمرًا ثانويًّا، وهناك رسومٌ عُثِر عليها في كهف «لاسيل» في فرنسا تصوِّر المرأة الراقدة في كبرياء وعظمة الآلهة القديمة، والرَّجل راكع رافع يديه نحوها في نداء جنسي واضح فيه ابتهالٌ وخضوع ورغبة عنيفة.
لم يُعْثر على تماثيلَ ورسومٍ أخرى في هذه العصور القديمة فيما عدا هذه الرسوم والتماثيل التي تصوِّر العلاقة الجنسيَّة بين الرَّجل والمرأة. والمرأة دائمًا هي صاحبة الكبرياء والعظمة، والرَّجل يكاد يستجديها راكعًا في محرابها. لم يُعْثر على رسومٍ تصوِّر المرأة كأم أو كزوجة، وإنما كانت العلاقة بين المرأة والرَّجل من أجل المتعة الجنسيَّة فحسب.
لم يكن الجنس إثمًا ولا خطيئةً، ولكن كان عملًا يكاد يكون مقدَّسًا من الطريقة التي يركع بها الرَّجل أمام المرأة.
على أننا لا نعرف إلا القليل عن هذه الفترات الأولى في عمر البشر، ولم يصبح تاريخ الإنسان معروفًا إلى حدٍّ ما إلا منذ خمسة آلاف عام تقريبًا من آثار قدماء المصريين وحضارتهم الأولى في تاريخ الإنسان.
وقد كان قدماء المصريين يعبدون عددًا من الآلهة. وكانت دياناتهم لا تفرِّق بين الذَّكر والأنثى، وتمجِّد الحياة والإخصاب والجسد والولادة والمطر والزرع والخير. وكانت الآلهة القديمة الأنثى هي آلهة الخير والخصوبة والنمو والحياة. لم يكن يُنظر إلى الأنثى على أنها أقلُّ من الذَّكر، ولم يكن يُنظر إلى العلاقة الجنسيَّة كإثم وعيب، ولم يكن الرَّجل يمتلك المرأة والأطفال؛ بل كانت المرأة هي التي تلد الأطفال ويُنْسَب الأطفال بالطبيعة إلى الأم، وينتقل الميراث إلى البنات. وكان إذا مات الملِك انتقل العرش إلى ابنته؛ ولذلك كان الأخ يتزوَّج أخته حتى لا يضيعَ منه العرش.
والحال نفسه كان في مختلِف أنحاء العالم، في إسبانيا وفي الصين والهند وفي اليونان. وعُرِف عن الديانات الإغريقية القديمة أنها كانت تمجِّد الحياة وتمجِّد الإخصاب والجسد، ولا تفرِّق بين الذكر والأنثى، والآلهة الأنثى القديمة هناك كانت أيضًا ترمز إلى الخير والنمو والخصوبة والحياة، ولم يكن يُنظر إلى الجنس كإثم. وكانت ولادة الأطفال أمرًا طبيعيًّا وانتساب الأطفال إلى أمهم شيئًا طبيعيًّا، وكانت الأم هي التي تلد الذُّكور والإناث على حدٍّ سواء، ولم يُعْرَف أن رجلًا ولَدَ طفلًا بحالٍ من الأحوال.
وكان الدِّين اليهودي هو أول الأديان السماوية الذي دعم فكرةَ الإله الذَّكر وسُموِّ جنس الذَّكر على جنس الإناث. ومع ظهور الدِّين اليهودي ظهر إلى النَّاس اسم «آدم» واسم «حواء» على أنهما أوَّل رجل وأول امرأة ظهرَا على الأرض. ومنذ ذلك الحين تغيَّرت النظرةُ إلى الجنس فأصبح إثمًا، وتغيَّرت النظرةُ إلى المرأة فأصبحت أقلَّ سموًّا من الرَّجل، ورمزَ الإثم، وتجسيدَ الخطيئة. وأصبح في مقدور الرِّجال فجأةً أن يلدوا من أضلاعهم (حواء من ضِلع آدم) أو يلدوا من رءوسهم (أتينا من رأس زيوس).
وانتشرت في ذلك الوقت القصةُ التي تقول إن حواء هي التي أَغْرَت آدمَ بأن يأكل من شجرة التفاح التي حرَّمها الله، وأن هذه الشجرة أو التفاحة ترمز إلى العلاقة الجنسيَّة بينهما؛ لأنه في اللحظة التي أكلا فيها التفاحة انكشفت أعضاؤهما الجنسيَّة وغطَّياها بورق التوت.
وقد فاقت هذه القصة والطريقة التي فُسِّرَت بها الفكرة التي ارتكزت على دعامتين اثنتين.
-
(١)
أن الجنس إثمٌ، والأعضاء الجنسيَّة عورة.
-
(٢)
أن حواء هي السَّبب في هذا الإثم.
ومن هنا نُسِب الجنس والإثم إلى حواء، ومنها أصبح صفةَ كلِّ النِّساء، وشاعت تلك الفكرة في العصور الوسطى وبين رجال الكنيسة. وصدَّق النَّاس أن الرِّجال هم ممثلو الله على الأرض؛ لأن الله ذكَرٌ والرَّجل صورةٌ من الله، أما النِّساء فهنَّ سلالة الشيطان وأمهن حواء الآثمة.
حينما كنتُ تلميذةً بالسنة الأولى في حلوان الثانوية طلب مني مدرس اللغة العربية أن أُعْرِب الكلمات في هذه الجملة «مصطفى يحمد الله»، فقلت: مصطفى اسم مذكَّر مبتدأ مرفوع، ويحمد فعل مضارع، والله مفعول به منصوب بالفتحة. وهنا أسرع المدرس قائلًا: أستغفر الله. وشرح لي أني يجب أن أقول: الله صاحب الجلالة اسم مذكَّر. وتوقَّفت عند كلمة مذكَّر قليلًا؛ فقد خطر ببالي سؤال على الفور: لماذا يكون الله مذكَّرًا ولا يكون مؤنثًا؟ وانتفض مدرس اللغة العربية في غضبٍ واستياء وصاح: أستغفر الله! كيف يمكن أن يكون الله مؤنثًا يا بنت يا عديمة الأدب؟! كيف تجرئين وتنسبين الله إلى جنس الإناث، وجميع الآيات تخاطب الله بضمير المذكَّر «هو» وليس ضمير المؤنث «هي»؟
وأعطاني في ذلك اليوم صفرًا في الإعراب، وهدَّدني بأن مثل هذا السؤال الغريب كفيل بأن يجعلني أرسب في اللغة العربية في نهاية العام لولا أنه سيغفر لي أفكاري الشريرة على ألا أعود إليها مرةً أخرى.
إلا أنني لم أكفَّ عن التفكير. قلت لنفسي حين كبرت أكثر إن الفرْق الوحيد بين الذَّكر والأنثى هو أن الذَّكر له عضو تناسل بارز. وإن كان مدرس اللغة العربية يقول إن الله مذكَّر وليس مؤنثًا، فهل معنى ذلك أن الله له عضو تناسل؟
وسألت أبي عن الحقيقة، وكان أبي إنسانًا واسعَ الأفقِ عوَّدنا منذ الطفولة على التفكير الحر والجدل وعدم الاعتقاد بشيء إلا عن طريق الاقتناع.
وقال لي أبي إن الله مذكَّر ولكن بغير أعضاء جنسية؛ لأنه رُوح فقط وليس له جسد مثل البشر.
وسألت أبي: هل هناك رُوح مذكَّرة ورُوح مؤنثة؟
ورد أبي: لا، الرُّوح هي الرُّوح، وهي تختلف عن الجسد في أنها بغير جنس.
قلت: لماذا قلت إذن إن الله مذكَّر؟
قال أبي: إنه رُوح، لا مذكَّر ولا مؤنث.
قلت: لماذا إذن تخاطبه جميع الآيات بضمير المذكَّر «هو» وليس بضمير المؤنث «هي»؟
وقال أبي: لأنَّه لا يصِحُّ أن يُخاطَب الله بضمير المؤنث.
وقلت: لماذا؟ هل ضمير المؤنث فيه عيبٌ أو نقص غير موجود في ضمير المذكَّر؟
وقال أبي: نعم، إن سمو جنس الذكر عن جنس الأنثى هو الذي جعل الأنبياء يخاطبون الله بضمير المذكَّر «هو». إنَّ كل الأنبياء كانوا من الذُّكور ولم نسمع عن أية امرأة كانت نبيًّا. كما أن آدم كان أكثر سموًّا من حواء؛ لأنه كان الأصل وكان الأقوى، أما حواء فلم تكن إلا أحد أضلاعه، وهي التي أَغْرَته بأن يأكل من الشجرة المحرَّمة، ووقع تحت تأثير إغرائها وخالف أمر الله.
قلت بدهشة: ولكنَّ هنا تناقضًا كبيرًا يا أبي؛ فكيف تكون حواء جزءًا صغيرًا من آدم (ضلع فقط) وهي الأضعف منه، ومع ذلك تصبح هي الأقوى فجأةً فتقنعه بأن يخالف الله ويسمع آدم كلامها ولا يسمع كلام الله؟ إن حواء هنا ليست ضعيفةً وليست سلبيةً؛ بل إنها قوية، أقوى من آدم؛ لأنها استطاعت أن تقنعَ، وهي الطرف الإيجابي، آدمَ وهو الطرف السلبي.
وقال أبي: نعم، ولكن إيجابية حواء كانت في الشر فقط.
قلت: ولكنها كانت إيجابيةً وقوية، وآدم انساق وراءها وخضع لتفكيرها.
وقال أبي: نعم، لولا حواء لبقيَ آدم في الجنة؛ ولهذا السَّبب فإن الأنثى أمْيَل إلى الشر من الرَّجل. وقد نُسِب الشر إلى حواء ونُسِب الخير إلى الرَّجل، وهذا هو السَّبب في مخاطبة الله بضمير المذكَّر «هو».
قلت لأبي: ولكن حواء لم تكن السَّبب في الشر؛ لأن إبليس هو الذي أشار عليها بأن تغريَ آدم بالأكل من الشجرة المحرَّمة. إي إن إبليس هو سببُ الشر في العالم، وإبليس «مذكَّر» بدليل أنه يُخاطَب دائمًا بضمير المذكَّر «هو»؛ أي إن الذي فعل الشر في العالم مذكَّر وليس مؤنثًا، فلماذا أُلْصِقَت تهمةُ الشر والشيطنة وإغراء آدم إلى حواء؟!
وقال أبي: لأن حواء هي التي أغرت آدم.
وقلت: وإبليس هو الذي أغرى حواء.
وقال أبي: ولماذا سمِعَت حواء كلام إبليس؟
قلت: ولماذا سمِع آدم كلامَ حواء؟
قال أبي: من أجل أن يحدُث الجنس بينهما ليتناسلا ويعمِّرا الأرض بالبشر كما أراد الله.
قلت: إذا كان تعمير الأرض بالبشر لم يكن يحدُث لولا ذلك الاتصال الجنسي بين آدم وحواء، فلماذا أصبح هذا الفعل الجنسي نوعًا من الإثم؟ ولماذا نُسِب هذا الإثم إلى حواء فقط؟
وقال أبي: هذه هي إرادة الله.
قلت: ولماذا أراد الله أن يُنسَب الإثم إلى حواء؟
وظهر على وجه أبي أنه لم يَعُد مقبِلًا على استمرار الحوار معي، وأنني يجب أن أكفَّ عن الأسئلة.
- (١)
لماذا استخدم إبليس حواءَ وسيطًا بينه وبين آدم؟ لماذا لم يوجِّه جهوده مباشرةً إلى آدم؟ هل كان يخاف من آدم؟ ولكن إبليس لم يَخَفْ من الله ورفض أن يطيعه، فكيف يخاف من آدم الذي سبق له أن احتقره ورفض أن يسجد له كما أمره الله وتمرَّد على الله قائلًا إنه لا يستطيع أن يسجد لآدم؛ لأن آدم أدنى منه حيث خُلِق من طين؟
لم يكن إبليس حسب الشَّخصيَّة الأسطورية التي عُرِفَت عنه هيَّابًا، ولكنه كان قويًّا شجاعًا جبارًا بلغ جبروته أنه تحدَّى الله حين طرده من الجنة، وقال له في كبرياءَ وتحدٍّ بلغ حدَّ الصَّلف إَّنه سوف يغري عباده ويغويهم ويحرِّضهم ضده ويوسوس لهم حتى يعصوا أوامره. وانطلق فعلًا في العالم يُنفِّذ التَّهديد الذي هدَّد به الله.
ولكنَّه حين بدأ نشاطه الشيطاني هذا لم يبدأه من آدم، ولكنه بدأه مع حواء بالرَّغم من أن هدفه النهائي كان هو آدم. كان يريد أن يجعل آدمَ يعصي الله ليطرده من الجنة.
- (٢)
كيف سمِع آدم كلام حواء ولم يسمع كلام الله، مع أن حواء حسب القصة، لم تكن إلا ضلعًا من ضلوعه؟
- (٣)
لماذا نُسِب الإثم إلى حواء مع أنها لم تكن إلا أداة بين إبليس وآدم؟
وأخذتُ أبحث في بعض التفسيرات وفي الكتب وآراء الفلاسفة، ووجدت ما يقول إن الله واجه حواء وسألها عما فعلت بآدم، حيث إنها أَغْرَته وجعلته يخالف الله ويفعل الشيء المحرَّم (الجنس).
وقيل إن الذي أغرى حواء لتأكل من الشجرة هو إبليس، وسوس إبليس لحواء أن تأكل من الفاكهة وأن تُغْريَ آدم بها. لم يُعطِها التفاحة إلا بعد أن أقسمت أن تجعل آدم يأكل منها أيضًا. وافقت حواء وقالت: «حينما أقسمت لإبليس ذهب وصبَّ على الفاكهة سُمَّه الشرير (وهو الشهوة الجنسيَّة) التي هي أصل وبدء كل الآثام، وقرَّب الغصن من الأرض وأخذته وأكلتها.»
وتشعر حواء على الفور بالخجل من عورتها وتغطي نفسها. وهي تشارك آدمَ سرَّها وتغريه بأن يأكل مثلها الفاكهة، ويأكل آدم، وعلى الفور تُفتح عيناه ويرى عورته ويعرفها، ويقول لها: أيتها المرأة الشريرة، ماذا فعلتُ لكِ حتى تحرميني من عظمة الله؟
وكان إبليس هو الذي أراد أن يحرِم آدمَ من الله بعد أن غضِب إبليس من الله؛ لأنه طرده من الجنة؛ ولأنه أيضًا كان يحسُد آدم الذي كان يتمتع بثقة الله وحبِّه لدرجةِ أن الله خلق آدم صورةً منه. وظلَّ آدم صورةَ الله السامية عن أي خطأ أو إثم إلى أن جاءت حواء التي هي سببُ الشر. أي إن آدم بريء، إنه لم يفعل شيئًا سوى أن تذوَّق الفاكهة (اللذة الجنسيَّة) التي قدَّمتها له حواء. أما حواء فهي التي عَرَفَتْ هذه اللذة الجنسيَّة باتحادها الإثم بالشيطان. إنَّ الشَّيطان لم يلمس آدم، ولكنَّه أغواه عن طريق حواء التي جَلَبَت لآدم السُّقوطَ ثُمَّ الموت (كان آدم قبل ذلك ملاكًا خالدًا في الجنة لا يموت أبدًا، لكنه بعد أن عرف الجنس أصبح معرَّضًا للموت والفناء، ومن هنا ارتبط الجنس بالموت، وأنَّ المرأة سببُ الموت والدمار في العالم).
وفي هذه العصور قُتِلَت ملايين النِّساء لمجرد الاشتباه في أنهن عاشرن الشيطان!
وفي الوقت الذي كانت فيه الكنيسة والدولة تقتل هؤلاء النِّساء بتهمة الجنس كانت تتستَّر؛ بل تُبارك النشاط الجنسي المنحرف الشاذ لطبقة النبلاء والإقطاعيين والفرسان وكلِّ مَن يملكون الأموال والأرض والسلطة؛ بل إن الصلة الجنسيَّة بين رجال ونساء هذه الطبقة ارْتَدَت ثوبًا دينيًّا مقدَّسًا بما فيها الخيانات والانحرافات والاتصال بالمومسات.
أصبحت المرأة سببَ الكوارث والآلام في الحياة، وأصبحت كبشَ فداء لكل آثام الرِّجال وأخطائهم، ولكل الشرور في العالم. وأصبح الرَّجل هو ممثِّل الله، وهو ممثِّل الخير والسمو، والمرأة أصبحت ممثِّلة الشيطان، والإثم والجنس.
- (١)
أن الشر سيظل موجودًا في العالم على الدوام طالما أن المرأة منبعه.
- (٢)
يجب أن يحكم الرَّجل المرأةَ حتى لا ينتصرَ الشرُّ ومن أجل أن يعمَّ الخير.
وقد ضرب الرَّجل عصفورين بحجر واحد؛ ذلك أنه حكمَ المرأة، وفي الوقت نفسه اعترف بوجود الشر على الدوام وبأنه (أي الرَّجل) سيمارس الشرَّ ما دام موجودًا على الدوام.
وقد استمر الرَّجل فعلًا على مدى العصور منذ بدء أسطورة حواء وآدم يمارس الشر والعدوان، ويعطي نفسَه كلَّ المبرِّرات للقتل من أجل الامتلاك والجشع. وبالمثل أعطى نفسه حقَّ ممارسة الجنس خارج الزواج وداخله، يمارسه مع الخليلات والجواري والسراري والمومسات والزوجات ومَنْ ملكت أيمانُهم، يمارسه بالليل والنهار ويخدع البنات ويدفع للمومسات، ولا يكفُّ أبدًا عن ممارسة الجنس. ومع ذلك فهو بريء براءةَ آدم من الفعل الجنسي؛ لأن حواء الشريرة هي السبب. وقد حكم الرَّجل المرأةَ وفرضَ عليها العفَّة والعذرية طوال حياتها فيما عدا حالة واحدة، هي أن يختارها أحد الرِّجال لتكون زوجةً له. حينئذٍ يكون مُباحًا لها أن تمارس ذلك الفعل الجنسي الآثم مع زوجها فقط (ولا تذهب إلى رجلٍ آخر وإلا قُتِلَت)، وهي حين تمارس هذا الفعل مع زوجها فهي تمارسه من أجل إنجاب الأطفال وليس من أجل اللذة الآثمة. وهي تكفِّر عن ذنبها؛ وذلك بأن تلد في الأسى والألم وتصبح بعد ذلك طاهرةً من الإثم؛ ولذلك أصبحت ولادةُ الأطفال عملًا طاهرًا بعكس العمل الجنسي الآثم. مع أن العملَين عملٌ واحد، وأن العمل الجنسي يقود إلى ولادة طفل، وولادة الطفل لا يمكن أن تحدُث بغير الفعل الجنسي.
لكن الرَّجل فصل بين ولادة الأطفال وبين الجنس. كان الرَّجل يحتاج إلى الأطفال ليرثوا أمواله ويحملوا اسمه، فجعل من ولادة الأطفال عملًا شريفًا بل مقدَّسًا، ووضع الأمهات بالتالي في وضعٍ مرتفع يكاد يكون مقدَّسًا في بعض الأحيان. أما جميعُ النِّساء الأخريات (فيما عدا الأمهات) فهنَّ مدنَّسات: الزوجات اللائي لم يلدن، والعشيقات، والمومسات، والخليلات، والسراري، والجواري. بالطبع هناك عاشقاتٌ ومومساتٌ وجوارٍ يلدن أطفالًا لكنَّهن لا يُصبحن أمهاتٍ أبدًا. إنَّ المرأة منهن تظل مدنَّسة بل تزداد بولادة الطفل دناسةً، وطفلها أيضًا يصبح مُدنَّسًا وغيرَ شرعي ويُحْرَم من الشَّرف ومن اسم أبيه.
وهنا نضع أصبعنا على المشكلة الأساسية؛ مشكلة الميراث واسم الأب. كان المجتمع البشري قبل نشوء الأسرة الأبوية مجتمعًا أموميًّا، يَنسب الأطفال إلى الأم. وكان للأم حريةٌ واسعة تشبه إلى حدٍّ كبير حريةَ الأب في مجتمعنا الحاضر، فهي التي تختار الرَّجل، وهي التي تتركه وتختار رجلًا آخر. والرَّجل كان حرًّا أيضًا، لكن حرية الرَّجل كانت أقلَّ من المرأة؛ لأن المرأة تَعْرِف أطفالها وتَنسبهم إليها، أمَّا الرَّجل فلا يعرف أطفاله لأنه لا يلدهم. وحينما زادت ملكيةُ الرجل للأرض وأراد أن يعرف أطفاله ليورثَهم انتزعَ النَّسب من الأم، وأنشأ أسرتَه الأبويَّة. ولم يكن في إمكان الرَّجل أن يُنشئ أسرته الأبوية، ولا أن تستمر هذه الأسرة دون أن يفرض على المرأة سيطرته بالقوة وبالقانون.
ومن هنا أنشأ الرَّجل قوانينه الاقتصادية التي تحرِم المرأة من الإنتاج والعمل لتكون عالةً على زوجها وتحت رحمته، وفرض عليها القوانين الاجتماعية التي تبيح للزوج أن يقتل زوجته إذا خانته أو خالفته، وفرض عليها القوانين الجنسيَّة التي تفرض عليها العفَّة والعذرية، وفرض عليها القوانين الأخلاقية والدينية التي تجعلها الجنس الأدنى، والجنس الملوَّث الذي يجب أن يتطهَّر من الذنوب والدنس.
في مجتمعات الأمومة كانت هناك دياناتٌ قديمة وآلهة قديمة. لكن الآلهة لم تكن ذكورًا فقط وإنما كانت هناك آلهةٌ ذكور وآلهة إناث. وكانت الديانات تؤكِّد الحياة ولا تفرِّق بين الذُّكور والإناث وتحترم الجنس، بعكس الديانات في المجتمعات الأبوية التي أصبحت ترتكز على الموت وعلى تأثيم الجنس والتفرقة بين الذُّكور والإناث.
الديانات المصرية القديمة كانت تؤكِّد الحياةَ وتحترم الولادةَ والمرأة وترفع مكانة المرأة عاليًا في الحياة وتجعلها مثل إيزيس إلهةِ الخلق والخير والحياة. بعد سيطرة الرَّجل تغيَّرت الديانة وأصبحت ترتكز على الموت والدمار وتقلِّل من شأن المرأة، وسيطر على المجتمع الجشع والملكية والإقطاع والتقاتل على توسيع الأملاك.
وما حدث للديانة المصرية القديمة حدث للديانة الإغريقية القديمة، تحوَّلت من احترام الجسد واحترام المرأة إلى تأثيم الجسد والهروب الصوفي منه بعد أن سيطر الرَّجل في الأسرة والمجتمع، وبدأ الجشع والإقطاع والحروب حتى فقدَ الإغريق حريَّتهم تحت سيطرة إمبراطورية الإسكندر الأكبر.
كانت الديانات القديمة تمجِّد الحياةَ والطبيعة والإنسان وتمجِّد جسد الإنسان ورغباته وتحترم النِّساء والرِّجال وتحترم العلاقة بينهم.
بعد سيطرة الرَّجل وانتشار الملكية والإقطاع والتوريث، تغيَّرت الأفكار، وأصبحت تفصل بين جسد الإنسان ونفسه أو روحه. واعتبرت المرأة ممثلةً للجسد، والرَّجل ممثِّلًا للرُّوح، ومُجِّدت الرُّوح ليُمَجَّد الرَّجل، وحُقِّر الجسد لتُحقَّر المرأة.
وبالرغم من أن هناك نصًّا آخرَ صريحًا في التوراة يقول: «الله خلق الإنسان في صورته هو؛ في صورة الله خُلِقَ الإنسان، ذكرًا أو أنثى، هو خلقها.» بالرغم من هذا النص فإن رجال الدِّين اليهودي اكتفَوا بالجزء الأول من هذه العبارة، واستبدلوا كلمة الإنسان بالرَّجل، وخرجوا منها أن الله خلق الرَّجل في صورته هو، وأن الله هو روح الرَّجل أو عقله، أما الجسد فهو المرأة.
وكانت الديانة المسيحيَّة في بدايتها تتمثَّل روح المسيح الذي دعا إلى المساواة بين البشر، لا فرقَ بين ذكر وأنثى، ولم ينظر إلى اللذة الجنسيَّة كإثم؛ بل إنه رأى أن هدف الزواج هو العلاقة الزوجية بين الرَّجل والمرأة وليس مجرد الإنجاب؛ ولهذا لم يكن يسمح بالطلاق إذا لم ينجب الزوجان وقال إن الزواج صلةٌ باركَها الله ولا يفصم عُراها إلا الله؛ أي موت أحد الزوجين. وهذا يدل على أن مفهوم المسيحيَّة عن تأثيم اللذة الجنسيَّة والتكفير عنها لم ينبع من المسيح نفسه وإنما من خلفائه. وبالمثل أيضًا لم يساند المسيح الأثرياء والحكام كما فعل رجال الكنائس من بعده، لكنه كان يؤمن بأن «مرور جمل من ثَقب إبرة أسهل من دخول ثَرِي إلى ملكوت الله». لكن الظروف الاجتماعية والاقتصادية القائمة على المِلكية والإقطاع وسيطرة الرَّجل حوَّلت المسيحيَّة إلى ديانةٍ تفصل بين الجسد والروح، وتفصل بين جنس الرِّجال وجنس النِّساء، وتعتبر الرِّجال هم الجنس الأسمى ويمثلهم على الأرض المسيح ابن الله أو روح الله. أما جنس النِّساء فهو الجنس الأدنى؛ لأنه يمثِّل الجسد.
- (١)
الرأي الإنساني القديم القائل بالطبيعة الخيِّرة لجسد الإنسان (وهو مستمَد من الديانات القديمة المؤكِّدة للحياة قبل اليهودية في مصر القديمة والإغريق).
- (٢)
الرأي الآخر الذي انتشر بعد اليهودية والمسيحيَّة والذي يقود إلى اغتراب الجسد عن الحقيقة والهروب من العالم المادي إلى عالم الروح، وقد ساعد ذلك على تسهيل قيام الإمبراطوريات والمستعمرات.
وقد ظلَّ الصراع بين هذين الرأيين على مرِّ العهود. يقف مع الرأي الأول ذوو العقول المستنيرة المتقدمة من البشر والذين يؤمنون بالمساواة والعدالة، لا فرق بين فقير وغني أو ذكر أو أنثى. ويقف مع الرأي الثاني ذوو العقول الجامدة والذين يؤيدون الاستغلال والتفرقة بين البشر على أساس الجنس واللون والطبقة.
ظهر هذا الصراع واضحًا في القرن الثاني بين الجناح اليميني المتزمت من العلماء الروحانيين وبين الجناح اليساري المتقدم من المسيحيين. قال العلماء المتزمتون إن العالَم خُلِقَ من خلال خطيئة «الشر» «والإثم»؛ ولذلك فإن مصير هذا العالَم نحو عالَمٍ آخرَ روحي بعيد عن ذلك العالم الشرير.
لكن العلماء الأكثر تقدُّمًا رفضوا هذا الفصل الشديد بين العالمَين (عالم الشر وعالم الخلاص والتطهير)، وأكدوا نوعًا من الوحدة بين الأب «الله» أبي المسيح وبين الله الخالق الذي أنزل التوراة والإنجيل إلى الأرض والبشر؛ أي هناك اتصال بين عالم الروح وعالم الأرض أو الجسد.
وفي القرن الرابع طوَّر الإغريقيون نظريةَ أوريجن ورأوا المخلوق الأول والإنسان شيئًا واحدًا روحانيًّا ويقابله مخلوقٌ فرعيٌّ آخرُ جسدي مزدوج الجنس (فيه ذكر وأنثى)، وكان أوريجن قد طوَّر نظريةَ القديس بول عن «الجسد الروحي»؛ ليشير إلى مخلوقٍ أصلي كان نوعًا من «الجسد اللاجسدي» والذي ذابت فيه مادةُ جسد الإنسان في روحه بطريقةٍ جعلت المخلوق الأول «روحانيًّا».
وطوَّر رجال الكنيسة هذه الأفكار قائلين إن هناك مخلوقًا جسديًّا أصليًّا لم يكن حسيًّا تمامًا، ثم بُعِث جسدٌ آخرُ لم يكن جسديًّا ولكنه تحوَّل إلى جسدٍ روحي. ولكن هذا التطوُّر والتوفيق بين الجسد والروح لم يَزِد الأمر إلا غموضًا ولم يَحُل الصِّراع.
وظلت المسيحيَّة الإغريقيَّة واللاتينية مؤمنةً بالروحانية والأفلاطونية وفلسفة العالم الآخر والبعث والخلود والحساب والخلاص والتَّطهر من الآثام كرفضٍ للجسد وهروب الروح من الحسية المادية.
وأصبحت المرأة في المسيحيَّة — كما كانت في اليهودية من قبل — كبشَ الفداء الذي يقع بين فكَّي هذا الصِّراع الضَّاري بين الروح والجسد أو بين الخير والشر. وقالوا إنَّ الله خلق الرَّجل صورةً منه، وإنَّ الله روحٌ، روحٌ مائة في المائة، وليس لها جنس ولا أعضاء جنسية. لكنهم اصطدموا بالفكرة الأخرى التي توفِّق بين الجسد والروح، ونتج عنها أن الله ليس ذكرًا وليس أنثى، وإنما مزدوج الجنس، وقالوا إما أن الروح لها جنس أو أن الله له جسد. وحيث إنه من الكفر الاعتقاد بوجود جسد لله أو أعضاء مذكَّرة أو مؤنَّثة، فإن الفكرة يجب أن تُشْطَر نصفين بحيث تُفَسَّر صورةُ الله على أنها روحية فقط لا جنسية، أمَّا الجنس فيُعْزَى إلى شيءٍ آخر، فقد أُلْصِق الجنس بالمرأة وأُلْصِقَت بها كلُّ التُّهم.
وقال المفكِّرون في ذلك الوقت: إنَّ الازدواجية تكون فقط في الأشياء الحسيَّة المادية. أمَّا الله فهو روحي خالص وليس مزدوجًا. كما أنَّ صور الله في الرَّجل لا يمكن أن تكون مزدوجة. وخرج من هذه الفكرة رأيٌ يقول إنَّ الله لا جنسي، وكذلك أول الخليقة البشرية «آدم» لم يكن محدَّد الجنس.
في القرن الرابع جاء أبو الكنيسة الإغريقية «جريجوري نيسا»، وقال إن الله روحي خالص، وإن الجنس بعيدٌ عن الله، وبعيد عن آدم، وإنما أُضيف إليه فقط حين سقط بسبب حواء أو الجنس، ومِن ثَم الموت، ولو أن آدم التصق بروح الله من خلال طاعته للحكمة الإلهية التي من صورتها خُلِقَت روحه، لكان من الممكن أن يكون خالدًا ولا يموت أبدًا. إنَّ جسده المادي يمكن أن يظلَّ في كيانه الروحي على نحوٍ ما يجعله غيرَ قابل للتغيُّر أو الموت. ولكنَّ الإنسان له صفةٌ مادية أخرى لم تأتِ من عند الله، ولكن من العدم الذي وُجِد منه العالَم المادي. إن المادة التي خلقها الله «خيِّرة»، ولكن لها صفةٌ سلبية مأخوذة من العدم الذي انتصر عليه الله بخلق العالم المادي، والذي يعود مرةً أخرى إلى العدم؛ أي من حيث أتى. لكنه يقول إنه لو كان آدم أطاع الله لأصبح جسده مرتبطًا بالروحانية الإلهية وبقي خالدًا، ولكن حينما أدار آدم ظهرَه لله من أجل هذه الرغبة الجسدية الفانية فقد أصبح كِيان الإنسان كله قابلًا للفَناء، ولم يصبح له من عزاء عن الخلود أو علاج للموت إلا التناسل.
وفسَّر ذلك أن المرأة ناقصة، والذي ينقصها بالذات هو «الرأس»، فهي جسد بغير رأس، ومن هنا فكرة أن المرأة لا عقل لها، أو أنَّ عقلها ناقص. وحيث إن الفرق بين الإنسان والحيوان هو العقل، فإن الرَّجل إنسان كامل، أما المرأة فهي جسد شهواني حيواني ينطوي على الإثم والخطيئة بالطبيعة وبإرادة الله.
ومن هذا الاعتقاد الدِّيني والفلسفي جاءت الفكرة العلمية التي قالت بأن المرأة كمخلوق أقلُّ تطورًا من الرَّجل، وأنها في نظام الطبيعة والكون والتطور تأتي بعد الرَّجل. بل إن العلماء الذين آمنوا بنظرية داروين (التي تناقض الأفكار السابقة في كيفية خلق الإنسان والكون) لم يتخلصوا من فكرةِ أن المرأةَ أقلُّ من الرَّجل تطورًا، وأن الرَّجل هو الأصل والمرأة هي الفرع. فقال بعض العلماء إنَّ ذَكَرَ الإنسان تطوَّر قبل الأنثى من القرود، وإنه سبقها في الكفاءة البيولوجية، وإن عقله سبق عقلها في التطور؛ ولذلك حَكَمَ الرِّجالُ النِّساءَ في الأسرة وفي المجتمع.
ومن الأفكار الطِّبيَّة أيضًا التي ورِثناها هي تلك التي تفتَّقت عنها عقول رجال الدِّين ورجال الكنيسة في العصور الوسطى، الذين رغم جهلهم بالبيولوجيا أو جسم المرأة أو جسم الرَّجل أو علم الأجنة، فقد أصدروا قرارًا يقول إنَّ الجنين يظل ميتًا حتى يبلغ من العمر أربعين يومًا، ثم تدبُّ فيه «الروح» إذا كان ذكرًا. أما إذا كان أنثى فإنه يظل ميتًا لفترة ضعف فترة الجنين الذكر — أي ثمانين يومًا — ثم تدبُّ «الروح» في الجنين الأنثى. وأصبح مصرَّحًا بإجهاض الجنين الأنثى قبل ثمانين يومًا، أمَّا الجنين الذكر فلا يُجْهَض بعد الأربعين يومًا. وكيف عرفوا الجنين الذَّكَر من الأنثى في هذه الأيام الأولى التي يعجز الطِّبُّ الحديث عن معرفتها؟! بالطبع كانت لهم وسائلهم الخاصة. فالمرأة الحامل في الأنثى تفقد وزنها وتصبح شاحبةً عليلة بسبب الأنثى داخلها. أما المرأة الحامل في الذكر فيكسو وجهها اللحم والنضارة لأنها تحمل الجنس الأعلى. وما زال كثير من النَّاس يؤمنون بمثل هذه الخرافات حتى اليوم في ريف مصر؛ بل في مدنها أيضًا.
وقد ورِث أطباء العصر الحديث هذا التراث الطبي من العصور الوسطى وتسرَّبت هذه الخرافات إلى علوم البيولوجيا، وظهر علماء رجال يعتقدون بأنه ما دامت «الروح» تدبُّ في الجنين الذكر قبل الأنثى فإن الذَّكرَ بيولوجيًّا أعلى درجة من الأنثى، وأنه ينضج روحيًّا أسرع من الأنثى؛ أي إنه ينضج عقليًّا أسرع منها، ودعمت الفكرة الشائعة التي تقول بأن عقل المرأة أقل من الرَّجل. ولهذا السَّبب فإن معظم العلماء والمفكرين من الرِّجال وليسوا من النِّساء. وبمثل هذه الأفكار الخرافية قال هؤلاء العلماء إن عقل الرَّجل الأبيض في أوروبا وأمريكا سبق عقل الرَّجل الأسود في أفريقيا من حيث التطور ومن حيث الكفاية؛ ولذلك حكم الرَّجل الأبيضُ الأسودَ، ومعظم المفكرين والعلماء من الرِّجال البيض وليسوا من الرِّجال السود.
هذه كلها أفكار حديثة خرج بها العلماء والبحوث الجديدة التي قام بها الرواد من الرِّجال والنِّساء، وكشفوا النقاب عن كثير من الأفكار الفلسفية الخاطئة التي وقع فيها الفلاسفة الذين عاشوا في عهود الإقطاع والظلم، والذين تصوَّروا أن العنف والعدوان جزءٌ يأبى الانفصال من الطبيعة البشرية، وأن الرَّجل «جسد ورأس» وإنسان كامل وصورة كاملة من الله، أما المرأة فهي جسدٌ بغير رأس، وعليها أن تغطي رأسها وهي تصلي، ولا أدري كيف يمكن أن يكون رأس المرأة غير موجود أصلًا ثم يُطْلَب منها أن تغطيه؟
وقد تأثَّر كثيرٌ من الفلاسفة ورجال الدِّين بهذا الكلام إلى حدِّ أن قالوا إن المرأة تخجل ويحمرُّ وجهها خجلًا وعارًا حينما تفكِّر في الطبيعة التي خُلِقَت بها.
«المرأة تملِك أصول الشهوات، وهي باب الدمار والخذلان، والمرأة هي الجحيم، هي البلاء يصبُّه الله على رءوس العباد، هي الشقاء والكرب الذي يسبق الموت، والمرأة في جميع أحوالها مصدرُ فساد، ولها مداخل إلى الفتنة يعجز عنها إبليس.»
وردَّد هذا الكلام كثير من فلاسفة الغرب ومفكريه، ومنهم جان جاك روسو والفيلسوف الألماني أرتور شوبنهور الذي قال: «يكفيك أن تنظر كيف تكوَّنت المرأة لتدرك أنها لم تُخْلَق للعمل الجاد، سواء كان فكريًّا أو عضليًّا. إن نصيب النِّساء من الحياة هو التحمُّل والصبر وليس الفعل أو العمل.» أما روسو فقال: إن الرِّجال يعيشون حياةً فضلى بدون النِّساء، أما النِّساء فلا يمكن لهن أن يعشن حياةً فضلى بدون الرِّجال.
وسوف نفهم في الفصول القادمة من هذا الكتاب كيف أن مثل هذا العداء للمرأة ليس إلا إحساس الرَّجل بالنقص والضَّعف أمامها. وقد اتضح أن معظم الرِّجال من أعداء المرأة عانَوا من مشاكلَ جنسيةٍ ونفسية في علاقاتهم بها، من أمثال تيرتولين إلى أوجستين إلى أفلاطون إلى أرسطو إلى أوريجن إلى جان جاك روسو إلى شوبنهور إلى المعري إلى العقاد إلى مبارك، وغيرهم كثيرون.
ولم يحاول تيرتولين ولا زملاؤه من الفلاسفة أن يفكِّروا بعقولٍ هادئة موضوعية؛ لأنهم لو فكَّروا على هذا النحو لأدركوا التناقض الصارخ الموجود في أفكارهم في ذلك الحين. فكيف تكون المرأة بغير رأس وبغير عقل ثم تستطيع أن تفعل بآدمَ ما عجز الشيطان أن يفعله؟ وتستطيع أيضًا أن تحطِّم صورةَ الله وتسبِّب الموت للعالَم وتسبِّب الموت لابن الله؟! إنها بهذه القدرة الجبارة لا تملك رأسًا فحسب، ولكنها تملك قوةً وجبروتًا وإيجابيةً وذكاءً وعقلًا لا يملكه إلا الإله؛ بل إنها استطاعت أن تحطِّم صورةَ هذا الإله.
وربما أحسَّ أوجستين هذا التناقض الصارخ فخرج بفكرةٍ جديدة تُجرِّد حواءَ من شرف الإيجابية والقوة (وإن كانت قوةً شريرة)، وقال إن حواء أقلُّ من أن تدفع آدم إلى السقوط، لكن السقوط حدث حين أراد آدم أن يسقط وليس حين أرادت حواء.
فإن إرادة الله أو إرادة صورة الله هي في النهاية التي تحكم الموقف. ووقع أوجستين في تناقضٍ جديد يخالف الفكرة الأساسية الأولى التي تقول بمسئولية حواء عن الإثم كله؛ لأنه بهذه الفكرة الجديدة يقول إن آدم أو إرادة الله هي المسئولة عن الإثم، وإن حواء ليست إلا أداة. وحاول أوجستين أن يوفِّق بين التناقضات، فقال: إنَّ المرأة ليست جسدًا فقط، ولكن يمكن أن يكون لها عقل أيضًا، ويمكن أن تنقذ نفسها بالتغلُّب على جسدها وشهوتها، وتصبح العذراء الطاهرة التي لا تمارس الجنس.
وانتشرت في القرنين؛ الرابع والخامس، الأفكارُ التي تمجِّد العذرية. كان سوء الأحوال الاقتصادية يَحول دون كثرة الإنجاب، وقد بدأ في تلك الفترة انهيار الإمبراطورية الرومانية، وتردَّدت الفكرة القائلة: روح العذراء الطاهرة يمكن أن تكون عروسًا للمسيح. وبهذا شجَّعوا البنات بالاكتفاء بزواج المسيح في خيالهن.
ومن هنا مفهوم العذرية والشرف والطُّهر والتطهير والخلاص الذي انتشر وساد في المسيحيَّة وبين رجال الكنيسة في ذلك الوقت. كانت الفكرة هي أن الله لعن المرأة لأنها أغرت آدم، وجعلها تلد في الأسى والألم (لم تَعُد المرأة الحديثة تلد في الأسى والألم وأصبحت تلد بغير ألم بسبب تقدُّم الطب الحديث)، وأن يحكمها زوجها كعقابٍ لها على إثمِها، لكن العذراء هي القمة التي يجب أن تصل إليها أية امرأة تريد أن تَبْرَأَ تمامًا من الإثم؛ لأن العذراء تنسى طبيعتها الأنثوية المدنسة وتعيش كالرَّجل تستمد من طبيعته الفضيلة لتقوِّي جنسها الضعيف. لهذا تتحرَّر العذراء من عبودية جسدها الذي هو بالطبيعة يجب أن يكون تابعًا للرجل. إن الخطيئة جزءٌ من طبيعة المرأة، والعذرية تحرِّر المرأة من الخطيئة ومن الطبيعة الأنثوية أيضًا، فتصبح العذراء رجلًا أو كالرَّجل. إن المرأة في الأصل ليست إلا جسدًا بغير رأس (رأسها هو زوجها)؛ ولهذا فهي إما أن تكون غير قابلة للتطهير والخلاص وتظل امرأة، أو قابلة للتطهير والخلاص، وذلك بأن تتحوَّل إلى رجلٍ وتترك طبيعتها الأنثوية المنحطة. إن العذراء التي تحوَّلت إلى رجلٍ يصبح لها عقل وحكمة. ومن هنا جاءت الفكرة التي شاعت في ذلك الوقت من أنه بعد البعث سيكون في العالَم الآخر ذكورٌ فقط؛ لأن كلَّ الإناث تحوَّلن إلى ذكور وأصبحن ملائكة.
إن المرأة هي رمزُ الجنس والجسد؛ ولهذا فإن خلاصها الوحيد هو بنكران جسدها؛ أي نكران طبيعتها لتكونَ طاهرة. وهذا السَّبب وراء الحكمة التي أمرتها بأن تغطي رأسها (ثم تطورت هذه الحكمة بأن أمرتها بأن تغطي جسدَها كله)، وأن تخلع كل أدوات الزينة التي يمكن أن تجعلها جذابة للرجل. إنها لا بدَّ أن تتجرَّد من كل زينة لتصبح غيرَ جذابة في عين الرَّجل، ويجب أن تغطيَ جسدها؛ لأن جسدها يجذب الرَّجل. والسؤال هنا لماذا يُجذب الرَّجل الذي هو صورة الله الكاملة إلى الجسد المدنس؟ أَمَا كان الأجدر بهذا الرَّجل أن يكون روحانيًّا ساميًا كما قيل عنه، فلا يجذبه هذا الجسد المدنس؟ ألم يفكِّر أحدُ الفلاسفة في أن انجذاب الرَّجل إلى الجسد المدنس، معناه أن طبيعة الرَّجل ليست روحانية وليست سامية كما أُشيع عنه؟ لو أنهم فكَّروا على هذا النحو لكان العلاج ليس هو تغطية أجساد النِّساء، وإنما هو تهذيب طبيعة الرِّجال، أو على الأقل الاعتراف بأن طبيعة الرَّجل وشهوته الجسدية لا تقل عن شهوة المرأة، وأن الرَّجل ليس رأسًا أو روحًا فقط، والمرأة ليست جسدًا بغير رأس، ولكنهما الاثنين؛ الرَّجل والمرأة، كلاهما يشتمل على الجسد والرأس، وكلاهما يمارس الجنس، وكلاهما له عقل ومسئول عن ممارسته الجنسيَّة وغير الجنسيَّة في الحياة بمختلف نواحيها.
وتقول المصادر التَّاريخية إن «أوريجن» استأصل خصيتيه من أجل الامتناع الكامل عن الجنس المدنس، ولكي تصبح روحه طاهرة. لكن الذي حدث أن رُوح أوريجن لم تطهر على الإطلاق؛ لأن استئصال الخصيتين يزيد من خيالات الرَّجل الجنسيَّة كتعويض عن الشيء المفقود. ولا شك أن الروح الطاهرة لا يمكن أن يكون لها خيال آثم؛ لأن الطهارة ليست الامتناع عن الفعل فقط، وإنما الطهارة هي الامتناع عن الفعل وعن التفكير في الفعل أيضًا.
- (١)
أمهات طاهرات تم تطهيرهن بسبب الأمومة المقدَّسة والأزواج (نساء عفيفات باردات غير جذابات).
- (٢)
عشيقات ومومسات (وما شابههن) مدنسات ومحتقرات (لكنهن جذابات وملتهبات جنسيًّا).
وقال أوجستين أيضًا: إن الرَّجل حين يرضخ لجسد المرأة أو الجنس الآثم فإنه يفقد حكمتَه الإلهية؛ لأن الجسدَ هنا ينتصر على العقل، ومعنى ذلك أن عضوه الجنسي ينتصب وحدَه بدون سيطرة العقل، وتكون المرأة هنا آلةً بيولوجية صرفة يمارس معها الرَّجل شيئًا أشبه بالعادة السرية.
وقد وصف أوجستين بذعرٍ شديد عضوَ الرَّجل المنتصب، وألقى اللومَ كلَّ اللوم، والمسئوليةَ كلَّ المسئولية على ذلك العضو السيئ الذي ينتصب بعيدًا عن العقل. وقد ذكر بعضُ علماء النفس المعاصرين لأوجستين أن ما قاله أوجستين ليس إلا تعبيرًا عن عقدة نقصٍ كان يشعر بها أوجستين، وأنه كان يعاني من مشكلةٍ جنسية وضَعفٍ في الانتصاب.
- (١)
المرأة كعاهرة.
- (٢)
المرأة كزوجة.
- (٣)
المرأة كعذراء.
- (١)
ظلت عذراء لم يلمسها رجلٌ ولم تمارس الجنس.
- (٢)
أصبحت أمًّا وولدت طفلًا (المسيح).
وبرغم استحالة هذا الوضع بيولوجيًّا وعقليًّا وعلميًّا، لكن الله أراد لها ذلك بأن نفخ من روحه فيها، فولدت ابن الله كما قالوا.
وقد استطاع أوجستين وغيره من الفلاسفة أن يطوِّعوا الحقائقَ الواضحة والظواهر إلى أفكارهم الذاتية الخاصة، وأن يقعوا في تناقضاتٍ صارخةٍ لا يقبلها العقل الذي قالوا عنه إنه من ممتلكات الرَّجل فحسب، وإن عقل الرَّجل جزءٌ من روح الله.
إن الفكرة القائلة بتعدُّد الزوجات دافَعَ عنها أوجستين وبرَّرها قائلًا إنها ليست من أجل لذة الرِّجال، ولكن من أجل التناسل وزيادة العدد كإرادة الله وطاعة أمره؛ لأن الله قال «تزايدوا وتكاثروا»، من أجل تقوية بني إسرائيل الذين سيظهر منهم في المستقبل المسيح المنتظَر.
وانتشرت في العالم بعد كلِّ ذلك الأفكارُ التي انتقصت وضْعَ المرأة، وجعلت المرأةَ المتزوجة أقلَّ من العذراء، والزوجة رأسها هو زوجها، وزوجها يملك جسدَها وله حقُّ قتْلها إذا خالفَته الزوجة. انخفضت مكانة المرأة في المجتمع المسيحي عنها في المجتمع الروماني السابق له، مع أن هناك نصًّا صريحًا في الإنجيل يقول إنه ليس هناك مَن هو يهوديٌّ أو إغريقي، ليس هناك مَن هو عبدٌ أو حرٌّ، ليس هناك مَن هو ذكر أو أنثى؛ لأن كلَّكم واحد في يسوع المسيح.
لكن الفلاسفة ورجال الدِّين تجاهلوا هذا النص الواضح من أجل أن تسودَ القيم الاقتصادية المطلوبة في ذلك الوقت، وهي القيم القائمة على الملكية والإقطاع والتوريث، وفرض النظام الأبوي ليورِّث الآباء أطفالَهم الشرعيين فحسب، أمَّا أطفالهم الآخرون غير الشرعيين المدنَّسون الذين ولدتهم نساءٌ مدنَّسات (عشيقاتهم وجواريهم ومومساتهم) فلا حقَّ لهم في الأرض ولا الميراث، ولا حق لهم في اسم الأب.
وقد بلغ من شدة تأثيم الجنس أنْ حُرِّم على الكهنة الزواج حتى يؤدوا الصلاةَ بالنَّاس كلَّ يوم وهم طاهرون. وقد سُمِّي الجنس بعبارة «وحش مفترس في البطن» الذي إذا ما تساهلت «وأعطيته شبرًا واحدًا فسوف يمتد ويحتل ميلًا كاملًا»، وهذا يدل على أن الذين قالوا هذا الكلام لا بدَّ أحسُّوا قوةَ هذه الرغبة الجنسيَّة داخلهم.
وكما حثَّت المسيحيَّة على عدم زواج الكهنة أمرت الراهبات بالامتناع الكامل عن الجنس، وتغطية الجسم والابتعاد عن كل شيء يمكن أن يجعل الجسد جذابًا، حتى لو كان الاستحمام وتنظيف الجسم. وقد قال جيروم (وهو فيلسوفٌ آخرُ في مستوى أوجستين) عبارةً شهيرة هي: «الجسم النظيف يعني عقلًا قذرًا.» وكان يشجِّع العذراء على عدم الاستحمام حتى لا تفكِّر في الجنس، وأن العذراء بغير هذا الاستحمام تصبح ملائكية! وقد ذكر علماء النفس الذين عاصروا جيروم وحلَّلوه نفسيًّا أنه كان لا يمارس الجنس في حياته الحقيقية، لكنه كان أسيرَ خيالات جنسية شديدة الشهوة مع نساءٍ لم يعرفهن، وأنه كان يعاني كبتًا جنسيًّا شديدًا أدَّى به إلى أن يعلن أحيانًا أفكارًا غريبةً بعيدةً عن العقل. وقالوا أيضًا إن أوجستين كان يرفض العلاقةَ الجنسيَّة مع النِّساء؛ لأنَّه كان أسيرَ علاقته بأمه التي كان يحبُّها ويكرهها في الوقت نفسه.
وقد انتشرت بعد ذلك الأفكارُ التي تمجِّد العذراء عامَّة، ومريم العذراء خاصة، وأعطَوا مريم لقبَ إلهة الأرض (وهو لقبُ الإلهة الأنثى القديمة قبل اليهودية) وأم الله. وتوَّجوها بالقمر ونجوم «إيزيس» فوق رأسها، وفي حِجرها الطفل المقدَّس ابن الله. وهي صورة قديمة أُخِذَت من إيزيس وحورس، وبذلك أعطَوا مريمَ مجدَ الإلهات الإناث في الديانات المصرية والإغريقية القديمة. ثم أعطَوها بعد ذلك عرشَ الله وأجلسوها على عرش الله بجوار إله اليهود القديم وابنه المسيح الذي حكم السماء ذاتَ يوم بعظمةٍ أبوية منقطعة النظير.
ومجَّدت الكنيسةُ العذراءَ والعذريةَ منذ ذلك الحين حتى قرننا العشرين. وأصبحت مريم العذراء رمزَ الطهارة والقدسية، وحواء رمز الجسد والإثم. أصبحت مريم الأم العذراء التي وُلِدَت بغير جنس، أما حواء فهي المرأة الجنسيَّة التي أَغْرَت الرَّجل ولم تلد ابن الله أو الإله، وإنما ولدت الشرَّ الذي قتل أخاه وصنع الجريمة والموت.
ويتبع توماس أرسطو أيضًا في نظريته البيولوجية أن الأنثى إنسان ناقص، وهي تكوَّنت أنثى بسبب حادثٍ وقع للحيوان المنوي الذكري الذي هو بالطبيعة يحتوي على إنسان كامل هو الرَّجل.
وقالوا أيضًا: إن آدم لم يكن مؤسِّس البشرية وأصلها فحسب، ولكنه كان أيضًا المادة التي خرجت منها المرأة الأولى.
وهكذا فإن المرأة جزءٌ من الرَّجل، أما الرَّجل فإنسان كامل. وخرجوا من ذلك بأن المرأة أدنى من الرَّجل جسديًّا وأخلاقيًّا ونفسيًّا وروحيًّا ودينيًّا.
وقد سلبوا حواءَ كلَّ شيء حتى حقها في أن تكون ناجحة في الشر ومستقلة به، فقالوا إنها أغرت آدم حقًّا لكنَّ إغراءها لم يكن إلا أداة، وآدم هو الذي حسم وقرَّر وأراد وليست هي. ومع ذلك قالوا أيضًا إن الشر في العالم سببُه حواء، وهي مسئولة عنه، وآدم بريء منه. كيف؟! لكن هذا على غرار: أنت عضضت الكلب!
لكنهم اعترفوا بعد ذلك بسقوط آدم، وقالوا إن سقوط آدم كان يقتضي التكفير عنه في صورة المسيح الذي مسح ذنبَ آدم وذنوبَ الرِّجال فقط؛ لأن المسيح كان رجلًا ولم يكن امرأة. ومن هنا تساءل توماس تساؤله الشهير: «لماذا تجسَّد المسيح في جسدِ رجل ولم يتجسَّد في جسد أنثى أو خنثى أو «لوجوس» مخلوقًا لا جنسيًّا؟» إن سقوط آدم الأول قد مُسِح بتكفير آدم الثاني (سموا المسيحَ آدمَ الثاني)، وإن الكهنة هم امتداد المسيح فوق الأرض، ومِن ثَم الرِّجال أيضًا.
لكن هؤلاء الفلاسفة نسُوا أنهم قالوا من قبلُ إن مريم العذراء بعذريتها وطُهرها وكونها الأم التي لولاها ما جاء المسيح، قد كفَّرت عن إثم حواء. فلماذا لم تمسح ذنوبَ النِّساء كما مسح المسيح ذنوبَ الرِّجال؟ ولماذا أصبح الكهنةُ والرِّجال امتدادًا للمسيح ولم تصبح النِّساء امتدادًا للعذراء؟
لكن يبدو أن هؤلاء الفلاسفة كانوا يَرون الأمورَ بعينٍ واحدة (هي العين الذكرية)، ويفكِّرون بنصف عقولهم فقط (لا بد أنه كان نصف عقولهم الذكري أيضًا).
وقد فكَّر هؤلاء الفلاسفة أيضًا في شكل الاتصال الجنسي الذي سيحدث في الجنة (يبدو أنهم اعتقدوا أن الجنة لا يمكن أن تكون جنةً بغير اتصال جنسي، وهذا يناقض نظرتهم إلى الجنس كإثم)، وقالوا إن الاتصال الجنسي في الجنة اتصالٌ روحي بغير لذة الجنس وبغير ألم الولادة وبغير تمزيق غشاء البكارة؛ لأن كلَّ الإناث في الجنة عذراوات؛ ولهذا نُظِر إلى الزواج في تلك الفترة على أنه من أسوأ الاختيارات أمام المرأة، والأفضل للمرأة أن تظل عذراء (لتضمن مكانًا لها في الجنة). والاختيار الثاني هو أن تكون «أرملة» (تربِّي أولاد زوجها الذي مات، وبالطبع لا تمارس الجنس). والاختيار الثالث هو الذي لا تفعله إلا عند الضرورة وهو الزواج. كانت هناك نصيحة دينية وفلسفية عامة لجميع النِّساء تقول: عند الضرورة تزوجي!
وقال توماس إن لهيبَ الشهوة الجنسيَّة جزءٌ من العقاب بسبب سقوط حواء، وإنها (أي الشهوة) تعكس فقدانَ العدل الأصلي، وإن هذه الشهوة لا تشبع ولا تُقاوَم، والزواج علاجٌ لها ومن أجل ألا تحدُث خيانة. وقال إن شهوة المرأة أشدُّ؛ لأن كلَّ كِيانها بُنيَ على الجنس والولادة؛ ولهذا فإن المرأة أضعفُ من الرَّجل في مقاومة الشهوة، وهي أكثرُ من الرَّجل خيانةً.
ثم قال بعد ذلك إن المرأة يجب أن تُمْنَع من ممارسة الجنس أثناء الحيض حتى لا تنجب طفلًا مشوَّهًا، ولكنها يجب ألا تمتنع عن الرَّجل إذا رغِبها وهي حائض؛ لأنها إذا رفضته فقد يعرِّض الرَّجل للزلل والخيانة والإثم.
وقال أيضًا إن الزوجة يجب ألا ترفض رغبةَ زوجها المريض بالجذام رغم أن الأطفال معرَّضون للإصابة، أمَّا هي فيمكنها أن تتفادى الإصابةَ بألا تعيش مع زوجها تحت سقفٍ واحد. وقد تصوَّر توماس أن الجذام لا ينتقل إلى المرأة عن طريق العملية الجنسيَّة، أو لعلَّه تصوَّر ذلك لكنَّ إشباع رغبة الزوج كانت لديه أهمَّ من صحة الزوجة والأطفال. وهذا هو منهج الفلسفة الذَّكَرية المتناقضة القائمة على السلطة الأبوية وتشويه الحقائق وبتْرِها وقلبِها من أجل إثباتِ أشياءَ أبعدَ ما تكون عن العقل وعن الحقيقة.
ثم قال توماس إن الرَّجل هو الذي يبدأ ويرغب الجنس، وعلى المرأة أن تستجيبَ له، مع أنه قال سابقًا إن شهوة المرأة أشدُّ، وإن إثم المرأة أشدُّ. وقد اعتقد توماس أنه من المضرِّ لصحة الرَّجل أن يختزن السائلَ المنوي؛ ولهذا وُجِدت المرأة من أجل صحة الرَّجل، وأن البغاء مقبول كشرٍّ لا بدَّ منه؛ لأن طبيعة الرَّجل تحتاج إلى هذا البغاء كصِمَامِ أمانٍ وحتى لا يُختزن السائل المنوي داخل الرَّجل. ألا يناقض هذا الكلام ما سبق أن قاله توماس وغيره من الفلاسفة عن آدم وحواء والإثم والجنس والشهوة؟! لقد حلَّل الرَّجل لنفسه الآن الجنسَ ليس داخل الزواج فحسب، وإنما مع المومسات أيضًا كصِمام أمانٍ وحتى لا تُضَر صحةُ الرَّجل بتخزين السائل المنوي، ولأن شهوة الرَّجل لا يمكن أن تُؤجَّل؛ هذا الرَّجل الذي كان منذ قليلٍ الروحَ السامية، وصورةَ الله والرأس بغير جسد، والذي أغرته حواءُ الآثمة المدنَّسة!
لم يكن توماس يعرف ما نعرفه الآن من أن رغبةَ الرَّجل كرغبة المرأة، وأن صحة المرأة تتضرر أيضًا إذا شعرت برغبةٍ وامتنعت عنها مثل الرَّجل. لم يعرف توماس أن تخزين السائل المنوي لا يضر الرَّجل كما تصوَّر. إن الجسم يفرِّغ السائل المنوي أولًا بأول عن طريق الممارسة الجنسيَّة أو عن طريق الاحتلام أو الإشباع الذاتي (العادة السرية) أو أي شكل من أشكال الممارسة الجنسيَّة، وإن الرَّجل إذا كانت زوجته حائضًا فيمكنه أن ينتظر يومًا أو يومين أو عشرة أو حتى عشرين دون أن يصيبه شيء.
بعد انتشار هذه الفكرة في العالم أصبحت الفلسفة في العصور الوسطى وعند الكنيسة ترتكز على أن الرَّجل ينتمي إلى نفسه، والمرأة تنتمي إلى الرَّجل، وأصبح للرجل حرياتٌ ليست للمرأة؛ من حق الرَّجل أن يخون زوجته ويمارس الجنس مع جميع النِّساء فيما عدا الزوجات؛ لأنه بذلك يعتدي على حقِّ رجلٍ آخر. أما النِّساء فليس لهن حقوق. إن الخيانة محرَّمة على المرأة تحريمًا قاطعًا في كافة الظروف والأحوال. المرأة الأرملة لا تمارس الجنس مرةً أخرى ولا تتزوج مرةً أخرى، ولكن عليها أن تربي أطفال زوجها من عشيقاته الأخريات. إنَّ مسئولية المرأة في الخيانة أشدُّ من الرَّجل؛ لأنَّها مسئولة عن تربية الأطفال والحفاظ على الأسرة الأبوية (أمَّا الأب أو الرَّجل الذي تنتسب إليه هذه الأسرة فليس مسئولًا عن الحفاظ عليها)! تبرير للازدواجية الأخلاقية بازدواجية اجتماعية، والحجَّة هنا أقبحُ من الذنب.
بعد ذلك ارتفعت مكانة الزواج، وأصبح يُنْظَر إليه كأنبل شيء، وتغيَّرت النظرة إلى الجنس وأصبح شيئًا نبيلًا في ظل الزواج. والمرأة أصبح لها عظمةُ الأمومة، وأنها رغم ألم الولادة والأسى المفروض عليها بإرادة الله فهي تجد لذةً في الأمومة وتحقيقًا لذاتها ووجودها. وكان هذا التغيير سبقه تغيير الظروف الاقتصادية، وأصبح المجتمع في القرن اﻟ ١٥ في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الأيدي العاملة لتشغيلها في الصناعات الجديد والأعمال المتزايدة؛ فقد نشِطت التجارة على أثر اكتشاف أمريكا، والدوران حول رأس الرجاء الصالح، وفتح أسواق في الهند والصين، وظهرت الآلات والورش الكبيرة.
ولم يستطِع «لوثر» أن يُصلِح الكنيسة، واتُّهِم أنه رجل جنسي فاسق لأنه تزوَّج رغم أن قانون الكنيسة لا يسمح له كقس بالزواج. لكن لوثر خرج على قانون الكنيسة وتزوَّج وأنجب. وحين مات «لوثر» اتُّهِم بأن شيطان الجنس ركِبه، وأن رائحة الشيطان الكريهة كانت تتصاعد من قبره.
تغيَّرت الأفكار بعد ذلك، وارتفعت مكانة المرأة شيئًا فشيئًا. وفي عهد النهضة زادت مكانة النِّساء، وكان المذهب الفلسفي الإنساني قد أخذ القيادةَ في تغيير وضع المرأة في القرنين اﻟ ١٥، اﻟ ١٦.
لم يحدث هذا التغيير في المذهب الفلسفي إلا بعد التغيير الاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثته حركة التمرُّد بين الطبقات الدنيا والأُجَراء والعمال والفقراء والنِّساء ورغبة المطحونين والمستعبدين في التحرُّر من سيطرة الإقطاعيين والمُلَّاك والأسياد.
وبدأ النَّاس يثورون على الأوضاع والأنظمة الحاكمة، وبدءوا يتمرَّدون على المؤسسات الموجودة في المجتمع التي تحكمهم وتبرِّر لهم ما هم فيه من فقرٍ وذلٍّ واستعباد. إحدى هذه المؤسَّسات كانت الكنيسة التي قالت إن حقَّ الحكام والملوك نابعٌ من السماء وليس من الأرض، وإن الملكية والثراء حقٌّ إلهي أعطاه الله للإقطاعي، وعلى الأجير أن يطيع ويقبل أمر الله، وإن السيطرة للرجل الذكر، وعلى المرأة أن تطيع وتقبل أمر الله.
وشعرَ العبيد والسود والأُجَراء بالاغتراب عن كنيسة طبقية وإله طبقي وديانة طبقية، تحفظ حق طبقة الحكام والأثرياء ولا تحفظ حقوق الأجراء والعبيد والمطحونين. وشعرت النِّساء بالاغتراب عن كنيسة ذَكَرية وإله ذَكَر وديانة ذَكَرية تؤمن بأن الله له الحق في الأمر والنهي والطاعة، وأن الرِّجال يشاركون هذا الحقَّ مع الله.
أما «تيليش» فقد حاول أن يُنصف المرأة كإنسانٍ له عقلٌ كالرَّجل، وحاول أن يبنيَ جسرًا يصل ما بين العقل والعاطفة. وكان ينشد من ذلك تحقيقَ نوعٍ من المعرفة الكاملة، وعلاجَ الانفصام الذي حدث فلسفيًّا ودينيًّا بين العقل والعاطفة، وعارض ما سُمي بالتفكير الذكري (وهو العقل) والتفكير الأنثوي (وهو العاطفة)، وقال إن التفكير الذكري ليس هو التفكير الوحيد، وإن الفهم الكامل يأتي من التفكيرين معًا، وإن التفكير الذكري وحدَه نتج عن معرفةٍ مشوَّهة ناقصة غامضة؛ بل ومحطَّمة أيضًا.
وقال أيضًا إن الازدواجية داخل النفس الواحدة، وإن الله ليس ذكرًا وليس أنثى، وإن الأفكار الدِّينية والفلسفية التي أعطته الذُّكورة أخطأت، وأعلن أن الفكر الدِّيني مُطالَب الآن بتحرير الله من أفكار الفلاسفة ورجال الدِّين وإعطائه الصفة الكاملة.
وشرح تيليش تفسيره لقصةِ آدم وحواء، وقال إن هذه القصة الدِّينية ليست إلا قصة رمزية، والمفروض أن نفهم ما وراءها من معنًى. وقال إن هذه القصة ليست إلا رمزًا للمرحلة التي يمر بها الفرد في اجتيازه من الطفولة أو الاتحاد بالأم أو الوجود الأصلي إلى أن يصبح ناضجًا كفرد مستقل. إنها المرور من مرحلة الحُلم بالبراءة إلى المعرفة الحقيقية بالواقع والحقيقة. وفي هذا المرور يشعر الإنسان بأزمةٍ تشبه أزمةَ المراهق حين يكتشف الجنس فيشعر بالإثم، لكن هذه الأزمة ضرورية لنمو المراهق؛ لأنه بدون اكتشاف الجنس يفقد الفرد نفسَه تمامًا، بمعنًى آخر: إن سقوط آدم في رأي تيليش ليس إلا رمزًا لسقوط المراهق، وهو سقوط ضروري لتحقيق الذات، ولكن من ناحية أخرى يرسب الشعور بالإثم والذنب.
ويكاد الفكر الدِّيني عند تيليش يقترب من الفكر الفرويدي عن النفس والجنس، مع الفارق الكبير في فلسفةِ كلٍّ منهما ومنهجه في التفسير.
الغريب أن كثيرًا من العقول في عصرنا الحديث هذا لا تزال تؤمن بكثير من الأفكار السابقة. معظم هؤلاء لم يدرسوا تاريخَ البشرية، ولم يدركوا الأسبابَ الحقيقية التي من أجلِها اضطُهدت المرأة هذا الاضطهاد الجنسي والاجتماعي. معظم هؤلاء لم يربطوا بين التَّاريخ الاقتصادي والتَّاريخ الفلسفي والأخلاقي للبشرية، وبغير هذا الربط لا يمكن للإنسان أن يفهم الأسبابَ الحقيقية لظاهرة الاضطهاد الجنسي للنساء أو الاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي لطبقاتٍ معيَّنة في المجتمع، أو الدوافع الحقيقية لنُظمٍ معيَّنة في الزواج أو الطلاق أو القيم الأخلاقية.
مثلًا كان اضطهاد المرأة في الهند شديدًا إلى حدِّ أن انتشرت (إلى عهدٍ غير بعيد) عادةُ حرق المرأة بعد وفاة زوجها. وكان رجال الأديان يُصرُّون على حرق الأرملة الثرية بالذات؛ لأن أموالها كانت بعد وفاتها تذهب إلى رجال الدِّين بحكم القانون!
كان سهلًا دائمًا على البشر في كل العهود أن يغيِّروا نُظُم الزواج ونُظُم العلاقات الجنسيَّة حسب الحالة الاقتصادية دون أيِّ اعتبار لما سُمِّي بالقيم الأخلاقية. في فترات الفقر وازدياد عدد السكان يُباح قتلُ الأطفال ويُباح الإجهاض، وتُحرَّم العلاقات الجنسيَّة خارج الزواج، ويُشجَّع النَّاس على عدم الزواج، أو على الزواج مع تحديد النسل، ويستطيع أيُّ مجتمع في أي وقتٍ أن يستخرج من قيمه الدِّينية والأخلاقية ما يتمشَّى مع مصالحه الاقتصادية. وفي فترات الرخاء النِّسبي وقلة الأيدي العاملة يُشجَّع النَّاسُ على الإنجاب داخل الزواج وخارجه. في بعض المناطق — جنوب الهند — رأيت بعضَ القبائل الفقيرة تبيح تعدُّد الأزواج في عهود كثيرة لأسباب اقتصادية مختلفة، عند العرب قبل الإسلام، وفي «إسبارطة» في اليونان القديمة كان القانون يبيح تعدُّد الأزواج بشرط أن تنجب الزوجة طفلًا واحدًا، وكان الأطفال الزائدون عن حاجة الدولة يُقْتَلون بأن يُلْقَوا في مقبرةٍ سمَّوها مقبرة «تايجيتوس».
وكان اليونانيون يسمحون بجميع العلاقات الجنسيَّة خارج الزواج بشرط ألا تؤثِّر على ثروة الزوج، أو تنقل ميراثَه إلى طبقةٍ أدنى أو أطفال رجل آخر.
في المجتمع الروماني كان من حق الرَّجل أن يتبنَّى ابنًا مجهولَ الأب، وكان السَّبب في ذلك اقتصاديًّا بحتًا متعلقًا بالوراثة والملكية. في المجتمع الروماني كان من حق الرَّجل أن يتبنَّى ابنًا مجهولَ الأم ويصبح ابنه، أما المرأة فلم يكن من حقِّها أن تتبنَّى ابنًا مجهول الأب. وكان السَّبب في ذلك اقتصاديًّا بحتًا متعلقًا بالوراثة والملكية.
حين نشِبت الحرب بين أثينا وإسبارطة في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد ابتلعت الحرب أعدادًا من الرِّجال الذين طالت غيبتُهم والذين خلَّفوا وراءهم زوجاتٍ وحيدات. وهنا فكَّر الرِّجال (الذين لم يذهبوا إلى الحرب) في الوسائل التي تمكِّنهم من الاتصال جنسيًّا بهؤلاء الزوجات. وظهرت على الفور أفكارٌ تدعو إلى تحرير النِّساء جنسيًّا. ونشطت عقول الرِّجال في تبرير هذه الدعوة. أحد هذه العقول كان للطبيب اليوناني الشهير أبو قراط الذي بدأ يفكِّر في رحم المرأة كعضوٍ جنسي هام، وقال أبو قراط إن هذا الرحم في حاجةٍ دائمة إلى تغذيةٍ يحصل عليها من الرَّجل (لم يكن أحد من الرِّجال من قبلُ يفكر في حاجة الرحم)، وإن حرمان الرحم من هذا الغذاء الضروري يصيب المرأةَ بنوع من العصبية سمَّاها «هستيريا» (معناها باليونانية الرَّحم). وقد عاشت النِّساء من قبل ذلك في حرمانٍ جنسي دائم، لكنَّ أحدًا لم يفكِّر في إشباعهن. وبسبب «هستيريا» النِّساء قرَّر الرِّجال الاتصالَ بالزوجات الوحيدات من أجل صحة هؤلاء النِّساء، وليس من أجل إشباع رغبة الرِّجال!
وفي الوقت الذي انتشر فيه حزامُ العفَّة الحديدي في القرون الوسطى زاد الفسق بين الرِّجال وانتشرت الدعارة. وكان معظم الأزواج في تلك الفترة يسافرون كثيرًا لأعمال تجارية ويتركون زوجاتهم وحيدات؛ ولهذا ابتكر الرَّجل حزامَ العفَّة الحديدي لتلبسه المرأة فوق أعضائها الجنسيَّة ويغلقه زوجها بالمفتاح ثم يسافر مطمئنًا إلى أن أحدًا لن يعتديَ على أملاكه.
أمَّا هذا الزَّوج فكان نشاطه الجنسي مع المومسات والمحظيات أكثرَ من نشاطه التجاري، لكنه لم يكن يأبه بهذه العلاقات؛ لأنَّ أطفاله من هؤلاء النسوة لم يكن لهم نصيب في ميراثه.
ولم يكن الكهنة ورجال الدِّين أقلَّ نشاطًا من النَّاحية الجنسيَّة عن الرِّجال الآخرين، وانتشر الفساد وازداد عدد المومسات والأطفال غير الشرعيين في جميع الأوقات بما في ذلك الوقت الذي أعلنوا فيه الصومَ الجنسي وحُرِّم الزواج على رجال الدِّين والقسس.
وجاء الوقت الذي أصبحت فيه المومس جزءًا لا يأبى الانفصال عن الحياة، وضرورةً لا يمكن الاستغناء عنها، سواء في السِّلم أو في الحرب.
وقد انتشرت الأمراض التناسلية بالطبع بسبب نشاط الرِّجال الجنسي مع المومسات والمحظيات، وبلغ من انتشار هذه الأمراض إبَّان عصر النهضة أن أصبحت وباءً عامًّا يهدِّد صحَّة الجميع، وأعلن أحدُ أباطرة أوروبا في ذلك الوقت بيانًا قال فيه إن هذا الوباء الخطير غضبٌ من الله على البشر بسبب خروجهم على الدِّين واستسلامهم لشيطان الجنس.
ولم يكن سببُ هذا الوباء قد عُرِفَ بعدُ؛ ولهذا نسبوه إلى المرأة وسمَّوه المرض «الفينوسي» نسبةً إلى «فينوس» إلهة الجنس اليونانية. وقد أصبح هذا الاسم يُطْلَق من بعدُ على جميع الأمراض التناسلية كالزهري والسيلان، وتُعْرَف هذه الأمراض حتى الآن في أوروبا باسم «الأمراض الفينوسية».
وهكذا نرى أنه بمثلِ ما أُلْصِقَت تهمة الجنس والإثم بحواء، فقد أُلْصِقَت تهمةُ المرض بفينوس، وظلَّ الرَّجل بريئًا طاهرًا، والمرأة سبب الخطيئة وسبب المرض.
- (١)
احتكار الرَّجل للمال والسلطة والأطفال والميراث.
- (٢)
احتكار الرَّجل للدِّين والأخلاق والفلسفة والفكر.
- (٣)
احتكار الرَّجل للجنس والمتعة الجنسيَّة.
ورغم أن المرأة خرجت إلى التعليم والعمل بعد الحرب العالمية الأولى (لحاجة المجتمع إلى سواعد النِّساء بعد أن امتصَّت الحربُ الرِّجال)، إلا أن المرأة حين خرجت إلى العمل لم تكن إلا أداةً اقتصادية لسد النقص في أيدي الرِّجال العاملة، ولسد نفقات الأسرة ومساعدة الزوج أو الأب في الإنفاق. أما بالنسبة للمجالات الثلاثة السابق ذكرُها فقد ظلت المرأة مطرودة منها.
- (١)
المرأة لا تزال مطرودةً من مجال السلطة والحُكم والسياسة.
- (٢)
نصيب المرأة في الميراث أقلُّ من الرَّجل. في بعض الأحيان تُحْرَم المرأة تمامًا من الميراث. وفي حالة عدم إنجاب ذكر يرث الأقاربُ بصرف النظر عن وجود البنات.
- (٣)
المرأة لا تملك أطفالها، وإنما يملكهم الأب اسمًا وشرفًا وقانونًا.
- (٤)
المرأة لا تملك في الأديان إلا الخضوع للزوج والطاعة.
- (٥)
المرأة لا تملك الأخلاق إلا أن يعترف بها رجلٌ، وإلا فعليها أن تظلَّ عذراء.
- (٦)
المرأة لا تملك في الفلسفة إلا وضْعَ التابع للرجل والأقل منه عقلًا.
- (٧)
المرأة لا تملك في الجنس والمتعة الجنسيَّة إلا أن تكون مومسًا محتقَرة.
هذا هو وضع المرأة بصفةٍ عامة في معظم البلاد المتقدِّمة والمتخلِّفة. وقد حظيت المرأة ببعض الحقوق في بعض المجتمعات الاشتراكية، لكنَّ الأغلبية الساحقة من نساء العالم ما زلن تابعاتٍ للرجال، في أمريكا وأوروبا والشرق والغرب.
ولا تزال النِّساء في مجتمعنا العربي محروماتٍ من معظم حقوقهن، وما زالت الأغلبية منهنَّ متخلفات محجبات العقل والنفس. وبالرغم من أن الإسلام كدينٍ يُعَدُّ أكثرَ تقدُّمًا مما سبقه من أديان، وأنه أعطى المرأة بعضَ الحقوق التي حُرِمَت منها في أديانٍ أخرى، إلا أن رجال الدِّين على مرِّ العصور استطاعوا أن يفسِّروا الدِّين لصالح الرَّجل باستمرار، إلى حدِّ أن المرأة في عصرنا هذا حُرِمَت من كثير من الحقوق التي كانت تتمتَّع بها وقت ظهور النبي محمد رسول المسلمين.
ويَنسب بعضُ رجال الدِّين إلى النبي محمد أنه قال إن النِّساء ناقصاتُ عقلٍ ودين، في حين أن المصادر الإسلامية تقول إن الرسول محمد قال للرجال من حوله وهو يشير إلى زوجته السيدة عائشة: «خذوا نصفَ دينكم من هذه الحُميراء.» وكلمة الحُميراء هنا تعني أن وجهها كان مشربًا بالحُمرة.
- (١)
هل المرأة مساوية للرجل أم إنها أقلُّ منه؟
- (٢) هل العلاقة الجنسيَّة بين الزوجين محرَّمة إذا مُنِعَ الحمل؟ إن ما حدث في مجتمعنا المصري بشأن هذه النقطة بالذات يجعلنا لا نعرف على الإطلاق هل تحديد النسل مباح في الإسلام أم محرَّم. أفتى عددٌ كبير من رجال الدِّين أنه حلال، وأن المسلمين في عهد الرسول كانوا يحدِّدون النسل عن طريق العزل (وهو قذف السائل المنوي خارج المهبل)، وقالوا إن الصحابة كانوا يفعلون ذلك والوحي ينزل، وأنه جاء في الصحيحين عن جابر: «كنا نعزل على عهد الرسول والقرآن ينزل.» وفي صحيح مسلم قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله فبلغ ذلك الرسولَ فلم ينهنا.» وغير ذلك من الأسانيد التي تثبت أن تحديد النسل حلال. وبناءً على ذلك فقد أنشأت الدولة جهازًا كبيرًا لتحديد النسل في سنة ١٩٦٥م، ونشط هذا الجهاز عشْر سنواتٍ كاملة حتى سنة ١٩٧٥م، فإذا بقرارٍ يُذاع على النَّاس من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي يقول إن تحديد النسل حرامٌ في الإسلام. وجاء في القرار٢٦ ما يأتي: وقد ثبَت طبيًّا أن تناول الدواء المانع من الحمل يُلحِق ضررًا بليغًا بالأمهات أو بأولادهن إذا لم ينفع في منْع الحمل وولدن. ولا يعتدُّ بالأسباب الواهية التي يذكرها أنصارُ تحديد النسل كخوفهم من كثرة السكان وتعذُّر التغذية وفساد التربية؛ ففي الآية الكريمة الجوابُ عن ذلك وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ؛ فالرزق على الله وهو مكفول، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وساق القرار أسانيدَ أخرى تحرِّم تحديد النسل. ومن المعروف أن هناك بعض البلاد العربية الإسلامية تبيح تحديد النسل.
- (٣)
جاء في الإسلام أن الرِّجال قوَّامون على النِّساء بما أنفقوا من أموالهم، فهل إذا أنفقت المرأة على الرَّجل أصبحت هي القوَّامة؟ وهل إذا تساوت المرأة مع الرَّجل في تحمُّل مسئولية الإنفاق تصبح مساويةً للرجل؟
- (٤)
جاء في التفسيرات أن المرأةَ ترِث نصفَ ما يرث الرَّجل؛ لأنها غير مسئولة عن الإنفاق، فهل إذا أصبحت المرأة مسئولةً عن الإنفاق مثل الرَّجل (كما يحدث في كثير من الأُسَر التي تعمل فيها المرأة) يصبح من حق المرأة أن ترِث نصيبًا كالرجل، وأن تصبح الأنثى كالذكر في منع الأقارب من الميراث؟
- (٥)
جاء في الإسلام أن شهادة الرَّجل تقابلها شهادةُ امرأتين، فهل إذا تعلَّمت المرأة وأصبحت وزيرةً مثلًا أو طبيبة أو أستاذة بالجامعة، هل تظل عاجزة على أن تدلي بشهادتها وحدَها في الوقت الذي يفعل ذلك أيُّ رجل وإن كان أُميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة؟
إن قانون القضاء المصري رقم ١٨ سنة ١٩٥٢م لا ينصُّ على أن القاضي لا بدَّ أن يكون رجلًا، وإنما تنصُّ المادة ٢ منه على أنه لا يجوز تعيين أحد في وظيفة قاضٍ إلا بعد التحقُّق من كفايته وصلاحيته للقضاء. لكنَّ الرِّجالَ المهيمنين على القضاء استطاعوا أن يمنعوا دخولَ المرأة فيه. يقول هؤلاء الرِّجال إنه لمَّا كانت المرأة أقلَّ رتبةً من الرِّجال في الشهادة (شهادة الرَّجل تقابلها شهادة امرأتين)؛ فالمرأة إذن ليست مؤهَّلة بطبيعتها لتولي عمل القاضي؛ لأن الشهادة لا تزيد عن تقريرِ حادثة، في حين أن القضاء حكمٌ في نزاع.
وهل الحكم في نزاعٍ أشدُّ خطورة من إسعاف مريض وإنقاذ حياته من الموت؛ العمل الذي تفعله آلاف الطبيبات المصريات كلَّ يوم؟ وهل تصبح المرأة مسئولة عن أرواح النَّاس وتعجز عن الحكم في نزاعٍ حول قطعة أرض أو الإدلاء بشهادة في حادثة سرقة؟!
- (٦)
هل حقًّا لا توجد ولايةٌ للمرأة على الطَّلاق في الإسلام؟ ذهبت إحدى أستاذات الجامعة بالقاهرة إلى الضَّابط المسئول في مصلحة الجوازات لاستخراج جواز سفر لابنتها الطَّالبة بالجامعة، التي حصلت على بطولةٍ رياضية، وقرَّرت الجامعة تسفيرها مع الفريق الرياضي إلى فرنسا.
وقال الضابط للأستاذة: لا أستطيع أن أستخرِج جواز سفر لابنتك بدون موافقة ولي أمرها.
وقالت له الأستاذة: أنا وليةُ أمرها منذ وُلِدَت؛ فقد طلَّقني أبوها وهي طفلة وتوليت الإنفاقَ عليها وأصبحتُ وصيةً عليها. وأخرجتِ الأستاذةُ الأمُّ ورقةً تثبت أنَّها وصيةٌ على ابنتها.
وقال الضابط: الوصاية شيءٌ والولاية شيء آخر يا سيدتي. والقانون هنا أنه لا ولاية للمرأة في أي ظرف من الظروف.
وسألت الأستاذة: وما سلطة هذه الولاية؟!
وقال الضابط: الولاية للرجل، وهو الذي يقرِّر سفرَ ابنته إلى الخارج أو زواجها. المرأة لا يمكن أن تنوبَ عنه في هذين الأمرين لأي سبب من الأسباب.
وهكذا حُرِمَت الابنة من السَّفر، وحُرِمَت الأستاذةُ الأمُّ من حقٍّ يتمتع به الرَّجل الذي طلَّقها وأهمل ابنته ولم يفكِّر في رؤيتها أو السؤال عنها، ولا أقول الإنفاق. فهل مثل هذه القوانين الظالمة يُقرُّها الإسلام؟!
- (٧)
هل حقًّا أن الإسلام يبيح للرجل أن يطلِّق زوجته ويشرِّد أطفاله من أجل نزوة جنسية؟!
- (٨) هل حقًّا أن الإسلام يوافق على المادة ٦٧ من قانون الأحوال الشخصية في مصر التي تنص على الآتي:
لا تَجب النفقة للزوجة إذا امتنعت مختارةً عن تسليم نفسِها بدون حق، أو اضطُرت إلى ذلك بسببٍ ليس من قِبل الزوج. كما لا تستحق النفقة إذا حُبِسَت ولو بغير حقٍّ أو اعتُقِلت أو غُصِبَت أو ارتدَّت أو منعها أولياؤها، أو كانت في حالةٍ لا يمكن الانتفاع بها كزوجة؟!
- (٩) هل حقًّا أن الإسلام يوافق على أن الحاكم في البلد هو سلطان الله، ومَن يُهِنْ هذا الحاكم يُهِنْهُ الله، كما قال واحد من أكبر رجال الدِّين الإسلامي في مصر حين وقف على منصة الاتحاد الاشتراكي في المؤتمر القومي العام الذي عُقِدَ بالقاهرة يوم ٢٣ يوليو ١٩٧٥م، وقد نشرت جريدة الأهرام كلمةَ فضيلة الشيخ في ٢٤ يوليو ١٩٧٥م، الصفحة الخامسة، وفيها ما يأتي:
«الذي يعنيني في موقفي هذا حديثٌ عن رسول الله: مَنْ أعزَّ سلطان الله أعزَّه الله. ومفهوم المخالفة: ومن أهان سلطان الله أهانه الله، وسلطان الله أمير في الخليج أو ملِك في مملكة أو رئيس في جمهورية، هؤلاء جميعًا يُطلق عليهم سلطان الله لا ريب.»
- (١٠)
هل حقًّا أن الإسلام يوافق على أن تعيش الأغلبية الساحقة من شعبٍ من الشعوب في فقر وجوع على حين تكتز الأقلية الذهب والفضة؟
- (١)
أنَّ الدِّين (الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو الهندوكي أو البوذي أو غيرهم) ظاهرةٌ روحية نقية في حياة البشر، ترتكز على الحق والمساواة، وليس على الظلم والتفرقة، وترتكز على الثورة والتقدُّم وليس على الجمود والتخلف. لقد كان عيسى ومحمد بالذات ثورةً على الظلم ودفاعًا عن حقوق الفقراء والنِّساء.
- (٢) بدراسة المجتمع البشري منذ نشوء الملكية والتوريث والأسرة الأبوية حتى عصرنا الحديث نجد أن الأديان (بسبب النُّظم الإقطاعية والرأسمالية والاستغلال) قد تحوَّلت من دعوة الحق والمساواة إلى الدعوة لمبادئ النظام الحاكم السائد، وأصبحت الأديان ضمن الأسلحة والمؤسَّسات التي يستخدمها الحكَّام في قهر النِّساء والطبقات الأدنى من الرِّجال، وقد دافعت معظم الأديان عن هذه الأفكار الثلاثة في معظم العهود:
- (أ)
الملوك والحكَّام وأصحاب الأرض قد عُيِّنُوا بأمر الله، وكذلك الكهنة أو رجال الدِّين الذين هم ممثلو الله فوق الأرض.
- (ب)
أنَّ الرِّجال امتدادٌ لروح الله على الأرض؛ لأن الله ذكرٌ، وقد اختار الذُّكورَ ليكونوا «الروح» التي تمثِّل الفضيلة والخير، أما الأنثى فهي جسدٌ فقط، والنِّساء امتدادٌ لحواء الآثمة التي كانت السَّببَ في سقوط آدم، ومن ثَمَّ الفساد والرذيلة والموت.
- (جـ)
أنَّ الزَّوج هو الذي يحكم المرأة؛ لأن الرَّجل (مهما فسد) هو أكثرُ عقلًا وحكمةً من المرأة (مهما عظُمت).
- (أ)
justin martyr dial. 80 pp. Tertullian Adi. Marcion. 3, 24:
De spec. 30; lvenaens. Adu. hear. 5. 32. 1.