الاعتداء الجنسي على الأطفال
رأيتُ في عيادتي الطِّبية (قبل أن أغلقها) حالاتٍ كثيرةً دفعتني دفعًا إلى أن أُكرِّس جزءًا من حياتي لكشف القناع عن وجه ذلك المجتمع المزدوج، الذي يدَّعي الفضيلة علنًا ثم يمارس شيئًا آخر في السر. ولأنني طبيبة فقد تعوَّدت قبل أن أفحص المريض أن أخلع عنه ملابسه إذا كان المرض في جسده، أو أخلع عنه أقنعته إذا كان المرض في النفس، وفي كلتا الحالتين، التعرية الجسدية والتعرية النَّفْسية، يشعر الإنسان بالذعر، وبسبب هذا الذعر يرفض كثيرٌ من النَّاس هذه التعرية، ويشدُّون الغطاءَ أو القناع على أجسامهم ونفوسهم؛ أملًا في أن تظل حقيقتهم بعيدةً عن الأعين، مختفيةً في ذلك السرداب المظلم داخل النفس. لكنه أملٌ غير قابل للتحقيق في كثير من الأحيان؛ فالحقيقة وإن اختفت في القاع البعيد تظل حيةً تتنفس طالما الإنسان يتنفَّس، وقد تُطِلُّ برأسها فجأةً إذا ما غفل الإنسان لحظة. وما أكثرَ اللحظات التي يغفل فيها الإنسان، مثل لحظة الغضب أو الشهوة أو الخوف، فإذا به ينسى أن يضع القناع.
لكن لحظة المرض هي أكثر اللحظات التي يصبح فيها الإنسان عاجزًا عن ارتداء القناع، ويُضطر إلى أن يعرِّي جسدَه ونفسه، فالتعرية هنا أقلُّ خطورةً من المرض، والشفاء أصبح مطلوبًا بأي ثَمن.
من أجل هذا السَّبب يرى الطبيب أو الطبيبة من حقائق الجسد والنفس والمجتمع ما لا يراه الآخرون.
إحدى الحالات التي مرَّت عليَّ هي فتاة طويلة شاردة العينين، كانت تشكو عدةَ أوجاع جسدية ونفسية. ولن أدخل الآن في تفاصيل مرضها، ولكني ما زلت أذكر قصَّتها، وهذه هي بداية القصة كما حكَتها لي بلسانها:
أذكر أنني كنتُ في الخامسة من عمري حينما كانت أمي تأخذني معها لزيارة بيت أسرتها الكبير في ضاحية الزيتون ناحيةَ مصر الجديدة. كانت أمي تضحك وتتكلَّم مع أمها وأخواتها، وكنت أنا ألعب مع أطفال الأسرة، والبيت كله يملؤه المرح والصخب والضجيج. لكن ما إن يدق الجرس معلنًا وصولَ جَدي إلى البيت حتى يهدأ الجميع، ويصبح صوتُ أمي منخفضًا ويختفي الأطفال، أما جَدتي فتذهب إلى جَدي وتساعده في خلع بدلته وحذائه وهي صامتةٌ مطرِقة الرأس.
وكنتُ كبقية أفراد الأسرة من الكبار أو الأطفال أخاف من جَدي، ولا أضحك في وجوده أو ألعب. لكنه بعد الغداء وبعد أن ينام الكبار (فترة القيلولة) يناديني بصوتٍ أقلَّ خشونةً من صوته المعتاد قائلًا: تعالي معي نقطف بعضَ الزهور من الحديقة.
حين نصل إلى الركن الخلفي من الحديقة يصبح صوتُ جَدي رقيقًا كصوت جَدتي، ويدعوني إلى الجلوس جواره على الدكة الخشبية المقابلة لحوض الزهور، يناولني بعضَ الزهور الحمراء والصفراء، وحينما أنشغل بالزهور يُجْلِسني على ركبتيه، ويظل يهدهدني ويغنِّي لي حتى أغمض عيني كأنما سيغلبني النوم. لكني لم أكن أنام لأني كنتُ أحسُّ يده وهي تزحف بحذر ورقَّة تحت ملابسي ويمتد أصبعه في تلك المنطقة المختفية تحت السروال.
كنتُ في الخامسة من عمري، ومع ذلك فقد أدركتُ من حيث لا أدري أنَّ ما يفعله جَدي منافٍ للأخلاق، وأنَّ أمي (لو علِمت) فسوف تغضب مني وتؤنبني، وأنَّ الواجب عليَّ كبنت مؤدَّبة أن أقفز بسرعة من فوق ركبتَي جَدي وألا أطيعه مرةً أخرى حين يدعوني إلى النزهة في الحديقة.
لكني أدركت وأنا في الخامسة أنني لست بنتًا مؤدَّبة وأنني أظل جالسةً فوق ركبتيه، لست جالسة فحسب، وإنما جالسة ومستمتعة أيضًا، وحينما يسمع جَدي صوتَ أمي تناديني يسحب يدَه بسرعة من تحت ملابسي، ويهزُّني كأنما ليوقظني من النوم قائلًا: ماما تناديك. وأفتح عينيَّ كأنما أصحو من النوم، وأجري إلى أمي بوجهٍ بريء كوجوه الأطفال في الخامسة من العمر. وتسألني أمي قائلة: أين كنتِ؟ وأردُّ بصوت الأطفال البريء: كنت مع جَدي في الحديقة.
وتطمئن أمي كلَّ الاطمئنان حين تسمع أني كنت مع جَدي في الحديقة. لم تكن تشجِّعني على النزول إلى الحديقة وحدي، وتحذِّرني دائمًا من ذلك الرَّجل «الجنايني» ذي الجلباب الذي كان يرشُّ الزهور بالماء، حتى أصبحتُ لا أخاف من الرَّجل وحدَه، وإنما من رذاذ الماء الذي كان يتطاير في الجو.
حين صعِد جَدي إلى البيت يرتدي شخصيته الأخرى التي يخافها الجميع (وأنا منهم) ويمسك «السبحة» الصفراء بين أصابعه، وأكاد أظن أنَّ جَدي الذي يداعبني في الحديقة ليس هو جَدي الذي أخافه وهو جالس على رأس المائدة، وأحيانًا أظن أن ليس لي جَد واحد وإنما هما جَدَّان اثنان.
حين مات جَدي وأنا في العاشرة من عمري لم أحزن عليه، بل شعرتُ بفرح غامض غريب، وأخذت أجري وألعب وأضحك مع الأطفال، لكن أمي أنَّبتني وحبستني في البيت قائلة: ألا تعرفين أن جَدك مات؟ لا تعرفين الأدب؟
«وهل عرف جَدي الأدب؟» كنت على وشْك أن أسألها هذا السؤال لكني خِفتُ منها وسكتُّ. وظللت ساكتة وظلَّ هذا السرُّ بيني وبين نفسي، وهذه أول مرة أحكيه لكِ يا دكتورة.
هذا جزءٌ مما حكَته لي هذه السيدة، وهي لم تفتح قلبها لي إلا بعد أن وثِقت تمامَ الثقة أنني لن أصدر عليها حكمًا أخلاقيًّا معينًا. وكثير من النِّساء والفتيات اللائي تردَّدن على عيادتي كُنَّ يمتنعن أولَ الأمر عن البوح بمثل تلك الأسرار، لكن بعد أن يثقن بي يبدأن في التخفيف من الأشياء المؤلمة التي أغلقن عليها قلوبهن.
وقد يتصوَّر بعض النَّاس أن مثل هذه الحوادث نادرة أو قليلة، لكن الحقيقة هي أن هذه الحوادث ليست قليلة وإنما هي مختفية في القلوب، مكتومة في الصدور، لا تجرؤ الفتاة على البوح بها، كما أن الرَّجل المعتدي بالطبع لا يمكن أن يعترف بها.
إنَّ ذاكرة الإنسان بطبيعتها تنسى ما تريد أن تنساه من حوادث مؤلمة أو حوادث تسبِّب إحساسًا بالإثم أو الندم، خاصةً تلك الحوادث الصغيرة في الطفولة التي لم يكتشفها أحد.
ومن المعروف في كثيرٍ من البحوث النَّفْسية والجنسيَّة أن الأطفال سواء من الذُّكور أو الإناث يتعرضون لاعتداءات أو مداعبات جنسية من رجالٍ كبار أو نساء كبار من داخل الأسرة أو من الغرباء. يحدُث ذلك في مختلِف الطبقات الاجتماعية بأشكال متعددة، يختلف باختلاف المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للأسرة، لكنَّ جوهرها من حيث الفعل واحد؛ فالفعل الجنسي هنا يحدُث بين شخص كبير وطفل صغير، الشخص الكبير في معظم الأحيان هو الذي يبدأ، وهو الذي يريد أن ينفِّس عن حاجةٍ جنسية بيولوجية بحتة لا يجد لها متنفَّسًا في المجتمع من حوله، ولا يجد أمامه إلا طفلًا يملك أعضاءً جنسية، ولكنه لا يملك القوة أو الشجاعة للرفض أو المقاومة أو حتى التبليغ عن الفعل بعد انتهائه.
معظم هذه الأفعال تتم في سرِّية كبيرة، لا ينكشف منها إلا النادر عن طريق الصدفة المحضة؛ لأن معظم الأطفال (بسبب الخوف من اللذة المحرَّمة) يشعرون بنوعٍ من الإثم يمنعهم من الشكوى، ولأن معظم الكبار الذين يمارسون مثل هذه الأفعال الجنسيَّة مع الأطفال هم في كثير من الأحيان فوق الشبهات، منهم مَن هو الجَد الصارم المهيب الشخصية الذي ينفق على البيت كله ويحترمه الجميع، ومنهم مَن هو العم أو الخال المستقيم الأخلاق الشديد التديُّن الذي لا يكفُّ عن العبادة، وأحيانًا يكون الأخ أو الأب أو المدرِّس الخصوصي بل مدرس الصف في المدرسة. وقد نشرت جريدة أخبار اليوم في ٢٣ فبراير ١٩٧٤م، الصفحة العاشرة، تحت عنوان «النيابة تأسف لحفظ التحقيق» حرصًا على مستقبل ٩ تلميذات صغيرات، والقضية كانت ضد مدرس الفصل الذي كان ينفرد بتلميذاتٍ صغيرات يتراوح عمرهن ما بين ٧ سنوات إلى ١٢ سنة. وتقرَّر حفظ التحقيق بالنسبة للمدرس المتهم، وجاء في قرار الحفظ: إنه وإن كانت التهمة ثابتة على المتهم، الأمر الذي يستوجب محاكمته جنائيًّا بتهمة هتك عِرض بنات صغيرات، إلا أنه نظرًا لصِغر سنِّ التلميذات المجني عليهن ولعدم إقحامهن أمام محكمة الجنايات للإدلاء بشهادتهن، فإن النيابة تأسف وهي تحفظ الدعوى الجنائية ضد المتهم، وتطلب نقله من مهنة التدريس للبنات إلى مهنة أخرى.
- (١)
حوادث الاعتداء على الأطفال البنات لا تذهب إلا نادرًا إلى النيابة، بسبب حرص العائلات على سُمعة بناتهن، وبذلك ينجو الرَّجل المعتدي من مجرد الإبلاغ عنه.
- (٢)
حين تصل مثل هذه الحوادث إلى النيابة وتثبت تهمةُ هتك العِرض، فإن النيابة تحفظ الدعوة حرصًا على سُمعة البنات الصغيرات، وينجو المتهم من أي عقاب.
- (٣)
إذا اغتصب رجلٌ فتاةً جاوزت السادسة عشرة فإن العقاب الذي يُفْرَض عليه هو أن يتزوجها، وفي معظم الأحيان يتزوجها الرَّجل ثم يطلِّقها بعد أيام وتنتهي المشكلة بالنسبة إليه.
يحدُث هذا الظلم الفادح الواقع على البنات بسبب القيم الأخلاقية المزدوجة التي تَفرض على البنات العذرية والشرف، أما الرِّجال فلا شيء يمسُّ شرفهم وإن كان هو الاعتداء على طفلة أو بنت صغيرة.
وفي حالة اعتداء العم أو الأب أو الأخ على إحدى بنات الأسرة فإن الأمر بالطبع يُكْتَم تمامًا كأحد أسرار الأسرة خوفًا من الفضيحة وتلويث اسم العائلة الكريمة، وتواجه البنت وحدَها نتائجَ هذا الاعتداء حين تصطدم في المستقبل بمشاكل العذرية والزواج والطلاق وغير ذلك من القوانين التي تضطهد المرأة وحدَها.
إحدى المريضات اللائي فحصتُ حالتهن كانت طبيبة ناشئة تخرَّجت من كليَّة الطِّب وعُقِد قِرانها على أحد زملائها. في ليلة الزفاف اتضح أنَّها ليست عذراء، صرَّحت لزوجها أنَّها فقدت عذريتها وهي طفلة بسبب أبيها، لكنَّ زوجها صُدِم صدمةً شديدة وطلَّقها. عادت الزَّوجة إلى أمِّها وأبيها. لم تستطِع أن تحكي لأمِّها السرَّ خوفًا من أبيها، واتهمتها أمُّها بالانحراف، بل إن الأب نفسَه اشترك في اتهام الابنة. وهنا انفجرت الابنة بالبكاء وواجهت أباها بالحقيقة التي كانت تكتمها. صُدِمَت الأم وكادت تُصاب بانهيار. لكن الأب ضرب الابنة وكذَّبها. أُصيبت الابنة بانهيار عصبي فأخذها إلى الطَّبيب النَّفسي. وكما يحدث دائمًا فقد صدَّق الطَّبيب الأبَ وكذَّب الابنة. وأصبحت الابنة هي المتهمة، وهي المريضة، وأصبح الأب بريئًا نظيف السُّمعة.
أمَّا إذا كان الرَّجل المعتدي خادمًا فقيرًا في أسرةٍ محترمة فإن الأمر إذا عُرِف (ونادرًا ما يُعْرَف أيضًا) فهذا الخادم قد يلقى من العقاب ما يبدأ من الضرب والسَّجن إلى القتل. إن المحكمة هنا قد تكون واحدة، والقانون واحدًا، لكن أمثال هؤلاء الفقراء من الطبقة الأدنى يُحاكَمون بقانون آخرَ هو قانون الأسياد والعبيد، قانون الذين يملكون إزاء الذين لا يملكون.
هذا القانون الذي سبق أن أطلق سراح الرَّجل من طبقةٍ أعلى.
وهكذا ندرك أن مؤسَّسات العدالة في المجتمع ليست عادلة؛ لأنها لا تساوي بين الرَّجل من طبقةٍ أعلى والرَّجل من طبقة أدنى. وهي لا تساوي بين الذُّكور والإناث، ومثلها أيضًا جميع المؤسَّسات في المجتمع الذُّكوري، ومنها مؤسَّسة الطب النفسي حيث ينضم الطبيب النفسي (لكونه رجلًا) إلى الأب والعم والخال والزوج، ولا يستطيع أن يفهم مأساةَ البنت أو المرأة.
وهناك العديد من البحوث أُجرِيَت في مختلِف المجتمعات لمعرفة أسباب تلك الظاهرة، وتختلف الأسباب بطبيعة الحال باختلاف نوع المجتمع والظروف التي يعيش فيها النَّاس، سواء كانت مادية اقتصادية أو أخلاقية ودينية.
وُجِد أنه في الأُسَر الفقيرة التي تعيش الأسرة الواحدة بذكورها وإناثها في حجرة واحدة أنَّ مثل هذه الاعتداءات تحدُث كثيرًا من ذكور الأسرة على بناتها الصغار، وبالذات في مجتمعٍ قائم على الكبت الجنسي وعلى تأثيم الجنس وترسيب عُقَد النقص والخوف في نفوس الشباب. إنَّ الكبت الجنسي والتخويف والتزمُّت ينتج شبابًا يعانون من عُقَد النقص ولا يثقون بقدراتهم الجنسيَّة إلا مع الطفل.
مثل هؤلاء الرِّجال عجزوا عن الشعور بالإشباع الجنسي مع الكبار لأسبابٍ نفسية، منها عقدة النقص والإحساس بالذنب والخوف. إنَّ الرَّجل منهم يخاف المرأةَ الناضجة، ويصبح الطفل أو الطفلة أقلَّ خطرًا وأقلَّ تهديدًا، وهو يستطيع أن يسيطر عليها أكثرَ من المرأة الناضجة.
هناك اعتداءٌ على الأطفال، ذكورًا وإناثًا، لكن الاعتداء على البنت يَلفت النظر أكثرَ ويصدم الرأي العام أكثرَ بسبب قيمة العذرية، أما الاعتداء على الذكر فإنه يبدو في نظر النَّاس أقلَّ خطورةً من الاعتداء على البنت.
مع المرأة الناضجة قد يشعر الرَّجل المصاب بعقدة النقص والسادية برغبةٍ في أن يضربها ليشعرَ أنه أخضعها، لكنه مع الطفلة لا يحتاج إلى أن يضربها؛ لأنه يشعر أنه يخضعها بحكم أنه أكبر سنًّا وجسدًا وأنه أقوى. إن الطفلة أيضًا لا تمثل تهديدًا كبيرًا لذكورته وسيادته.
وقد يشعر الرَّجل أيضًا أنه ما من امرأةٍ ناضجة يمكن أن ترضى به، وأنه مع الطفلة يستطيع أن يؤثِّر عليها بسهولةٍ أكثر، ويقنعها بأنه رجل، الأمر الذي فشل فيه مع المرأة الناضجة.
وقد يشعر الرجل أيضًا أنه ما من امرأةٍ ناضجة يمكن أن ترضى به، وأنه مع الطفلة يستطيع أن يؤثِّر عليها بسهولة أكثر، ويقنعها بأنه رجل، الأمر الذي فشِل فيه مع المرأة الناضجة.
وهناك أيضًا ذلك الرَّجل الماسوشي الذي تستهويه مثل هذه الجريمة الجنسيَّة كنوع من الرغبة في امتهان نفسه وممارسة أدنى الرغبات التي يكتشفها في أعماقه، كأنما يريد أن يقول لنفسه أنا دنيء وأستحق العقاب. ويُشعِره العقاب الذي يناله، سواء من النَّاس أو من ضميره، بنوعٍ من الرضا والإحساس بالتطهُّر من الإثم.
ويقول بعض علماء النفس إنَّ الكاتب الروسي الكبير دوستوفسكي كان يشعر بمثل هذه الرغبات أو أنه مارسها فعلًا. وقد قيل إنه اعترف لصديقه الكاتب تورجينيف بأنه اعتدى مرةً على بنتٍ صغيرة، ولم يرَ دوستوفسكي على وجه صديقه أيَّ انزعاج أو حتى إشفاق، فترك صديقه غاضبًا وانصرف.
ومن هذه القصة حَكم بعضُ هؤلاء العلماء بأن دوستوفسكي كان يشعر بمثل هذه الرغبة، وأنه عبَّر عنها في روايته الجريمة والعقاب من خلال شخصية «سفيدريجيلوف»، وفي الفصل الذي سمَّاه «الممسوس» (الذي رفض الناشر أن يطبعه) اعترف «ستافروجين» بأنه اقترف هذه الجريمة أيضًا.
ويدافع آخرون من علماء النفس عن دوستوفسكي من أجل نفي هذه التهمة عنه، على أية حال فإنه من الصعب معرفةَ الرغبات الدفينة في أي إنسان. ويحاول كثير من النَّاس استكشافَ هذه الرغبات عند الأدباء من خلال الشخصيات التي يرسمونها في رواياتهم، ولا شك أن الأدباء والفنانين أكثرُ صدقًا وأكثر شجاعةً في عَرض هذه الرغبات التي تبدو للناس منحرفة وشاذة، وهي ليست منحرفة ولا شاذة، وإنما هي جزء لا يتجزأ من تكوين أي إنسان، ويلعب الكبت وعُقَد الطفولة دورًا في إبرازها.
وهناك رأيٌ يقول إن الرغبة الجنسيَّة نحو الأطفال تكاد تكون موجودة عند كل رجل (وامرأة أيضًا)، وأنها مزيجٌ من رغباتٍ طفولية باقية ومخاوف قديمة من الكبار، وحنين دائم إلى الطفولة الجياشة بالعواطف الصادقة الطبيعية التلقائية، ونفور دائم من الكبار الذين فقدوا الصدقَ والتلقائية والعواطف.
إنَّ الطفل يفرح وتغمره السعادة لأقل شيء، وهو جيَّاش العواطف يعطي نفسَه الرغبةَ الكلية في الحب. ولهذا ينجذب كثير من الرِّجال والنِّساء إلى الأطفال ويمنحونهم الهدايا والحلوى من أجل الاستمتاع ولو لحظاتٍ بقلب الطفل الجيَّاش بالعواطف والحب. وقد يكون هؤلاء قد حُرِموا وهم أطفال من التعبير عن عواطفهم الجيَّاشة بسبب قوة الأهل، ويرغبون الآن أن يلعبوا أمام هؤلاء الأطفال دورَ الأهل المحبِّين، وحيث إنه لا يمكن فصلُ العاطفة عن الجسم فإن هذه المشاعر التي يُبْديها الكبار للأطفال لا تخلو من رغبةٍ جسدية، بل إن بعض الآباء والأمهات يعترفون برغباتهم الجسدية نحو أطفالهم بمثلِ ما يشعر الأطفال برغباتٍ جسدية نحو الأمهات أو الآباء.
على أن النضوج النفسي والجسدي يجعل الرَّجل عاجزًا عن الإشباع الجنسي والعاطفي إلا مع المرأة الناضجة، فإذا ما تعثَّر هذا النضوج لسببٍ من الأسباب السابق شرحُها، تعثَّرت علاقته بالمرأة الناضجة وفضَّل عليها علاقته بالطفلة.
وتختلف درجاتُ النضوج من رجلٍ إلى رجل، كلما زاد نضوج الرَّجل زاد إقباله على النِّساء الناضجات. والعكس صحيح، كلما قلَّ نضوج الرَّجل قلَّ إقباله على النِّساء الناضجات وزاد إقباله على البنات الصغيرات الغريرات.
ومن هنا نفهم لماذا يفضِّل معظم الرِّجال البنات الصغيرات الغريرات (القطط المغمضة). إنَّ السَّبب هو عدم النضوج؛ فالحضارة الذُّكورية (للأسباب السابق عرضُها) لم تساعد على نضوج الرِّجال؛ ولهذا يختار الرَّجل دائمًا الفتاةَ التي تصغُره بأعوام كثيرة، الساذجة الغريرة، العذراء التي لم يمسَّها أحدٌ قبله. إنَّ القيمة الكبيرة التي صنعتها الحضارة الذُّكورية للعذرية ليست تعبيرًا عن تمسُّك الرِّجال بالأخلاق أو العفَّة (لأن الرِّجال لم يتمسَّكوا بهذه العفة فيما يتعلق بأنفسهم وفرضوها على النِّساء فحسب)، وإنما هي تعبيرٌ عن خوف الرَّجل من المرأة الناضجة، وخوفه من خبراتها السابقة مع رجالٍ آخرين قد يكون بينهم ذلك المنافس القوي، الذي قد تفضِّله المرأة عليه. إن العذرية تضمن للرجل الحصولَ على فتاةٍ لم يسبقه إليها أيُّ منافسين آخرين، إن الفتاة العذراء كالطفلة لا تخيف الرَّجل ولا تهدِّده، ويصبح معها أقدرَ على إثبات ذكورته وذاته.
وينشأ ذعرُ المجتمع من حوادث اعتداء الرِّجال على الأطفال البنات؛ لأن هؤلاء البنات يفقدن عذريتهن. ومن هنا اهتمامه بهذه الحوادث أكثرَ من اهتمامه بحوادث الاعتداء على الأطفال الذُّكور، مع أنَّ الإحصاءات في مختلِف البلاد تدل على أن الأطفال الذُّكور معرَّضون لمثل هذه الحوادث كالأطفال البنات وربما أكثر.
ويقول مُعظم علماء النَّفس إنَّ مثل هذه الاعتداءات لا تُسبِّب أيَّ ضَرَر يُذْكَر للأطفال الذُّكور أو البنات إلا إذا اكتشفها البوليس أو الأهل أو سبَّبت للطفل نوعًا من الذعر. كما أنها في معظم الحالات لا تصل إلى الحد الذي يتمزَّق فيه غشاء بكارة البنت؛ لأنها لا تكون عملية جنسية بالمعنى الصحيح، وإنما مجرَّد مداعبات جنسية للبظر والشفرتين. ويقول كينزي في هذا الصدد: «حينما يعمد الآباء والأمهات والمدرسون والمدرسات إلى التحذير الدائم للأطفال لتجنُّب الكبار دون أن يشرحوا لهم أسبابَ هذا التحذير، فإن الطفل منهم يصاب بالخوف (إلى حدِّ الهستيريا) إذا ما اقترب منه شخصٌ كبير في الشارع أو حاول أن يكلِّمه أو داعبه أو عرض عليه أن يساعده في شيء، دون أن يكون في نية هذا الشخص أيُّ رغبة في لمس الطفل. وقد اتضح للدارسين الخبراء بمشاكل الأطفال والشباب أنَّ مثل هذه الاتصالات الجنسيَّة لا تؤثِّر على الطفل بمثل ما تؤثِّر عليه الانفعالات الشديدة التي يُظهِرها الأهل أو البوليس أو غيرهم ممن يكتشفون الحادث.»
وهناك رأي يقول إنَّ فزع المجتمع والأهل من مثل هذه الحوادث يرجع إلى أنهم ينظرون إلى مثل هذه العلاقات على أنها ليست إلا شهوة جنسية خالية من الحب واستغلال الشَّخص الكبير للطفل دون مراعاة شعور هذا الطفل.
لكن بعض العلماء يقولون إنَّ الأمر ليس كذلك في معظم الحالات، وإن الطفل في أحيانٍ كثيرة يكون شغوفًا بتكرار التجربة، ولا تظهر عليه علاماتُ الاستياء إلا إذا اكتشف الأمرَ أحدٌ. كما وجدوا أن شخصية هؤلاء الأطفال قوية وجذابة، وأنهم أكثرُ من غيرهم قدرةً على إنشاء العلاقات الإنسانيَّة والصداقات مع أشخاص آخرين.
وهناك آراءٌ تقول إن مثل هذه الحوادث ضارةٌ بالطفل حتى وإن لم يصاحبها أيُّ إكراه أو استغلال؛ لأن هذه الإثارة الجنسيَّة قد تزيد من رغبة الطفل الجنسيَّة، هذه الرغبة التي يعجز عن إشباعها بسبب الظروف والضغوط من حوله. وهناك بعض أطفال عانوا من الحرمان والاضطراب العاطفي حين توقَّفت مثل هذه الاتصالات بعد أن استمرَّت فترةً من الوقت. وأن بعضًا منهم حاول (بعد أن كبر) أن يكرِّرها مع أطفال آخرين.
وقد رأى معظم العلماء أن مثل هذه العلاقات الجنسيَّة غير المتكافئة لها مخاطرها، وأن العلاقة الجنسيَّة السوية يجب أن تكون متكافئة، ويكون الطرفان متكافئين بحيث لا يكون أحدهما رجلًا كبيرًا والثاني طفلًا أو طفلة في السادسة. إن الكبير بحكم سنِّه وقوَّته سيكون مسيطرًا ومخضِعًا، والطفل سيكون الطرف الأضعف الخاضع.
كما أنَّه في الحالات القليلة التي يصل فيها الرَّجل إلى درجةٍ كبيرة من الإثارة الجنسيَّة أو نوع من العنف يصاحب قمَّة اللذة، وتلك اللحظات التي يعجز فيها الرَّجل عن التحكم في نفسه فإن الطفل يشعر بالخوف الشديد.
إنَّ الرِّجال عندما يفقدون السيطرةَ على أنفسهم حين يكونون شديدي الغضب مثلًا أو مخمورين بشدة أو شديدي الرغبة الجنسيَّة فإنهم يَبْدُون لعين الطفل مفزعي الشكل. ومن هنا الخطر من مثل هذه العلاقات، فقد يعجز الطفل في المستقبل عن إقامة العلاقات الجنسيَّة الناضجة السوية بسبب الخوف الذي ارتبط في ذهنه بالجنس. وقد وجد علماء النفس أن مثل هذه الحالات تحدُث أكثرَ في تلك الحوادث التي تقع بين الطفلة وأبيها، وأن بعض الزوجات المصابات بالبرود الجنسي تعرَّضن في طفولتهن لحوادث من هذا القبيل مع آبائهن.
وقد صادفتُ بعضَ هذه الحالات حينما قمتُ ببحثٍ ميداني عام ١٩٧٣م عن أسباب العُصاب بين النِّساء المصريات. صرَّحت لي بعض المريضات أنهن تعرَّضن لحوادث جنسية مع الأب، ولقد لاحظت أنَّ المجتمع، بل إنَّ الطبيب النفسي المعالج كثيرًا ما ينكر وجودَ مثل هذه الحوادث. إنه قد يعترف بأنَّ العم أو الخال أو الجَد أو الأخ قد يقترف مثل هذه الحوادث. لكن الأب نفسه! هذا ما هو غير ممكن (المجتمع الأبوي لا يتصوَّر أن الأب يمكن أن يخطئ).
ولستُ ممن يصرُّون على معرفة الفاعل (سواء كان أبًا أم خالًا أم خادمًا أم بوابًا) من أجل أن يعاقَب ويلقى جزاءه؛ لأن أمثال هؤلاء الرِّجال ضحايا المجتمع الذُّكوري والأسرة الأبوية، إنهم ضحايا الخوف والكبت والإحساس بالذنب والنقص. وهم ليسوا في حاجةٍ إلى عقاب، ولكنهم في حاجةٍ إلى علاج، والعلاج هنا يجب أن يستأصل الداءَ وأسبابَ المرض في المجتمع وليس الأعراض الجسدية أو النَّفْسية فحسب.