نحو حضارةٍ أكثرَ عدالةً وأخلاقيةً

لم يَعُد خافيًا الآن أن افتقاد الحب الحقيقي في علاقات البشر، رجالًا ونساءً وأطفالًا، هو أهم عيوب الحضارة الذُّكورية القائمة على الملكية والتوريث والسلطة الأبوية، وهو أهمُّ سبب وراء المشاكل النَّفْسية والجنسيَّة للرجال والنِّساء والأطفال.

فالحب لا يمكن أن ينشأ بين أعلى وأدنى، ولا بين صاحب سلطة وخاضع لهذه السلطة. الحب لا يمكن أن ينشأ إلا في ظل العلاقات الإنسانيَّة القائمة على المساواة والعدالة والحرية والاستقلال والنضوج. وهذه الأسس جميعًا لا يمكن أن توجد في مجتمعٍ قائم على الجشع الاقتصادي والملكية والاستغلال والقهر والعنف والحروب.

ومن أجل أن يتحقَّق الحبُّ في العلاقات الإنسانيَّة داخل الأسرة وفي المجتمع لا بدَّ من الثورة على النُّظم الاجتماعية والاقتصادية المستغِلة، ولا بد من تغيير المفاهيم القديمة المتعلقة بالذَّكر والأنثى والزواج والجنس والشرف والعمل بحيث يسترد كلٌّ من الرَّجل والمرأة إنسانيتهما المفقودة وشرفهما المفقود.

وفيما يلي بعض المبادئ الأخلاقية والإنسانيَّة التي يجب أن تسود:
  • (١)

    قيمة الإنسان (رجلًا أو امرأة) يجب أن تتحدَّد حسب قدرته على العمل الخلَّاق والحب الحقيقي، وليس حسب ما يملك من ثروة أو سلطة أو انتمائه إلى طبقة.

  • (٢)

    الأغلبية هي التي تحكم وتتخذ القرارات وليس الأقلية. والأغلبية هي التي تملك الأرضَ والمال ووسائل الإنتاج وليس الأقلية.

  • (٣)

    دور الإنسان في المجتمع والحياة يتحدَّد حسب مواهبه وقدراته الفكرية وليس حسب كونه ذكرًا أو أنثى.

  • (٤)

    شرف الإنسان هو قدرته على العمل الخلَّاق والحب الحقيقي والصدق والعمل على تطوير الإنسان والمجتمع إلى الأفضل دائمًا، وشرف الرَّجل لا يختلف عن شرف المرأة.

    من أهم عيوب الحضارة الذُّكورية مفهومُها عن الشرف؛ فقد ارتبط الشرف في هذه الحضارة بالحفاظ على الأعضاء الجنسيَّة فارتبط بالمرأة فقط. والغريب أن شرف الرِّجال لم يكن يتعلَّق بسلوكهم هم وإنما يتعلَّق بسلوك زوجاتهم أو بناتهم أو أمهاتهم.

    فالرَّجل الفاسق شريفٌ إذا كانت زوجته لا تخونه مع رجل آخر. والرَّجل المنافق شريف طالما أن ابنته تحافظ على عذريتها قبل الزواج. والصحفي الذي ينشر الأكاذيب لحماية أي حاكم ظالم شريف طالما أن نساءَ أسرتِه يحافظن على فروجهن وعذريتهن. شرف الرَّجل يتعلَّق بسلوك امرأته في البيت، ولا يتعلَّق بسلوك هذا الرَّجل أو قدرته على العمل الخلاق أو الصدق أو الدفاع عن الحق والعدالة والحب والحرية.

    وهذا مفهوم مضحك للشرف، يهبط بمستوى الشرف إلى منطقةٍ صغيرة سفلية في جسم المرأة لا تزيد على غشاء البكارة،١ ويربط الشرفَ بالنصف الأسفل من جسم الإنسان، ويحدِّده بحدود الممارسة الجنسيَّة.

    إنَّ كلمة الزِّنا أو الرَّذيلة أو الدعارة كلها تعني الممارسات الجنسيَّة. وكلمة الشرف أو الفضيلة تعني عدم استخدام الإنسان لأعضائه الجنسيَّة إلا حسب القانون. وهذا بالطبع يقصر الشرفَ أو الفضيلة على عضوٍ من أعضاء جسم الإنسان، ليس هو أهم أعضاء جسم الإنسان. كما أنه يقصر الشرفَ أو الفضيلة على أحد أنشطة الإنسان، وهو النشاط الجنسي، الذي هو أيضًا ليس أهم نشاط في حياة الإنسان.

    ولو تعمَّقنا قليلًا لأدركنا أن أهم عضو في جسم الإنسان هو مخُّه، وأن أهم نشاط في حياة الإنسان هو النشاط العقلي والفكري، بل إنه النشاط الوحيد الذي يميز الإنسانَ عن سائر الحيوانات الأخرى. ولا شك أن ارتباط الشرف بالنشاط الجنسي فقط يجعل الإنسان يتصوَّر أنه شريفٌ ما دام هو يحافظ على أعضائه الجنسيَّة ولا يمارس الجنس إلا حسب القانون.

    أما الزنا الفكري والدعارة العقلية فهذه أشياء لا علاقة لها بالشرف. إن الموظف قد ينافق رئيسه، والصحفي قد يكتب مقالًا يزيِّف فيه الحقائق، والطبيب قد يجهل التشخيص ومع ذلك يكتب الدواء ويقبض الثَّمن، والتاجر قد ينتهز فرصة جهل الشاري بالتسعيرة ويغالي في السعر، والأب قد ينتهز فرصةَ ثراء العريس فيرغِم ابنته على الزواج به، ويدفعها إلى أن تكذب عليه وتتظاهر بالحب له، ويجعل فترة الخطوبة أطولَ ما يمكن لاستنزاف الهدايا والأموال من العريس … وهكذا إلى آخرِ هذه النماذج التي تحدُث كلَّ يوم في حياة معظم النَّاس، والتي هي ليست إلا أنواعًا مختلفة من الزنا الاجتماعي والدعارة الفكرية، ومع ذلك فكل هؤلاء النَّاس طالما أنهم يحافظون على أعضائهم الجنسيَّة فهم يتصوَّرون أنفسهم شرفاء. أو بعبارةٍ أصحَّ أنهم شرفاء ما دامت زوجاتهم أو بناتهم أو قريباتهم من النِّساء يحافظن على أعضائهن الجنسيَّة.

    ومن أجل رفع مستوى الشرف إلى درجةٍ أخلاقية أعلى لا بدَّ أن يتعلَّق الشرف برأس الإنسان لا بنصفه الأسفل، ولا بدَّ أن يكون كل فرد (رجلًا أو امرأة) مسئولًا عن سلوكه وعن أفكاره أمام الآخرين.

  • (٥)

    العلاقة الزوجية بين الرَّجل والمرأة تتم على أساسٍ من الحب والصدق والحرية والاختيار بحيث لا يسيطر الرَّجل على المرأة، وبحيث لا يملك الرَّجل المرأةَ أو الأطفال، وإنما ترتكز العلاقة داخل الأسرة على التساوي في جميع الحقوق والواجبات بما في ذلك الإنفاق والنسب والعمل داخل البيت وخارجه.

  • (٦)

    أي طفل يولَد فهو طفل شريف وشرعي، ومن حقه أن يحصُل على اسم أمه وأبيه، ويتساوى اسم الأم مع اسم الأب في الشرف الاجتماعي والأخلاقي، وبهذا تُمحَى من الوجود تلك الظاهرة المسمَّاة بالأطفال غير الشرعيين. ومن حق كل طفل أن يحصُل على الرعاية والغذاء والتعليم والعمل الخلَّاق بصرف النظر عن انتمائه إلى أسرة أو طبقة.

  • (٧)

    من حق كل امرأة أن تعمل العملَ الذي تختاره حسب إمكانياتها ومواهبها، وتتقاضى على عملها أجرًا مساويًا لأجر الرَّجل عن العمل نفسه، وبحيث لا تُضطر أيُّ امرأة إلى المتاجرة بجسدها من أجل العيش، وبهذا تُمحَى من الوجود تلك الظاهرة المسمَّاة المومسات.

  • (٨)

    جميع الأعمال في جميع المجالات مفتوحة للنساء وللرجال بالتساوي دون تفرقةٍ بسبب الجنس أو النَّسب أو الحَسَب.

  • (٩)

    يحق للمرأة الوصاية والولاية والشهادة والإرث تمامًا كالرَّجل بغير أي تفرقة (بالطبع لن يكون هناك إرثٌ بانتهاء الملكية، ويتساوى الرَّجل والمرأة في الكفاح في الحياة دون الاعتماد على حَسَبٍ أو نَسَب أو إرث).

  • (١٠)

    يحق للمرأة أن تستخدم من وسائل منْع الحمل ما يناسبها، وهي صاحبة القرار فيما يخصُّ حياتها وجسدها والجنين داخل جسدها. إنَّ اكتشاف وسائل منع الحمل واكتشاف وسائل الإجهاض الطِّبية التي تتم بغير ألمٍ وبغير تخدير، كلُّ ذلك مساهمة علمية حديثة في تصحيح الخطأ التَّاريخي الذي بمقتضاه امتلك الرَّجل الجنين داخل جسد المرأة. إنَّ الجنين جزءٌ من جسد المرأة، وهي صاحبة القرار في الاحتفاظ به أو عدم الاحتفاظ به.

  • (١١)

    حينما تسود القيم الإنسانيَّة على قيم الملكية والامتلاك فسوف تصبح العلاقات بين الأفراد قائمةً على التعاون وليس التنافس والعدوان. وكذلك سوف تصبح العلاقات بين الدول قائمةً على التعاون، وليس على الاستعمار والاستغلال والحروب.

من الواضح أن تحقيق المبادئ السابقة يحتاج إلى ثورة. لكن مأساة معظم الثورات أنها تملك الحقَّ ولا تملك القوة؛ فالقوة دائمًا في يدِ الأقلية القليلة التي تملك المال والجيش والبوليس والقضاء والمؤسَّسات الأخرى في المجتمع. والمأساة أيضًا أنَّ كثيرًا من الرِّجال يتصوَّرون أن تحرير المرأة قضيةٌ منفصلة عن قضية تحرير الطبقات الكادحة المضطهدة اقتصاديًّا وسياسيًّا، والمأساة أيضًا أنَّ كثيرًا من النِّساء يتصوَّرن أن قضية تحرير المرأة ليست إلا قضية خاصة بالنِّساء ولا تخص الرِّجال، وأنها تنحصر في المطالبة بتغيير بعض القوانين مثل قانون الإجهاض، أو قانون تحديد النسل، أو قانون الزواج أو الطلاق … إلخ، في حين أن قضية تحرير النِّساء لا تنفصل عن قضية تحرير الرِّجال، وهي قضية سياسية اقتصادية أساسًا وليست مجرد قضية جنسية أو اجتماعية.

إنَّ بعض النَّاس قد يعترضون على بعض المبادئ السابقة بحجةِ أنها تخالف الأديان والمقدسات، ولكني أعتقد أن جميع المبادئ السابقة لا يمكن أن يختلف عليها أيُّ دين؛ لأنها تدعو إلى الحق والحرية والعدالة والمساواة والحب، هذه المبادئ تنادي بها جميع الأديان من البوذية إلى الإسلام.

أمَّا القول بأن هناك بعضَ الأفكار المقدسة التي يجب ألا تُناقَش أو تُمَس فهذا اتجاه ضد الدِّين؛ لأن الأديان تدعو الإنسان إلى استخدام عقله من أجل أن يطوِّر حياته وحياة مجتمعه إلى الأفضل والأسعد.

أمَّا أنَّ بعض رجال الدِّين يحاربون التفكيرَ العقلي فهذا أمرٌ معروف في التَّاريخ. وقد حوكم جاليلو بتهمة تكذيب الكنيسة حين قال إنَّ الأرض تدور حول الشمس. واعترف العالَم بصدقِ جاليلو وكذَّب الأفكار المقدسة التي آمن بها بعض رجال الكنيسة.

وربما يتهمني بعض النَّاس بأنني ضد الدِّين أو ضد الأخلاق أو أنادي بالفوضى الجنسيَّة، ولكني أردُّ على هؤلاء بهذه النقاط الأساسية:
  • (١)

    إنَّ الحضارة التي نعيشها حضارةٌ غير أخلاقية؛ لأنها تجعل من النِّساء والأطفال أكباشَ فداءٍ لأخطاء الرِّجال. والمبدأ الأخلاقي هو أنَّ كل إنسان مسئول عن خطئه وليس من الأخلاق أن تتحمَّل النِّساء والأطفال وِزْرَ أخطاء الرِّجال وفوضاهم الجنسيَّة، وأنا أطالب بحضارةٍ أخلاقيةٍ ترتكز على المبدأ الأخلاقي الذي يقول إنَّ كل إنسان مسئول عن سلوكه وأفكاره. المرأة مسئولة عن سلوكها وأفكارها والرَّجل مسئول عن سلوكه وأفكاره.

  • (٢)

    حياة الرِّجال الجنسيَّة غيرُ أخلاقية؛ لأن الرَّجل يمارس الجنس دون أن يتحمَّل مسئوليةَ هذا الفعل، ولأن الرَّجل يطلِّق زوجته ويشرِّد أطفاله من أجل نزوة جنسية، ولأن الرَّجل يذهب إلى المومسات ويدفع لهن أجرًا، ثم يصبح بعد كل ذلك أمام القانون غيرَ مدان وغير مخطئ، وإنما المرأة هي المخطئة وحدَها.

  • (٣)

    علاقة الرَّجل بأطفاله غير الشرعيين علاقةٌ غير أخلاقية؛ لأنه هو الذي ينجبهم ثم يتخلَّى عنهم ويحرِمهم من اسمه وميراثه، أي يفرِّق بينهم وبين إخوتهم الشرعيين، وهذا موقفٌ غير أخلاقي تجاه أطفال أبرياء.

  • (٤)

    العلاقة بين الرَّجل والمرأة يجب أن تقوم على أساسِ الحبِّ المتبادل وليس لأسبابٍ نفعية واقتصادية، وإلا أصبحت كالدعارة سواء بسواء. ولهذا أنا أطالب بتطهير الزواج من الأسباب الاقتصادية والنفعية ليصبح زواجًا شريفًا قائمًا على الحب الصادق وليس على المتاجرة بالبنات من أجل أن يثرى الآباء أو يسدِّدوا ديونهم.

  • (٥)

    لقد فقد الشرف مضمونَه الحقيقي وجوهره من حيث الصدق، وأصبح الشرف مجرد القدرة على توقيع العقود أو التظاهر بشيء أمام النَّاس وفعل شيء آخر في الخفاء. وأنا أطالب بأن يتمسَّك النَّاس بجوهر الشرف من حيث الصدق والعدالة والمساواة والحرية والحب.

  • (٦)

    أنا أطالب بأن يكون للإنسان حياةٌ واحدة هي حياته العلنية، وهذا هو الأساس الوحيد للشرف والصدق، لكن الحضارة الذُّكورية جعلت لكل إنسان حياتين؛ حياة علنية يدَّعي فيها الشرف، وحياة سرِّية يمارس فيها جميع نزواته.

  • (٧)

    أنْ تموت الأغلبية جوعًا وفقرًا وإرهاقًا على حين تتخم الأقلية شبعًا وتَرفًا وكسلًا أمرٌ غير أخلاقي وغير إنساني، وأنا أطالب بأن يتحقَّق المبدأ الأخلاقي الذي ينادي بالمساواة بين البشر.

  • (٨)

    أنْ يصبح الإنسان عبدًا للنظام الاجتماعي والاقتصادي في مجتمعه أمرٌ غير أخلاقي، وأنا أطالب بأن يكون الإنسان سيدَ مصيره قادرًا على تغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يسرق جهدَه ويستغله ويسحقه ويحوِّله إلى أداة، وضحية في يد الظروف والقدَر.

  • (٩)

    أنْ يعيش الرِّجال والنِّساء والأطفال حياةً تعيسة قائمة على السلطة والامتلاك والخوف أمرٌ غير أخلاقي، وأنْ يعاني الكبار والصغار من مشاكل نفسية أمرٌ غير أخلاقي، وأنا أطالب بأن تصبح حياة الرِّجال والنِّساء والأطفال حياةً سعيدة، قائمة على الحب والتعاون والتساوي والحرية والاختيار.

  • (١٠)

    أن يلغيَ النَّاس عقولَهم خوفًا من الاتهام بالمساس بالمقدسات أمرٌ غير أخلاقي؛ لأن الفَرق بين الإنسان والحيوان هو العقل، وحرمان الإنسان من عقله هبوطٌ به إلى مستوى الحيوان. وأنا أطالب بأن يستخدم كل إنسان عقلَه بحرِّية ومسئولية من أجل صنْع حياة أفضل وأسعد وأكثر صحةً وحبًّا وعملًا خلاقًا.

  • (١١)

    أنْ تتناقض القيم الدِّينية والمواعظ الأخلاقية وما يُذاع على النَّاس من راديو وتليفزيون وسينما ومجلات ورقصات عارية وإعلانات تجارية تعرِّي جسدَ المرأة، هذا التناقض أمرٌ غير أخلاقي، وأنا أطالب بألا تتناقض قيم المجتمع سواء كانت دينية أو تجارية.

  • (١٢)

    أن تتاح الحرية الجنسيَّة لنصف المجتمع من الذُّكور على أن يُكبَّل النصف الآخر (النِّساء) أمرٌ غير أخلاقي؛ لأن النصف المنطلِق سوف يلجأ إلى خداع النصف المكبَّل، وينتج عن تلك الازدواجية الأخلاقية عديدٌ من المشاكل غير الأخلاقية وغير الإنسانيَّة.

  • (١٣)

    إنَّ تضخيم الذُّكورة وتصغير الأنوثة أمرٌ غير أخلاقي؛ لأنه يصيب الرِّجال والنِّساء معًا بعُقَد النقص وعُقَد العظَمة، وما يترتَّب على ذلك من مشاكل نفسية وجسدية واجتماعية.

  • (١٤)

    الصدق هو الذي يمنح الشرف للعلاقات الإنسانيَّة، ويمنح العمل القدرةَ على الخلق والتجديد، والصدق يحتاج إلى الحرية والاستقلال والنضوج، وهذه أمورٌ لا يمكن أن تحدُث في وسط علاقات قائمة على الخوف والطاعة العمياء.

ولهذا فإنَّ المطلوب هو تحريرُ الأسرة والمجتمع من الكذب والتناقضات والخوف والطاعة العمياء والتضليل والازدواجية والاستغلال والقهر الجسدي والنفسي والاقتصادي للرجال والنِّساء والأطفال معًا.

والمطلوب أيضًا هو توحيد الإنسان جسدًا ونفسًا، أن يكون الرَّجل (والمرأة أيضًا) وحدةً واحدة جسدًا ونفسًا بغير انفصام، وألا نعزل الجنس عن الحياة. كثير من النَّاس يحاولون عزل موضوع الجنس عن الحياة، إما لأن لديهم مشاكلَ جنسية تعترض حياتهم ويهربون من مواجهتها، أو لأنهم يريدون أن يكون الجنس أمرًا سريًّا لا يعرفه أحد. إنهم يفصلون بين الجنس والحياة كما يفصلون بين نصفهم الأعلى ونصفهم الأسفل، ويتعاملون مع أعضائهم الجسمية بشكل، ويتعاملون مع أعضائهم الجنسيَّة بشكل آخر.

إنَّ العلاقات الاجتماعيَّة السَّطحية السَّريعة لا يُمثِّل الجنس فيها شيئًا ذا بال، ولكن العلاقات العميقة المعقَّدة ذات المشاعر والأحاسيس يمثِّل الجنس فيها جزءًا مهمًّا، وإنَّ الكتابة في الجنس هي الكتابة في عمق حياتنا، في عمق أجسادنا وشخصياتنا، بل إن العلاقات السياسية والاجتماعية، وعلاقات العمل السريعة السطحية يلعب الجنس فيها أحيانًا من وراء الستار دورًا هامًّا، فيشوِّه العلاقة أو يحرِّفها عن هدفها الأساسي، أو يبالغ في أشياء ويقلل من أشياء أخرى دون أي داعٍ موضوعي.

إنَّ بعض الحكام والساسة الزعماء يجدون لذةً في تعذيب الذين يخالفونهم الرأيَ أو هم يغيِّرون مستقبل بلادهم إلى الأفضل أو إلى الأسوأ لأسبابٍ في نفوسهم وعُقَد جنسية وشخصية إلى حدِّ أن قال أحد المؤرخين: إنَّ المشوَّهين نفسيًّا وجنسيًّا هم الذين يصلون إلى الحكم والصدارة والزعامة؛ ذلك لأن طاقتهم النَّفْسية والجنسيَّة تنحرف عن طريق الحب والعلاقات الحميمة بين النَّاس إلى البطش والسيطرة والمناورة والعدوان، وهذه الصفات الأربع هي الدعائم الأساسية للوصول إلى الحكم في عالمنا الحديث المرتكِز على حضارة ذكورية ذات جانب واحد، هو الجانب العدواني القائم على التنافس والغَيرة والحرب والتدمير، وليس على التعاون والحب والبناء.

إنَّ عدم التوازن في الحضارة الحديثة ناتجٌ عن أن نصف البشر (وهم ذكور) فقط هم الذين صنعوا الحضارة، حضارة من وجهة نظرهم فقط. أما النصف الآخر من البشرية (النِّساء) فقد كانوا متفرجاتٍ فقط، متفرجات من وراء قضبان حديدية، اعتقلهن الرِّجالُ خلفها حتى لا يتمردن على القوانين الباطشة القائمة على القهر الجسدي والاقتصادي معًا.

لا يمكن أن ننفصل عن أجسامنا، فنحن نحملها معنا في كل مكان. على حسب علاقة الواحد منا بجسده تتحدَّد علاقته بالآخرين، إن كانت علاقة سريعة وسطحية كمجرد مصافحة الأيدي في لقاء عابر. إنك قد تصافح إنسانًا في لقاءٍ عابر فلا تنسى هذه المصافحة فترةً طويلة؛ لأنها مسَّت فيك شيئًا، ولأنه حطَّم جدارًا ووصل إليك في لحظة لقاء حميم. مثل هذا الإنسان طبيعي مع جسده؛ ولذلك هو طبيعي مع أجساد الآخرين. وهناك مَن يصافحك فتلامس يدُك يدَه وتشعر بنفور أو بابتعاد عنه أو بأنه بعيدٌ عنك أو أنه لا يعطيك يدَه بقدرِ ما يأخذ منك يدَك، أو أنه يعطيك يدًا متراخية باردة فاقدة المشاعر، أو لا يعطيك إلا أطراف أصابعه.

هؤلاء المعقَّدون جنسيًّا الذين يعانون من مشاكلَ ما في علاقتهم بأجسادهم يعجزون بالطبع عن إقامةِ علاقاتٍ سوية مع الآخرين. إنهم لا يستطيعون أن يُظهِروا أنفسَهم على حقيقتها؛ ولهذا يتوارون خلف قناع من البرود أو التكبُّر أو الاكتئاب أو الابتعاد عن أي محاولة للاقتراب منهم. أمَّا هؤلاء الذين عرفوا سعادةَ الحياة الجنسيَّة وسعادة الجسد حين يكون حرًّا مطلقًا غير معقَّد فإنهم لا يخشون العلاقات الحميمة، وهم أقلُّ حذرًا في إقامة علاقاتٍ مع النَّاس، سواء كانت فكرية أو عاطفية أو جسدية.

إن النضوج الجنسي لا يتم بغير النضوج العاطفي، وهذا النضوج يساعد الإنسانَ على إقامة علاقة مستقرة مع الجنس الآخر مشبعة نفسيًّا وفكريًّا وجسديًّا، حيث تشكل فيها العلاقة الجنسيَّة الوسيلةَ الأساسية للتعبير عن الحب (وإن لم تكن الوسيلة الوحيدة).

إنَّ توقُّف النمو النفسي أو العاطفي أو الجنسي يدفع الإنسان إلى أحدِ هذه الحلول:
  • (١)

    إما أن يرغب في طفل.

  • (٢)

    أو يستعيض عن العلاقة الجنسيَّة بعلاقةٍ أخرى بديلة.

  • (٣)

    أو يقيم العلاقة ليس مع الأشخاص وإنما مع أشياءَ يمتلكها.

  • (٤)

    أو بملاحظةِ نشاطات الآخرين الجنسيَّة.

وقد وجِد أنه بالنسبة للشخص الناضج فإن العلاقة الجنسيَّة بالجنس الآخر هي أكثرُ العلاقات إشباعًا له؛ ولهذا تُعتبر الشكل الأساسي للعلاقة الجنسيَّة لمعظم الناضجين في معظم الأوقات. وهذا لا يعني أنها الشكل الوحيد، أو أن الأشخاص الناضجين الطبيعيين لا يمارسون أيَّ شكل آخر سوى هذا الشكل، أو أنهم لا يلجئون أحيانًا إلى تنوُّع في علاقاتهم أو وسائل مختلفة تجدِّد إثارتهم. لكن بصفة عامة، إنَّ نضوج الشخصية لا بدَّ أن يشمل النضوج الجنسي والعاطفي معًا، ونضوج الشخصية لا يظهر إلا في العلاقات مع الآخرين.

الإنسان يحتاج إلى الآخرين؛ ليعرف إذا كان ناضجًا أم غير ناضج.

والعلاقة الجنسيَّة تحتاج إلى آخرين. هناك علاقة جنسية لا تحتاج إلى آخرين مثل الإشباع الذاتي أو العادة السرِّية، ولكنَّ أحلام اليقظة التي تصاحب هذا النشاط تشتمل على آخرين. العلاقة الجنسيَّة الناضجة هي بين رجل وامرأة ناضجين حيث يكون التبادل (الأخذ والعطاء) متساويًا، وحيث تكون الأعضاء الجنسيَّة هي أهم الأعضاء التي من خلالها يتم التعبير عن الحب وتلقِّيه. إنها من أهم أسباب سعادة الإنسان ولذَّته في الحياة، وهي أيضًا لها نهاية كاملة الإشباع، ومع ذلك يمكن أن تعاد مرةً أخرى بغير نهاية. ما من شيء في الحياة يحتمل هذا التكرار والإعادة المستمرة وإن كان أعظم القِطع الموسيقية جمالًا؛ فالإنسان يملُّ التكرار والإعادة.

لكن هذه التجربة الرائعة الخصبة المخصبة لا تكون ممكنة إلا حينما يكون الرَّجل والمرأة قد نجحا في إقامة علاقة بينهما، وأنهما على الأقل (حين يمارسان الحبَّ معًا) يستطيعان أن يواجه كلٌّ منهما الآخر على حقيقته وكما هو بلا تحفُّظات وبلا أقنعة وبلا رواسب طفولية من الخوف أو النقص أو عدم الاستقلال.

وفي مثل هذه العلاقات الحميمة جدًّا نحن جميعًا شديدو الحساسية، تتعرَّى نقاط الضَّعف فينا، ونحن نكشف من أنفسنا على قدرِ ما في أنفسنا. إذا كان الواحد منا لم يُفْطَم تمامًا من أمه فسوف تنكشف على الفور طفولته في التصرُّف الجنسي. إنَّ الانحراف الجنسي — بصفة عامة — ليس إلا استمرار أجزاء من الطفولة في شخصية الرَّجل أو المرأة.

التردُّد أو القلق أو العدوان في معاملة الآخرين ليست إلا بقايا صفاتٍ طفولية. وبقدرِ ما يتغلَّب الإنسان على طفولته بقدرِ ما يقترب من النضوج، والصفات الطفولية تحدِّدها علاقةُ الطفل السابقة بأبيه وأمه. إذا كانت هذه العلاقة قوامها الحب والقبول فإن الطفل يصل إلى النضوج بسهولةٍ أكثر، لكن إذا كان الطفل قد شعر أنه غير مرغوب من أبيه أو من أمِّه فإنه يتعثَّر في إقامة علاقة حميمة وناضجة ومشبعة.

حين يسمع بعض النَّاس عن انحرافٍ جنسيٍّ ما فإنهم يبالغون في قذف صاحبه بأحطِّ الصفات. أغلب الظن أن هؤلاء هم الذين يشعرون أكثرَ من غيرهم بهذا الانحراف باقيًا في نفوسهم؛ فمن المعروف أنَّ الشيء الذي لا يُقْبَل أو لا يُهضَم بواسطة شخصٍ ما هو الشيء الذي بقي معه وظلَّ في أعماقه ثابتًا غير قابل للتطور.

لكن بالنسبة للإنسان الناضج الفاهم فإن الانحراف الجنسي أمرٌ يستدعي التعاطف والتفهم أكثرَ من الشتيمة والسخرية والاحتقار. أما هؤلاء الذين لا يفعلون شيئًا إزاء هذا سوى هزِّ أكتافهم تأففًا وسخرية ثم يهربون بعيدًا فإنهم يكشفون (لمن يفهم) أنهم إنما يهربون من شيء مماثل في نفوسهم.

جميعنا، كما قلتُ سابقًا، نحتوي على بذورِ الانحرافات الجنسيَّة والعاطفية بشتى أشكالها وألوانها، وجميعنا لم نتخلَّص بدرجاتٍ متفاوتة من طفولتنا وعلاقتنا بآبائنا وأمهاتنا.

عند بعض المنحرفين نجد محاولةً للنضج مستمرة، قد تكون بائسة، ولكنها محاولة تستحق منا التقدير، وهي قيمة إنسانيَّة في حد ذاتها، قيمة عليا تعني أن الإنسان يكافح دائمًا من أجل الارتقاء بنفسه إلى مستوًى أعلى دائمًا.

ولأن الانحرافات والمشاكل الجنسيَّة والنَّفْسية هي نتاجُ مشاعر الطفولة من ذنبٍ ونقص وخوف، ولأن الأسرة الأبوية هي النواة التي تنمو فيها هذه المشاعر وتتغذى؛ لهذا فإنني أطالب بتغيير الأسرة الأبوية لتكون أسرةً بغير سلطة الأب. وليس معنى ذلك أن تحلَّ سلطة الأم محلَّ سلطة الأب كما كان الأمر في أُسَر الأمومة، ولكني أطالب بتحرير الأسرة من أية سلطة، سواء كانت أبوية أو أمومة، بمعنًى آخر أن يحلَّ الحبُّ محلَّ السلطة داخل الأسرة، الحب غير المشروط بالطاعة، والحب غير المشروط بالملكية، والحب غير المشروط بالعلاقات البيولوجية أو علاقات الدم؛ أي أن يحب الإنسانُ أطفاله وأطفال الغير سواء بسواء، وهذه هي الإنسانيَّة أو قمة الأخلاق. إن الحيوانات تحب أطفالها وتطعمهم، وليس هناك فضلٌ لإنسانٍ يحب أطفاله ويطعمهم، ولكن الفضل هو أن يرتفع الحب الإنساني فوق روابط الدم وفوق العلاقات البيولوجية، وهذا هو كفاح الإنسان الدائم من أجل الارتقاء بنفسه إلى مستوًى أعلى دائمًا.

والمطلوب أيضًا هو المساواة الكاملة بين الرَّجل والمرأة في جميع نواحي الحياة بغير استثناء، بدون هذه المساواة لا يمكن للنساء أن ينبُغن في الحياة الفكرية، ولا أن تظهر من بينهن عبقرياتٌ أو عظيمات في أي مجال كما يظهر من بين الرِّجال.

ربما يكون صحيحًا ما يقال من أنَّ وراء كل رجل عظيم امرأة؛ لأن الإنسان الذي يريد أن يكون عظيمًا في العلم مثلًا أو الفن لا بدَّ وأن يتفرَّغ له ويبذل ساعاتِ يومه في القراءة والدراسة والتفكير والتمحيص وغير ذلك من الجهد الضَّروري للوصول إلى شيء عظيم. بمعنًى آخر لا بدَّ أن يتفرغ الإنسان لهذا العمل ولا يشغَل نفسَه بالأعمال الأخرى المتعلِّقة بأكله وشربه ونومه وغسل ملابسه ومشاكل البيت ومطالب الأطفال وشراء الخضار ومحاسبة البقال والجزار. الإنسان العظيم الذي ينبُغ في علمٍ أو فن لا بدَّ له من امرأة تقوم بهذه الأعمال وتوفِّر له الراحة والهدوء اللازمين للبحث والاطلاع والتفكير. ومن هنا ما يقال: إنَّ الرَّجل العظيم وراءه امرأة.

ولكن مَن هو وراء المرأة العظيمة؟ مَن هو وراء المرأة التي نبغَت في علم من العلوم أو فن من الفنون؟

إنَّ الذي يبحث في حياة النِّساء اللائي برزن في هذه الحضارة التي نعيشها يجد أنهن قليلات العدد جدًّا؛ لأنهن يحاربن قيودًا داخل البيت وخارجه تحول دون وصولهن إلى التفوق في أي مجال. ونجد أيضًا أن الذي وراءه تفوُّقهن وعظمتهن ليس هو الرَّجل، بل العكس هو الصحيح، إنَّ الرَّجل هو الذي يحول بين المرأة وبين العظمة في أي مجال.

لأنَّ معظم هؤلاء النِّساء العظيمات كُنَّ وحيداتٍ بغير أزواج، مطلَّقات أو أرامل أو رفضن الزواج أصلًا. بمعنًى آخر ليس وراء هؤلاء النِّساء إلا أنفسهن وكفاحهن المرير الطويل ووحدتهن القاسية، بالإضافة إلى الاتهامات التي قد تنهال عليهن من المجتمع بأنهن شواذُّ ونساء غير طبيعيات.

أمَّا الرَّجل فإنه قد يسبِّب للمرأة أشياءَ أخرى غير العظمة والنبوغ، إنه قد يُسبِّب لها المشاكل والأمراض على اختلاف أنواعها، بل قد يسبِّب لها الموت أيضًا، وليس هذا بالغريب في صعيد مصر، حيث لا تزال تُقْتَل النِّساء بسبب عدم ثبوت العذرية، أو الحَمْل بغير زواج، أو أسباب أخرى يحكم عليها الأب أو الزوج (أو الأخ أو ابن العم) بأنها غير أخلاقية أو ضد التقاليد.

من أهم المشاكل التي يسبِّبها الرَّجل للمرأة هو المرض النفسي أو العُصاب وأحيانًا الجنون الكامل. وقد أجريتُ بحثًا عام ١٩٧٢م بقسم الأمراض النَّفْسية بكلية طب عين شمس عن أسباب العُصاب بين النِّساء، واتضح لي أن السَّبب الأول كان هو الرَّجل، الأب أو الزوج أو أي رجل آخر ينصِّب نفسه مسئولًا عن الأسرة.

وقد اتضح لي أيضًا أنَّ من أهم الأسباب التي تسبِّب المرض النفسي للمرأة هو حرمانها من التعليم أو العمل أو إثبات ذاتها على اعتبارها إنسانًا ليس له عقل وذكاء خارج وظيفة البيت والزواج والأطفال.

وعلى هذا يمكن القول إنَّ الحضارة الذُّكورية والأسرة الأبوية تقتل ذكاء المرأة، وتحارب تفوُّق المرأة وإثبات عبقريتها. وكم يمتلئ التَّاريخ بنماذجَ لنساءٍ عبقريات وصلن إلى حافة الجنون أو الانتحار بسبب معوِّقات الحضارة الذُّكورية لإمكانياتهن الفكريَّة! كلنا نعرف كيف انتحرت أديبةٌ عظيمة مثل فرجينيا وولف، وكلنا نعرف كيف حكم المجتمع الذُّكوري على أديبة عظيمة مثل «مي زيادة» بالمرض النفسي والوحدة ثم الموت.

ولهذا فإنَّ الدعوة إلى المساواة الكاملة بين الرَّجل والمرأة دعوةٌ أخلاقية ودعوة إنسانيَّة، أما التفرقة فهي ضد الأخلاق وضد الإنسانيَّة.

١  انظر مفهوم العذرية والشرف في «المرأة والجنس»، ص١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤