الرَّجل والعلم والجنس

حين يسمع النَّاس كلمةَ الجنس والعلم فإن أوَّل اسم يخطر لأذهانهم هو سيجموند فرويد. وكان فرويد فعلًا من أوائل العلماء في العالم الذين درسوا الجنسَ دراسةً علمية، وحرَّروا الجنس من كثير من الأفكار القديمة، وألبسوه ثوبًا علميًّا خاضعًا للمناقشة والبحث والتطوير وليس اتهامات أو إرادات إلهية عليا.

على أن هناك علماءَ آخرين سبقوا فرويد بمئات السنوات، لكن العالَم لم ينتبه إليهم بمثل ما انتبه لفرويد لأسباب متعددة.

أحد هؤلاء العلماء والمفكِّرين القدامى هو الشيخ أبو علي الحسن بن علي بن سينا (الشهير بابن سينا)، الذي تُوفِّي سنة ٤٢٨ﻫ. وقد سبق ابن سينا علماءَ وفلاسفةَ الغرب في نظرته العلمية الشاملة للإنسان، وتقديره للجسد والأحاسيس الحسية. وكان ابن سينا من الأوائل في العالم أجمع الذي طالَبَ بعدم الفصل بين الجسد والنفس، وإعادة الصلة الأصلية الموجودة في الإنسان بين الجنس والحب؛ فالإنسان وحدةٌ واحدةٌ لا يتجزأ.

وفي كتابه الشهير «القانون في الطب» كتب ابن سينا يقول:١ «والقوة النفسانية تشتمل على قوَّتين هي كالجنس لهما؛ إحداهما قوة مُدرِكة، والأخرى قوة محرِّكة. والقوة المدرِكة كالجنس لقوتين؛ قوة مدرِكة في الظاهر وقوة مدرِكة في الباطن، والقوة المدرِكة في الظاهر هي الحسية.»
ومن هذا الكلام نرى أنَّ ابن سينا لم يسبق علماء الغرب فحسب في عمل جسرٍ بين النفس والجسد، ولكنه سبق «سيجموند فرويد» في التعريف بالفعل الظاهر والعقل الباطن. ولم يكن فرويد هو أول عالِم عرف ذلك كما يقول الغربيون. ومن أهم ما قدَّمه ابن سينا أيضًا رسالته في العشق،٢ وقد تمكَّن في هذه الرسالة لأول مرة أن يمنح الحبَّ البشري دورًا إيجابيًّا؛ ففي هذه الرسالة تغلَّب ابن سينا على الهوَّة التي تفصل نشاط النفس الحيوانية (حسب التعبير في ذلك الوقت) عن نشاط النفس الناطقة في الإنسان.

واستطاع أن يصل بين طرفي الحبِّ الجسدي الطبيعي والحبِّ الروحي، وأعطى النفس الدنيا (الجسد) دورًا تشارك به النفس الناطقة العاقلة. وجعل حبَّ الجَمال الظاهري — أي الحب الجنسي — عونًا على الاقتراب من الله. وابن سينا في هذه الرسالة قد طبَّق فكرته الأساسية في النفس وأجزائها، وقد حاول أيضًا أن يجد لها مكانها الصحيح في فكره الفلسفي المتكامل. وقد تفوَّق بذلك ابن سينا على كل سابقيه؛ لأنه استطاع أن يحقِّق لأول مرة انسجامًا متدرجًا بين الجسد والنفس، بينما لم يرَ أسلافُه إلا الصراع والتنافر المستمر بينهما.

لكن ابن سينا بالطبع وقع في بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض الرِّجال ومنهم فرويد، وظنَّ أن الرَّجل شيء والمرأة شيء آخر؛ بل إنه تصوَّر أن بَوْلَ النِّساء أقلُّ رونقًا من بول الرِّجال بسبب فضولهن،٣ وكتب في كتابه «قانون الطِّب» يقول: «بول النِّساء — على كل حال — أغلظُ وأشدُّ بياضًا وأقلُّ رونقًا من بول الرِّجال؛ وذلك لكثرة فضولهن وضَعف هضمهن وسَعة منافذ ما يندفع عنهن، ولِما يتحلَّل إلى آلات أبوالهن من أرحامهن.»

رغم ذلك فإنِّني أعتقد أنَّ ابن سينا كان عالِمًا ومُفكِّرًا وفيلسوفًا عظيمًا، وأنَّ العالَم الغربي لم يُعْطِهِ حقَّه وقدَّم عليه علماءَ غربيين أقلَّ منه قدْرًا. والسَّبب معروف؛ فنحن لا نعيش في عالَمٍ محايد، وحضارتنا بمثلِّ ما تحيَّزت للرجال فقد تحيَّزت أيضًا للعقل الغربي الأبيض، ولم يكن هذا التحيُّز بسببِ ما أُشيع علميًّا أن مخَّ الرَّجل الغربي أكثرُ تطورًا وذكاءً، وإنَّما بسبب خطة الدُّول الغربيَّة الاستعمارية في طمس تراث الشُّعوب في المستعمرات وفصْل ماضيها عن حاضرها، وحاضرها عن مستقبلها مما يسهِّل على الدولة الاستعمارية إضعاف الشعب، ومن ثَم إخضاعه واستغلاله.

وعلى أيَّة حال فإنَّ تحيُّز ابن سينا لبول الرِّجال لم يكن أكثرَ غرابةً وبُعْدًا عن التَّفكير العلمي الموضوعي من تحيُّز فرويد لعضو الذكر الجنسي، بحيث بنى نظريته في سيكولوجية المرأة على غياب هذا العضو من جسمها، وقال: «إنَّ النِّساء لسن كما هن نساء، ولكنهن ذكور ينقصهن عضو التناسل. هن يرفضن قبولَ هذه الحقيقة؛ حقيقة أنَّهن ذكور مخصيات، ويعشن بأمل الحصول على عضو الذكر في يومٍ ما بالرغم من كلِّ شيء».٤

رغم هذه النَّظرة القاصرة إلى المرأة، فإنَّ فُرويد لعِب دورًا كبيرًا في تحطيم كثير من الأفكار القديمة عن الجنس وعن النَّفس وعن الأحلام، ويحتل الفكر الفرويدي علامةً في الحضارة والعلم الحديث ترك بصماته في تفكير النَّاس طوال هذا القرن العشرين.

وفي كتابه «الطَّوطم والتَّحريم»٥ حاول فرويد تفسيرَ العلاقات الجنسيَّة في العشائر البدائيَّة، ونشوء المحرِّمات الجنسيَّة (تحريم الأم عن الأطفال الذُّكور)، ونشوء الأديان والاحتفالات الدِّينية الطَّوطميَّة.

وقد رأى فرويد أنَّ أوَّل احتفال في تاريخ البشريَّة كان هو الاحتفال بقتل الأب. وقال إنَّ هذه المأدُبة الطَّوطميَّة — التي ربما هي أول عيد للإنسانيَّة — كانت احتفالًا بذكرى هذا العمل الإجرامي الذي أصبح نقطةَ البدء للتنظيمات الاجتماعية والقيود الأخلاقية والأديان. وقد تصوَّر فرويد أن العشيرة البدائية كان لها حيوان طوطمي يقوم مقامَ الأب، وكان محرَّمًا على العشيرة أن تقتل هذا الحيوان شبه المقدَّس، ولكنها كانت تقيم احتفالًا كبيرًا بعد موته ثم تطلق عِنانها للحزن عليه. وفسَّر فرويد هذا التناقض العاطفي البدائي بالتناقض العاطفي عند الطفل الذي يحب أباه ويكرهه في الوقت نفسه. وواصل فرويد نظريته حول التطور التَّاريخي للجنس والجريمة في حياة البشر قائلًا إنه في العشيرة الإنسانيَّة البدائية كان الأب يَغار من أبنائه الذُّكور الذين كانوا ينافسونه في العلاقة الجنسيَّة بنساء العشيرة؛ ولذلك تجمَّع هؤلاء الذُّكور الصغار واتفقوا على قتْل الأبِ ثم أكلوه. لكنهم بعد جريمة القتل؛ أقاموا احتفالًا كبيرًا لذكرٍ من الأب الذي كانوا يحبُّونه والذي رعاهم من قبل. لكن بعد قتل الأب يشعر الأبناء بالذنب وتأنيب الضمير؛ ولذلك يصبح الأب بعد موته أكثرَ قوةً مما كان في حياته، ومن أجل التخلُّص من الإحساس بالذنب ومن أجل الوفاء لهذا الأب يطيع الأبناء أوامره التي رفضوها في حياته، ويتنازلون عن حقِّهم في أية علاقة جنسية مع نساء أبيهم. ويرى فرويد أن هذا هو بداية تحريم الأم وغيرها من المحارم.

وقد اختلف بعض العلماء — ومنهم «مورجان» «وإنجلز» — مع فرويد في أن العشيرة البدائية عرفت منذ البداية الغيرة من الأب؛ لأن هذه العشيرة البدائية لم يكن بدأ فيها الزواج بعد، ولم يكن هناك حقٌّ للرجل وحدَه في الاتصال الجنسي بالنِّساء، وإنما كان هذا الحق للجميع، رجالًا ونساءً. وخرج مورجان من دراساته الطويلة بين الهنود الإيروكيين ودراسته لتطور المجتمع الإنساني (من الوحشية إلى البربرية إلى المدنية)؛ أن الزواج بمعناه المعروف لم يكن موجودًا في العشائر الإنسانيَّة الأولى، وكان هناك ما سُمِّي ﺑ «الزواج الجماعي»؛ بمعنى أن الأعضاء المكوِّنين لعشيرةٍ ما، كانوا يستطيعون الاتصالَ الجنسي بأي رجل وأية امرأة من هذه العشيرة، وكان الأطفال يُنْسَبون إلى الأم؛ لأنها هي التي تلد الأطفال. وقال إنجلز إن الشعور بالغَيرة الجنسيَّة لم يكن موجودًا في ذلك الشكل الجماعي للزواج الذي تنتمي فيه جماعات كاملة من الرِّجال إلى جماعات كاملة من النساء بالتبادل.

واعتقد بعض العلماء — ومنهم «وورد» — أن جهل الرَّجل لأبوته في هذه الفترة من تاريخ البشرية هو الذي أنبت الشعور بالغَيرة من المرأة أو الأم التي كانت تَعرف أطفالها بحكم أنها هي التي ولدتهم.

أي إن بدايةَ الشعور بالغَيرة في تاريخ البشرية كان هو غَيرة الرَّجل من المرأة، وليس هو غَيرة الأبناء الذُّكور من الأب. وأن الجريمة الأولى في تاريخ البشرية ليس — كما قال فرويد — أنها قتل الأب، ولكنها جريمة سيطرة الرَّجل على المرأة واغتصابها حقَّها بالقوة. وقد شمل هذا الاغتصاب معنى الاغتصاب الجنسي والاغتصاب الاجتماعي أيضًا من حيث نَسب الأطفال إلى الأب.

وقد أرجع فرويد نشوءَ الشعور بالإثم في تاريخ البشرية إلى جريمة قتل الأب البدائي، وقال إن الأنا الأعلى في الإنسان هو الذي يحمل تقاليدَ الأبوين والمجتمع؛ ولهذا نبع الشعور بالإثم من جريمة قتل الأب. ويدل على ذلك أنه في الفكر المسيحي يلعب الشعور بالإثم النابع من شعور ضد الأب «الرب» الدورَ الأكبر في تكفير هذه الخطيئة، وذلك عن طريق تضحية الابن الذي يتوحَّد بالأب بعد عملية التكفير ويصبح شبيهًا بالرب. وفي سِر القربان المقدَّس (وهو الاحتفال الطوطمي للمسيحيين) يُؤكل الابن، ويتوحَّد المشتركون في هذا الاحتفال بالأب. وعلى هذا فإن الخطيئة الأولى وما صاحبَها من إحساسٍ بالذنب المتولِّد عن أول ثورة ضد الرب (الأب) تنتقل من جيل إلى جيل.

ولا شك أن فرويد وكذلك إنجلز ومورجان وورد (رغم اختلافاتهم الفكرية) قد أوضحوا الأساسَ الجنسي للتاريخ البشري. رأى إنجلز أن تطوُّر التَّاريخ الإنساني ارتكز على الصلات الجنسيَّة، لكنه أدَّى إلى النمو والتقدُّم في العمل والإنتاج إلى أن أصبحت العلاقات الاقتصادية هي التي تسيطر على النظام الاجتماعي. لكنَّ هذا التطور لا يُلغي الدورَ الأساسي للعوامل الجنسيَّة؛ لأن الطاقة الجنسيَّة قادرة على التحوُّل أو التسامي، بمعنى أنها تتحوَّل من فعلٍ إلى جنسٍ إلى فعلٍ إنتاجي في المجتمع.

وقد عبَّر فرويد عن هذه الفكرة نفسِها حين قال: «حين نطقَ الإنسان لأول مرة كانت أصواته نداءً على الرفيق الجنسي، ثم أصبحت جذور اللغة لتنظيم العمل في المجتمع البدائي. وبهذا تغيَّر الاهتمام الجنسي ليصبح اهتمامًا بالعمل، كأنما العمل لم يكن عند الإنسان البدائي إلا بديلًا للنشاط الجنسي؛ لذا فإن الكلمة التي كانت تُنْطَق أثناء العمل الجماعي كان لها تعبيران؛ تعبير عن الفعل الجنسي، وتعبير عن العمل الاجتماعي الإيجابي الشبيه بهذا الفعل الجنسي، ثم أخذت الكلمة تنفصل بالتدريج عن معناها الجنسي لتلصق نهائيًّا بالعمل.»٦

وقد أسَّس فرويد نظريته عن التسامي والكبت من هذه الفكرة، واعتقد أن الكبت الجنسي عملٌ ضروري من أجل استمرار المجتمع والحضارة، وكتب يقول: «إني أعتقد أن الثقافة نجحت على حساب إشباع الغرائز واستخدام طاقاتها لدفع ضروراتٍ حيوية.»

لكن العلماء نقدوا فرويد في هذه النظرية عن التسامي والكبت، وأوضحوا أن الطاقة الجنسيَّة لا تتحوَّل إلى عملٍ إنتاجي أو فكر خلَّاق، ولكنها تنحرف عن مسارها الطبيعي لتتخذ أشكالًا متنوعة من الانحرافات الجنسيَّة والعصاب والمشاكل النَّفسيَّة.

وقد تأثَّر فرويد في نظريته عن التسامي والكبت بإلحاح الظروف الاقتصادية والاجتماعية في ذلك الوقت، التي أدَّت إلى تمجيد العمل الإنتاجي. فقد كان المجتمع الأوروبي حينئذٍ محدودَ الإمكانيات، ولم تكن الصناعة تقوم على الآلات، وإنما على الجهد الإنساني؛ ولهذا كان المجتمع في أشد الحاجة إلى عَرَق العمال وجهدهم، ولم يكن في استطاعة المجتمع الرأسمالي أن يحقِّق ذلك إلا بالقوة عن طريق القهر، وأيضًا بجعلِ العملِ شيئًا مجيدًا؛ بل مقدَّسًا.٧
وأوضحت الدراسات النَّفْسية٨ الجديدة عن وجود علاقة بين الكبت الجنسي وانخفاض القدرة الفكرية في الإنسان. وكتب بارون: «إن الأصالة الفكرية تعتمد على تجاوب الإنسان الحر لمشاعره.»
ويكاد فرويد ينتهي إلى هذه الفكرة ويناقض مفهومه السابق عن التسامي والكبت فيقول: إن الكبت ليس إلا ردَّ فعلٍ ضد صعوباتٍ اقتصادية واجتماعية. وكتب: «إن الأساس الذي بُنِيَ عليه المجتمع البشري هو في النهاية من طبيعةٍ اقتصادية؛ ذلك أن المجتمع حين يعجز عن تقديم وسائل العيش لأفراده دون عمل، يجد نفسَه مضطرًّا إلى الحد من عدد أفراده وتحويل طاقتهم من النشاط الجنسي إلى العمل، ونحن هنا أمام هذه الحاجة الأزلية التي وُلِدَت مع الإنسان وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.»٩

ورغم الثغرات المتعدِّدة في الفكر الفرويدي إلا أنه لا يمكن أن ننكر أن هذا الفكر قد أضاء بعضَ جوانب الإنسان بطريقةٍ علمية قابلة للمناقشة والملاحظة والتغيير حسب التطور الفكري للإنسان. وبالمثل أيضًا فعل مورجان وإنجلز وماركس وغيرهم من العلماء والفلاسفة الذين حاولوا دراسةَ الإنسان والمجتمع على نحوٍ علمي.

ولعل الميزةَ الأساسية للفكر الفرويدي والفكر الماركسي هي أنهما أعطيا القرنَ العشرين نوعًا من التفسير العلمي للصعوبات التي يعيشها الإنسان كطفل (فرويد) أو طفولة المجتمع البشري (ماركس).

لكن الفكر الفرويدي — بسبب انحصاره داخل النفس وإيمانه بأن مصيرَ الإنسان يتحدَّد حسب تشريح جسمه — عجز عن تفهُّم الظروف الاجتماعية والتَّاريخية والاقتصادية التي جعلت الرَّجل يسيطر على المرأة، وفسَّر فرويد هذه السيطرة على أن «الأنا العليا» عند المرأة أضعف من «الأنا العليا» عند الرَّجل، وأن ضمير النِّساء أضعف من ضمير الرِّجال، واعتقاداتهن الفكرية أضعف. وبنى فرويد نظريته عن نفسية المرأة على أنها ذَكَرٌ حُرِمَ من العضو الذَّكَري، وجعل هذا العضو يلعب الدورَ الأساسي في تشكيل كلٍّ من نفسية الرَّجل والمرأة.

وهذه هي أهم الثغرات في الفكر الفرويدي التي كشفها كثيرٌ من علماء النفس الذين أدركوا أثرَ الظروف الاجتماعية على نفسية الإنسان. وكان من هؤلاء العلماء الطبيبة النَّفْسية كارين هورني،١٠ وكذلك «أرنست جونز» الذي كتب يقول: «إن الإنسان أولًا وقبل كل شيء مخلوقٌ اجتماعي؛ ولهذا فإن تقسيم علم النفس إلى علم نفس فردي وعلم نفس اجتماعي إنما هو تقسيمٌ خيالي. إن عقل الإنسان يتكوَّن من مجموعةٍ من ردودِ فعلٍ تنشأ بينه وبين الآخرين في المجتمع، ولم يعرف أن الفرد يمكن أن يتطوَّر بشكلٍ آخر.»١١

وكان «ألفريد أدلر» من أوائل أطباء النفس في العالم الذي رفض أفكار فرويد عن الفروق التشريحية بين الجنسين، وقد نبَّه الأذهانَ إلى الأسباب الاجتماعية في الفروق النَّفْسية بين الجنسين، سواء في مرحلة الطفولة أو مراحل العمر المختلفة. وكتب أدلر يقول: إن الأسباب الأساسية لهذه الظاهرة غير السعيدة (في حياة الأطفال والرِّجال والنِّساء) ترجع إلى الأخطاء في حضارتنا.

وقد نجح إنجلز في كشف هذه الأخطاء في الحضارة حين تتبَّع الأسبابَ الاقتصادية والاجتماعية في تاريخ البشرية، التي قادت إلى أن يسيطر الرِّجال على النِّساء، وقال في كتابه «أصل العائلة»: «إنَّ التَّقسيم الأوَّل للعمل» في تاريخ الإنسان «حدث بين الرَّجل والمرأة من أجل رعاية الأطفال، وكان أول صراع طبقي في التَّاريخ هو الصراع بين المرأة والرَّجل في ظل الزواج الأحادي» Monogamy. وكان أول خضوع طبقي هو خضوع الزوجة لزوجها. لقد كان هذا الزواج تقدُّمًا تاريخيًّا من ناحية، لكنه من الناحية الأخرى أنتج الرِّق (العبيد) والملكية الخاصة، وتلك الظاهرة المستمرة حتى اليوم، وهي أن كلَّ تقدُّم ليس إلا تأخرًا نسبيًّا، حيث إن تقدُّم مجموعة من النَّاس يكون على حساب وشقاء وتخلُّف مجموعة أخرى.١٢
وقد اختلف الفكر الفرويدي عن الفكر الماركسي في كثير من الأساسيات، لكنهما اتفقا على فكرةٍ أساسية تقول إن الإنسان في حياته منذ الولادة حتى الممات يخضع لقوًى أكبر منه تعطِّل نموَّه وتعوق وجودَه. وتنتمي هذه القوى في الفكر الماركسي إلى العالَم الاقتصادي والاجتماعي، وفي الفكر الفرويدي تكمُن هذه القوى داخل الإنسان، في الجزء الذي سمَّاه فرويد ﺑ «الأنا السفلى» (Ed)، حيث الغرائز الطبيعية، وتحتوي ضمن ما تحتوي على غريزة العدوان وغريزة الموت والغريزة الجنسيَّة، وكلها غرائزُ لا تعرف إلا اللذة والإشباع بصرف النظر عن المجتمع الخارجي. لكن فرويد عاد في مؤلَّفاته الأخيرة (عن الحضارة ومستقبل الوهم) وغيَّر بعض أفكاره، وربط بين علم الاقتصاد والتَّاريخ وبين علم النفس والطب، وقال: «إن المرض النفسي لا ينبع من داخل الإنسان، وإنما هو انعكاس للمجتمع والحضارة الخاطئة.» ويكاد يقترب هذا المفهوم من الفكر الماركسي الذي ربط البناءَ الاقتصادي التحتي (قوى الإنتاج) بالبناء العلوي النَّفسي بعد الفصل الطويل بينهما وما نتج عن هذا الفصل من اغتراب الإنسان عن نفسه وعن مجتمعه.

ويُعبِّر الفكر الماركسي عن نظرةٍ شاملة للإنسان والمجتمع، وهي تشبه نظرةَ أرسطو مع الفارق الكبير الزمني والحضاري بينهما. قال أرسطو: «الإنسان الذي يعيش خارج المجتمع إما حيوان أو إله.» وقد اتفق الفكر الماركسي مع فكر أرسطو في المعنى الأساسي لهذه العبارة من حيث إن الإنسان لا يمكن أن يُفصَلَ عن المجتمع، وأن المجتمع هو الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها يستطيع الإنسان إنماءَ ما لديه من إنسانيَّة، ولعل أهمَّ ما وُجِّهَ من نقدٍ للفكر الماركسي أنه انشغل بتحقيق السعادة للمجتمع ولم يهتمَّ بسعادة الفرد، على حين أن فرويد انشغل بتحقيق السعادة للفرد ولم يهتمَّ بسعادة المجتمع.

وقد صدر هذا النقد من بعض العلماء الذين لم يدرسوا الفكرَ الماركسي دراسةً كافية؛ لأن الفكر الماركسي ذهب إلى أبعدَ مما ذهب إليه الفيلسوف «كانْت»، ورأى أن السعادة هي زوال عبودية الإنسان للقوة الاقتصادية والاجتماعية، وفي القضاء على هذه الظروف التي يصبح بها الإنسان وسيلةً لا غاية.

وكانت الأغلبية من البشر قد حُوِّلوا إلى وسائلَ وأدواتٍ لإثراء قلةٍ قليلةٍ امتلكت المال والسلطة.

وقد أُشيعَ عن الفكر الماركسي أنه يحوِّل الفرد إلى أداةٍ في يد المجتمع، مع أن العكس هو الصحيح؛ فإن أساس الفكر الماركسي يرتكز على القضاء على كل الظروف التي تقهر الإنسان وتجعله أداةً أو شيئًا أو وسيلة، وهو يرتكز أيضًا على مساعدة الإنسان في الوقوف أمام القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تهدِّده أو تهدِر إنسانيته.

وهذا هو هدف العلم. إن هدف العلم ليس تأكيد عجز الإنسان وتأكيد ضَعفه أمام قوًى مجهولة باطشة في السماء أو قوًى مدمِّرة داخلية في نفسه. ولكن هدف العلم وهدف أيِّ بحثٍ علمي هو مساعدة الإنسان على تقويةِ نفسِه وتأكيد قدرته أمام هذه القوى، وتعريف الإنسان بحقيقة هذه القوى وليس تجهيله بها.

وقد لعِب الفكر الفرويدي دوره العلمي أيضًا في تعريف الإنسان بهذه القوى التي تهدِّده، لكن فرويد تصوَّر أن هذه القوى داخل الإنسان، وهي التي سمَّاها ﺑ «الأنا السفلى» (Ed)، حيث تكمُن غريزة التدمير أو الموت Thanatos. وهنا أيضًا يتضح الخلاف الجوهري بين الفكر الفرويدي والفكر الماركسي، كلاهما يعترف بوجود قوًى أكبرَ من الإنسان تسعى إلى تدميره أو تعطيل نموِّه وحركته. هذه القوى في نظر الفكر الماركسي في المجتمع الخارجي وفي نظر الفكر الفرويدي في داخل الإنسان ذاته. أما في الفكر الثالث فيقول الفلاسفة إن هذه القوى غير معروفة للإنسان وهي قوًى فوق مستوى الفهم الإنساني، رُمِز إليها ﺑ «الإله». وقال البعض الآخر من أصحاب هذه الفلسفة إن الحقيقة الخارجية هي من فكرنا فحسب، بمعنى «أن العالم الخارجي غير موجود إلا في عقولنا». لكن «كانْت» رأى هذه الفكرة غير علمية؛ لأنها تعني أن الكون لم يوجد إلا بوجود عقل الإنسان، وهذه الحقيقة تناقض علم الجيولوجيا والفلك والعلوم الأخرى التي أثبتت أن «الكون» وُجِد قبل ملايين السنين من ظهور الإنسان أو الحياة. وارتكزت فلسفة «كانت» على أن العالم كما يبدو لنا ليس العالم كما هو، بمعنى أن هناك عالَمين؛ عالمًا ظاهريًّا وعالمًا حقيقيًّا.

وقد أدرك فرويد في أواخر أعماله الارتباطَ القوي بين علم النفس والطب وعلم الفلسفة والكون وارتباط الدِّين والأخلاق بالأمراض النَّفْسية والانحرافات الجنسيَّة بسبب الإحساس بالإثم وعقدة الذنب. وهذا هو الذي دعاه إلى تأليف كتابه «مستقبل الوهم» الذي حاول فيه أن يفسِّر ظاهرةَ الدِّين من الناحية النَّفْسية. وقد وقع فرويد — رغم نظرته العلمية — في بعض الأخطاء، منها أنه تجاهل دورَ «الأم» في المجتمع الإنساني البدائي، وتصوَّر أن «الرب» ليس إلا «الأب» البدائي، وأن علاقة الإنسان بالرب تشبه علاقة الطفل بالأب من حيث وجود الحب والحاجة إلى الرعاية والرغبة في الإرضاء جنبًا إلى جنب مع الكراهية والرغبة في الانفصال والخوف من العقاب.

ولا يستطيع فرويد أن يتخلَّص من كونه رجلًا (وليس امرأة)، ويكتب قائلًا: «يظل خلق العالَم منسوبًا إلى إلهٍ غالبًا ما يكون ذكرًا، برغم الإشارة إلى إلهاتٍ إناث، وكثير من الأديان تجعل بدأ خلق العالم انتصارَ الإله الذكر على قوة أنثوية شبيهة بالوحش.»

وهذا التَّعبير في حد ذاته يكشف لنا عن أنَّ العالم (في نظر فرويد أو في الفكر الرجولي بصفة عامة) لم يبدأ إلا حينما انتصر الذَّكَر على الأنثى التي شُبِّهَت بالوحش.

والسؤال الذي يبرز هنا: ألم يكن هناك عالَم قبل أن ينتصر الذكر على الأنثى؟

وتدل معظم المصادر العلمية والأنثروبولوجية أن العالم كان موجودًا قبل انتصار الذكر على الأنثى، بل قبل وجود الذكر والأنثى على حد سواء، وأن الأنثى في الحياة البشرية كانت هي الأصل بيولوجيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، وكانت هي الإله، ولم يُعْرَف في ذلك الوقت إلا الإلهة القديمة الأنثى التي رمزت إلى الخير والخصوبة والولادة والحياة.١٣
وأوضحت الدراسات الحديثة للمجتمع البشري القديم أن الذَّكَر خضع لهذه الأنثى البدائية القوية فترةً طويلة، كان يشعر طوالها بالخوف من قوَّتها، هذا الخوف الذي رسَّب في نفسه شعورًا بالكراهية والغَيرة منها. ويرجِّح العلماء أن هذه الفترة هي التي أنبتت في نفس الذكر الجذورَ الأولى لتلك الظاهرة التي عُرِفَت في علم النفس باسم حسد المرأة أو Woman Envy، وأن الذَّكَر ظلَّ يتطوَّر ويقوى من أجل أن يحظى باختيار هذه الأنثى القوية، وتفضيلها له عن الذُّكور الآخرين، إلى أن اكتسب قوةً كافية استطاع بها أن يرتكب أوَّل حادث اغتصاب في التَّاريخ البشري، وكأنما أراد أن ينتقم بشكلٍ ما من المرأة التي يضمر لها منذ زمن طويل ذلك الخوفَ وتلك الكراهية والغَيرة.
ويعتقد هؤلاء العلماء أنَّ الجريمة الأولى التي وقعت في حياة البشرية لم تكن جريمةَ قتل الأب كما قال فرويد، ولكنها كانت جريمةَ اغتصاب الرَّجل للمرأة. وربما عبَّر فرويد عن هذا المعنى نفسه حين قال: إن بداية العالم كانت انتصارَ الذكر على الأنثى الشبيهة بالوحش (تعبير بدائي عن القوة الشديدة)، وعبَّر عن الفكرة نفسِها حين قال في ختام كتابه «الطوطم والتحريم»:١٤ «في البدء كان الفعل.»
١  انظر: «القانون في الطب»، الشيخ أبو علي الحسن بن علي بن سينا، الجزء الأول، ص٧١.
٢  انظر: غوستاف فون غربناوم، «دراسات في الأدب العربي»، ص٨٣، رسالة ابن سينا في العشق، ترجمة الدكتور إحسان عبد القدوس.
Aj Denomy Inquiry into the origins of courtly love in medieval studies, 1945. vol. 6. p. 175.
٣  القانون في الطب لابن سينا، ص١٤٦، (طبعة الحلبي) مؤسَّسة الحلبي وشركاه بالقاهرة.
٤  Sigmund Freud. some psychological consequences of the anatomical distinction between sexes. collected papers. vol. 5. Hogarth press. 1959.
٥  انظر: S. Freud. Totem and Taboo.
٦  انظر: Freud. Introduction to Psychoanalysis. 152.
٧  انظر: «المرأة والجنس».
٨  انظر: «المرأة والجنس».
٩  انظر: Freud. Introduction to Psychoanalysis.
١٠  انظر: «المرأة والجنس»، و«الأنثى هي الأصل».
١١  انظر: Ernest Jones, free association, Hogarth press, 1959. p. 153.
١٢  انظر: Fredrick Engies, The Origin of the Family.
١٣  انظر: «الأنثى هي الأصل»، في هذا الكتاب.
١٤  انظر: Freud. Totem and Taboo.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤