الإحساس بالذَّنب
لا يُمكن لأي رجل أو امرأة أن ينكر أنه مهما بلغ من إدراك معنى الجنس فلا يزال هناك في أعماقه البعيدة إحساس بالذنب يصاحب ممارسته الجنسيَّة أو مجرد التفكير فيها، هذا الإحساس بالذنب ليس إلا رواسب الفكرة القديمة بأن الروح طاهرة والجسد آثم مدنس، وهو أيضًا رواسب باقية من الطفولة، حُفِرَت في الذاكرة والعقل منذ سمِع الطفل لأول مرة في حياته كلمة «عيب» من أمه أو من أبيه.
ومن المعروف علميًّا أن الشعور بالذنب يعوق النموَّ الطبيعي للسلوك الجنسي محوِّلًا الطاقة الجنسيَّة عن مسارها الطبيعي إلى مسارٍ آخر أكثرَ التواءً وتعقيدًا.
يمكننا أن نقول إذن إن الانحرافات الجنسيَّة أكثرُ انتشارًا حينما ينتشر الكبت والتربية المتزمتة والجهل بالجنس؛ ولهذا انتشرت الانحرافات الجنسيَّة في الماضي عنها في الحاضر، وقد لعِب علماء النفس والجنس في القرن الأخير دورًا هامًّا (لأسباب اقتصادية أساسًا) في تنبيه الأذهان إلى موضوع الجنس وأهميته، وأصبحت تربية الأطفال أقلَّ تزمتًا مما سبق، إلا أن الحضارة التي نعيشها لا تزال حضارةً ذكورية تمشي على ساق واحدة، وما زال الفصل قائمًا بين الجسم والعقل، وبين الحب والجنس، وبين الرَّجل والمرأة، وبين الفقير والغني، والأبيض والأسود، والسيد والأجير، والغربي والشرقي.
وما زال الجنس ضمن الموضوعات المحاطة بالضباب والخزعبلات والإثم أو الشعور بالذنب، هذا الشعور الذي يفسد (بدرجاتٍ متفاوتة) حياةَ النَّاس الجنسيَّة، أو يحوِّل طاقتهم الجنسيَّة الطبيعية إلى نواحٍ أخرى تسمَّى بالانحرافات. وقد يكون هذا الانحراف أحيانًا نوعًا من الهروب من العملية الجنسيَّة الكاملة مع الجنس الآخر التي ترسَّبت في أعماق الشخص على أنها نوع من الإثم، وبذلك تصبح الممارسة الجنسيَّة مع الجنس نفسِه أو العادة السرية أو استبدال جسد المرأة بملابسها الداخلية وغير ذلك، تصبح هذه الممارسات أقل إثمًا في نظر فاعلها من العلاقة الكاملة مع الجنس الآخر.
إن شكل وحجم الإحساس بالذنب في نفس الشخص منَّا يتحدَّد حسب موقف أبيه وأمه من الجنس منذ كان طفلًا، وحسب موقف المجتمع الذي يعيش فيه تجاه الجنس.
قليل جدًّا من النَّاس يستطيع أن يتحرَّر تمامًا من هذا الإحساس بالذنب في مجتمعٍ مثل مجتمعنا العربي الذي يقوم على التديُّن الشديد والعفَّة والتزمت (نظريًّا أو ظاهريًّا) والقيم التقليدية التي سادت مئات السنوات والتي نظرت إلى الجنس كإثم وعيب، وفصلت بين النِّساء والرِّجال.
ولا أظن أنَّ هناك مجتمعًا في عالمنا البشري تخلَّص من القيم التقليدية التي تنظر إلى الجنس كإثم وعيب؛ فالمجتمعات الأوروبية، وإن تحرَّرت جنسيًّا بعض الشيء لأسباب اقتصادية، إلا أنها لا تزال ترزح تحت وطأة النُّظم الرأسمالية الاستغلالية، ولا يزال عالقًا بها بقايا المبادئ المسيحيَّة المتزمتة التي مجَّدت الرهبنة والعذرية والامتناع عن الجنس، ولا تزال تخضع للنظام الأبوي الذي يعطي الرِّجال جميعَ الحقوق في البيت والمجتمع وفي الدنيا والآخرة، ولا يعطي النِّساء إلا الخضوع والطاعة، وأحيانًا بعض الحريات الظاهرية السطحية التي لا تزيد من إنسانيَّة المرأة بقدرِ ما تُنقِصها وتجعلها أداةَ جنس مربحة تجاريًّا أو متعةَ فراغ ولهو.
على أنه هناك حقيقةٌ لا يمكن إغفالها، وهي أن معظم النَّاس تؤمن نظريًّا بمبادئَ معينة، لكنها عند الممارسة الفعلية تمارس شيئًا آخر قد يكون مناقضًا تمامًا للمبادئ النظرية التي تؤمن بها، وينطبق هذا الكلام على النشاط الجنسي أكثرَ مما ينطبق على أي نشاط آخر. وقد خرج كينزي وزملاؤه من بحثهم الجنسي المعروف الذي أُجرِيَ في المجتمع الأمريكي على أن ٩٥٪ من الرِّجال الأمريكيين يقعون تحت طائلة القانون بسبب ممارستهم الجنسيَّة غير القانونية. وقال أحدُ العلماء الباحثين في علم الإنسان إن المبادئ الدِّينية والأخلاقية التي تحرِّم جميع الممارسات الجنسيَّة (فيما عدا ما كان منها داخل مؤسَّسة الزواج) لا يمكن أن تسريَ إلا في ٥٪ من مجموع العدد الكلي للبشرية.
إن الفكرة التي قالت بأن الامتناع عن ممارسة الجنس نوعٌ من السمو الإنساني والأخلاقي لم تَعُد فكرة مقبولة علميًّا أو خلقيًّا؛ لأنه ثبَت أن الإنسان الذي لا يعيش علاقةً جنسية سوية ومستقرة ومشبِعة يصبح عاجزًا عن تبادل الحب أو الصداقة الحقيقية مع الآخرين. بمعنًى آخر يصبح عاجزًا عن أن يكون إنسانًا.
ومع ذلك هناك كثير من النَّاس ما زالت كلمة «الجنس» عندهم مرادفة لكلمة «الإثم»، وما زال في مجتمعنا كثير من الآباء والأمهات ممن يصمتون حين يفاجئهم الطفل بسؤال عن الجنس، أو يردُّون ردودًا مبهمة أو مضلِّلة أحيانًا، وبالذات إذا جاء سؤال الطفل أمام عدد من أفراد الأسرة أو الغرباء. بعض النَّاس يعترفون بأهمية الجنس سرًّا أو مع شخصٍ يثقون فيه، لكنهم ينكِرون ذلك علنًا أمام الآخرين، سببُ هذا الإنكار أنهم خائفون من إبداء رأيهم الذي يتعارض مع الرأي الجماعي العام المتحيِّز ضد الجنس، وهذا الرأي الجماعي أيضًا من ضمن الأسباب التي تساهم في خلق الإحساس بالذنب وما يعقبه من انحرافات جنسية.
إحدى صفات الإنسان أنه وُلِد ضعيفًا عاجزًا في حاجةٍ إلى حماية أهله ورعايتهم لعدة سنوات حتى يستطيع أن يمشيَ على قدميه ويطعم نفسَه. خلال هذه الفترة التي يحتاج فيها الطفل إلى أهله (والتي قد تطول وقد تقصُر باختلاف الطبقات والمجتمعات) يصبح الطفل، بسبب هذه الحاجة الملحَّة إليهم، عاجزًا عن مخالفتهم؛ لأنه بذلك يعرِّض نفسَه للحرمان من رعايتهم. هذا الخوف من فقدان رعاية الأهل هو الذي يفرض على الطفل الطاعة، وكبْت رغباته الحقيقية، وتبنِّي رغبات أهله. إن تجربته أيضًا تعلِّمه أن تبنِّي رغبات أهله يجلب له الثناء ومزيدًا من الرعاية والحب، أما العصيان فيجلب له التأنيب واللوم.
ويقبل الطفل قيمَ أهله بغير مناقشة، ويهضمها منذ سنوات عمره الأولى: ما هو إثمٌ في نظرهم يصبح إثمًا في نظره، وما هو خيرٌ عندهم يصبح خيرًا عنده.
إن التمرُّد على قيم الأهل لا يحدث إلا بعد أن يكبر الطفل ويصبح قادرًا على إدراك أن قيم أهله وأفكارهم ليست هي القيم والأفكار الوحيدة في الحياة، وأن هناك قيمًا وأفكارًا أخرى. حينئذٍ يبدأ لديه الإحساس بالذنب؛ إذ إنه يكتشف أنه يشعر في أعماقه برغباتٍ أدرجها (حسب مقاييس أهله) تحت قائمة العيب والممنوع والحرام والشر والخطأ. مثل هذا الشعور يُفْقِده الأمانَ الذي كان عليه، ويضعف ثقته بنفسه بالرغم من أنه قد يكون في ذلك الوقت قد انفصل عن أهله ولم يَعُد بحاجة إليهم، ولم يَعُد يخاف منهم، ولم يَعُد معرَّضًا لرضائهم أو غضبهم.
وهناك من الأسباب التي تجعل الإحساسَ بالذنب يصاحب الممارسةَ الجنسيَّة أكثرَ من أي ممارسة أخرى، والسَّبب الأول — كما ذكرتُ سابقًا — هو موقف المجتمع المعادي للجنس، هذا الموقف يؤثِّر على أي فرد في المجتمع مهما تصوَّر هذا الفرد أنه لا يأبه بالمجتمع. إنَّ ضغط المجتمع على الفرد الواحد يشبه الضغط الجوي، قد يحسُّه الفرد وقد لا يحسُّه، ولكنه موجود دائمًا وله آثاره التي تشتد أو تقل حسب قوة شخصية الفرد ونضجها، وحسب نوع المجتمع.
والسَّبب الثاني هو أن الآباء والأمهات بالرغم من أن كثيرًا منهم في السنين الأخيرة قد غيَّروا موقفَهم من الجنس (حتى لا يُرسِّبوا في نفوس أطفالهم الإحساسَ بالخوف أو الإثم)، إلا أنه من النادر جدًّا أن يشير أبٌ أو أمٌّ إلى الجنس بكلمة طيبة فيها شيءٌ من الثناء أو القبول. لقد أصبح عدد كبير من الآباء والأمهات يمتنعون عن التأنيب أو العقاب القديم، لكنَّ موقفهم من الجنس ما زال موقفًا سلبيًّا، بحيث إنهم لا يرفضون ولا يقبلون، وهذا السبب في حدِّ ذاته إشارةٌ إلى أن الجنس ما زال شيئًا شائكًا. على أن أغلب الآباء والأمهات ما زالوا حتى اليوم يفزعون حين يرون طفلهم يداعب أعضاءه الجنسيَّة، وقد لا يتلقى الطفل صفعةً على يده أو وجهه كما كان يحدث قديمًا، لكنَّ النظرة المستاءة من الأم أو النصيحة من الأب بأن مداعبة الدمية أو اللعبة أفضل من مداعبة جسده تجعل الطفل يدرك أن الجنس شيءٌ غير مباح أو غير لائق.
وهناك كثيرٌ من الأطفال يربطون بين الجنس والقذارة (وبالذات في الطبقات المستريحة اقتصاديًّا) بسبب مبالغة الأهل في تنظيف الطفل وصرامتهم في تدريبه على التبوُّل والتبرُّز بحيث لا يلوِّث نفسه، مرسِّبين في نفسه إحساسًا بأن إفرازات جسده قذارة، لأن الأعضاء الجنسيَّة ملاصقة وقريبة من فتحات الشرج والبول؛ ولهذا يربط الطفل بين هذه القذارة والجنس، ويصبح الجنس في نظره شيئًا ملوثًا باعثًا على الغثيان.
إنَّ الآباء والأُمَّهات المتحررين يستطيعون أن يُخفِّفوا من وطأة الإحساس بالذَّنب عن أطفالهم، لكنهم لا يستطيعون بحالٍ أن يخلِّصوا أطفالهم تمامًا من هذا الشعور بالإثم؛ ذلك أن الطفل منذ طفولته يشعر برغبةٍ جنسية، تتجه بالطبيعة نحو الأشخاص الذين يعيشون معه في البيت (الأب والأم والأخوات)، لكنه يكبت هذه الرغبة ويجعلها سرًّا بينه وبين نفسه مع إحساس كبير أو صغير بالذنب حسب علاقته بأهله ودرجة نموِّه النفسي والجنسي.
لا يستطيع الطفل أن يتمرَّد على أهله خاصةً إذا كانوا من النوع المتحرِّر المحب، وليسوا من النوع المسيطر؛ فالإنسان عادةً يستطيع أن يتمرد على السلطة أكثرَ مما يستطيع أن يتمرد على الحب.
إن الأطفال الذين يكبرون حاملين معهم عبء الإحساس بالذنب ثقيلًا هم في أغلب الأحيان هؤلاء الأطفال الذين عجزوا عن التمرد على آبائهم أو أمهاتهم بسبب الحب أكثرَ من أي سبب آخر، ولأنهم عجزوا عن التفرقة بين أنفسهم وبين آبائهم أو أمهاتهم، الذين كانوا محبِّين ومتحرِّرين، لكنهم كانوا من هذا النوع من الآباء أو الأمهات الذين يوثِّقون علاقتهم العاطفية بأطفالهم إلى حدِّ أن يعجز الطفل عن الخروج عليهم.
لا يستطيع الطفل أن يدرك الأسبابَ الاجتماعية والاقتصادية والتَّاريخية التي جعلت المجتمع يحرِّم الاتصالَ الجنسي بين الأم وابنها أو بين الأب وابنته، لكن الطفل يشعر بهذه الرغبات، وقد تظل معه هذه الرغبات فترةً طويلة حتى بعد أن يكبر. هناك رجالٌ يظلون عاجزين عن الزواج بسبب تعلُّقهم الشديد بأمهاتهم، وهناك أيضًا البنت التي ترفض الزواج لتبقى مع أبيها الذي تحبُّه، وأحيانًا يفشل هؤلاء في حياتهم الزوجية بسبب ذلك الحب والتعلُّق الشديد بالأم أو بالأب.
ولأن المجتمع يحرِّم على الطفل الاتصالَ بأحد أفراد الأسرة فإنه يبحث خارج الأسرة عن وسيلة لإشباع رغبته. ويمكن القول: إن الجنس هو الذي يفرِّق بين الطفل وأسرته؛ ولهذا يصاحب الجنس إحساس بالذنب.
إذا أدرك الآباء والأمهات هذه الحقيقة فإن واجبهم يستدعي منهم ألا يتدخَّلوا أو يتطفَّلوا على حياة أولادهم أو بناتهم الجنسيَّة، إنَّ من المهم للأولاد والبنات أن تكون لهم حياتهم الخاصة إذا ما كنا نريد لهم أن يكونوا أشخاصًا مستقلين. ولا شك أن نموَّ الرغبات الجنسيَّة هو الذي يشكِّل النواةَ التي تساعد على استقلال الابن أو الابنة. وهناك رأي يقول إن قليلًا من الإحساس بالذنب ليس ضارًّا بالمراهق (أو المراهقة)؛ لأنه يشجِّعه على البحث عن رفاقٍ من عمره يفهمونه ويتقبَّلون رغباته الجنسيَّة أكثرَ مما يتقبَّلها أهله. ولكنَّ الأفضل أن يحدُث هذا بسب نمو المراهق جنسيًّا ونفسيًّا وليس بسبب الإحساس بالذنب.
ومن المفروض أن الإحساس بالذنب لا بدَّ وأن يتلاشى بعد أن يكبر الإنسان وينضج ويصبح قادرًا على إقامة علاقة مستقرة ومشبعة مع الجنس الآخر. لكن هذا لا يحدُث في كثير من الأحيان؛ فالحب الذي يمارسه الرِّجال مع النِّساء ليس حبًّا كاملًا في معظم الأحيان، ومن النادر أن يحدث ذلك الحبُّ الناضج الذي يتَّحد فيه الرَّجل والمرأة اتحادًا جسديًّا ونفسيًّا، ومن أهم الأسباب التي تجهض الحبَّ وتجعله ناقصًا (إما حبًّا جسديًّا صرفًا أو روحيًّا صرفًا) هو ذلك الإحساس بالذنب الناتج عن التعلُّق بالأب أو الأم.
كلما كان الطفل متعلقًا بأمه أصبح عاجزًا عن الانفصال عنها، وحتى إذا انفصل عنها فإنه يحاول أن يجد بين الآخرين بديلًا لها، إنه يبحث عن أمه بين النِّساء الأخريات، ويتزوجها ويشعر في علاقته الجنسيَّة مع زوجته بنوع من الذنب يشبه الإحساسَ بالذنب الذي شعر به (وهو طفل) نحو أمه، وهذا هو السَّبب في أن كثيرًا من الرِّجال لا يشعرون بإشباع جنسي حقيقي مع زوجاتهم، ولا يجدون هذا الإشباع إلا مع نساءٍ غير زوجاتهم، كالعشيقات أو المومسات. ومن هنا يُقسِّم الرِّجال النِّساءَ إلى قسمين: نساء عفيفات محصنات طاهرات هن الزوجات والحبيبات (أو بديلا الأم)، ونساء ساقطات قادرات على منحهم المتعةَ الجنسيَّة. يميل الرِّجال إلى الفصل بين الحب «الطاهر» والجنسي «الملوث» بسبب ذلك الإحساس بالذنب الذي ترسَّب في طفولتهم إزاءَ شعورهم الجنسي نحو أمهاتهم، وكبْتهم هذا الشعور في عقلهم الباطن.
ويقول العلماء إن الطفل حينما يرفض أن ينظر إلى أمه كمخلوق جنسي فإنه يخلق فكرةَ إمكان وجود «المرأة بغير جنس» التي يُسقِطها على كل امرأة تذكِّره بأمه، أو كل امرأة يحاول أن تعوِّضه عن علاقته العاطفية بأمه.
قال لي أحد الأزواج إنَّه ظلَّ عاجزًا عن الاتِّصال الجنسي بعروسه شهرَ العسل كلَّه مع أنَّه كان يمارس الجنس بكفاءة مع عشيقته القديمة، وقد نجح في الاتِّصال بعد أن كسر قدسيتها في عينه، وذلك بأن جعلها ترتدي قميصَ نوم مُتهتِّك جعلها أشبه بعشيقته منها بأمه. وزوجٌ آخر قال لي إنَّه اكتشف بعد الزَّواج أن زوجته لها صوتٌ مثل صوت أمه، وأنه بمقدارِ ما كان يحب هذا الصوت فقد أصبح يكرهه؛ لأنه يسبِّب له نوعًا من الضَّعف الجنسي الذي يصل أحيانًا إلى العجز الكامل.
وقال لي شابٌّ تزوَّج فتاة عن حب شديد: إنَّه ظلَّ شهرين كاملين عاجزًا عن الاتِّصال بها؛ لأنَّها كانت تبدو أمامه كالملاك الطاهر، وكلما كان يحاول لمسَها يتراجع مستغفرًا الله كأنه مقبل على إثم كبير. وقال لي مُعبِّرًا عن شعوره في ذلك الوقت: كانت تبدو في عيني ملاكًا طاهرًا إلى حدِّ أنَّني تصوَّرت أنَّ إبليس نفسه لا يستطيع أن يلمسها.
وقد وجدت أنَّ معظم الأزواج يعانون بدرجاتٍ متفاوتة من هذه المشكلة (حسب درجة تعلُّقهم بالأم)، وأن الرَّجل مهما بلغ من النضج النفسي والعاطفي والجنسي فإن علاقته الجنسيَّة بزوجته يظل يشوبها شيءٌ ما يحول بينه وبين الإشباع الجنسي الكامل الخالي من أي إحساس بالذنب.
والزوجة هنا أيضًا تلعب دورًا لا يمكن إغفاله، إن معظم الزوجات يحاولن (للأسباب السابقة ولأخطاء التربية والكبت) أن يدَّعين العفة والملائكية والقداسة في نظر أزواجهن، وبهذا يساعدن على تعميق الإحساس بالذنب في نفوس رجالهن.
وعلى هذا قلما تخلو علاقةٌ زوجية جنسية من الإحساس بالذنب، اللهم إلا في القليل النادر حين يلتقي بالصدفة رجلٌ ناضج مستقل بامرأة ناضجة مستقلة، فينشأ بينهما حب حقيقي ناضج يتَّحد فيه الجسد والعقل اتحادًا خالصًا بغير إحساس بالإثم. وهذا أمرٌ نادر جدًّا بسبب المحظورات والمحرَّمات المنتشرة في جميع المجتمعات، وبسبب تراث البشرية الطويل المتحيز ضد الجنس والمرأة.
إنَّ أكثر الرِّجال ميلًا لفصل الحب عن الجنس هم هؤلاء الذين عجزوا عن الانفصال العاطفي عن أمهاتهم، وهؤلاء يعيشون فيما يسمى «بالخيالات الجنسيَّة»، إنهم في الحقيقة عاجزون عن إقامة علاقة حب مع امرأة حقيقية؛ ولذلك هم يحلِّقون في الخيال صانعين لأنفسهم امرأةً تتناسب مع أحلامهم الجنسيَّة.
إن الوقوع في الحب كما يقولون، ينتج حينما يلتقي الرَّجل بامرأة حقيقية تقترب على نحوٍ ما من المرأة التي صنعها في خياله. وقد اتضح أن صورة الأم تحتل جزءًا كبيرًا من خيال الرَّجل الذي أحب أمَّه وارتبط بها فترة طويلة. ومن هنا أهمية انفصال الابن مبكرًا عن أمه ليعيش الحياةَ الحقيقية مع الجنس الآخر وليتحرَّر خياله من صورة أمه ويصبح خياله ناضجًا أيضًا ومستقلًّا. ولهذا يجب أن تنشغل المرأة بأعمالٍ خارج البيت في المجتمع، وألا تتفرغ أبدًا للبيت والأمومة إلى أن ينفصل عنها الابن بسهولة الممارسة ولا يحبذها؛ ولهذا فإن استمرار وجود الإحساس بالذنب لدى أي شخص يعني أن طاقته الجنسيَّة لا تعبِّر عن نفسها بشكل صادق كامل، أو أنها تنحرف عن مسارها الطبيعي. والعلاج في هذه الحالات هي أن يدرك الإنسان الأسبابَ الحقيقية التي ولَّدت لديه الإحساس بالذنب، ويمكنه على هذا النحو التخلُّص من هذا الإحساس وقبول الممارسة الجنسيَّة على نحو طبيعي.
ولعل الآباء والأمهات يدركون الآن أن الحب الذي يُعْطَى للطفل كالدواء له جرعة معينة إن زادت قد تُمرِض الطفل وقد تقتله، وكم من أمهاتٍ يقتلن أطفالهن بذلك التعلق والحب الشديد. وهذه ظاهرة منتشرة في أسرِ الطبقات المستريحة اقتصاديًّا، حيث تكون الأمهات عاطلاتٍ بغير عمل داخل البيت أو خارجه (الخدم يقومون بأعمال البيت، والتقاليد أو عدم إكمال التعليم يمنعها من العمل خارج البيت)، هؤلاء الأمهات العاطلات لا يجدن أمامهن من عملٍ سوى الالتصاق الشديد بأطفالهن والعناية الشديدة بهم، متصوِّرات أن هذا الحب وهذه العناية هما قمَّة الأمومة المثالية المؤدية لواجباتها كاملًا، غير مدركات أنهن يفسدن حياةَ أطفالهن في المستقبل، وأنهن أيضًا يملأن الفراغ الضخم داخلهن، الذي كان يجب أن يُمْلأَ بعملٍ خلاق منتج في المجتمع الكبير.
نفهم بعد هذا أن حياةَ الأطفال والرِّجال النَّفْسية والعاطفية والجنسيَّة تُفسَد وتُشَوَّه بسبب فراغ الأمهات في البيوت، وبسبب تضخيم المجتمع الذُّكوري وتمجيده الشديد لدور الأم وعلاقتها بأطفالها، وجعل تربية الأطفال وحبهم مهمةَ الأم الأساسية والوحيدة (لتظل في البيت)، واختفاء دور الأب في تربية الأطفال وحبهم. وقد نشأ هذا الوضع بسبب القيم القديمة التي ارتكزت عليها الحضارة التي نعيشها والتي تشكِّل الأسرةُ الأبوية نواتَها الأساسية، وما تبِع ذلك من تقسيم العمل بين الرِّجال والنِّساء.
ولعل هذا هو السَّبب في أن بعض العلماء أصبحوا يصِفون هذه الحضارة بأنها عرجاء، أو أنها تمشي على ساق واحدة؛ لأنها أحدثت خللًا في التوازن بين العلاقات الإنسانية جميعًا، في الحب والجنس والصداقة والعمل والسياسة والفن. وقد تصوَّر الرَّجل خطأً أن سعادة أسرته الأبوية واستمرارها إنما ترتكز على قهر النِّساء نفسيًّا وجنسيًّا واقتصاديًّا ليصبح الرَّجل هو المسيطر والحاكم والمرأة هي الخاضعة المحكومة. وقد نجح الرَّجل في قهر المرأة وتشويه حياتها النَّفْسية والجنسيَّة والفكرية، لكنه لم يدرك أنه بمثلِ ما شوَّه حياة النِّساء فقد شوه حياةَ الرِّجال أيضًا النَّفْسية والجنسيَّة والفكرية، وأنه لم يفقد السعادةَ داخل أسرته الأبوية فحسب، ولكنه سبَّب التعاسة في المجتمع البشري كله الذي أصبح قائمًا على قهر الكبير للصغير، والقوي للضعيف، والغني للفقير، والسيد للأجير، وأصبحت العلاقة بين الأفراد وبين الدول قائمةً على التنافس والاستغلال والحرب والقتل والعنف الذي هو أهم السمات البارزة في هذه الحضارة.
لقد بدأ العلماء الناضجون (من الرِّجال والنِّساء) ينتبهون إلى المضار النَّفْسية والفكرية والاجتماعية التي نتجت عن تقسيم العمل حسب كون الشخص ذكرًا أو أنثى. وأصبح معروفًا الآن أن وظيفة النِّساء في الحياة لا يمكن أن تكون الزواج والأمومة فقط، وأن قصر وظيفة الزواج والأمومة على المرأة أحدث خللًا في علاقة الأم بأطفالها، وفي علاقة الأب بالأم، وفي جميع العلاقات الإنسانيَّة داخل الأسرة وفي المجتمع الكبير.
وقد خرجَت في السنين الأخيرة أعدادٌ كبيرة من النِّساء إلى العمل خارج البيت والمساهمة في الإنتاج والخلق الفكري، ونحن نتوقَّع أن يتلاشى بالتدريج في نفوس الصغار والكبار الآثار النَّفْسية والانحرافات التي نتجت عن العلاقة الوثيقة بين الأطفال الذُّكور وأمهاتهم المتفرغات للأمومة فحسب.