الرَّجُل والسادية

أشيع أنَّ الرَّجل يميل إلى «السادية» في الجنس، وأنَّ المرأة تميل إلى «الماسوشية». «والسادية» اصطلاحٌ عُرف في علم النَّفس على أنَّه نوعٌ من الانحراف الجنسي بسبب أنَّ اللَّذة الجنسيَّة لا تحدُث إلا بعد إحداث ألم بالشخص الآخر. «والماسوشية» هي أن تحدُث اللَّذة بعد استقبال الألم الذي يحدِثه الشخص الآخر. وقد اتجه علم النَّفس أخيرًا إلى ضم الاصطلاحين في كلمة واحدة هي «السادوماشية»، حيث لوحظ أنَّ الشخص الذي يجد لذةً في إحداث الألم يجد لذةً بالمثل في استقبال الألم، وأن الإنسان «السادي» يصبح «ماسوشيًّا» أيضًا، والعكس صحيح.

وقد يتغلَّب العنصر السادي داخل الشخص أحيانًا أكثرَ من العنصر الماسوشي (أو العكس)، على أنه وُجِد أن الذي يُظهِر ميولًا سادية يشعر أيضًا بميولٍ ماسوشية.

وقد جاءت كلمة «السَّادية» من اسم الماركيز «دي ساد» الذي عُرِف في التَّاريخ بميله الشديد إلى العدوان والسَّيطرة وإحداث الألم بالآخرين. أمَّا كلمة «الماسوشية» فقد جاءت من اسم رجل آخر هو «ساشر ماسوش» الذي عُرِف بميله إلى استقبال الألم والخضوع للآخرين. لكن الذين درسوا شخصيةَ هذين الرَّجلين وجدوا أنَّ الماركيز «دي ساد» كان يجد لذةً في أن تضربه المرأة أحيانًا، وأن «ساشر ماسوش» كان يتحوَّل في بعض الأحيان إلى رجلٍ عدواني شديد القسوة.

وقد خلَّف هذان الرَّجلان من بعدهما كتاباتٍ كثيرةً عرف منها النَّاس عنهما انحرافاتٍ جنسية أخرى، منها أن الماركيز «دي ساد» كان يجد لذةً في الاتصال الجنسي بالحيوانات، وأن «ساشر ماسوش» كان يثيره فِراء المرأة أكثرَ من المرأة ذاتها.

وجد «كينزي» وزملاؤه في بحثهم المعروف أن أفلام الجنس وغيرها من التجارة الجنسيَّة المتفشية في المجتمع الأمريكي (حيث عمل البحث) تقوم أكثرَ ما تقوم على العنف وإثارة النَّاس جنسيًّا عن هذا الطريق؛ ولذلك انتشرت السادية والماسوشية عند معظم النَّاس، وأصبح من النادر أن يتحرَّر منها رجل أو امرأة. وينطبق هذا الكلام على معظم المجتمعات المتشابهة والمتأثرة بالمجتمع الأمريكي والأوروبي. ولا شك أن مجتمعنا العربي أحدُ هذه المجتمعات، والأفلام الأمريكية الجنسيَّة ترِد إلينا بسرعة الصاروخ، ويشاهد الرِّجال والنِّساء والأطفال حلقات التلفزيون القائمة على الجنس والجريمة أو الجريمة الجنسيَّة أو الجنس المجرَّم، وكلها ألوان من العنف والبطش والإثم والإيلام التي تشعل خيال الرِّجال والنِّساء والأطفال بالصور السادية والماسوشية للجنس.

وعلى هذا يمكنني أن أقول إننا جميعًا قد أُصِبْنا بدرجات متفاوتة من السادية والماسوشية، هذا بالإضافة إلى العوامل التَّاريخية والاجتماعية والنَّفْسية التي ورِثناها عن أجدادنا القدامى والتي جعلت الاغتصاب الجنسي مبعثًا للذة عند كثير من الرِّجال والنِّساء.

وتشير المصادر التَّاريخية إلى أن الاغتصاب الجسدي للمرأة كان مصاحبًا للاغتصاب الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي أوقعه الرَّجل بالمرأة. إن الذي يدرس قانون الزواج في معظم أنحاء عالمنا يدرك أن عَقد الزواج هو عَقد اقتصادي وجنسي في وقت واحد قائم على اغتصاب الرَّجل لحقوق المرأة الجنسيَّة والاقتصادية معًا.

ولم يكن لهذه الحضارة الذُّكورية أن تقوم وتستمر وتزدهر لولا عَقد الاغتصاب هذا، وقد بنى الرَّجل اغتصابه على فكرةٍ من دعامتين:
  • (١)

    الأقوى هو المالك.

  • (٢)

    الرَّجل هو المالك.

ولم يكن في وسع الرَّجل أن يحافظ على وضعه من حيث القوة ومن حيث المِلكية إلا بالعنف والعدوان. ولم يكن للأسرة الأبوية أن تستمرَّ وتزدهر إلا بالعنف والعدوان، ولم يكن للحضارة أن تستمر وتزدهر بغير العنف والعدوان، وإلا فكيف يحكم الرِّجال النِّساءَ، وكيف تحكم الأقلية (التي تملك) الأكثريةَ التي لا تملك؟!

إن العنف هو السلاح الوحيد لمن لا يملك قوةَ الإقناع العقلي. ولا يمكن لأي عقل أن يقتنع أن الزوج (وإن كان أغبي الأغبياء) هو الوصي على زوجته (وإن كانت أذكى الأذكياء).

العنف أو العدوان إذن ليس إلا إحدى الظواهر التي ولدتها هذه الحضارة القائمة على دعامتين غير إنسانيتين. العنف هو وسيلة غير إنسانيَّة للحُكم والإخضاع، لكنه الوسيلة الممكنة في مجتمعٍ قائم على الاستغلال واغتصاب الحق من صاحبه.

والاغتصاب قد يكون اقتصاديًّا حينما اغتصب الإقطاعيون والرأسماليون جهودَ الطبقات الأدنى والعبيد. وقد يكون الاغتصاب اقتصاديًّا وجسديًّا كما حدث حين امتلك الرَّجل جسدَ المرأة بقانون الزواج، وحين حرَّم عليها العمل والاستقلال الاقتصادي.

وقد لوحظ أن الرَّجل يميل إلى العنف والسادية مع مَن هم أقلُّ منه درجة أو طبقة، ولكنه يعامل مَن هو أعلى منه برقةٍ وأدب؛ فالرَّجل يرفع صوته على مرءوسه أو خادمه، لكنه يخفض صوته حين يتكلم مع رئيسه. والرَّجل قد يصفع زوجته في لحظة غضب لكنه لا يستطيع أن يصفع زميلته في العمل أو رئيسته إذا كانت امرأة.

وتتغيَّر معاملة الرَّجل للمرأة جنسيًّا حسب وضْع هذه المرأة في المجتمع. ولا شك أن وضْعَ المومس الاجتماعيَّ أقلُّ من وضع الزوجة؛ ولذلك يمارس الرَّجل ساديته أو ماسوشيته مع المومس بحريةٍ أكثرَ مما يمارسها مع زوجته.

لقد قابلت عددًا من المومسات في سجن القناطر (المتهمات بالدعارة)، ودرست حياةَ بعضٍ منهن دراسةً مستفيضة. قالت لي إحداهن إن أحد الرِّجال كان يحمل معه في كل زيارة سوطًا (كرباج) لتضربه به ضربًا مبرِّحًا قبل أن يصيب عضوه الجنسي شيئًا من الانتصاب. وقد صرَّح لها هذا الرَّجل أنه لا يستطيع أن يطلب من زوجته أن تضربه، وإلا استغلت فيه هذه الناحية وأصبحت هي المسيطرة وليس هو، وأنه لا يستطيع أن يحقِّق رغبته الجنسيَّة الماسوشية هذه إلا مع المومسات. وامرأة أخرى قالت إن بعض الرِّجال كانوا يضربونها قبل الاتصال بها، وإن هؤلاء الرِّجال كانوا يتحرَّجون من ضربِ زوجاتهم، إما لأن الزوجة من طبقةٍ أعلى منه ويخشى أهلها، وإما لأنه رجل مثقف ولا يريد أن يهبط من نظر زوجته.

على أننا نعرف أنه ما زال عندنا كثير من الأزواج الذين يضربون زوجاتهم، والذين يتوقون إلى أن تضربهم الزوجات بالمثل، لكن الواحد منهم يكبت هذه الرغبة خشيةَ أن يقول عنه النَّاس إنه زوج تضربه زوجته، والأفضل له أن يشاع العكس. وهو في النهاية يستطيع أن يذهب إلى مومس ويدفع لها من ماله نظير أن تضربه.

لا شك أنَّ نضْج شخصية الرَّجل (من حيث الثقة بالنفس واتحاد الجسد بالنفس والتخلُّص من عقدة الذنب) تحرِّر الرَّجل من بقايا السادية والماسوشية التي ورِثها من الظروف التي أحاطت به في الأسرة والمجتمع. على أن هناك بعضَ علماء الجنس الذين يقولون إنَّ جذور المشاعر الإنسانيَّة مترابطة، وإن مشاعر اللذة ليست بعيدةً عن مشاعر الألم بهذا القدْر الذي يتصوَّره النَّاس. وقد وجد هؤلاء العلماء — وأحدهم كينزي — أن سلوك الإنسان الذي يشعر بقمَّة اللذة الجنسيَّة يشبه إلى حدٍّ كبير سلوكَ الإنسان الذي يعاني قمَّة الألم. وقد كتب كينزي يقول: «إن الشخص (رجلًا كان أو امرأة) الذي يشعر بقمَّة اللذة الجنسيَّة يحرِّك جسدَه بعنف، تنقبض عضلاته بقوة مستمرة شديدة، فيصبح ظهره مقوَّسًا، ويلتوي رأسه وعنقه، وتندفع ذراعاه وساقاه إلى الخارج، يتمتم بكلماتٍ ويئن، يتوجَّع أو يصرخ على نحوٍ يشبه حالةَ شخص يعاني من قمة الألم والعذاب.»

وقد حاول بعضُ العلماء — منهم فرويد — دراسةَ حياة الأطفال النَّفْسية والجنسيَّة من أجل تفسير ظاهرة السادية. لاحظ فرويد مثلًا أن الطفل الذي يشهد العملية الجنسيَّة بين أبيه وأمه كان يميل إلى الاعتقاد بأنها اعتداءٌ من الرَّجل على المرأة. إن مثل هذا التلاحم العنيف بين جسدين يرتبط في عقل الطفل بالعدوان والإيلام؛ لأنه كطفل لم يعرف من خبرته القليلة في الحياة هذا النوعَ من التلاحم الجسدي، وكلُّ ما يعرفه أن الأجسام حين تتلاحم بهذه القوة العنيفة فإنها لا تسبِّب إلا الألم، ولا شكَّ أن العملية الجنسيَّة في حياة الإنسان هي الحالة الوحيدة التي يتلاحم فيها الجسدان بعنف وقوة دون أن يؤلم أحدهما الآخر. ومن عادة الإنسان أن يفسِّر غير المألوف بما هو مألوف. إن بعض الأطفال الذين يكتشفون أن ضرب زملائهم أو ربطهم بالحبال مثلًا يسبِّب لهم إثارةً جنسية يستبدلون بهذه العملية المألوفة عمليةً أخرى غير مألوفة.

إنَّ مثل هذه النزعات السادية مثل الضرب أو الربط بالحبال أو إحداث الألم تستمر لاصقة بهؤلاء الأطفال الذين يعجزون (بسبب الإحساس بالذنب وعقدة النقص وغيرهما) أن ينضجوا وأن يكتسبوا القدرةَ على الحب الناضج المتبادل، وعلى هذا يستمرون بأحاسيسهم الطفولية الأولى ويبقى الضرب أو فكرة الإيلام ماثلةً في أذهانهم تحمل شحنة اللذة نفسها التي يشعر بها الشخص الناضج من علاقة الجنس الطبيعية بغير إيلام أو إيذاء.

وقد لوحظ أيضًا أنَّ بعض الرِّجال من ذوي الميول السادماسوشية يحاولون — عن طريق الإيلام — الوصولَ إلى لذَّةٍ عنيفة لها صورة معينة في خيالهم لا يصلون إليها من خلال علاقة حبٍّ بغير إيلام. إنَّ علاقة الحب لدى هؤلاء أرقُّ وأسمى من أن تُهزمَ جنسيًّا؛ ولذلك كثيرًا ما نلاحظ التناقض الذي يعيش فيه الرَّجل من هؤلاء. إنَّه قد يكون أكثرَ من غيره حرصًا على عدم إيلام زوجته أو حبيبته، ويدفعه هذا الحرص إلى أن يكون أقلَّ إيجابية في الجنس من الرَّجل الطبيعي، لكنه يحاول عن طريق خيالاته السادية الماسوشية أو علاقته السادية الماسوشية بالمومسات أن يعوِّض عن هذا الحرمان الذي يعيشه في ظل الزواج أو الحب.

وبهذا نعود إلى الأسباب التي تجعل الرَّجل يفصل بين الحب والجنس، وبين الجسد والنفس، والأسباب التي ترسِّب عنده الإحساسَ بالذنب وعُقَد النقص، وهي أسبابٌ معظمها اجتماعية وتاريخية.

إن معظم النَّاس رجالًا ونساءً يشعرون من حين إلى حين برغباتٍ سادية ماسوشية، ولا يمكن أن يدَّعي أيُّ زوجين أنهما لم يمارسا معًا أيَّ لعبة من تلك اللُّعب السادية الماسوشية، كأن يشدَّ الرَّجل شعر المرأة، أو يتظاهر بأنه سيضغط عليها حتى الموت، وهذه المرأة التي تدَّعي أنها تتألم، أو أن قبضة الرَّجل قد هشَّمت عظامها إلى غير ذلك من اللُّعب التي يتفنن فيها الأزواج والزوجات كتمهيد للعملية الجنسيَّة أو كوسيلة لرفع درجة الإثارة أو الرغبة.

على أن هذه المداعبات والملاعبات الجنسيَّة، وإن كانت تُدْرَج تحت السادية والماسوشية، إلا أنها بعيدة كل البعد عن أفعال المركيز دي ساد وأمثاله القساة الذين يضربون ويسيحون الدم، أو «ساشر ماسوش» وأمثاله الذين عشقوا الذل والمهانة ولسع الكرباج.

ويمكن القول: إن نضج الشخصية يحرِّر الإنسان من الرغبات السادية الماسوشية، كلما زاد النضج ضعُفت هذه الرغبات أو تلاشت. والنضج هو قدرة الرَّجل (أو المرأة) على الحب بمعناه الحقيقي من حيث التبادل القائم على التساوي، أن يشعر الرَّجل أن المرأة مساوية له، وأن تشعر المرأة أن الرَّجل مساوٍ لها، وأن يشعر الرَّجل أنه يحب بكل كيانه جسدًا ونفسًا بغير انفصام بينهما وبغير إحساس بالنقص أو الذنب، وأن تشعر المرأة أنها تحب بكل كيانها جسدًا ونفسًا بغير انفصام بينهما وبغير إحساس بالنقص والذنب. فهل يمكن أن تحدث مثل هذه العلاقة المتساوية بين الرَّجل والمرأة في ظل الحضارة القائمة على سلطة الرَّجل وخضوع المرأة؟

إنَّ الأمر يستدعي كفاحًا شاقًّا مستمرًّا من جانب الرَّجل والمرأة على حدٍّ سواء للوصول معًا إلى النضج المنشود الذي هو أمرٌ نادر فعلًا. إن هؤلاء الذين تساعدهم ظروفهم الاجتماعية والنَّفْسية للوصول إلى هذا النضج يكتشفون سعادةً لم تعرفها الأغلبية من الرِّجال والنِّساء.

إنَّ السيطرة يقابلها الخضوع، وإنَّ الحرية تقابلها العبودية، وإن الحُكم الاستبدادي المطلق يقابله الخضوع الذليل المطلق. هذه هي الأضداد التي تصنع الأساس الذي تقوم عليه السادية والماسوشية، والتي يكون فيها الألم شيئًا ثانويًّا، ومن أجل أن نفهم هذا لا بدَّ لنا من تتبُّع حياة الطفل وكيف تنمو داخله تلك النزعةُ المسمَّاة بالنزعة العدوانية.

وقد اختلفت آراء علماء النفس والجنس حول منشأ هذه النزعة العدوانية في الإنسان. ويميل العلماء من ذوي النظرة الجزئية إلى الحياة البشرية إلى اعتبار أن العدوان غريزةٌ طبيعية في الرَّجل. وقد كان فرويد أحدَ هؤلاء العلماء الذين قالوا إن العدوان غريزةٌ نابعة من داخل الإنسان. وقد ميَّز فرويد بين نوعين من الغرائز؛ النوع الأول ينشد المحافظة على النوع وهو الغريزة الجنسيَّة، والنوع الثاني متعلِّق بالمحافظة على الفرد ذاته أي غريزة «الأنا». وبعد دراساتٍ للصراعات بين هذه الغرائز سَمَّى فرويد الغريزةَ الأولى بغريزة الحياة Erose، والثانية بغريزة التدمير أو الموت Thanatos.

وقد شرح فرويد السادية والماسوشية على أنهما امتزاجُ الغريزة الجنسيَّة وغريزة التدمير. ورأى فرويد أن جميع الدوافع الغريزية تنبع من امتزاج هاتين الغريزتين بدرجات مختلفة، فالماسوشية هي الميل إلى تدمير الذات، والسادية هي الميل إلى تدمير الآخر أو العدوان. ومن هذا المعنى يقول فرويد إن غريزة العدوان في كل شخص، وإنها إن لم توجَّه إلى العالم الخارجي فسوف توجَّه إلى الداخل لتحطيم الذات. أي إن الشخص من أجل أن يحميَ نفسه من التدمير الذاتي فلا بد له من تدمير أشخاص آخرين أو أشياء أخرى.

وقد عبَّر فرويد عن هذا الرأي بوضوح حين كتب إلى أينشتاين يقول له: «إن الحرب ليست إلا تحويلًا لغريزة التدمير، وذلك بتوجيهها نحو العالم الخارجي.»

ولا يختلف عن هذا الرأي العلماء الذين يقولون إن العدوان ينبع من بعض خلايا المخ، وهي أفكار تدل على تجاهل هؤلاء العلماء — ومنهم فرويد — للعوامل الاجتماعية والبيئية والتربوية التي تلعب الدورَ الأكبر في تشكيل الشخصية العدوانية.

إنَّ إرجاع العدوان والحروب في العالم إلى خلايا المخ أو غريزة التدمير في كل إنسان معناه أن هذه الحروب ضرورةٌ بيولوجية، ولا يمكن للإنسان أن يعالجها أو يتحكم فيها إلا باستئصال بعض خلايا المخ، وهذا تبرير للحروب ولكل أنواع التعذيب الوحشي الذي تُحْدِثه الأنظمة الاستبدادية والاستغلالية بالنَّاس.

وقد رفض كثيرٌ من العلماء هذا التبرير البيولوجي للحرب، أو إرجاع أسباب الحرب إلى الطبيعة البشرية؛ لأن هذا التبرير يصرف أذهان النَّاس عن النُّظم الاجتماعية والاقتصادية التي تسبِّب الحروب، كما أنه يعني أن الحرب لا بدَّ وأن تظل ملازِمة للإنسان كجسده؛ ذلك أنها جزءٌ من الطبيعة البشرية الثابتة.

إن النظرية العلمية الحديثة في تطوُّر المجتمعات الإنسانيَّة وعلاقتها بفكرة الطبيعة البشرية تنكر وجودَ ما يسمى بالطبيعة البشرية الثابتة أو الدائمة، وإنما الطبائع البشرية هي ظواهر نسبية تتغيَّر وتتكيَّف حسب البيئة التي نعيش فيها، وقد أصبح معظم العلماء الآن لا يحبِّذون اصطلاح «الغرائز البشرية»، ويفضِّلون عليه اصطلاح «الدوافع البشرية» التي يتعلَّم الإنسان معظمها خلال سنوات الطفولة.

إن نزعة العدوان التي عُرِفَت بين الرِّجال ليست غريزةً أو طبيعةً أصلية ثابتة وملازِمَة لذكورة الرَّجل، ولكنها ظاهرة زمنية وحضارية وتاريخية تلعب فيها العوامل البيئية والتربوية الدورَ الأكبر، بل إن بعض العلماء أثبتوا أنه في الحيوانات أيضًا لا يوجد شيء اسمه طبيعة ثابتة ودائمة، ولكن هناك صفات تتغيَّر دائمًا حسب التربية والتعليم.

بعض هذه التجارب قام بها أحدُ علماء النفس الأمريكيين، اسمه «كيو»، على عدد من القطط ليرى ما إذا كان عداء القطط للفئران صفة طبيعية في القطط أم صفة مكتسبة، أخذ الباحث مجموعاتٍ من القطط الوليدة١ وعرَّضها لظروف مختلفة، فصل بعضها عن الأم وعن البيئة الخارجية وعزلها في جوٍّ بعيد عن الفئران، أو جعلها تعيش مع أمهاتها من القطط. وفي نهاية التجربة وجد أن المجموعات التي رُبِّيَت مع أمها بالطريقة المألوفة وفي البيئة المألوفة اعتبرت الفئران طعامًا لها وراحت تأكلها، أما المجموعات التي عُزِلَت فلم تُظهِر أيَّ عداء للفئران ولم تعتبر الفأر طعامها.

وخرج «كيو» وغيره من العلماء الذين أجرَوا مثل هذه التجارب بأن الصفات التي نعتبرها طبيعيةً ليست إلا صفات مكتسبة من الظروف.

ويدل على ذلك أيضًا أننا في معظم المجتمعات نعتبر أن الصفة الطبيعية للرجل هي السيطرة والقوة، وأن الصفة الطبيعية للمرأة هي الخضوع والضَّعف. ولكن هناك قبائل في أفريقيا وآسيا تخالف ذلك. في قبيلة «أرابيش» في غينيا الجديدة، وهي منطقة جبلية، وُجِد أن الرِّجال والنِّساء جميعًا لهم صفاتٌ مما نسميها أنثوية. إنهم لا يميلون إلى السيطرة أو التنافس أو العدوان، وإنما ترتكز علاقتهم على تبادل الثقة والتعاون والحب، وهم لا يفرِّقون مثل ما نفرِّق بين الرَّجل والمرأة أو بين الكبار والأطفال، ويقترب مجتمعهم من المجتمع المثالي بغير طبقات، بل إن لعِبَ الأطفال عندهم لا يقوم على التنافس أو التقاتل، كما يحدث عندنا. وقد سمَّى بعض العلماء قبيلةَ أرابيش بأنها أسرةٌ واحدة كبيرة وسعيدة.

وعلى عكس الأرابيش نجد قبيلة «موندو جومر» في غينيا الجديدة أيضًا. هناك يتَّصف الرِّجال والنِّساء جميعًا بالصفات التي نطلق عليها صفات ذكورية. إنهم يميلون إلى العنف والعدوان والسيطرة والتقاتل لأي سبب تافه. يبدأ الطفل حياته هناك في جوٍّ تشيع فيه الكراهية والعدوان وهو يتعرَّض للضرب من الكبار وأحيانًا للقتل، وفي قبيلة «تشامبولي» نجد أن المرأة هي القوية المسيطرة والرَّجل هو الطرف الخاضع الأضعف. إنَّ المرأة هناك هي التي تختار الرَّجل، والعلاقات بين النِّساء سهلة وسوية وقائمة على الثقة والعمل والجهد، أما العلاقات بين الرِّجال فهي متعثرة، قائمة على الشك والريبة والنميمة، ويعتمد الرِّجال على النِّساء في حياتهم الاقتصادية والجنسيَّة والاجتماعية؛ ولذلك يتصفون بالضَّعف والخجل وعدم الاستقلال. المرأة هي التي تكدُّ وتعمل، أما الرِّجال فهم يرقصون أو يغزلون أو ينشغلون ببعض الفنون مثل الرسم والغناء. وقد رأيت في جنوب الهند قبائلَ من هذا النوع يعيشون في المناطق الجبلية حيث يُزرع الشاي والبطاطس، وتعمل النِّساء في الحقول وداخل البيوت، ولا يفعل الرَّجل شيئًا إلا الإشراف على المعبد والزينة والرقص في الحفلات الدِّينية. وقد رأيت يدَ الرَّجل منهم ناعمةَ الأصابع وصغيرة، أما يد زوجته فهي كبيرة وغليظة خشنة.

وهناك كثير من الأدلة الأخرى التي لا يمكن حصرُها والتي تدل على أن الصفات التي نطلق عليها الصفات الطبيعية للذكر أو للأنثى ليست إلا صفات مكتسبة من المجتمع والبيئة والتربية، وأن العلاقة بين الجنسين ليس لها نمطٌ واحد أزلي، وأن الأخلاق الجنسيَّة تتغير وتتبدل حسب النُّظم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. أوضحت إحدى الدراسات الجديدة للبوشيمان (Bochimans) بصحراء كالاهاري (Kalahari) العلاقة بين الضرورة الاقتصادية والأخلاق الجنسيَّة. هؤلاء البوشيمان يعيشون في مجموعاتٍ أسرية صغيرة حول آبار مياه جديدة قليلة لا تكاد تكفي السكان؛ ولهذا فإن قانونهم الجنسي غاية في القسوة، والاختلاط بين الجنسين ممنوع منعًا باتًّا، والسَّبب في ذلك أنهم لا يريدون مزيدًا من الأطفال، وهم يقتلون الطفل الثاني في أحيان كثيرة.٢

إنَّ الصِّفات الجنسيَّة لدى الإنسان تتشكَّل (كأي صفاتٍ أخرى) حسب المجتمع والبيئة والظروف والتَّربية، وقد افترض العلماء أنَّ الصِّفة الطَّبيعيَّة هي الصِّفة الشَّائعة في المجتمع أو الصِّفة الموجودة عند الأكثرية من الأفراد. وهذا افتراضٌ غير صحيح؛ لأنَّ هناك مجتمعات مثل المجتمع المصري والسوداني مثلًا التي تفرض البرود الجنسي على الأغلبية من البنات والنِّساء، وذلك بقطع بظورهن في عملية الختان الشائعة، فهل يمكن أن نقول إن الصفة الطبيعية للمرأة المصرية هي البرود الجنسي لمجرد أن الأغلبية من النِّساء باردات جنسيًّا؟! وقد اكتشف كينزي في بحثه أن أكثر من ٣٠٪ من الرِّجال الأمريكيين قد مارسوا الشذوذ الجنسي في فترةٍ ما من الفترات، وهذه نسبة عالية قد تصدم عددًا كبيرًا من النَّاس الذين يؤمنون بالطبيعة الثابتة.

وهناك أيضًا أمثلة أخرى من بحث كينزي الذي أجراه في منتصف هذا القرن على النِّساء والرِّجال الأمريكيين. وقد كان كينزي مهتمًّا بالسلوك الجنسي عند الإنسان، واكتشف كينزي أن النشاط الجنسي عند الإنسان، الذي يقود إلى الأورجازم، ينقسم إلى ستة أنواع رئيسية.

  • (١)

    إثارة الشخص لنفسه (العادة السرية أو الإشباع الذاتي).

  • (٢)

    الاحتلام أثناء النوم حتى الأورجازم.

  • (٣)

    مداعبات جنسية سطحية بين الجنسين حتى الأورجازم دون ممارسة العملية الجنسيَّة الكاملة.

  • (٤)

    العملية الجنسيَّة الكاملة بين الجنسين.

  • (٥)

    الجنسيَّة المثلية أو ممارسة الجنس مع الجنس نفسه (الشذوذ الجنسي).

  • (٦)

    الاتصال الجنسي بالحيوانات وفصائل أخرى.

وقد حاول كينزي أن يدرس الأنشطة الجنسيَّة المختلفة للنساء والرِّجال من مختلف الطبقات داخل المجتمع الأمريكي ومن مختلف الثقافات، وقد اتضح له أن النشاط الجنسي يختلف من طبقةٍ إلى طبقة، ومن شخص إلى شخص حسب درجة الثقافة ونوعها. ومن مكانٍ إلى مكان حسب نوع البيئة التي يعيشها الإنسان.

وبعد أن تفقَّد كينزي نتائجَ بحثه كتب يقول: «إن النتائج والأرقام التي خرجت بها من البحث تكشف عن اختلافاتٍ شديدة في الأنشطة الجنسيَّة بين الطبقات المختلفة التي تعيش في مدينة واحدة أو في حي واحد من المدينة، إن هذه الاختلافات لا تقل عن الاختلافات التي اكتشفها علماء الأنثروبولوجيا بين مختلف الأجناس في أقصى الأماكن في العالم.»

ومن أهم الاختلافات التي خرج بها كينزي هي تلك التي تتعلَّق بالعادة السرية بين مختلف المجموعات. لقد وجد أن ٩٠٪ من طلبة الجامعة يمارسون العادة السرية والاحتلام والمداعبات الجنسيَّة السطحية مع الجنس الآخر، وأن ١٠٪ فقط لهم اتصال جنسي كامل بالبنات أو النِّساء. لكن بين الشباب من الطبقات الأقل الذين لم يدخلوا الجامعة فإن ٦٧٪ منهم يمارسون الاتصال الجنسي الكامل بالمرأة كنشاطهم الجنسي الأساسي. وتختلف أيضًا نظرة النَّاس إلى النشاط الجنسي حسب طبقتهم الاجتماعية ودرجة ثقافتهم. في مجتمعنا المصري ينظر أفراد الطبقة العاملة وذوو الدخل المحدود إلى العادة السرية كانحراف جنسي يقود إلى الجنون أو العمى وأنها حرام ومخالفة للدين. وهو موقف يشبه موقف النَّاس في المجتمعات البدائية جدًّا. في الطبقات المتوسطة المتعلمة يُنظَر إلى الشاب الذي يمارس العادة السرية على أنه أفضل خُلقًا من الذي يمارس العملية الكاملة مع الجنس الآخر؛ ولذلك تنتشر العادة السرية في الأسر المتوسطة وبين المتعلمين عنها بين أفراد الطبقة العاملة. وفي الطبقات الكادحة والعاملة والأرياف تنتشر العلاقات الجنسيَّة بين الجنسين وخارج الزواج، حيث إن القيم الأخلاقية أقل تزمتًا من الطبقة المتوسطة. لقد وُجِد أنه كلما تأزَّمت الحالة الاقتصادية لمجموعةٍ من النَّاس قلَّ تمسُّكهم بالقيم الأخلاقية السائدة، وأصبحت الأولوية لسدِّ الحاجات الاقتصادية. إن الآباء في الأسر الفقيرة قد يبيعون بناتهم بالزواج وبغير الزواج من أجل سد الرَّمق.

تدل المصادر التَّاريخية على أنَّ القيم الأخلاقية لم تثبت على حال؛ فهي تتغير من عهد إلى عهد، ومن طبقة إلى طبقة، وهي ترتبط بالظروف الاقتصادية أساسًا؛ أي بالملكية والتوريث. في الطبقات الثرية ذات الأملاك، لا خوف على العلاقات الجنسيَّة إلا من حيث تأثيرها على الميراث، أين يذهب: إلى طفلٍ من صلب الرَّجل أم إلى طفل رجل آخر؟ إن الرَّجل في مثل هذه الطبقة الثرية لا يهمه أن تذهب زوجته إلى رجلٍ آخرَ بشرط ألا يكون هناك أطفال من هذا الرَّجل. والزوج أيضًا يذهب إلى نساءٍ أخريات غير زوجته بشرطِ ألا يرث أطفاله غير الشرعيين أو أطفاله من الجواري والعشيقات. بمعنًى آخر فإنَّ الحرية الجنسيَّة مكفولة لهذه الطبقة بشرط ألا تمس هذه الحرية الثروة والميراث.

أما في الطبقة الفقيرة الكادحة فإن الجوع والفقر يجعل الرِّجال والنِّساء أكثرَ انشغالًا بإشباع حاجات غريزة الأكل وغريزة البقاء أكثرَ من انشغالهم بالأخلاقيات والقيم الآتية من السماء. إن معركتهم الأساسية لا تزال فوق الأرض، وليس لديهم من الفراغ أو الجهد ما يساعدهم على الارتخاء لحظةً، والتساؤل ما إذا كان ما يفعلونه يندرج تحت الخير أو الشر، أو الفضيلة أو الرذيلة. إن كلَّ ما يسدُّ رمقهم ويحفظ حياتهم من الموت جوعًا هو الفضيلة، وإن كان هو التفريط في الجسد. إن التفريط في الحياة أهم عندهم من التفريط في الجسد. وهم لا يفرِّقون كثيرًا بين حاجة الجسد إلى الطعام وحاجته إلى الجنس. إن حياتهم أقربُ إلى الطبيعة وإلى الصدق من تعقيدات الفلاسفة من الطبقة المتوسطة.

بل إنَّ القيم الأخلاقية في الطبقة المتوسطة ليست ذات طابع فلسفي أو فكري بحت. إنها ترتكز على القيم الاقتصادية أساسًا. فالرَّجل لا يعيبه شيء إلا جيبه، وما دام جيبه ممتلئًا بالفلوس فهو يتزوج مَن يشاء ويدفع المهر، ويغيِّر زوجاته كما يشاء ما دام قادرًا على الإنفاق على بيوته وزوجاته. والمرأة لا بدَّ لها أن تتزوج رجلًا واحدًا فقط حتى يرث الأطفال مالَ أبيهم بغير منازع من طفل غريب. والمرأة التي تخون زوجَها تُعاقَب بشدة؛ لأن مال الأب هنا مهدَّد بالذهاب إلى دم رجل غريب. أما إذا كانت المرأة ذاتَ مال أو حَسَبٍ فهي قد تسيطر على زوجها بمالِها وحسَبِها، وفي هذه الحالة يغمض زوجها عينيه عن خروجها ودخولها، وقد يشتمُّ الخيانة لكنه لا يفتح فمه؛ لأنها هي التي تنفق على البيت.

تحدَّث كثير من الصُّحف في القاهرة وخصوصًا في العامين ١٩٧٤م، و١٩٧٥م عن تلك الظاهرة التي أصبحت تنتشر، وهي أنَّ كثيرًا من الأسر التي تعاني من المشاكل الاقتصادية (بسبب الأزمة الاقتصادية الراهنة) قد أصبحت تتاجر في بناتها بعقود زواجٍ شبه رسمية للرجال من البلاد العربية الثرية.

وتحدَّث كثير من الصحف في القاهرة أيضًا عن ظاهرة العنف أو العدوان التي أصبحت منتشرة في المجتمع المصري هذا العام (١٩٧٥م)؛ حوادث خطف البنات والنِّساء، وحوادث الاغتصاب، وحوادث القتل والأمواس التي أصبح يحملها عددٌ متزايد من الشباب والرِّجال.

وفي إحدى الصحف٣ ظهر برواز بالخط الأسود العريض تحت عنوان «اقتراح اليوم» يطلب: «إقامة نظام القاضي» الليلي «يُقدَّم إليه الذين يخطفون البنات أو يعتدون على رجال الأمن، أو يعتدون على النَّاس بالمطاوي فيحكم عليهم في نفس الليلة، هذا نظام موجود في بعض البلاد المتقدمة».

ولم تحاول الجريدة بالطبع أن تبحث عن أسبابِ هذه الظاهرة؛ لأنها كانت تتبنَّى في تلك السنين الأخيرة الأفكارَ الرأسمالية الاقتصادية وتساند الاتجاه الذي بدأ يقوى حينئذٍ في المجتمع المصري من أجل هدم بعض القواعد الاشتراكية في الاقتصاد المصري، هذه القواعد التي بدأت ثورة يوليو ١٩٥٢م في وضعها سنة ١٩٦٢م، والتي ما كانت تبدأ حتى تتعثر لأسبابٍ متعددة، أهمها ذلك الصراع الرهيب بين الأقلية التي تملك كلَّ شيء، والأغلبية الساحقة الكادحة التي حُرِمت كلَّ شيء حتى التنظيم السياسي الذي يمثِّلها حقيقةً ويجمعها على شكل قوة.

في هذه الفترة بالذات في السنتين الأخيرتين (١٩٧٤م، ١٩٧٥م) تأزَّمت الحياة الاقتصادية للأغلبية الساحقة من الشعب المصري، وأصبح الحصول على ضروريات الحياة كالسكر والأرز أو قطعة صابون مشكلةَ المشاكل للملايين من الكادحين والكادحات.

وبمثلِ ما يحدث في جميع المجتمعات وفي جميع الأزمنة، تبدأ الأزمة الاقتصادية أولًا ثم تتبعها أزماتٌ أخرى اجتماعية ونفسية وأخلاقية تتمخَّض عن ظواهرَ كالسرقة والاختلاس والرشوة (تكلَّمت الصحف عن هذه الظواهر التي انتشرت أخيرًا) والعنف والعدوان والإدمان، وانتشار بيع المخدِّرات وتعاطيها (وبالذات بين الطبقات الدنيا من النَّاس) كنوع من الهروب من المشاكل الاقتصادية اليومية التي يعجزون عن حلها ولا يجدون من وسيلةً للتنفيس عن عجزهم إلا رفض الواقع أو الهروب منه بالعقاقير المخدِّرة.

والذي يتابع الدراسات لمثل هذه الظواهر في العالم يكتشف الآتي:
  • (١)

    هذه الظواهر منتشرة في المجتمعات الخاضعة لنظمٍ رأسمالية متقدمة مثل أمريكا وبعض البلاد الأوروبية.

  • (٢)

    هذه الظواهر بدأت تنتشر في البلاد النامية التي تخضع للنظم الرأسمالية أو تربط نفسَها بها.

  • (٣)

    هذه الظواهر نادرةٌ في معظم المجتمعات الاشتراكية وفي بعض البلاد الرأسمالية التي تتبع بعضَ التعديلات الاشتراكية في نُظمِها الاقتصادية، بحيث تؤجِّل حدوث أزمة أو هوَّة بين أصحاب الأموال والعمال مثل المجتمعات الاسكندنافية شمال أوروبا والمجتمع الياباني والمجتمع الإنجليزي، إلا أن بعض هذه المجتمعات كثيرًا ما تواجه الأزمة أو التناقض الأساسي بين الرأسماليين والعمال، وتصبح في حاجة إلى مزيد من التعديلات الاشتراكية، أو التعرُّض لمشاكل التضخم والبطالة، ومن ثَم مشاكل العنف والجريمة والإدمان وانتشار المخدِّرات وغير ذلك من ظواهر.

والذي يدرس الظروف الاقتصادية التي يعيشها المجتمع المصري في السنين الأخيرة، وكيف ارتفعت الأسعار بشكل جنوني مع عدم زيادة الأجور، ونشاط تجار السوق السوداء والتهريب والسرقة والرشوة، ومئات الطوابير من الفقراء والكادحين الواقفين بالساعات أمام الجمعيات للحصول على علبة شاي أو قطعة صابون أو كيلو سكر، وكيف صاحبَ ذلك هذه الظواهر من عنف وإجرام، وأيضًا كيف انتشرت المخدِّرات وبيع الحبوب المخدِّرة، ليدرك الارتباط بين العوامل الاقتصادية والظواهر المَرضية النَّفْسية والاجتماعية.

لكنَّ الربط بينهما يكشف عن الأسباب الحقيقية لهذه الظواهر، ومن ثَم الخطورة أو التهديد الذي يمكن أن تتعرَّض له الأقلية التي تملك وتسيطر.

وهذا هو السَّبب في أن الربط لا يحدث، والتفسير الحقيقي لهذه الظواهر لا يتم، وإنما نقرأ تفسيراتٍ تبعد الأذهانَ عن الأسباب الحقيقية، فيكتب البعض أن العنف أو العدوان ينبع من داخل المخ، وعلاجه هو علاج المخ بالكهرباء. أو يقول بعض الأطباء (غير الواعين بالعوامل الاقتصادية) إن الإدمان مرضٌ نفسي بسبب مرض خلايا المخ، والعلاج هو تسليط موجات الكهرباء على رأس المدمن.

وضمن هذه الاجتهادات أيضًا القول بأن العنف والعدوان يرجع إلى انتشار الحبوب المخدِّرة،٤ أو أن انتشار المخدِّرات أدَّى إلى انتشار العدوان والجرائم، وهكذا … يدور النَّاس في فلك الظواهر في حلقةٍ مفرغة، وتنفصل الأسبابُ عن ظواهرها أو تنفصل المسبِّبات عن السببيات ويتوه العلاج بينهما.

وقد انتشرت المخدِّرات والمنبِّهات في العالم الرأسمالي في السنوات الأخيرة انتشارًا شديدًا بين الشباب إلى حدِّ أنها أصبحت تمثِّل خطرًا من أخطار الصحة النَّفْسية العامة. وخرج عدد من العلماء الذين درسوا مشاكل الإدمان بأن هذه الظاهرة ليست مرضًا في نفوس الشباب وعقولهم، ولكنها ظاهرة لمرض اجتماعي واقتصادي خطير جعل الشباب يؤمنون بفساد الحكام وفساد النظم والقوانين داخل الأسرة وفي المدارس وفي أماكن العمل.

وقد أصبح المجتمع الأمريكي بالذات (كأكبر مجتمع رأسمالي في العالم) مهددًا بثورات الشباب والنِّساء والزنوج، وأصبح الإدمان وإقبال الشباب من الجنسين على المخدرات والمنبهات إحدى مشكلاته الاجتماعية والرئيسية تليها مشكلة العنف والجرائم التي أصبحت تتم في النهار أيضًا.

وقد أوضحت الدراسات أن مثل هذه المشكلات الاجتماعية تنتج عن مشكلات اقتصادية بسبب ازدياد معدل التضخم (أكثر من ١٠٪ عام ١٩٧٤م)، وازدياد معدَّل البطالة (أكثر من ١٠٪ سنة ١٩٧٤م أيضًا)، وهذان المعدَّلان يكشفان عن أزمة الاقتصاد الرأسمالي القائم على المِلكية الخاصة، الذي تنفجر أزمته من حين إلى حين بسبب اتساع الفجوة المستمرة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.

حينما زرتُ الولايات المتحدة في ديسمبر سنة ١٩٧٤م شهدتُ بعض مظاهر هذه الأزمة، كان التليفزيون في مدينة نيويورك لا يكف عن عَقد الندوات التي تبحث أزمةَ البطالة الشديدة التي حدثت هذا العام ونتج عنها إخراج العديد من الرِّجال والنِّساء من أعمالهم. وبالمثل كان علماء النفس يبحثون أسبابَ انتشار الجرائم. ولم يكن معظم العلماء ينتبهون إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة التي أدَّت إلى صراعٍ حادٍّ بين العمال والرأسماليين ترتَّب عليه تضخُّم في الأسعار وبطالة بين العمال، ولكنهم كانوا يحاولون إثبات أن مركز العدوان في المخ. والسؤال الذي لم يتناولوه هو: لماذا ينشط هذا المركز في مجتمعاتٍ ويضعُف في مجتمعاتٍ أخرى؟ لماذا تتمتَّع بعض المجتمعات بالأمن والسلام والتعاون بين البشر، وتقوم بعض المجتمعات الأخرى على العنف والقتل والعدوان؟ لقد اشتهر المجتمع المصري مثلًا بأنه مسالِم لا يعشق الحرب، فهل معنى ذلك أن خلايا العدوان في أمخاخ المصريين ضعيفة أو غير موجودة؟ وإذا انتشرت ظاهرة العنف والعدوان هذه السنين الأخيرة فهل معنى ذلك أن تنشيطًا ما حدث في خلايا مخ المصريين بسبب تغيُّرات أثيرية في الجو أو قوًى مجهولة في السماء؟!

إنَّ الصراع الدائر في هذه الحضارة الرأسمالية الرجولية ليس صراعًا بين نوعين من الأفكار؛ أفكار حقيقية وأفكار غير حقيقية، ولكنه صراع بين نوعين من النَّاس؛ نوع معه السُّلطة والمال، ونوع مضطهَد ينشد التحرُّر من السلطة ومن الفقر. ومن الطبيعي حينما تكون السلطة والمال في قبضة الأقلية القليلة فإنها لا تتمكن من حماية سلطتها ومالها إلا بالقوة والقهر والعدوان والضرب بيدٍ من حديد على كلِّ مَن يهدِّد سُلطتها أو مالها.

يقول بعض العلماء الأمريكيين إن السلوك العدواني يحدُث للإنسان بسبب نشاط بعض خلايا المخ، وإنه يمكن علاج العدوان باستئصال جزء من المخ بجراحة، أو إضعاف مركز العدوان في المخ بالعقاقير أو الأجهزة الإلكترونية، ويدعم هؤلاء العلماء رأيهم بتجاربَ معملية على خنازير ونسانيس وأسود ورجال مجرمين داخل السجون. إحدى التجارب تقول إن جزءًا من مخ الرَّجل المجرم استؤصل بالجراحة فأصبح الرَّجل من بعدها مسالمًا غيرَ ميال للإجرام. وأيضًا هناك العقاقير التي تقوم مقام الجراحة من حيث إبطال عمل بعض خلايا المخ أو وسائل كالكهرباء أو الأجهزة الإلكترونية.

من المعروف أن هناك أمراضًا عضوية تحدُث لبعض خلايا المخ وتسبِّب انحرافاتٍ جنسية أو تخلفًا عقليًّا أو انحرافًا في السلوك كالإجرام. لكنها حالات قليلة جدًّا، وتحتاج في علاجها إلى الوسائل السابقة من حيث الأدوية أو الجراحة أو غيرهما.

لكن من المعروف أيضًا أن السلوك العدواني حينما يصبح ظاهرةً فإنه يشمل أعدادًا كبيرة من النَّاس، وأن المشاكل الجنسيَّة والنَّفْسية حينما تصبح منتشرةً بين الرِّجال والنِّساء والشباب فإن ذلك يعني أن هناك أسبابًا في المجتمع وفي الأسرة وفي التربية تؤدي إلى انتشارِ مثل هذه الظواهر المَرضية.

وقد أثبت عددٌ من العلماء — ومنهم الدكتور ميكالو ساكون، ولينج، وكوبر، وزاس، ورايخ — أن الأسباب الحقيقية للعدوان ليست في خلايا المخ، وإنما في الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها النَّاس، وأن علاج العدوان يجب ألا يوجَّه إلى رأس الرَّجل وإنما إلى المجتمع والأسرة التي يعيش فيهما هذا الرَّجل.

وقد اتضح أن مناخ الأسرة الأبوية بكلِّ ما فيها من علاقاتٍ غير متساوية بين الأب والأم وبين الكبار والأطفال تنبت البذور الأولى للعدوان في نفس الطفل.

ومن أجل التبسيط في الشرح والتوضيح يمكن لنا أن نستخدم التعريفَ العلمي التقليدي لمعنى العدوان في علم النفس، وهو يُعرف على أنه نوع من الطاقة النَّفْسية التي تساعد الإنسان على أن يميز نفسَه كفرد مستقل. بمعنًى آخر أنه الدافع وراء رغبة الإنسان في تأكيد ذاته، أو الرغبة في القوة، أو الرغبة في أن يصبح الإنسان في نظر نفسِه فردًا مستقلًّا منفصلًا عن الآخرين. ويقول علماء النفس إن كَبْتَ هذه الرغبة في الطفل يوقف نموَّه النفسي، وحين يكبر ليصبح رجلًا يظل يشعر بالنقص، وبأنه شخص بلا شخصية مستقلة، وبلا وجود، وأنه لا شيء أو لا أحد، يعيش كالظل أو كظل الآخرين.

ويمكن القول إن الطفل (ذكرًا أو أنثى) يشعر منذ البداية الأولى لحياته بدافع إلى تحقيق الذات، والبحث عن شخصيته المستقلة وتفرُّده كشخص، وأن هذا الدافع لا يقل قوةً عن الدافع إلى الجنس. إن إحدى صفات الأطفال المميزة أنهم يميلون دائمًا إلى إثبات ذواتهم، وأن جزءًا كبيرًا من خيالهم الطفولي يمتلئ بتلك الرغبات والتصوُّرات مثل: أنا كبير، أنا قوي، أنا أستطيع أن أفعل أيَّ شيء.

ويشعر معظم الأطفال أن البيت سجنٌ كبير، وأن الأهل هم السجَّانون. وتختلف درجةُ هذا الشعور باختلاف عقلية الآباء والأمهات. على أنَّ الأسرة الأبوية التقليدية ترسِّب هذا الشعور في نفوس معظم الأطفال بسبب الكبت والتربية الصارمة القائمة على سلطة الأب المطلقة.

ويحاول معظم الأطفال كسْرَ القيود والفِكاك من هذا السِّجن، يساعدهم في هذه المحاولات ذلك الدافع الإنساني إلى تحقيق الذات المنفردة والاستقلال. إنها محاولة صعبة ينجح فيها بعض الأطفال ويفشل البعض الآخر، يتوقَّف النجاح أو الفشل في نهاية الأمر على مدى سيطرة الأب ومدى استخدامه لسلطة الأب المطلقة التي تخوِّل له أن يمتلك أطفاله (وزوجته) كما يمتلك ملابسه الداخلية. إنَّ القوانين التي تحكم الأسرة الأبوية في حضارتنا الذُّكورية الحديثة تمنح الأب السلطةَ المطلَقة على زوجته وأطفاله، وتفرض على هؤلاء الطاعةَ العمياء والخضوع الكامل وإلا تعرَّضوا للبطش أو الطرد وعدم الإعالة.

وقد وُجِد أنه كلما زادت سيطرةُ الأب زادت معها رغبةُ الطفل في الإفلات من هذه القبضة والتحرُّر من هذه السلطة، ومن هنا ازدياد الرغبة العدوانية عند الطفل من أجل التحرُّر والاستقلال والانفصال عن أبيه.

ويكبر الطفل وينمو، وفي عملية النمو يزداد إدراك الطفل بقوَّته، وفي الوقت نفسه تتضاءل في نظره قوة أبيه. وهكذا يكبر الطفل وينضج ويستقل عن طريق ازدياد قوَّته مع الانخفاض المستمر لقوة أبيه.

لكن هناك من الآباء مَن يقاوم النموَّ الطبيعي للطفل، هؤلاء الآباء الذين يصرون على أن يظلوا أقوياءَ مسيطرين إلى الأبد، والذين إذا ما أحسُّوا لحظةً أن هذه القوة أو هذه السيطرة قد مسَّها أو خدشها — من قريب أو من بعيد — ابنٌ أو ابنة أو زوجة فإنهم سرعان ما يُبرِزون أسلحتهم حفاظًا على رجولتهم وذكورتهم وسلطتهم الأبوية الممنوحة لهم من قِبَل المجتمع والحضارة بغير قيد ولا شرط.

مثل هؤلاء الآباء (وما أكثرَهم) يعطِّلون نموَّ أطفالهم ويَحولون دون استقلالهم الكامل، ويحمل هؤلاء الأطفال معهم (بعد أن يكبروا) قدرًا كبيرًا من العدوان يقابله قدرٌ مماثل من الاعتماد على الغير وعدم الاستقلال. ولهذا نجد أن الرَّجل العدواني يميل في حقيقة الأمر إلى الاعتماد على غيره. وتظهر حقيقة هؤلاء الرِّجال في علاقاتهم العاطفية والجنسيَّة، وهي أكثر العلاقات كشفًا لحقيقة الإنسان. إنَّ الرَّجل من هؤلاء يتعامل مع المرأة التي يحبها أو يرغبها كما يتعامل الطفل مع أبيه، إنه لا يعرف في علاقته بها إلا واحدًا من اثنين؛ إما أن يُخضعها وإما أن تُخضعه، وإما أن يؤلمها وإما أن تؤلمه. ومن هنا تنشأ السادية والماسوشية. مثل هؤلاء الرِّجال يعجزون عن الحب المتبادَل القائم على التساوي في الأخذ والعطاء، وليس فيه خضوع ولا إخضاع؛ فالحب علاقةٌ سوية تقوم على الحرية والإرادة والثقة بالنفس والاستقلال.

لكن الرَّجل العدواني لا يشعر بالأمان في مثل هذه العلاقة السوية الحرة. إنه يشعر بأمان أكثرَ في ظل العلاقة الأخرى التي تقوم إما على الإخضاع، فيصبح هو الطرف الأقوى المسيطر، وتمنحه السيطرة نوعًا من الأمان. أو العلاقة التي تقوم على الخضوع، فيصبح هو الطرف الخاضع ويشعر بالأمان؛ لأنه سلبي يعتمد على الطرف الآخر، ولا يتحمل عبءَ شيء.

ويمكن القول إذن إنَّ العلاقات السادية الماسوشية هي إعادة خَلْق العلاقات الطفولية بحيث يلعب أحدُ الطرفين دورَ الطفل، ويلعب الطرف الآخر دورَ الأب. إنها أحد مظاهر عدم النضوج وتعطل نمو الشخصية بسبب سيطرة الرَّجل المطلقة في ظل النظام الأبوي الذي هو العمود الفقري للحضارة الحديثة المعاصرة.

ومن المعروف أن القيم الأسرية والاجتماعية والأخلاقية التي نعيشها والتي ترتكز على نكران الجنس (ولو ظاهريًّا) ترسِّب في نفوس الأطفال إحساسًا بالنقص وإحساسًا بالذنب. ولو عُدْنا إلى ما شرحناه عن السادية والماسوشية لوجدنا أن السادية هي نوعٌ من التعويض أو التنفيس عن إحساس بالنقص وإحساس بالذنب. كما أن الماسوشية نوعٌ من التعويض أو التنفيس عن الإحساس بالذنب. وكأنما يقول الماسوشي لنفسه: ليس لي ذنبٌ فيما يحدث لأنه يحدث رغم أنفي وبالقوة القاهرة وبالألم الذي أشعر به الآن. إن لذة الماسوشي تزيد بمقدارِ ما يحس أنه غير مسئول، وأن لا يدَ له فيما يحدث من إثم. بمعنًى آخر تزيد لذة الماسوشي بمقدارِ ما يعود طفلًا ليس عليه أن يتخذ أيَّ قرار، أو يتحمَّل مسئولية اختياره أو إرادته الواعية. إن الطرف الآخر يصبح في نظره السلطةَ المطلقة التي كلما ناله منها العقاب زال شعوره بالإثم وتحرَّر من الإحساس بالذنب. ومن هنا تحدُث إثارته الجنسيَّة.

أي إن العقاب يزيل عن الماسوشي الإحساسَ بالذنب، ويصبح قادرًا مرةً أخرى على معاودة الإثم ثم ينال العقاب الذي يمسح عنه الإثم، فيعود إلى مزاولة الإثم مع العقاب الذي يمسحه، وهكذا يدور في الدائرة المفرغة.

ومن هنا ندرك أنَّ السُّلطة المطلَقة التي تثير في الشَّخص الرغبةَ في اللَّذة والعقاب معًا تشعل في النَّاس الإثارةَ الجنسيَّة وفي الوقت نفسه تنهى عنها بشدة. وهذا التناقض هو الذي يفسِّر ظاهرةَ انتشار التجارة الجنسيَّة والأفلام والفنون الآداب الجنسيَّة الرَّخيصة، ويفسِّر أيضًا أنَّ هذه التِّجارة الجنسيَّة كثيرًا ما تشتمل على صورة خيالية شديدة السَّادية، منها نساء يضربن الرِّجال بالسياط، أو رجال أشداء يغتصبون نساء، وإثارة استعذاب السُّلطة والإخضاع والاستعباد أو الخضوع والعبودية والمَذلة.

مثل هذه التجارة الجنسيَّة تخفِّف عن النَّاس بعضَ الشيء من التوتُّر الجنسي المصحوب بالإحساس بالذنب؛ لأنهم يجمعون في خيالهم الصورتين معًا؛ صورة العشيقة المشتهاة (أو العشيق) مع صورة الأب المسيطر صاحب السلطة.

وتلعب الأم المسيطرة أيضًا الدورَ الذي يلعبه الأب المسيطر في تشويه حياة أطفالها الجنسيَّة من الذُّكور والإناث، لكن سلطة الأم في ظل الأسرة الأبوية وسيطرة الأب لا تكون موجودةً في معظم الحالات. إما أن الأمَّ في الأسرة الأبوية قد فرغت للزواج والأمومة فهذا يدفعها إلى المبالغة في الحب والالتصاق بأطفالها مما يعطِّل أيضًا نموَّهم النفسي واستقلالهم، ومما يفسد أيضًا حياتهم الجنسيَّة فيما بعد.

عرفنا مما سبق أن الرَّجل السادي أو الماسوشي رجلٌ عجز عن الوصول إلى النضوج، بمعنًى آخر أنه عجز عن التحرُّر من إحساسه بالذنب أو النقص. إنه يعجز عن ممارسة الحب الحقيقي، ويعجز عن الوصول إلى قمة اللَّذة (الأورجازم) من خلال علاقةٍ عاطفية جنسيَّة سوية. ومن المعروف أنَّ هذه القدرة، قدرةَ الإنسان على الوصول إلى قمَّة اللَّذة (الأورجازم)، تعتمد أكثرَ ما تعتمد على قدرة الإنسان على أن «يُعطيَ نفسه» عطاءً كاملًا في لحظة معينة، بمعنًى آخر قدرة الإنسان على أن يترك نفسَه للآخر تمامًا، أن يترك جسده ونفسَه معًا، أن يفقد ذاته أو وجوده في تلك اللحظة بغير خوف أو قلق.

وقد لوحظ أن الرِّجال غير الناضجين لا يحصلون على هذه القدرة. إنَّ خوفهم أو قلقهم (بسبب أحاسيس النقص والذنب) يَحول بينهم وبين الارتخاء الكامل بين ذراعي المرأة. إن الرَّجل منهم يظل مشدودَ العضلات، خائفًا من تلك اللحظة التي يمكن أن يعطيَ فيها نفسَه وجسده عطاءً كاملًا. إنه يخشى (بسبب عدم ثقته في نفسه) أنه لو أعطى نفسَه عطاءً كاملًا فسوف يعجز عن استردادها. ويزيد هذا الخوف بازدياد عقدة الخوف عند الرجل. ولهذا يحاول الواحد منهم أن يعطيَ جزءًا من جسده ويحتفظ بالباقي كنوع من صِمام الأمان الذي يساعده على استردادِ ما أعطاه مرةً أخرى. معظم هذا النوع من الرِّجال يمارسون الجنس مع النِّساء بأعضائهم التناسلية فقط، أمَّا بقية أجسادهم وعقولهم ونفوسهم فتصبح كالحارس أو رجل البوليس الذي قد يتدخَّل عند اللزوم من أجل الحماية أو العدوان حسب الظروف.

إن مثل هؤلاء الرِّجال شديدو اليقظة خوفًا من ضياع ذواتهم، شديدو الحساسية، سريعو العدوان لو أن أحدًا مسَّ — من بعيد أو قريب — ذواتهم أو كرامتهم. إنهم يدركون في أعماقهم أن ذواتهم هشة، وأن كرامتهم هشة، وأن أيَّ خدش لهذه الذات أو هذه الكرامة خليقٌ بأن يجعلها تنهار سريعًا وتصبح رمادًا تذروه الريح.

هؤلاء الرِّجال يمكن التعرُّف عليهم بسهولة من عضلات وجوههم المشدودة. وهم أيضًا يعانون من الإمساك المزمن بسبب عضلات أمعائهم المشدودة دائمًا، وعجزهم عن الارتخاء أثناء قضاء الحاجة.

هذه التفرقة تفسد شخصيةَ الاثنين معًا، الولد والبنت، وهي تَحول دون نضوج أيٍّ منهما. إنَّ المبالغة في إشعار الولد بذاته وذكورته تصيبه بعقدة النقص؛ لأنه يحس في أعماقه أنه أقلُّ من الصورة التي يصنعونها له. وإن المبالغة في حثِّ البنت على الانطواء والانكماش والسلبية (باسم الأنوثة والرقة) يصيبها بعقدة العظمة؛ لأنها تحس في أعماقها أنها أفضلُ من الصورة التي يصنعونها لها. وقد علمنا أن عقدةَ النقص مثل عقدة العظمة هما وجهان لعملة واحدة، مثلهما مثل السادية والماسوشية سواءً بسواء. إنَّ الولد الذي يشعر بعقدة النقص يشعر في الوقت نفسه بعقدة العظمة كتعويض، وكذلك البنت التي تشعر بعقدة العظمة تشعر في الوقت نفسه بالنقص.

إنَّ حياة الأطفال، ذكورًا وإناثًا، وسط مناخ الأسرة الأبوية، حيث العلاقة غير متكافئة بين الأب والأم، والتربية الشائعة القائمة على التفرقة بين البنت والولد، كلُّ هذا يسبِّب تلك المشاكل النَّفْسية والجنسيَّة التي يعاني منها الرِّجال والنِّساء في مجتمعنا.

إنَّ من أهم مقوِّمات الصحة الجنسيَّة وسلامتها وقدرتها على إحداث اللذة والسعادة المطلوبة هي أن يكون الإنسان قادرًا في لحظة من اللحظات أن ينسى ذاته، أن ينسى «الأنا». إنَّ القدرة على نسيان «الأنا» أو إلغائها تمامًا في هذه اللحظة هي أهمُّ أسباب الوصول إلى قمة اللذة (الأورجازم) التي بدونها لا يتحقق الإشباع الجنسي الكامل، وبالتالي التمتُّع بالصحة الجنسيَّة.

إن إلغاء «الأنا» أمرٌ خطِر بالنسبة للرجل غير الناضج؛ لأنه لا يستطيع وحدَه تحمُّل مسئولية هذا الإلغاء، والأسهل له أن يعطيَ هذه المسئولية لشخص آخر أو سلطة أخرى أو إرادة غير إرادته، إنه في حاجة دائمًا إلى هذه الإرادة الأخرى من أجل أن تراقبَه وتحميَه حين يفقد هو إرادته. إنه يشعر بالأمان والطمأنينة حيث يعطي نفسه إذا ما سمحت السلطة الأخرى بذلك، كالطفل الذي يشعر بالأمان إذا ما أذِن له الأب، ويصبح الأب هو المسئول عن فعلِ الطفل وليس الطفل نفسه. ومن هنا يتضح أن الرَّجل الماسوشي ينشد (بالإضافة إلى التخفيف من عبء الإحساس بالذنب) أن يضرب عصفورين بحجر واحد، ذلك أن يكون في حالةٍ من الاستمتاع الجنسي ومن الإحساس بالأمان في وقت واحد. وهو يحقِّق هدفه هذا بأن يجعل الشخص الآخر مسيطرًا على الموقف كله.

أما الرَّجل السادي فهو يكاد يكون عكس ذلك، إنه في حاجةٍ إلى أن يشعر أنه مسيطر على الموقف كله قبل أن تتحقَّق له اللذة الجنسيَّة. وإذا قلنا عن الرَّجل الماسوشي إنه يسلِّم زمامَ الموقف كله للشخص الآخر ويُخرج نفسَه منه، فإن الرجل السادي يأخذ زمامَ الموقف كله ويُخرج المرأة منه. إن وراء هذه الرغبة السادية في السيطرة الكاملة على الموقف (بدون مشاركة الطرف الآخر) إحساسًا داخليًّا عميقًا بالضَّعف، وهذه الرغبة السادية ليست إلا محاولة للتعويض عن هذا الضَّعف. إن الرَّجل السادي لا يحتمل أن يعطيَ المرأة أيَّ قوة؛ لأنه يخشى لو أعطاها شيئًا من القوة فسوف تؤلمه أو تخصيه أو تحطِّمه وتسحقه.

وهذا هو ما يفعله الخوف بالرَّجل، الخوف الذي ترسَّب في نفسه منذ الطفولة. ومن المعروف أن الإنسان حين يخاف فليس أمامه إلا أحد أمرين:
  • (١)

    إما أن يستسلم تمامًا، وبهذا الاستسلام الكامل ينزع عدوُّه سلاحه، وتلجأ الحيوانات إلى هذه الطريقة لمواجهةِ ما هو أقوى منها.

  • (٢)

    وإما أن يجرِّد الإنسان عدوَّه من كل الأسلحة ويجعله عديمَ القوة بحيث لا يستطيع أن يؤذيه.

والرَّجل السادي يختار (أو تُفْرَض عليه) الحالة الثانية، أما الرَّجل الماسوشي فيلجأ إلى الحالة الأولى، وهي الاستسلام الكامل.

لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن الإيلام، أو إحداث الألم في حد ذاته ليس هو هدف الرَّجل السادي. إنَّ كثيرًا من الصور السادية التي يتخيَّلها الرِّجال هي مجرد أن تصبح المرأة بغير حول ولا قوة، وأن تكون تحت رحمته تمامًا يفعل بها ما يشاء. وكم تمتلئ الأفلام والقصص الجنسيَّة بهذه الصورة السادية! بل كثيرًا ما تتعدى هذه الصور الحياةَ الجنسيَّة إلى نواحٍ أخرى من الحياة مثل السياسة أو الرياضة أو الفنون. وكم يشعر الرِّجال بلذة خفية حين يرون امرأةً مقيَّدة بالحبال أو مضغوطة في جدار أو مهشَّمة العظام، وكم يشعر الرِّجال بلذة وهم يشاهدون المباريات الرياضية العنيفة أو التعذيب السياسي. إن الخوف الملازم لحياة الطفل بسبب العلاقات غير المتكافئة داخل الأسرة الأبوية وخارجها في المجتمع الذُّكوري القائم على انتصار الأقوى على الأضعف والأكبر على الأصغر، هذا الخوف هو السَّبب الحقيقي وراء سادية الرَّجل.

إنَّ الرَّجل السادي حين يجرِّد المرأة من قوَّتها لتصبح بلا حول ولا قوة، إنما يخلق موقفًا يشعر فيه أنه قادر على أن يفعل بها ما يشاء، سواء رغبت هي أو لم ترغب. بمعنًى آخر، إن الرَّجل السادي يتشكك في أن المرأة يمكن أن ترغبه طواعيةً بمحض اختيارها وكامل حريتها؛ ولهذا فإن عليه أن يحصل بالقوة والإجبار على ما يحصل عليه الرَّجل الناضج بسهولة طبيعية وحرية.

لا يستطيع الرَّجل السادي أن يحصل على لذَّته الجنسيَّة إلا حينما يشعر أنه المسيطر تمامًا، وأن المرأة أصبحت بالكامل تحت رحمته. في هذه الحالة فقط يتلاشى خوفه من المرأة. وحينما يتلاشى خوفه يصبح قادرًا على الإحساس باللذة.

قال لي أحد الأزواج من هذا النوع السادي: إنه يعاني حرمانًا شديدًا من اللذة الجنسيَّة؛ لأن زوجته قوية الشخصية ولا تعرف كيف تستسلم له تمامًا وتصبح في العملية الجنسيَّة تحت رحمته. وهذا هو السَّبب في أنه يذهب إلى مومس تستطيع أن تلهب رغبتَه الجنسيَّة حينما تتظاهر بالإغماء وتهمس له قائلة: «افعل بي ما تشاء!»

وحينئذٍ فقط يكتشف الزوج فحولته الجنسيَّة.

وقد ذكَّرتني حالة هذا الزوج ببعض الأفلام الجنسيَّة التي شاهدتُها في السويد وبعض البلاد الغربية الأخرى. كانت معظم هذه القصص تدور حول مشاكل جنسية بين الزوجين بسبب عناد الزوجة أو تكبُّرها أو رغبتها في التساوي مع الرَّجل. ويحاول الرَّجل أن يُخضعها دون جدوى، وأخيرًا يأخذ الرَّجل زوجته العنيدة إلى إحدى المؤسَّسات الجنسيَّة الحديثة حيث تتدرَّب الزوجة على كيفية الاستسلام والخضوع لزوجها.

ويشتمل هذا التدريب على صورة متكررة من الاعتداء على الزوجة بالقوة والضرب والإذلال. وفي نهاية الفيلم تبدو الزوجة وقد أصبحت أنثى عظيمة الأنوثة ماهرة في إغراء زوجها وإشباعه جنسيًّا بعد أن تتدرَّب على الخضوع واستعذاب العبودية.

إنَّ الرَّجل السَّادي وبالرَّغم من عدوانه الظَّاهري على المرأة إلا أنه في حقيقة الأمر يرغب أو يأمل في أن تستمتع المرأة بالألم الذي يحدثه لها. ومعنى ذلك أنَّ رغبته الحقيقيَّة ليست هي الإيلام، وإنَّما إحداث اللَّذة والاستمتاع. ومن أهم المشاكل التي تواجه الرِّجال السَّاديين والرِّجال الماسوشيين هي صعوبة حصولهم على المرأة التي يشعرون معها أنَّها فعلًا تحصُل على اللَّذة بهذه الطَّريقة السَّادية أو الماسوشية، وهذا هو السَّبب في أنَّ هؤلاء الرِّجال لا يجدون أمامهم إلا المرأة المومس التي تدَّعي على الأقل أنَّها مُستمتعة، والتي لا يمكن لها أن ترفض ما يفعله الرَّجل معها نظيرَ ما دفعه من المال. وهناك أيضًا عدد غير قليل من الزوجات (بسبب القهر داخل الأسرة الأبوية ولأنها تحتاج إلى إعالة الزوج وتخشى الطلاق) هؤلاء الزوجات يتظاهرن بالاستمتاع مع أزواجهن، وهن في حقيقة الأمر يشعرن بالضيق أو الغثيان.

١  انظر: K. J. Eysenck, Uses and Abuses of Psychology. Pelican: 1962. p. 179.
٢  انظر: Elizabeth Thomas. The Harmless People. Secher and: Warburg. 1959.
٣  انظر جريدة الأخبار الصادرة بالقاهرة صباح يوم ٢٥ أغسطس ١٩٧٥م، الصفحة السادسة، في برواز خاص بعنوان «اقتراح اليوم».
٤  انظر جريدة الجمهورية، ٢١ أغسطس ١٩٧٥م، الصفحة الخامسة، تحت عنوان: «الحبوب المخدِّرة وراء حوادث العنف الأخيرة». وجريدة الأهرام، ١٨ أغسطس ١٩٧٥م، الصفحة الثالثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤