الرَّجل والشُّذوذ الجنسي
لعلَّ أهمَّ سلاح لجأ إليه الذَّكر البدائي في حربه على الأنثى البدائية كان هو عضوه الذكري. وقد أدرك الرَّجل أنَّ المرأة تملك القدرةَ على خلق الحياة، وهي التي تسيطر على الحياة بالطبيعة، فأضمر لها الخوف والكراهية معًا، حتى حانت الفرصة فانقضَّ عليها وعزلها عن عرشها. ولم يكن يملك في ذلك الوقت من أسلحة سوى عضوه الذكري، ولهذا قيل إن حادث الاغتصاب هذا كان حادثًا جنسيًّا انتقلت فيه السلطة من المرأة إلى الرَّجل لأسبابٍ لا علاقة لها بالشهوة الجنسيَّة أو الحُب، وإنما لأسبابٍ اقتصادية متعلِّقة بالأرض والنَّسب والإرث.
ومنذ ذلك العهد بدأت تظهر الرسومات والتماثيل التي تمجِّد عضو الذكر بعد أن كانت هذه الرسومات تصوِّر المرأة وأعضاءها ككائنات ضخمة قوية إلهية، وإلى جوارها الذكر ليس إلا عضو تناسل صغيرًا. وفي آثار قدماء المصريين بعد أن كانت المرأة تُصوَّر بحجمٍ مماثل لحجم الرَّجل أو أكبر منه أصبحت تُصوَّر بحجمٍ أصغر من الرَّجل.
أما الفن اليوناني القديم فلم يفرِّق بين الرَّجل والمرأة، واعتبر الجمالَ صفةً منفصلة عن الذُّكورة والأنوثة، لم يكن الذُّكور يسيطرون على المجتمع، وكانت النِّساء قويات، وقد سيطرن على الحكم فترةً من الزمن، وصوَّر اليونانيون القدامى إلهَ الجنس «إيروس» في صورة جسم متناسق الأعضاء يشتمل على أعضاء الذكر والأنثى معًا.
لكن سرعان ما تغيَّرت نظرة اليونانيين الفنية بعد أن سيطر الرِّجال على المجتمع، وأصبح الفن يركِّز على عضو الذكر. وانتشر الاعتقاد بأن عشق الرَّجل للرجل أعلى قدرًا من عشق الرَّجل للمرأة، وعبدَ اليونانيون ذكورتهم وبالذات العضو الجنسي. وكانوا يفخرون بأن عشق الرَّجل للرجل كان يمارسه أجدادهم الأوائل «الدوريان»، وفي كل عام يقيمون كرنفالًا ضخمًا سُمِّي «ديونيسيوس»، وكان كرنفالًا ذكريًّا خالصًا لا يحضُره إلا الذُّكور فقط حيث يجتمعون معًا ويعبدون عضوهم الذكري في هذا المهرجان الضخم.
وقد كان أفلاطون نفسه شاذًّا جنسيًّا، وكتب في «محاوراته» على لسان أرستوفان أن الرِّجال الذين يَهَبون أنفسهم للشذوذ الجنسي جسدًا ونفسًا هم من الذين يَصلحون للحكم فقط. ويفرِّق أفلاطون بين نوعين من الحب؛ الحب المدنَّس وهدفه الوحيد الإشباع الجنسي، والحب المقدَّس وهو التوافق الروحي والفكري، ولا يمكن أن ينشأ إلا بين الرِّجال. وبهذا لم يكن للنساء مكانٌ في الحب الأفلاطوني ولا في مدينته الفاضلة! وهكذا يستطيع الرَّجل دائمًا أن يضع ثوبَ الفضيلة والقدسية على كل رغباته حتى الشاذة منها. أمَّا المرأة فإن رغباتها الطبيعية مدنَّسة لمجرد أنها امرأة.
وكان «مايكل أنجلو» شاذًّا جنسيًّا. ويقال إن هذا هو السَّبب في أنه كان في رسومه يضخِّم عضو الذَّكر تضخيمًا ليس له مثيل في العالم الفني.
وقد انتشر الشذوذ الجنسي بين الرِّجال في العصور الوسطى، وزاد في الفترات التي حُقِّرت فيها المرأة، أو نادى فيها رجال الكنيسة بالصوم الجنسي وتحريم الاتصال بالأنثى تشبهًا بالمسيح الذي لم يلمس امرأة، أو تشبهًا بالعذراء التي لم يلمسها رجل. وفي هذه الفترات التي اشتدَّت فيها الدعوة إلى الامتناع عن النِّساء كان الانجذاب نحو الرِّجال يبدو وكأنما هو أقلُّ خطيئة. وقد انتشر الشذوذ الجنسي بين الرِّجال، وبالذات رجال الكنيسة الذين حرَّم القانون عليهم الزواج.
في بداية انقشاع ظلام العصور الوسطى وانفتاح العقول قليلًا بعد بدء الثورة الصناعية وتشجيع المجتمع الزواجَ لزيادة عدد السكان تلبيةً لحاجات الصناعات الجديدة الناشئة، لم يَعُد يهمُّ المجتمع كثيرًا كيف يجيء الأطفال (من زواجٍ شرعي أو غير شرعي)، المهم أن يزدادَ عدد الأطفال بأي شكل. ولهذا زاد الأطفال الشرعيون وغير الشرعيين، ولهذا لا يكاد يعرف التاريخ اسمَ رجلٍ بارز إلا ويجد له طفلًا غيرَ شرعي؛ بل إن معظم البارزين في ذلك العصر كانوا أنفسهم أبناءً غير شرعيين مثل بوكاشيو وليوناردو دافنشي وأرتينو وجورجيون وغيرهم. ولم يكن للابن غير الشرعي أن يرِث شيئًا عن أبيه. وكان هؤلاء جميعًا رجالًا مكافحين أرادوا أن يعوِّضوا بفنِّهم وفكرهم ما فقدوه من ثروة الأب. ولم يكن هؤلاء الأبناء غير الشرعيين يفقدون شيئًا إلا الميراث، أما الشرف الاجتماعي فكان لهم مثل إخوتهم الشرعيين، والسَّبب في ذلك أن الملوك ورجال الكنيسة كان لهم جميعًا من الأبناء غير الشرعيين أكثر مما لهم من الأبناء الشرعيين.
وقد اصطدمت حاجات المجتمع الجديدة بالأفكار الدِّينية التي تؤمن بها الكنيسة، لكن الصراع سرعان ما أسفر عن انتصار الأفكار الجديدة المتصلة بالحاجات الاقتصادية والاجتماعية وانهزمت الكنيسة، واضطُرت، حتى لا تعترف بالهزيمة صراحةً، أن تطوِّر في أفكارها بحيث تعترف بالقيم الجديدة دون أن يفقد النَّاس إيمانهم بها.
وبدأت تجتاح أوروبا تلك الموجة من الانفتاح الجنسي بعد انغلاق العصور الوسطى. وصاحَبَ هذا الانفتاح ظهور رجال يفخرون بأي ممارسة جنسية وإن كانت شاذة.
ومن أشهر هؤلاء جان جاك روسو، الذي نشر «اعترافاته» الشهيرة التي ظهرت في القرن الثامن عشر وفتحت الطريقَ أمام الرِّجال، وأخذوا يتبارون في نشر اعترافاتهم الجنسيَّة الشاذة والطبيعية معًا.
وقد ثار جان جاك روسو على قيم العصور الوسطى ونادى بالحب وبأن يكون الحب هو سببَ الزواج وليس المال أو المصالح الاجتماعية، لكنه قوبل بعاصفة من رجال الدِّين الذين تعرَّضوا لحياته الجنسيَّة الخاصة. وكان روسو يمارس طريقةَ الإشباع الذاتي (العادة السرِّية) في الجنس بسبب علاقته الوثيقة بمربيته التي أحبَّها أكثرَ من الأم، هذه العلاقة التي أعجزته عن الاتصال بامرأةٍ أخرى إلا من نفس النوع، أي الأكبر منه سنًّا التي تعامله كابنها. وبالطبع لم يكن يوفَّق روسو في العثور على المرأة التي يريدها بسهولة، فكان يلجأ إلى طريقة الإشباع الذاتي. لكنه أنجب عددًا من الأطفال من بديلات الأم اللائي عاشرهن، وأرسل جميع أطفاله إلى بيوت الأطفال غير الشرعيين التي كانت منتشرةً في ذلك الوقت، ويقال إنَّ في فرنسا وألمانيا فاق عدد الأطفال غير الشرعيين الأطفالَ الشرعيين، وكانت الدولة هي التي تفتح لهم البيوت وترعاهم، بل وتشجِّع على زيادتهم بسبب الحاجة الملحَّة إلى الأيدي العاملة في الصناعات الجديدة الناشئة ولحاجة أوروبا إلى أعدادٍ أكثرَ من الرِّجال تلبيةً لحاجات الحرب.
وابتداءً من روسو الذي كان يمارس الإشباع الجنسي الذاتي، إلى الماركيز دي ساد الذي كان مريضًا بالسادية وحبِّ التعذيب وإراقة الدم، توالى عدد من الرِّجال البارزين في الحضارة الحديثة، ومنهم أوسكار وايلد الذي حُبِس بسبب شذوذه الجنسي، وأخيرًا أندريه جيد الذي تفاخر بشذوذه الجنسي.
كان هذا التيار الجنسي القوي الذي كسر قيودَ العصور السابقة وتزمُّت الكنيسة مدعمًا بالحاجات الاقتصادية المُلِحَّة من أجل الحصول على مزيد من الأطفال. وقد استفاد من هذا التيار الداعي إلى التحرُّر كلُّ الرِّجال ذوي الميول الشاذة، بل حدثت مباراة أو شبه مباراة بين الدول الأوروبية لإعلان تحرُّرها الجنسي، وذلك بإلغاء القوانين القديمة التي كانت تَفرض على النَّاس نمطًا معينًا من السلوك، واعتُبر السلوك الجنسي مسألةً خاصة جدًّا بالإنسان، ولا دخل للدولة فيه إلا في حالة الاعتداء على شخص آخر بالقوة. وكانت إنجلترا هي أول دولة أوروبية تلغي القانون الذي يحرِّم الشذوذ الجنسي بين الرِّجال. وبدأ العلماء يرفضون استخدامَ اصطلاح الشذوذ الجنسي على أساس أن النشاط الجنسي ليس فيه ما هو شاذٌّ ولا ما هو طبيعي، وأن النشاط الجنسي الصحيح هو الذي يحقِّق لصاحبه الإشباعَ وأقصى لذَّة ممكنة بصرف النظر عن شكل هذه الممارسة.
وبدأت مثل هذه الاصطلاحات كالشذوذ الجنسي والانحرافات الجنسيَّة تُحْذَف من قواميس لغة الجنس الحديث، بعد أن اتضح للعلماء أن النشاط الجنسي عند الإنسان واسعُ التنوُّع وشديد الاختلاف من فرد إلى فرد، ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن طبقة إلى طبقة، بل إنه يختلف عند الفرد الواحد من وقتٍ إلى وقت ومن ظروف إلى ظروف.
ولعل هذه إحدى سِمات الطاقة الجنسيَّة عند الإنسان؛ فالحاجة إلى الجنس أو إلى الغريزة الجنسيَّة عند الإنسان تختلف عن الغريزة إلى الطعام. إن الإنسان حين يشعر بالجوع أو إفراغ مَعِدته، فإنه يملأ هذه المَعِدة بالطعام. والطعام هنا «شيء» يملأ به الإنسان فراغًا؛ أي إن التعامل هنا بين حياة الإنسان وبين شيء من الأشياء.
لكن الجنس في حياة الإنسان تعامُل مع شخص آخر. وهذه ميزة الجنس في حياة الإنسان، لكنها أيضًا مشكلته الكبرى؛ لأن التعامل مع الأشياء أسهل من التعامل مع الأشخاص. علاقة الإنسان بالطعام تنتهي بمجرد أن يلتهم الطعام داخل مَعِدته. لكن العلاقة بين الأشخاص ليست التهامًا، وليست واحدًا يأكل الآخر، ولا تنتهي بانتهاء العملية الجنسيَّة.
وهذا الفارقُ الكبير بين الغريزة الجنسيَّة في الإنسان وبين غريزة الطعام هو الذي جعل «فرويد» يؤسِّس نظريته عن التسامي، أي استخدام الطاقة الجنسيَّة في أعمالٍ أخرى غير جنسية كالأعمال الفكرية والفنية والثقافية؛ إذ قال فرويد إن الغريزة إلى الطعام ليس لها بديلٌ في حياة الإنسان؛ أي إنها لا يمكن أن تُكْبَت. ولا يمكن لأي إنسان جائع أن تُملأَ مَعِدته بأي شيء إلا الطعام. لا يمكن أن تتحوَّل الرغبة في الطعام إلى رغبةٍ في الأدب والفن، ولا يمكن أن تُملأَ المَعِدة بالقصص والأشعار، أما الطاقة الجنسيَّة فقد ظن فرويد أنها يمكن أن تُكْبَت، ويمكن أن تتسامى وتتحوَّل إلى إنتاج فكري وأدبي وثقافي.
وقد اتضح خطأ هذه الفكرة، ووُجِد أن الطاقة الجنسيَّة لا تتحوَّل إلى فكرٍ خلاق، ولكنها تنحرف عن طريقها الطبيعي إلى طرقٍ أخرى معقَّدة وملتوية. ووُجد أن الاختلاف بين غريزة الطعام والغريزة الجنسيَّة ليس أن الأولى لا يمكن أن تُكْبَت والثانية يمكن أن تُكْبَت، ولكن الرَّجل مع الطعام يتعامل مع «شيء»، ومع الجنس يتعامل مع إنسانٍ مثله هو المرأة.
وربما غاب عن بعض العلماء، ومنهم فرويد، هذه الحقيقةُ البديهية؛ لأنهم لم ينظروا إلى المرأة كإنسان مثل الرَّجل، ولأن الحضارة الذُّكورية قامت على «تشييء» المرأة، أي تحويلها إلى «شيء» أو أداة.
وأصبحت علاقة الرَّجل بالمرأة أشبه بعلاقته بالطعام. رغبة في الالتهام السريع وملء الفراغ، والانتهاء منها بمجرد الشبع.
ولعل هذه هي أهمُّ مشكلات الحضارة التي نعيشها؛ لأن عملية «تشييء» المرأة لم تسلُب منها إنسانيتها وتسبِّب لها المشاكل فحسب، ولكنها سبَّبت المشاكل للرجل أيضًا.
إحدى هذه المشاكل أنَّ الرَّجل أصبح يُفضِّل علاقته بالرَّجل (سواء كانت صداقة أو حبًّا أو جنسًا) أكثرَ من علاقته بالمرأة. إنه يرى الرَّجل شخصًا مثله وإنسانًا وليس مجرد شيء كما يرى المرأة. وهذا هو أحدُ الأسباب في انتشار الشُّذوذ الجنسي بين الرِّجال، بل إنَّ بعض الرِّجال قد يفخرون بشذوذهم الجنسي، وكأنَّما يقولون: نحن نتعامل مع الجنس الأعلى والأقوى وليس الجنس الأدنى والأضعف!
وربما هذا هو أحد الأسباب في اهتمام المجتمع بشذوذ الرِّجال أكثرَ من اهتمامه بشذوذ النِّساء. فالجنس الأعلى دائمًا محطُّ الأنظار وتحت الأضواء، أما الجنس الأدنى فلا شيء يلفت إليه النظر وإن كان هو الشذوذ ذاته.
وقد ظل الاعتقاد قائمًا بأن نسبة الشذوذ بين الرِّجال أعلى منها بين النِّساء إلى أن اتضح أخيرًا في بعض البلاد كأمريكا وبعض البلاد الأوروبية أنَّ الشذوذ الجنسي منتشر بين النِّساء، بل إن بعض النِّساء الآن في أمريكا أصبحن (كجزء من الثورة على الرَّجل) يتفاخرن بشذوذهن الجنسي ويُنْشِئن أنديةً وجمعيات للنساء الشاذات جنسيًّا، وكأنما يقلن للعالم: لم نَعُد نحتاج إلى الرِّجال في الجنس أيضًا.
وقد التقيت بعددٍ من هؤلاء النِّساء وقرأت كتبهن عن الشذوذ الجنسي بين النِّساء، وأدركت أن المرأة أصبحت تحارب الرَّجل بنفس أسلحته، ولم أقتنع بأن هذه هي الطريقة المنشودة لتحرير النِّساء والرِّجال معًا، وإنما هي إحدى الطرق في ظل ظروف ومجتمع محروم من الحب الحقيقي ومن العلاقات الإنسانيَّة القائمة على التبادل المتساوي وليس الاستغلال.
من الحقائق العلمية المعروفة أنه في حالة غياب الجنس الآخر فإن الرِّجال والنِّساء وكثيرًا من فصائل الحيوانات عندها القدرةُ على ممارسة الجنس مع نفس الجنس. وهذا طبيعي لأن الطاقة الجنسيَّة لا بدَّ وأن تفرغ شحنتها عن أي طريق متاح.
وقد اختلف كثير من العلماء حول أسباب الشذوذ الجنسي عند الرِّجال. وقال البعض إن الوراثة هي السبب، وإن الرَّجل يرِث تكوينًا جنسيًّا وبيولوجيًّا مختلًّا. وقال البعض الآخر إن الجينات والكروموسومات هي السبب. لكن الأدلة العلمية كانت غير كافية، بل وقاصرة عن إثبات الحقيقة، ولم تكن العوامل الاجتماعية تدخل في الاعتبار.
ومن الحقائق العلمية المعروفة أن الإنسان «مزدوج الجنس»، وأن الرَّجل تجري فيه هرمونات مؤنثة، والمرأة تجري فيها هرمونات مذكَّرة؛ ولذلك وُجِد أن الحنين إلى الجنس نفسه شعورٌ دائم في كل إنسان، لكنه يختفي في مراحل، ويظهر في مراحل أخرى، منها مرحلة الطفولة ومرحلة المراهقة.
ومن هذه الفكرة قال بعض العلماء إن الحنين للشذوذ داخل كل رجل. ووجد كينزي أن ٣٧٪ من الرِّجال الأمريكيين مارسوا الشذوذ الجنسي. في مجتمعاتٍ أخرى خرج بعض العلماء بنِسبٍ أكبرَ من نِسبِ كينزي. أما في السجون والمعتقلات والمدارس الداخلية فقد وُجِد أن ١٠٠٪ من الرِّجال يمارسون الشذوذ الجنسي. وهذا يدل على أن العوامل الاجتماعية هي التي تلعب الدور الأساسي في مثل هذه الممارسة، وليست الجينات أو الكروموسومات.
وقد درس العلماء العواملَ الاجتماعية والنَّفْسية داخل الأسرة وفي المجتمع التي تقود الرَّجل إلى ممارسة الجنس مع الرِّجال وليس مع النِّساء، واتضح أنَّ من أهم هذه العوامل هي العلاقة داخل الأسرة الأبوية بين الأب والابن من ناحية وبين الابن والأم من ناحية أخرى.
- (١)
كان هذا الرَّجل في طفولته ينشد نموذج الذَّكر ليتَّحدَ به ويصبح ذكرًا.
- (٢)
الأب كان أول ذكرٍ في حياته.
- (٣)
كان الأب بعيدًا عن ابنه أو مهمِلًا له، أو يَغار منه بسبب استيلائه على حب الأم وجهدها.
- (٤)
رغبة الابن في الابتعاد عن أبيه وفي أن يكون مختلفًا عنه ما أمكن (بسبب كراهيته له).
- (٥)
شعور الابن بالخوف من هذا الأب المكروه، وإحساسه بالنقص والعجز عن تحقيق ذاته نفسيًّا وجسديًّا في مواجهة الأب الأكبر والأقوى والمسيطر.
- (٦)
حبُّ الأم الزائد (بسبب رغبتها في التعويض عن حياتها الناقصة غير المشبعة مع الزوج) يجعل الابنَ منجذبًا بقوة إلى أمه، وفي نفس الوقت يشعر بتأنيب الضمير والذنب؛ لأنها محرَّمة عليه.
- (١)
حب الأم الشديد والرغبة في الاتحاد بها.
- (٢)
رغبة شديدة في الانفصال عن الأم والاستقلال ليكون ذكرًا.
وهناك بعض الآراء تقول إن الرَّجل الشاذ جنسيًّا ينطوي في أعماقه على خوف من المرأة، وإن هذا الخوف ينبع أساسًا من عجزه (كليًّا أو جزئيًّا) عن الانفصال عن أمه.
إنَّ الوقوع في حب امرأة يعني لمثل هذا الرَّجل العودةَ مرةً أخرى إلى الذراعين اللتين تمثلان له الحبَّ والسجن معًا، هذا السجن الذي لم يهرب منه إلا جزئيًّا.
وهذا هو الخوف الذي تنطوي عليه أعماقُ جميع الرِّجال تقريبًا بدرجاتٍ متفاوتة، حسب علاقة كلٍّ منهم بأمه وأبيه.
وعلى هذا يمكن القول إن الرَّجل الشاذ جنسيًّا لا يستطيع أن يتصل بالمرأة؛ لأنه يخافها. إنَّ اتصاله بالرَّجل يمثِّل له خطرًا أقل أو «لا» خطر.
كما أنَّ كراهية الابن لأبيه تجعله ينجذب إلى رجالٍ أكبرَ منه يمنحونه الحب، وينشد فيهم الأب. وقد يتعلَّق الشَّاب ببطلٍ من أبطال الرِّياضة أو الإعلانات أو الأفلام التي تقدِّم في معظم الأحيان نموذجَ الذَّكر المُبالغ في ذكورته، يتخيَّل الشَّاب أنَّه أحد هؤلاء الأبطال، أو يحب شبيهًا بالبطل ويسقط عليه نموذجه الذكري، هذا النَّموذج الذي كان يريد أن يكونه ولم يستطِع.
ويكتشف الشابُّ في نفسه (بالتوحُّد مع هذا البطل) قوةً وشجاعةً وتحملًا وغير ذلك من الصِّفات المحبَّبة إلى النَّمط الذكري السائد، وقد وُجِد أن بعض حالات الشذوذ تبدأ بإعجاب شديد ببطل من الأبطال.
وفي مرحلة معينة من العمر يكوِّن الصبيان جماعاتٍ ذكورية ينجذب فيها بعضهم إلى بعض، وينظرون إلى الإناث كمخلوقاتٍ أقل. وهذه بعض آثار التربية التي تعلَّموها وهم أطفال في ظل الأسرة الأبوية، والتي لا تزال عالقةً بهم وبسبب صِغر سنِّهم وعدم نضوجهم كرجال بعدُ. وقد تتوقَّف مشاعر بعضهم عند هذا الحد بسبب معوِّقات النُّضج الاجتماعية والنَّفْسية، ويظل هذا الصبي يتطلع إلى الرِّجال وينجذب إليهم؛ لأنه يشعر أنه لم يصبح واحدًا منهم بعدُ.
وقد وُجِد أن معظم الرِّجال الشواذ ينجذبون إلى الرِّجال الأشداء الأقوياء. واتضح ذلك من صور المجلات التي تصدُر عن أندية الشذوذ الجنسي، والتي تصوِّر رجالًا عراةً ذوي فحولة جنسية، من أجل إرضاء رغبات الأعضاء الشواذ والكسب المالي من وراء ذلك الانحراف.
ولعل رسومات «مايكل أنجلو» التي زيَّن بها سقفَ الكنيسة السيكستية (نسبة إلى بابا سيكستس) خيرُ معبِّر عن الفن الذي يمكن أن يخرج من خيالِ رجلٍ شاذٍّ جنسيًّا. إن هذه اللوحات تعتمد في خطوطها وحركتها على المبالغة إلى درجة التشويه في عضو الذكر الجنسي بالنسبة إلى أعضاء الجسم الأخرى. إنَّ هذه اللوحات تعبِّر بأوضحِ ما يكون التعبير عن اتجاهِ مثل هذا الرَّجل إلى المبالغة في تمجيد الذُّكور والعضو الذكري. ولهذا صعِدت هذه اللوحات في نظر سكان العالم الذُّكوري إلى قمَّة الفن والعبقرية. ولا شكَّ أن إعجاب الرِّجال بهذه اللوحات لا يدل على شيء سوى أن الرِّجال ينبهرون دائمًا بالصفات التي لا يملكونها.
ويظهر هذا الاتجاه واضحًا عند الرِّجال الشواذ الذين يعمدون دائمًا إلى إظهار انبهارهم الشديد بالعضو الذكري. وهذا دليلٌ على أن الشذوذ نوعٌ من عدم النضوج أو التوقُّف عند مرحلة المراهقة. فمن المعروف أن جميع الصبيان، شواذًا وغير شواذ، يُظهِرون اهتمامًا شديدًا بحجم أعضائهم الذكرية ومقارنة عضو الواحد منهم بالآخر. إنهم يظنون أن هناك علاقةً بين حجم العضو وكفاءته في الجنس، مع أنه ثبَت أنَّ هذه العلاقة ليس لها وجود، وأن العضو الأكبر ليس هو الأكفأ أو الأقوى، بل قد يكون العكس هو الصحيح، فالعضو النحيف أكثرُ كفاءةً من العضو السمين؛ لأن الشحم يعرقل الحركة، كما أن الشحم إذا تراكم على جدران الأوعية الدموية يقلِّل كميةَ الدم المندفعة فيها. إنَّ عملية الانتصاب التي تحدُث للعضو الذكري ليست إلا اندفاع الدم إلى هذا العضو بكمياتٍ كبيرة إلى حدِّ الامتلاء والانتفاخ. ولا شكَّ أن زيادة الأنسجة الدهنية التي تتراكم على الأوعية الدموية تقلِّل من هذا الامتلاء.
لكن معظم الشباب الذُّكور ينشغلون بحجم أعضائهم التناسلية، ويتفاخرون إذا كان حجمها كبيرًا، ويخجلون إذا كان صغيرًا. مع أن هذا الاتجاه يقلُّ كثيرًا كلما سار الشابُّ قُدُمًا إلى النضوج. ويظل الرِّجال الشواذ عاجزين عن النضوج، متوقِّفين عند مرحلة المراهقة، ويظل اهتمامهم بالعضو الذكري شديدًا؛ بعضهم تسيطر عليه الرغبة في أن ينظر على الدوام إلى أعضاء الرِّجال الآخرين، وقد يصبح العضو (مثل الكعب الأنثوي العالي عند بعض الرِّجال الشواذ) الشيء الوحيد الذي يثيرهم جنسيًّا؛ لأنه الشيء الوحيد الذي يوحي إليهم بالثقة في أنفسهم كذكور. وفي غير ذلك يشعرون بعدم الثقة والخوف من الجنس ومن العلاقة بالمرأة. بمعنًى آخر يصبح منظرُ هذا العضو هو الشيء الوحيد الذي يمنحهم الانتصاب. وفي غير ذلك يعجزون.
ولا شكَّ أن مثل هؤلاء الرِّجال يستحقون من المجتمع الرعايةَ والعلاج وليس العقاب والازدراء. إنهم ضحايا الأُسر الأبوية، وهم رجالٌ وجدوا أمامهم بابَ النضوج مغلقًا. إن الرَّجل منهم يبحث عن ذكورته التي ضخَّمها له المجتمع والأسرة الأبوية، والتي لا يجدها في نفسه، ويظن أنه قد يجدها في رجل آخر. بعبارة أخرى، إنَّه رجلٌ بحث عن عضوٍ ذكري ضخم (حسب المقياس الاجتماعي)، والذي لا يجده عنده، فإذا ما وجده عند رجل آخر أو (خُيِّل إليه ذلك) فإن هذا الرَّجل يُصبح بالطبع جذابًا في عينه قريبًا منه، يحبُّه ويتوحَّد به ليكون مثله أو يصبح هو ذاته، إنها محاولة لأن يصبح هو نفسه الرَّجل الآخر الذي يملك هذا الشيء العظيم أو الدليل الأعظم على الذُّكورة القوية. وقد ثبت أنَّ الرِّجال غير الراضين عن أحجام أعضائهم هم أكثرُ الرِّجال اندفاعًا وراء البحث عن الرَّجل الآخر صاحب العضو الأكبر.
وهناك نوعٌ آخر من الرِّجال الشواذ من ذوي الميول الجنسيَّة لرجالٍ ناعمين، أو لشبان فيهم وسامةٌ وشيء من الرِّقة أو الأنوثة، هذا النوع من الرِّجال يبحث عن المرأة، لكنه يخاف المرأة الحقيقية، ومن ثَمَّ يختار أقربَ الرِّجال إلى المرأة أو إلى نموذج المرأة في خيالهم. وينكر معظم هؤلاء الرِّجال انجذابهم الجنسي نحو النِّساء، لكن الدراسات كشفت عن أن الرَّجل منهم تعلَّق بأمِّه أو أخته جنسيًّا، وأنه أيضًا يعيش في بعض الخيالات الجنسيَّة مع المرأة، وقد يكون مارس الجنسَ مرةً مع إحدى النِّساء ثم فشل.
ويُجمِع العلماء على أنه من غير الممكن أن تضع خطًّا فاصلًا بين ما يسمَّى بالرَّجل الطبيعي والرَّجل الشاذ. وأثبت علماء الجنس في بريطانيا مثلًا أن ٢٥٪ من أفعال الشذوذ الجنسي (رجال مع رجال) يقترفها رجالٌ متزوجون، ويمكن لبعض الشواذ بجهدٍ بسيط أن يصبحوا رجالًا طبيعيِّين. كما أن بعض الرِّجال الطبيعيِّين يُظهِرون ميولًا جنسية مزدوجة، أي للجنسين معًا، وفي إمكانهم الاستمتاعُ بالعلاقات الجنسيَّة بالنِّساء وبالرِّجال إذا ما سنحت لهم الفرصة لذلك.
بعض العلماء يرى أنَّ الرِّجال الشواذ نوعان؛ نوعٌ إيجابي ويلعب دورَ الذكر، ونوع سلبي ويلعب دور الأنثى، ويتبادل الطرفان الأدوار أحيانًا حسب الظروف والأحوال.
على أنه اتضح أن معظم هذه العلاقات لا تشبِع الطرفين؛ فالواحد منهم يشعر دائمًا أنه غير مشبِع عاطفيًّا وجنسيًّا، ويلازمه شعورٌ بالنقص يجعله غير راغب في الاقتراب من النِّساء. إنه يخاف دائمًا أن تكتشف المرأة نقصَه، وهذا الخوف هو السَّبب الأول الذي أبعده عن المرأة منذ البداية.
هناك نسبةٌ صغيرة من الرِّجال يصابون بهذا الشذوذ الجنسي لأسبابٍ عضوية بحتة، أو لظروفٍ طارئة تؤثِّر على خلايا المخ. مثال ذلك شربُ الخمر بكثرة أو تعاطي بعض العقاقير التي قد تسبِّب تسممًا في المخ، ويصبح الرَّجل عاجزًا عن السيطرة على سلوكه، ويندفع وراء رغبات طفولية دُفِنَت في الجزء العميق جدًّا من المخ أو في اللاوعي. وقد لوحظ انتشار الشذوذ الجنسي بين المدمنين على أنواعٍ معينة من المنبِّهات أو المخدِّرات.
وقد تحدُث الشيخوخة أحيانًا للمخ بسببِ ما تُحْدِثه الخمر أو العقاقير. وهناك بعضُ حالات من تصلُّب الشرايين في المخ قد تسبِّب شذوذًا في السلوك الجنسي إلى جانبِ أعراضٍ مَرضية أخرى مثل ضَعف الذاكرة، واضطرابات في النطق، وتغيُّرات في رسم المخ الكهربي، وغير ذلك من الأعراض التي تصاحب مختلِف أمراض المخ العضوية، وتعالَج هذه الحالات بالطبع بالأدوية المناسبة. وهناك بعض أمراض المخ تزيد الرغبةَ الجنسيَّة إلى حدِّ التأجُّج المستمر، وتُعالَج بالهرمونات المناسبة لإضعاف الرغبة وإضعاف نشاط الغدد الصماء. وقد وُجِد أن إعطاء الهرمون الأنثوي «إيستروجن» للرجل المريض يضعِف نشاط الخصيتين، ويقلِّل الرغبة الجنسيَّة، ويقلِّل إفراز السائل المنوي. لكنه وجد أن كميةَ هذا الهرمون الأنثوي إذا زادت عن نسبةٍ معينة فإنَّ ثديي الرَّجل يكبران ويصبحان كثديي المرأة؛ ولهذا لا بدَّ من معرفة الكمية المناسِبة التي لا تزيد عن الحد المطلوب، وبالمثل أيضًا تُعطَى المرأة المريضة الهرمون الذكري «تستستيرون» بالكمية المطلوبة، وإلا فسرعان ما ينبت الشعر على وجه المرأة وصدرها. وكانت مثل هذه الحالات تُعالَج قديمًا بإخصاء الرَّجل (قطع خصيتيه)، لكن هذا العلاج لم يَعُد يلجأ إليه أحد من الأطباء؛ لأنه وُجِد أن الإخصاء قد يشفي الحالة المَرضية الجنسيَّة لكنه لا يؤهل الرَّجل بعد ذلك لعلاقات إنسانيَّة سوية وتزداد الحالة سوءًا.
وهناك وسائلُ علاجٍ كثيرة ومتعددة لمثل هذه الحالات المَرضية. أما الشذوذ الجنسي في معظم الرِّجال فلا يرجع إلى أسبابٍ مَرضية عضوية في خلايا المخ، ولكنه، كما سبق أن ذكرتُ، أحدُ مظاهر عدم نضوج الشخصية بسبب أحاسيس النقص والذنب والخوف وغير ذلك من المشاعر المترسِّبة من الطفولة والمراهقة.
والعلاج هنا لا يمكن أن يتمَّ بالعقاقير والأدوية، ولكن العلاج يتَّجه أساسًا إلى إزالة معوِّقات نمو الشخصية والنضوج، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع، ومن أهم خطوات العلاج أيضًا أن يشعر الشخص أنه ليس شاذًّا أو ليس هو الشاذ الوحيد في العالم، وإنما يشاركه في هذا الشعور ملايين آخرون من النَّاس، وأن العيب ليس فيه، وإنما العيب في الظروف الاجتماعية والأسرية التي عاشها. وبذلك يتحرَّر الشخص بعضَ الشيء من عقدة الذنب وعقدة النقص أيضًا، وهذه إحدى الخطوات الأولى نحو النضوج، ومن ثَمَّ الشفاء.
والشفاء هنا ليس مجرد أن ينجذب الرَّجل إلى النِّساء بدلًا من الرِّجال، ولكنه نمو الشخصية والسلوك والقدرة على إقامةِ علاقاتٍ إنسانيَّة مشبِعة في مختلف مجالات الحياة.
بمعنًى آخر، الشفاء يعني اكتسابَ الرَّجل للقدرة على الحب والأخذ والعطاء بغير خوف من الآخرين وخاصة النِّساء. إن الحب بمعناه الحقيقي هو الذي يجعل العلاقات الجنسيَّة سوية وصحية؛ أي إنه يمكن أن نقول إن الانحرافات الجنسيَّة والشذوذ الجنسي ليس إلا تلك الممارسات الجنسيَّة بغير الحب.