الرَّجل والاستعراض الجنسي
أذكر وأنا في العاشرة من عمري أنني كنت حين أُطِلُّ من الشُّرفة أرى رجلًا في البيت المواجه لبيتنا. وكان هذا الرَّجل لا يقف كما يقف النَّاس في النوافذ والشرفات، لكنه كان يخلع سرواله ويُظهِر عضوَه الجنسي للنَّاس الذين يسكنون البيوت المجاورة. وكنت أرى النِّساء يُسرِعن ويُغلقن نوافذهن، أمَّا أنا فقد كنتُ أظل واقفةً أنظر إلى وجه هذا الرَّجل الغريب، وأتأمل حركاته، فقد كان يمسك عضوه بيده ويعرضه للنَّاس. وبعد أيام قليلة اختفى هذا الرَّجل، وسمِعت أنَّ بعض الجيران بلَّغوا الشُّرطة وأنه نال العقاب على أفعاله الغريبة.
وقد يندهش كثيرٌ من النَّاس لتصرُّف هذا الرَّجل ويعتبرونه رجلًا شاذًّا فاسد الأخلاق ويستحق العقاب الشَّديد.
والحقيقة غير ذلك؛ فهذا الرَّجل ليس هو الوحيد في العالم الذي يريد أن يستعرض ذكورته. إنَّ معظم الرِّجال يرغبون في استعراض ذكورتهم بدرجاتٍ متفاوتة وبوسائلَ مختلفة. والسَّبب في ذلك أنَّ هذه الحضارة التي نعيشها قامت على أكتافِ ذكورٍ أقنعوا أنفسهم والعالم أنَّ الذُّكورة امتياز وشرف، والأنوثة مهانة وضَعف، ولم يكن هناك من فرقٍ بارز بين الذكر والأنثى سوى العضو الذكري؛ ولهذا اتجه المجتمع الرجولي في عهودٍ متعددة إلى تمجيد عضو الذَّكر.
وبلغ تمجيد هذا العضو وتفخيمه حدًّا جعل أكثريةَ الرِّجال يشعرون بالنقص حين ينظرون إلى أعضائهم الحقيقية.
وهناك رجال يبلغ شعورهم بالنقص حدًّا كبيرًا فلا يجدون وسيلةً لإثبات أنَّهم ذكور سوى بارتكابهم فعلًا، في كثير من المجتمعات (التي يرتدي فيها النَّاس الملابس) منافيًا للآداب العامة، ومَن يفعله يقع تحت طائلة القانون. وهناك بعض المجتمعات الرأسمالية الحديثة مثل السويد مثلًا وبعض أجزاء في أمريكا وأوروبا قد اعترفت بوجود هذه الرغبة عند كثير من الرِّجال، وصرَّحت لهم بإنشاء نواديهم الخاصة (نوادي العُراة، ونوادي الرِّجال الذين يحبُّون الرِّجال، نوادي النِّساء اللواتي يحببن النِّساء)، وأصبح لكل رغبةٍ إنسانيَّة، طبيعيةً كانت أو غير طبيعية، نادٍ خاصٌّ يلتقي فيه الأعضاء يزاولون هواياتهم الجنسيَّة دون أن يتعرَّض لهم القانون.
وقد ينبهر كثيرٌ من النَّاس حين يسافرون إلى مثل هذه البلاد، ويرون هذه النوادي متصورين أنها قمَّة التحرُّر والحرية الشخصية المكفولة لكل فرد. لكنَّ الذي يتعمَّق في قوانين هذه المجتمعات الرأسمالية الحديثة يدرك أنَّ الحرية ليست مكفولة لكل فرد فعلًا، وأنَّ هناك حرية للحكام لا يتمتع بها المحكومون، وحرية لأصحاب المصانع لا يتمتع بها العمال، وحرية للرجال لا تتمتع بها النِّساء، وأنَّ الحرية غير متوافرة للأغلبية الساحقة من النَّاس، وخاصة الحرية الاقتصادية والاجتماعية، بل إن الحرية الجنسيَّة أيضًا ليست متيسرة إلا لهؤلاء القادرين عليها، لهؤلاء الذين تمنحهم ظروفهم الاقتصادية الجهدَ والوقت والفراغ والمال لممارسة هواياتهم الجنسيَّة داخل النوادي. أمَّا الأغلبية من النَّاس فهي تكدح وتعمل في المصانع ولا تمنحهم ظروفهم إلا العودةَ آخر النهار إلى الزوجة المكتئبة أو المكدودة في عمل البيت ورعاية الأطفال، أو إلى إغراق الهمِّ في حانةٍ من الحانات مع كأس رديئة النوع أو مومس منهَكة مريضة.
ولا أدري هل أصبح للعري نادٍ في بريطانيا الآن، وهل عُدِّل قانون تعرية الجسد كما عُدِّل قانون الشذوذ الجنسي. لكني قرأت أنه في سنة ١٩٥٤م في بريطانيا بلغ عدد الرِّجال الذين عوقِبوا قانونيًّا بسبب تعرية أعضائهم في الشارع ٢٧٢٨ رجلًا، وأنه في أحد البحوث العلمية الجنائية بجامعة كمبردج في العام نفسه وُجِد أنَّ من بين ١٩٨٥ رجلًا ممن اقترفوا جرائمَ جنسية كان هناك ٤٩٠ رجلًا كانت جريمتهم فقط تعريةَ العضو الجنسي في الشارع دون إيذاء أحد.
ومن المعروف علميًّا أن الرِّجال فقط هم الذين يصابون بمثلِ هذا الانحراف، ويسمَّى علميًّا الاستعراضية الجنسيَّة. هناك بالطبع نساء يستعرضن أجسامهن كلَّ ليلة في دُور اللهو وعلب الليل في تلك المشاهد المسمَّاة «الإستربتيز»، كوسيلة للتكسُّب وليس من أجل أنهن يشعرن بمتعةٍ أو لذَّة.
مثل هؤلاء الرِّجال رغم أنهم في معظم الأحيان أزواج، إلا أن علاقتهم بزوجاتهم غير مشبعة، ويلازمهم دائمًا الإحساس بالضَّعف والقلق على كفاءتهم كأزواج. ومن شدة هذا الإحساس بالنقص والضَّعف فإن الرَّجل منهم يفضِّل أن يلفت الأنظار إليه كرجلٍ شاذٍّ أكثرَ من أن يعيش ويموت دون أن يلتفت إليه أحد. تمامًا كالطفل الصغير الذي يشعر وهو بين الكبار أنه مُهْمَل ولا أحد ينتبه إليه، فإذا به يكسر شيئًا أو يسلك سلوكًا منفردًا ينال بسببه العقاب، ومن ثَم يفرض على الكبار أن ينتبهوا إلى وجوده. إن العقاب هنا أفضل من اللامبالاة والإهمال الكامل. وهذا هو السَّبب في أن مثل هؤلاء الرِّجال لا يكفُّون عن عرضِ أعضائهم بالرغم من كثرة العقاب الذي نالوه.
إنَّ رغبة الرَّجل الاستعراضية قد تخفي تحتها أيضًا رغبةً سادية في إيذاء مشاعر النَّاس وإحداث صدمة لهم حين يرون عضوه العاري. إنها رغبة في أن يقول لهم: أنا أملِك عضوًا عظيمًا يستحق الاستعراض. بمعنًى آخر، يقول لهم أنا أعظمُكم لأنكم جعلتم العظَمة في هذا العضو، وأنا قادر على أن أفعل ما لا تستطيعون، وهو أن أعريَ جسدي. لكنه في الوقت نفسه يقول لنفسه: أنا أكثرهم انحطاطًا وإثمًا وذنبًا ونقصًا.
قابلتُ في مستشفى الأمراض النَّفْسية بالخانكة رجلًا من هذا النوع، وضعوه في قسم المذنبين (مع هاتكي الأعراض وقاتلي الزوجات)، وقال لي هذا الرَّجل وهو يكاد يبكي: النَّاس لا تفهم شيئًا، النَّاس كذابون أدعياء، إنهم يفكِّرون دائمًا بأعضائهم الجنسيَّة، وحينما يواجههم واحد مثلي بحقيقتهم يفزعون. لا أدري ما الذي يفزعهم حينما يرون عضوي العاري؟! إنني أعبِّر عن خيالهم وعن حقيقتهم، ومع ذلك يقبضون عليَّ ويقولون عني إنني مجنون. وسكتَ هذا الرَّجل قليلًا ثم قال لي: أنا أشجعُ الرِّجال. ثم بكى وقال بحسرة: وأنا أحطُّ الرِّجال أيضًا! هل تفهمينني يا دكتورة؟
قلت له: نعم، أفهمك.
بدراسة حياة هذا الرَّجل اتضح لي أنه كان ينام (حتى بلغ التاسعة من عمره) في الحجرة نفسِها التي ينام فيها أبوه وأمُّه، وأنه ظل حتى التاسعة من عمره يشهد تلك المسرحية الليلية التي تحدُث بالقرب منه بين أبيه وأمه. وكان ضوء الشارع يسقط على عضو أبيه الكبير (بالنسبة لطفل في تلك السن) فيبدو له هذا العضو ضخمًا عاريًا مفزعًا، وسرعان ما ينقضُّ كالوحش على أمِّه التي كانت تئن وتتوجَّع بصوتٍ غريب. هذا يحدُث كلَّ ليلة تقريبًا. أمَّا في النهار فإن الأب والأم يرتديان قناعَ الأزواج والزوجات المعروف، وحينما يلمس هذا الطفل عضوه ليكتشف جسمه تضربه أمه على يده وتقول له: عيب! وحينما أصبح في التاسعة سأل أباه عن علاقة الرَّجل بالمرأة وكيف وُلِد في هذه الحياة فإذا بالأب ينهره ثم يطرده من حجرة النوم. وأصبح الطفل ينام وحدَه في الحجرة المجاورة، ولكنه ظل يسمع أجزاءً من المسرحية الليلية من خلال الجدار.
ومن هنا نستطيع أن نفهم الصراع النفسي والجنسي العنيف الذي عاش فيه هذا الطفل سنواتٍ طويلة، والذي حال بينه وبين النضوج، حوَّل طاقته الجنسيَّة الطبيعية إلى عرضِ عضوه العاري على النَّاس في الطريق. إنه بهذا التصرُّف الجنسي المنحرف كأنما يريد أن يصفع أباه وأمَّه (وكل أمثالهم من البشر) صفعةً حادة على وجوههم بسبب كذبهم عليه، لكنه لا يستطيع أن يصفع أباه أو أمَّه أو أيَّ أحد من النَّاس، ولا يملك إلا جسده الذي يعرِّيه أمامهم.
نفهم من هذا أن هؤلاء الرِّجال المصابين بمثل هذا الانحراف الجنسي الاستعراضي ليسوا في معظم الأحيان إلا مرضى بالسادية في أشد صورها، وهم ضحايا طفولة مزَّقتها القيم الأخلاقية المزدوجة والتقاليد المتزمتة والكذب واعتبار الجنس إثمًا مع أنه يُمارَس سرًّا في كل وقت.
بالطبع لا يتعرض أكثر الأطفال لِما تعرَّض له الطفل السابق. لكن الذي يدرُس المجتمع وبالذات الحياة التي تعيشها الأسر الفقيرة، حيث تسكن الأسرة الواحدة حجرةً واحدة، ويبيت الأب والأم والأطفال في حجرة واحدة، ندرك أن عددًا غير قليل من الأطفال يشهد المسرحية الليلية التي غالبًا ما يلعب فيها العدوان والإيلام دورًا بارزًا. وهناك أيضًا الأمهات من الأسر المرتاحة اقتصاديًّا، هؤلاء الأمهات ذوات الأمومة المتضخمة المريضة، شديدات الالتصاق بأطفالهن إلى حدِّ أن الطفل يستمر فترةً طويلة (قد تصل إلى السابعة أو الثامنة) وهو ما زال يبيت في الحجرة نفسِها التي يبيت فيها أبوه وأمه.
هذا يحدُث في الوقت الذي ما زال فيه معظم الآباء والأمهات يدَّعون العفةَ والزهد أمام أطفالهم، أو على الأقل يصمتون ولا ينطقون شيئًا فيما يتعلَّق بالجنس، مع أنهم لا يكفُّون كلَّ ليلة عن أداء المسرحية الهزلية والدرامية معًا.
تزداد حدةُ هذه المشاكل ويزداد الصراع عند الطفل في الأُسَر الشديدة التديُّن، حيث يرى الطفل أباه بالنهار ممسكًا بالسبحة متمتمًا بالآيات، داعيًا إلى الفضيلة، ناهيًا عن الرذيلة، ثم إذا جاء الليل انقلب رأسًا على عقب، فإذا به الرذيلة نفسُها مجسَّدة على شكل شيطان عاري الجسد شديد العدوان.
في زيارتي لمستشفى الأمراض النَّفْسية بالخانكة دخلت إلى الورشة الفنية حيث يشغَل الفنانون من المرضى فراغَهم في عمل التماثيل واللوحات. ورأيت أحدَ الشباب المرضى منهمكًا في عمل تمثال صغير. واقتربت من الشاب وأنا أتأمل التمثال. رأيت أنه تمثال رجل يرتدي عمامة كبيرة ورداءً واسعًا على شكل القفطان.
سألت الشاب: مَن صاحب هذا التمثال؟
قال الشاب: إنه أبي.
قلت: كان رجلًا صالحًا متدينًا.
قال الشاب: نعم.
ثم إذا به يشد من تحت القفطان خطًّا رفيعًا فإذا بعضو التمثال الجنسي يبرز إلى الأمام منتصبًا. وضحِك زملاء الشاب من المرضى الذين يعملون معه في الورشة الفنية، وضحِك الطبيب الذي كان يرافقني في جولتي داخل المستشفى، ورأيت شيئًا يلمع في عيني الشاب نزيل المستشفى، كانت هي الدموع. وسألته: أتبكي؟!
وانفجر الشاب غاضبًا فجأةً وألقى بالتمثال في الأرض وخرج من الورشة جريًا وهو يصيح بغضب: «متى أخرج من هذا السِّجن؟! لستُ مريضًا، لستُ مجنونًا، العالم كله هو المجنون!»
من المعروف أن الكشف عن العضو الذكري هو أحد الطرق البدائية للإعلان عن الذُّكورة خاصة لدى هؤلاء الرِّجال الذين فقدوا الصفات الرجولية الأخرى، ولم يَعُد لديهم إلا ذلك العضو الذي يثبت لهم ولغيرهم أنهم رجال. وهو أيضًا رغبةٌ طفولية تبقى مع الرَّجل الذي عجز عن النمو النفسي والنضوج بالرغم من أنه كبر وجاوز مرحلةَ الطفولة بسنواتٍ كثيرة.
إنَّ معظم الأطفال يشعرون بميول مختلفة تجاه كشف أعضائهم ولمسها. وفي المدارس يتبارى الأطفال الذُّكور (بسبب المجتمع الذُّكوري الذي جعل من العضو الذكري قيمةً عالية تستوجب التفاخر) في عَقد المقارنات بين أعضائهم والتنافس على مَن هو صاحب العضو الأكبر أو الأجمل. إنَّ حجم العضو وشكله يمثِّلان مصدرًا هامًّا من مصادر السعادة والرضا عن النفس عند معظم الرِّجال، وكثيرٌ منهم من شدة الرضا لا يملُّون النظرَ إلى أعضائهم في المرآة. وهناك مَن لا يكتفي بالنظر، بل يضاعف اللذة بممارسة العادة السرية أيضًا أمام المرآة. إنَّ اعتقاد الرَّجل بأنه يملك عضوًا كبيرًا مؤثرًا يمنحه الكثيرَ من القوة الجنسيَّة خاصةً إذا افتقد الرَّجل الأسس الأخرى التي ترتكز عليها شخصيته وتقديره لنفسه كرجل وإنسان، ويظن الرَّجل أن المرأة تنبهر بعضوه الذكري كما ينبهر هو. لكن الحقيقة أن المرأة لا تنظر إلى العضو الذكري كشيء باهر. إنها تنظر إليه نظرةً عملية، تنظر إليه كعضو من الأعضاء يمكن أن يؤديَ الوظيفة التي وُجِد من أجلها. بمعنًى آخر تنظر إليه نظرةً فسيولوجية وليس نظرة جمالية مليئة بالإعجاب كما يفعل الرِّجال.
على أنَّ هناك بعضَ النِّساء اللائي يُظهِرن إعجابًا وانبهارًا بأعضاء أزواجهن. وبدراسة هؤلاء الزوجات والأزواج وُجِد أنَّ الزوجة لا تفعل ذلك إلا إرضاءً لزوجها النرجسي الذي عشق ذاته متمثلة في عضوه، وأصبح يتغزَّل في هذا العضو، ويطلب من زوجته أن تفعل المثل. ومن أجل أن تُبقي الزوجة على حياتها الزوجية، أو خشيةَ الطلاق أو انصياعًا وراء القيم الأخلاقية والدينية التي تحثُّ الزوجات على طاعة الزوج وإشباع رغبته أنى شاء وكيف شاء، من أجل كل ذلك تفعل الزوجة ما يطلبه منها زوجها وهي راضية أو تدَّعي الرضا.
ولكثرة عدد الرِّجال الذين يمارسون هذه الاستعراضات لأعضائهم فقد أصبح الاتجاه في العالم الآن إلى تعريف البنات الصغار بهذه الحقيقة حتى لا تفزع الواحدة منهن حين ترى واحدًا من هؤلاء. ووُجِد أن مثل هذه الحوادث لا تضرُّ البنات نفسيًّا ولا تؤثِّر عليهن في شيء طالما أنهن عرفن من قبلُ أن مثل هذه الأمور تحدُث من بعض الرِّجال، وأنهم معظمَ الأحيان لا يعتدون على البنت، وإنما هي رغبةٌ للاستعراض فحسب.
الضرر الوحيد الذي قد يحدُث أنَّ البنت الصغيرة قد يفزعها منظر العضو المنتصب، وربما أيضًا يسبِّب لها شيئًا من الإثارة الجنسيَّة، وهكذا تكتم الأمرَ كسرٍّ من الأسرار تشعر معه بالذنب. على أن معظم هؤلاء الرِّجال الاستعراضيين لا يسبِّبون من الضرر أكثرَ من هذا. وهذا هو السَّبب في أنَّ أحدًا لا يكتشفهم ولا يكتشف عددهم الذي يقولون عنه إنه غير قليل، وإن مثل هذه الرغبة الاستعراضية قد يقوم بها بعض الرِّجال في فترات الحرمان من الممارسة الجنسيَّة الكاملة مع المرأة. ووُجِد أنَّ بعض الأزواج يلجئون إلى ذلك كنوع من تخفيف التوتر الجنسي حين تكون زوجاتهم مريضاتٍ أو حواملَ أو غير ذلك. وهو يبدو في هذه الحالات نوعًا من الإعادة لسلوك طفولي سبق أن حدث وضاع من ذاكرة الرِّجال. وعلى هذا الأساس حاول بعض العلماء تفسيرَ هذه الظاهرة على أنها طبيعة ذكورية تظل باقيةً ومدفونة في مكانٍ ما من ذاكرة الرَّجل.
لكن الدراسات النَّفْسية الجديدة أوضحت أن هذه الظاهرة كغيرها من الظواهر الجنسيَّة الذُّكورية تنشأ أكثرَ بسبب التربية والمجتمع والحضارة والقيم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية.
ولا يختلف أحدٌ من العلماء حول أنَّ الحضارة من حولنا في العالم هي حضارةٌ ذكورية قامت على تمجيد الذُّكورة من أجل أن يسُودَ الأب على الأم في الأسرة الأبوية. ولمَّا كان الفَرق الوحيد الظاهر بين جسد الرَّجل وجسد المرأة هو وجود هذا العضو بشكلٍ أكبر من بظر المرأة، فقد عمد الرِّجال في العصور الأولى لمنشأ الأسرة الأبوية أن يُبرِزوا هذا الفرق، بل يزيدوا عليه من خيالهم ومن فنِّهم مستخدمين في ذلك أدواتٍ بدائية أولَ الأمر، ثم أدواتٍ ووسائلَ أكثرَ رقيًّا وحضارة وفنًّا (كما حدث في لوحات مايكل أنجلو) في عهدٍ من العهود. يقول التَّاريخ إن الرِّجال كانوا يرتدون من حول عضوهم الذكري خرطومًا صُنِع من جلد الحوت يضم العضوَ والخصيتين معًا بطريقةٍ تبدو للعين وكأن العضو كبيرُ الحجم أو منتصِب على الدوام. وبعد أن هُجِر أسلوب جلود الحوت أصبح الرِّجال يرتدون سراويلَ مزيَّنة بالأقواس أو أدواتٍ مشابهة حتى يجذبوا أنظارَ النِّساء إلى الشيء العظيم. ونحن نرى هذا الاتجاه بوضوحٍ في اللوحات التي تصوِّر ملابسَ الرِّجال في أوروبا في القرنين؛ الخامس عشر والسادس عشر. ولم يكفَّ الرِّجال عن استخدام مثل هذه السراويل التي تعبِّر عن ميولهم الاستعراضية الجنسيَّة إلا في القرن الثامن عشر. وبعد الثورة الفرنسية وانتشار الأفكار المنادية بالمساواة بين حقوق البشر سقطت هذه السراويل والأقواس واتَّجه الرِّجال نحو سراويل أخرى أكثرَ تطورًا. على أنَّ من الواضح في عصرنا الحديث أنَّ الإصرار من جانب الرِّجال (وهم الذين يصنعون القيمَ والقوانين والأساليب والأزياء) على أن يكون للرجال أزياء معينة، وللنساء أزياء معينة، وأن يرتديَ الرَّجل السروال بالذات ليس إلا بقايا رغباتٍ استعراضية ذكورية، حيث إن البنطلون (وإن كان بغير أقواس) إلا أنه أكثرُ إبرازًا لعضو الرَّجل من الثوب.
ولا بد من التنويه هنا إلى أنَّ هناك قلةً من الرِّجال أبرياء من هذه الرغبة الاستعراضية أو من أي رغبةٍ أخرى استعراضية. لكنْ هناك رجال يستبدلون رغبتهم الاستعراضية الجنسيَّة باستعراض من نوعٍ آخرَ لإثبات ذاتهم أو ذكورتهم أو قوَّتهم أو سلطتهم أو أي شيء آخر يملكون.
هناك رجلٌ ينفِّس عن رغبته الاستعراضية بأن يجعل زوجته (حين تخرج معه) ترتدي أفخرَ الملابس وآخِرَ طراز (وإن كان ذلك ضد مبادئه الدِّينية والأخلاقية) من أجل أن يثبت للرجال الآخرين أنه يملك زوجةً على قدرٍ من الأناقة والجمال أكثرَ من أي زوجةٍ أخرى من زوجاتهم. وكما يفعل الرَّجل بزوجته يفعل بسيارته مثلًا، من أجل أن يقول للرجال الآخرين إن سيارته أفخرُ السيارات. وبالفعل يوجد التنافس الاستعراضي بين الذُّكور حولَ ما يملكون من زوجات أو أطفال أو سيارات أو بيوت أو شهادات أو أرصدة في البنوك أو عقارات. يحدث هذا لهؤلاء الرِّجال الذين عجزوا عن إثبات ذواتهم بطريقةٍ أخرى سوى الإعلان عن أملاكهم، سواء كانت أملاكًا بشرية أو مادية أو مجرد امتلاك عضو التناسل في أجسامهم.
إنها إحدى سِمات الحضارة الذُّكورية التي نعيشها والتي قامت على الملكية والامتلاك، وأصبحت قيمةُ الإنسان تتحدَّد بمقدارِ ما «يملك» لا بمقدارِ ما «يكون» إنسانًا.
وقد رأينا كثيرًا من الرِّجال الذين يعشقون الاستعراضَ الجنسي عن طريق الصحافة والفن والأدب. كم قرأنا لهذا الرَّجل الصحفي أو الأديب الشهير جولاته وصولاته مع المومسات والممثلات الشهيرات وخادمات الفنادق في أشهرِ مدن آسيا وأمريكا وأوروبا وأفريقيا. كنتُ أندهش وأنا تلميذة صغيرة حين كنت أقرأ لصحفيٍّ اشتهر في زمانه مثل محمد التابعي، الذي كان يحاول في كتاباته أن يتقمَّص شخصيةَ الدون جوان، وفي كل تجوالاته في أنحاء العالم لم يكن يشغَله شيء أكثر من أنه تناول العشاء مرةً مع الشهيرة «جاكلين»، أو أن «أفلين» كلَّمته في التليفون مرة، أو أنه لثم يدَ «كريستين» ذات ليلة، وشرب البيرة المثلَّجة مع «هلين»، أو طبع قبلةً خاطفة على جبهة «كاترين»! وكم من كُتَّاب وصحفيين تأثَّروا بالتابعي ونهجوا نهجه في كتاباتهم عن رحلاتهم في العالم، ووجدوا في ذلك تنفيسًا عن رغباتهم الاستعراضية.
وكما سبق أن ذكرت ليس ذلك إلا بسبب إحساس الرَّجل بالنقص ورغبته في تعويض هذا النقص بادعاءِ ما ليس فيه.