إلى إخواني الطلاب
قد تقولون، أيها الأعزاء: ما بال هذا الرجل يركض وراءنا إلى بيوتنا؟ أما شبعنا من نصائحه في الخريف والشتاء والربيع حتى يلحق بنا في الصيف؟ أليس الصيف للاستراحة؟
نعم يا عزيزي، ولكن الصيف للتحصيل أيضًا. إنه لتحصيل غير التحصيل المدرسي. التحصيل المدرسي لا بد من تجرعه، أما التحصيل الذي أدعوك إليه فهو مغذٍّ لعقلك، ومنمٍّ لمعارفك، ومقوٍّ لتفكيرك. إنه لذيذ الطعم لا تستطيع الحصول عليه في المدرسة. فالمناهج الموضوعة لك تضيق عليك، ولا تدع لك وقتًا للمطالعة، مع أن القراءة النافعة هي الغذاء العقلي والدم الجديد.
أنت تعلم مما تقرأ أن الطب الحديث يدخل في عروق الضعفاء دمًا جديدًا، وليتر الدم يساوي ثلاثماية ليرة.
لا تخف فما أنا جراح وأريد إدخال دم جديد، فالدم الذي أعنيه هو القراءة، وسأكون معك خفيفًا لطيفًا، فلا أحملك في العطلة التي انتظرتها ما يثقل عليك. إنني أدعوك إلى مجالسة صديقك الكتاب، وأسألك ألا تجافيه وتعرض عنه، فهذا الصديق هو أبقى لك من كل الناس حتى أبيك وأمك.
إن وصيتي لك ليست بدعة جديدة، فأنت طالب معرفة وعلم، وأول آية أوحى الله بها إلى الإنسان هي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، فأنا إذن لم أتجاوز معك حدود الله، فاقرأ باسم الله وتوكل عليه. وكما أوصى القرآن الكريم بالقراءة للاستنارة والهدى والإرشاد، كذلك قال الإنجيل: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.»
فالإنسان محتاج إذن إلى خبز آخر هو خبز المعرفة، وهذا الخبز لا تجده إلا في معاجنه الخاصة؛ أي الكتب. فالدول اليوم تحشد كل قواها لتنور عقول شعوبها، ولا حيلة إلى ذلك غير حمل الرعية على القراءة، فتوصلوا أخيرًا إلى توجيه مكتبات تطوف الأرياف، وتدعو الناس إلى المطالعة بالمجان.
أعرف أن أول من حض الناس على مؤاخاة الكتب والدفاتر هو ناطق بالضاد مثلك وهو أبو الكتاب العربي. إنك تدرس شخصية هذا العبقري وأدبه، فهو الذي انبرى إلى الدفاع عن الكتاب منذ ألف ومائتي سنة؛ ذاك هو الجاحظ الذي اجتمع في شخصه الضدان: الحلاوة والبشاعة.
رووا عنه أنه كان يستأجر دكاكين الوراقين ليلًا ليقرأ ما فيها من كتب. وقالوا إنه لم يعثر بورقة إلا لمها وقرأها ولو كانت على مزبلة. لست أظن أن أحدًا وصف الكتاب كما وصفه هو حين قال: «الكتاب وعاء مُلئ علمًا، وظَرف حُشي ظُرفًا، فهو بستان يحمل في ردن، وناطق أخرس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى. ولا أعلم جارًا أبر، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع من الكتاب.»
«الكتاب لا يجادل، ولا يشاغب، ولا يماري. وهو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يداجيك، ولا يداهنك. لك فيه نزهة وسلوى وغنى عن مناظرة الناس ومذاكرتهم، وسماع ألفاظهم الساقطة ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية.»
أعرفت إذن إلى ماذا أدعوك، إلى المطالعة صيفًا، فاجعل لكل شيء وقتًا، ولا تنسَ الكتاب من وقت يومي، ثم لا تخرم الميعاد.
إن الكتاب، يا حبيب القلب، لا يطرح نفسه عليك، ولكنه دائمًا في انتظارك، ينتظر منك غمزة ليجيبك: «عبدك بين يديك» كما كانت تقول المرحومة ستك في حكاية خاتم لبيك.
وبعد يا عزيزي، فالكتاب هو الذي صنع العظماء وخلق العبقريين. أليست الدنيا كلها هي كتاب الله الأعظم؟ وقد قالوا: لكل أجل كتاب، ولكل إنسان كتاب يحمله بيمناه حين يقف بين يدي ربه؟. فتمرن أنت منذ اليوم لتحمله جيدًا، وتكون من العارفين. فالكتب هي سجلات المعرفة الماثلة دائمًا بين يديك متى شئت، أما السينما التي لا تخلف مواعيدها، فهي معرفة أيضًا، ولكنها معرفة عابرة، ضائعة بعد حين، كما قال الشاعر:
والكتاب محك الأذهان والألباب، وعلى ضوء مطالعته تتفتق مواهبك المختبئة وراء ستر كثيف.
لا أظن أنك نسيت حديثي آخر مرة، وفيه قلت لك: المدرسة تعلمك القراءة، والجامعة تدلك على الدروب، ولكن المدرسة لا تقرأ عنك. ومتى علمت أن نوابغنا ونوابغ الدنيا جمعاء لم يتعلموا في مدارس اليوم، ومع ذلك حققوا قول أحد العظماء: «إنني أخاف صاحب الكتاب الواحد.» فاقرأ إذن يوميًّا، واقرأ بإمعان، لا لتتسلى فقط.
إذا كانت أجسادنا تحتاج إلى بعض حبوب الفيتامين، أفلا نحتاج يوميًّا إلى القراءة لنداوي ما في عقولنا من فقر دم؟
وإذا سألتني قانونًا للقراءة، قلت لك ما قاله برناردشو: «القانون الذهبي في هذه الحال هو أنه لا قانون هناك.» قس القراءة على الأكل. أما قال أبوك وجدك: «كُلْ ما تشتهي نفسك؟» فكل غذاء لا تشتهيه النفس، لا يستطيبه الآكل، ويكون كالدخيل على الجسم. فاقرأ إذن ما تحب. كن واثقًا بنفسك، واعلم أنك ستكون رجلًا إذا طالعت. ومن يدري أنك لا تصير من أصحاب الكتب التي تُقرأ وتنير إذا اجتهدت؟
يسرني أن أشجعك، ولهذا أقول لك: إن الكتب العظيمة تُطبع في المدن والعواصم الكبيرة، ولكنها كتبت وتكتب في القرى، أو في الأحياء الحقيرة.
إذن فثابر واجتهد لتكون واحدًا من هؤلاء الكتاب الأفذاذ، وهذا لا يكون إلا إذا قرأت كل يوم بانتظام. فقراءة ساعة كل يوم تمكن كل ذي مقدرة عقلية عادية من أن يصير متضلعًا من علم ما، وتمكن من هو غير متعلم أن يصير مثقفًا عارفًا في غضون بضع سنوات.
أنت تلازم المدرسة بضع عشرة سنة، ولكنك قليلًا ما تقرأ غير الدروس المفروضة عليك، فليتك تنتزع من الأوقات التي تضيعها ساعة للقراءة والكتابة.
إن مؤلفة كوخ العم توما ألفت هذه الرواية الشهيرة بما انتزعته من وقت كان يضيع لولا همتها وحزمها. ولونغفلو ترجم جحيم دانتي في الدقائق العشر التي كان ينتظر فيها غليان قهوته كل صباح. والفردوس المفقود لملتون نظم في اختلاس بضع دقائق يوميًّا.
لا تيأس مهما يكن عقلك سميكًا، ولا تنسَ أن شاعر الكنيسة وملفان البيعة أفرام السرياني كان قنط من عقله السميك لو لم يسأل تلك المرأة عن خرزة البير التي براها الحبل على طول الأيام.
بحياتك قل لي: مهما تكن مجنونًا وأبله، هل ترمي بليرة على قارعة الطريق كما ترمي بعض النفايات؟
الجواب: لا، فما قولتك إذن بالذي يرمي على طريق الحياة ساعة من زمان كل يوم؟
إننا نرمي الساعات ولا نبالي.
الآن قد انتهت معركة الامتحانات. فإن كنت لم تفز فالواجب يقضي عليك بألا تضيع فرصتك في صيد الحجلات، ورمي الشباك للحمامات التي تفرفر حول بيتك وتهاجمك من الشباك. سد النوافذ سدًّا هرمسيًّا. وضع كل وكدك في منهاجك.
كثيرًا ما نسمع في هذه الأيام أخبار انتحارات طلاب وطالبات؛ إن الانتحار ليس بعذر مقبول. لقد ولدنا للحياة، فلماذا نستعجل الموت؟ فدرس متواصل يغنينا عن تمثيل هذه المأساة.
الشهادة كالحرية، تؤخذ ولا تعطى، فحصلها بدرسك. ومع ذلك فإني أرى كل شهادات الأرض لا تساوي حياة واحد من الناس مهما يكن تافهًا.
سألني الكثيرون: من أين لك الوقت لتكتب كل ما تكتب، وهم لو عرفوا أني صرفت حياتي كلها في هذا الميدان، ولو كنت حرصت، كما يجب، على عدم ضياعها لكان لي أضعاف ما لي.
ويسألني غيرهم إذا كان عملي التعليمي يحول دون عملي الأدبي فلهؤلاء أقول: إن رجال الأدب في عصر دانتي كانوا كلهم إما تجارًا، وإما أطباء، أو قضاة، أو جنودًا.
وأنا أعرف كثيرين قد انتزعوا شهرتهم من بين أشداق الفاقة. إذن إلى ماذا ندعوك بعد طول هذه السيرة؟
ندعوك إلى الدرس، إلى قراءة ساعتين يوميًّا في فرصة الصيف، فتسمن ضلعك وتعود إلى المدرسة قويًّا نشيطًا.
كثيرًا ما يعود الطالب إلى مدرسته في تشرين وقد نسي كل شيء تقريبًا؛ لأنه طلَّق كتبه وأشاح عنها إلى غيرها … إن هذا الطالب لن ينجح.
وكثيرًا ما أعرف من أولياء طلاب يعلمون أبناءهم صيفًا ليقفزوا في صفوفهم.
إن العلم لا يدرك بالقفز والجمز والنط. فالثمرة التي لا تمر في جميع أطوارها لن تكون شهية لذيذة. فلينضج أبناؤنا على مهل، فهم ثمار الإنسانية والطفرة في الحياة محال.
فلنمتِّن حيطان ثقافة أبنائنا، ولا ننحِ باللوم على مدير التربية وأعوانه إذا قصر أبناؤنا. ولنسهر على أولادنا فهم في حاجة إلى ذلك. وإذا سهرنا على تصرفاتهم المسلكية في الفرص المدرسية — وما أكثرها — أمنَّا وقوع الكارثة.
فيا أيها الآباء المحترمون! فلتكن عيونكم على بنيكم عشرة عشرة، كما يقولون، ففي هذه السن يتقرر مصيرهم.
لا أريد بهذا أن تضايقوهم فيتمنوا زوالكم، كما قال معاوية، بل خذوهم بالحسنى ولا تجعلوا نصحكم لهم مصارعة لئلا تصرعوا معًا.
وكلمتي الأخيرة إليك، أيها الأب، هي أنك إذا رأيت أقل عداوة بين ابنك والكتاب، فحاول أن تؤلف بينهما، وإلا فتداركها بالفراق لئلا تنفق عليه ما لا ينفعه أكثر إذا بذل في غير سبيل تحصيل العلم.