كيف تصبح رجلًا ناجحًا
إذا التقيت برجل مهموم مغموم، وبدأ يشكو لك نكد دنياه، زاعمًا أن أشغاله فوق رأسه، وليس له وقت يتنفس فيه، فلا تصدقه ولا ترثِ له، واعلم أنه لا يدبر الأمور ولا يعرف كيف يستفيد من وقته. فالوقت أوسع مما يظن لو أحسن استعماله.
تخبرنا التوراة أن الله خلق الكون في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح من جميع أعماله، ورأى كل ما يصنعه حسنًا لا يحتاج إلى تنقيح. وفي هذه الحكاية أروع درس للذين من الإشارة يفهمون.
فإذا كان الله، جلت قدرته، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، قد قسم أعماله على أيام معدودات، أفلا يجدر بخليفته الذي خلقه بنفخة أن ينسج على منواله، فينجز ما يهم بخلقه ويظل مستريحًا؟
لا ينقذنا من همومنا، إذ تتراكم الأشغال علينا، إلا تقسيمها على أيامنا، فنخص كل يوم بجزء لا نتناول غيره، فالرجل، مهما يكن ضعيفًا، يستطيع أن يعمل ساعات في اليوم، وهذه الساعات متى ضمت إلى بعضها تصبح أشهرًا، وتصير الأشهر سنة، وإذ ذاك تظهر لنا جليًّا فائدة هذا التقسيم وما أعقبه من راحة.
أما إذا كنا نخلط أعمالنا، فإننا نعيش في قلق وهم ولا ننجز شيئًا.
ولعل السيد المسيح حين قال: «لا تهتموا بما للغد» يوصينا أن ننصرف بكليتنا إلى عملنا اليومي، ولا نفكر بالغد بل نجعله كأنه لا يعنينا أمره.
لا تقل: ماذا أفعل غدًا، بل قل: ما علي أن أعمل اليوم. فإذا خابت أمانيك أمس فلا تبك عليها اليوم وغدًا، فالماضي سجل انطوى، والغد صفحات مجهولة، فليس لنا إلا الحاضر، فلننكب على إنجازه، ولا تنجز الأعمال إلا إذا قسمت، فالثروة لا تدرك إلا قرشًا قرشًا، والقصر لا يُبنى إلا حجرًا حجرًا ومدماكًا مدماكًا، والذي أبدع التجارة بالتقسيط يستحق التعظيم، والبنوك التي سهلت للناس طرق التوفير لجمع المال قد أغنتهم وعلمتهم جمع الثروات. فهذه كبريات الدول تقسم إنشاءاتها على سنوات.
يصعب كثيرًا على الإنسان، إذا لم يكن ذا مال، أن يبني داره ويؤثثها بطريف الرياش، ولكن عندما ينفسح له في مجال المشترى بالتقسيط يعيش في بيت جديد ناعم البال، ويعمل مطمئنًّا ليهيئ ما يستحق عليه من أقساط شهرية.
وبسهولة التقسيط نفسها، نستطيع أن نعمل يوميًّا بكل راحة إذا قسمنا عملنا على يومنا وتناسينا هموم ماضينا ولم نفكر بالغد.
إن الانصراف إلى الساعة التي نحن فيها يشحذ همتنا ويجعلنا ننصرف إلى العمل الواحد في الساعة الواحدة. فلا يجدر بنا أن نعمل عملين في آن واحد، وإذا حاولنا فلا نقدر على إنجاز شيء.
كيف حالك اليوم؟ هكذا يسأل بعضنا بعضًا، فما سمعت في حياتي من يسأل كيف حالك أمس، ولا كيف حالك غدًا. وفي الصلاة لا نطلب من الله إلا قوتنا اليومي، ولا نقول له حين نصبح إلا: اجعل يا رب نهارنا سعيدًا.
ترى لماذا نترك الزهيد الذي نحصل عليه، ونعيش في جنات المستحيل المعلقة بحبال الأماني الفارغة؟
لماذا نترك الحاضر، وإن تافهًا، لنسعى وراء طائر جميل صوَّرته لنا أمانينا؟
إن المسترسل في أمانيه، المعرض عن واقعه، لهو أشبه بالمنبت الذي «لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى» كما جاء في الحديث الشريف.
فليكن لنا برنامج عمل يومي نسير عليه. كما لا نؤجل عشاء أو غداء، كذلك يجب أن نتقيد بهذا البرنامج العملي إذا شئنا النجاح.
إن حامل السلم بالعرض لا يمشي مستريحًا، ولا يفتح الطريق لغيره ليسير الهوينا. ومن يخلط أعماله ببعضها لا ينجز منها شيئًا، ويمضي نهاره دون أن يتم واحدًا منها.
كل بدوره أيها السادة، هذه عبارة قرأت حكايتها في كتاب نسيت اسمه، وهي أن ببغاء كان يرددها، وهو موضوع في قفص معلق في مدخل أحد نوادي الصيد، فإذا أقبل الأعضاء على باب النادي راح الببغاء يردد عبارته المحفوظة: «كل بدوره أيها السادة.» ونحن إذا انصرفنا إلى مشكلاتنا كلًّا بدورها استطعنا حلها، ووجدنا راحة في الترتيب.
ولكي نقطع الطريق على هموم الغد يجب أن نوزع عملنا على أيامنا، ولكي ننفذ علينا ألا نبقي أمامنا أو في متناولنا إلا ما نخصصه لعمل نهارنا، وبهذا نبعد عنا الهم والخوف من أعمالنا الكثيرة.
خاف أحد تلاميذي من برنامج صف الفلسفة فصار يحوم حول تلك الكتب ولا يجرؤ على مد يده إلى أحدها، وخصوصًا فلسفة التاريخ الطبيعي. فقلت له، بعدما كاد ييأس: باشر، فقد ذهب الوقت.
فأجابني: أرأسي مخزن حتى يسع كل هذه الكراريس؟
فتركته ورحت أفتش عن حل لمعضلته وقد تجسد أمامي مستقبله الضائع إذا ظل في هذا الخوف. ومع الصبح غدوت إليه غدوة امرئ القيس، فوجدته لم يشرع بعد في عمله، وما زالت كتبه مرصوفة على المكتب أمامه.
فقلت له: خذ واحدًا منها وبادر.
فقال: أي كتاب آخذ؟
قلت: خذ كتاب التاريخ الطبيعي، وابدأ، فمثلنا يقول: العتبة نصف الدرب.
فأجابني: لو كنت اخترت الهرم الأصغر لكانت نصف مصيبة.
فقلت له: إننا نصيِّر الهرم الأكبر أقل كثيرًا من الأهرام الصغيرة.
وتناولت كراسًا من تلة تلك المجموعة وقلت: ألا تستطيع حفظ هذه الوريقات بيومين؟
قال: بلى أقدر.
فقلت: احفظه، والملتقى بعد غد.
وجئت في الموعد فوجدته قد استظهر الكراس الأول فقلت: خذ الثاني، والموعد بعد غد.
ونهجت معه هذا النهج شهرًا، فإذا به صار يمشي وحده، وأخيرًا فاز بالشهادة وصار اليوم قاضيًا مرموقًا.
فلو لم نفرق تلك العشرات من الكراريس لما تجرأنا على مهاجمتها، فكلمة فرِّق تسد تُستعمل أيضًا في غير السياسة.
إن الذي لا يعرف من أين يهاجم وكيف يصادم لا يربح معركة. فالساعة الرملية تفرغ ما فيها في أربع وعشرين ساعة، ولا يعني حبة أن تزاحم أختها في الممر المعمول على القد، وهي لو فعلت لتعطل السير، ومثل تلك الساعة يجب أن تكون سيرورة أعمالنا اليومية كما قالت تلك الببغاء: كل بدوره أيها السادة.
هكذا يجب أن نعمل — الآن — ولا نهتم للغد، فالغد يهتم بشأنه.
ولكن الإنسان خُلق عبدًا لأحلامه وأمانيه، فلا يرضيه ما حوله بل يتطلع دائمًا إلى الأفق المجهول. يكون في جنة وحوله ثغور أجمل الأزهار ترنو إليه، فيعرض عنها ويفتش عن غيرها.
يكون في بحبوحة، ويخاف أن يفتقد الرغيف ولا يجدها، والذي يخاف على تعذر الحصول على رغيف الغد هو مختصر إنسان … فالإنسان يعلم أنه ليس عليه أن يتوانى، فإضاعة دقيقة هي فقدان الرغيف الذي يحن إلى طلعته. يجب أن نجري مع الزمن، فاليوم الجديد هو حياة جديدة، إن النوم هو موت مؤقت وقد يؤدي بنا إلى موت أبدي إذا لم نستقبل الغد ببشاشة، ونحييه تحية المحب المشتاق النشيط، ونبدأ عملنا بلا مقدمة ولا تمهيد.
إن لذة الحياة هي في العمل المستمر، وترك العمل يُولِّد التفكير بمصاعب الحياة ومصايبها، وهذا التفكير يُولِّد الهم والقلق. فالحياة وجدت لكي نعيش فيها لا لكي نفلسفها؛ ولكي نبعد الهم يجب أن نخلق لأنفسنا أعمالًا تسد الفراغ. يجب ألا نفكر في غدنا إلا عندما ينتهي نهارنا. وإذ ذاك نضع منهاج الغد، فبدلًا من أن نجتر همومنا في قيلولتنا فلنستيقظ.
إن كل يوم هو أشبه بالليمونة تقسيمًا. وعلى غرارها يجب أن نقسم أعمال يومنا. وأخيرًا يجب أن لا نرمي الليمونة في صندوق الزبالة إلا بعد أن نيأس منها.
يقول المثل: «الأمور تدبر بعضها» فلماذا نستبق الزمان، لماذا لا نعمل هادئين تاركين حبل الغد على غاربه؟
إن معلمنا الأكبر هو معنا، هو قلبنا، فليكن دليلنا حقًّا، ولنتشبه به في انتظام دقاته الرتيبة. فلولا هذه الرتابة ما استطاع أن يعمل سبعين ثمانين سنة ليلًا نهارًا.
من يستطيع تغيير ناموس الحياة؟ ألم يقل الحجاج: «لا بد مما ليس منه بد»؟
ألم يقل الجلاد لسقراط، حين ناوله كأس السم: «ارضَ بما ليس منه بد؟»
إن المؤمن لا يخشى شيئًا، بل يتابع طريقه على بركة الله. يتابعها ولا يخاف شيئًا. فإن كان مسيحيًّا فعنده: «شعور رءوسكم محصاة لا تخافوا، فشعرة منها لا تسقط بدون إرادة أبيكم.» وإن كان مسلمًا فهو متوكل على ربه في كل ثانية يردد: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا. وإن كنا نؤمن بالعلم الحديث فنحن باقون ندور مع هذه الأفلاك كيفما دارت، وأي شيء يهمنا؟
لقد مضى الزمن الذي كان فيه المرحوم جدي يخبرني عن انتهاء العالم العتيد، ويختم كلامه بقوله: «تؤلف ولا تؤلفان»؛ أي لا تأتي سنة الألفين ميلادية حتى تقوم القيامة.
فأين هو اليوم ليقرأ ما تنشر الصحف والمجلات، ويعلم أننا ننتظر أن نشيد لنا دكاكين ومحطات بنزين وغيرها في القمر والزهرة والمريخ؟
فإذا رأيت الرجل مطرقًا، شارد الفكر، مهمومًا، فاعلم أنه لا يحسن تصريف أعماله، بل يكردسها فتتراكم ويحمل همها. إنه يجعل من تأجيلها خميرة للقلق واضطراب الأعصاب. وهو، لو أراد، لاستطاع أن يخلو من الهم، وعاش مثل صاحبنا الدرويش.
في الحرب العظمى الأولى، التقيت بدرويش يحمل كشكوله. وكنت أنا أحمل زادي. فالخبز عز في ذلك الزمان ولو كان خبز شعير.
ترافقنا مسافة غير قصيرة. وأخيرًا مر بنا غني يركب عربته، فتقدم منه الدرويش يقوله: «من مال الله!»
فوقف الرجل وأمر خادمه أن يعطيه، فأعطاه بضعة أرغفة، فأخذ اثنين فقط ورد البقية.
فصاح به الغني: أفي هذه الأيام يرد من خبز القمح؟
فقال الدرويش: هذا عشائي، أما فطوري فعلى غيرك، إن عشت.
فقلت له بعدما مشينا: يا درويش الخير، ألا تخاف الجوع؟
فقال: لا والله! ومن يتوكل عليه يظل مكفيًّا. لي سبعون عامًا، وأنا أطوف في أرض الله ولم أُحرم القوت. أتكون البهائم خيرًا منا؟
ثم حملق بي وقال: ألا تعرف ماذا يقول إنجيلك: «تأملوا طيور السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد، وأبوكم السماوي يُقيتها»؟
نحن لا ندعو إلى عيش الزهد والتقشف والتوكل بدون عمل وسعي، ولكنا ندعو إلى حياة رتيبة حافلة بخير العمل الذي لا تلذ هذه الحياة بدونه. وإذا شئنا أن نخفف همومنا فلنعمل بقول المتنبي:
فليت الذين يركبون كتفي الدهر ويجعلون كل خطاياهم في رقبته يحسنون استثمار حياتهم، ويكفون عن سب الدهر المسكين. فلو صارت الأرض كلها أقمارًا وصواريخ فإنها لن تعثر عليه لتقتص منه …