إلى الراسبين في الامتحان
قال المثل اللبناني: «في تموز تغلي المياه في الكوز»، فلا بأس علينا إذا قلنا نحن: «في تموز المنحوس تفور الدماء في الرءوس»، ولكن ليس في كل رأس، بل في رأس من يرسبون في الامتحانات. فهذا فتى يهدد بالانتحار، وهذه فتاة تتجرع صبغة اليود، أو تزدرد كمية من أقراص الكاردينال، وذاك شاب يتهدد ويتوعد، ويسن السكين ليقضي بها على من يعتقد أنه سبب له الرسوب وعوَّقه من الخوض في معترك الحياة.
إن الشهادة هي عروس أحلام فتياننا. فأعجب لورقة فيها هذا الفتون الذي يدفع إلى الجنون.
إن بعض شبابنا يصح فيهم ما قال نجيب الحداد في المقامرين:
فأصحابنا، بل أحبابنا التلاميذ مستعجلون جدًّا. ولا عجب في ذلك، فالعصر عصر السرعة …
إنهم يريدون الشهادة من أقرب الطرق، وإلا تمثلوا بقول امرئ القيس: «نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا!»
لا يا حبيبي، الروح عزيزة ومن يدريك أو يدرينا أنك لا تكون في المستقبل السيد الذي يرفع رأس وطنه عاليًا كأكثر الذين نتحدث عنهم حتى نطحت رءوسهم السماء وغابت وراء الغيوم؟ فحتى يهون عليك الأمر، ولا تستصعب رسوبك، ادرس سير نوابغ العالم، فقد تجد بينهم من رسب مثلك وخرج إلى العالم وليس في يده السلاح الماضي الحدين الذين تحلم به.
يعجبني في هذا المقام أن أسرد على مسمعك حكاية أب استعجل الوصول إلى البيت قبل أن يحدق به الظلام. كان في طريقه نهر شتوي طائف. فبدلًا من أن يدور الدورة حتى يصل إلى الجسر، شمر عن ساقيه وقودم، فمضت به الحامولة إلى البحر وترك أمًّا وطفلًا رضيعًا.
ولما درج الطفل وشب، سأل أمه في إحدى ليلات كانون التي يحلو فيها السمر عن أبيه الذي لم يعرفه، فقالت له: قلت لك فيما مضى: والدك غائب وسيعود، أما الآن، وقد صرت بالغًا رشيدًا، فمن حقك أن تعرف أن أباك مات، والموتى لا يرجعون.
فوجم الفتى هنيهة، ولكنه أراد أن يعرف كيف مات أبوه، فأجابته أمه: كان في المدينة، وعندما رجع كان النهر طائفًا، والجسر بعيد، فخاطر وقطع، وكانت النهاية.
فقال الفتى: ولماذا لم يذهب إلى الجسر؟
فقالت الأم: استعجل ليصل إلى البيت قبل أن يدهمه الليل.
فأجاب الغلام: ولو كان مشى إلى الجسر، أما كان وصل الآن؟
فمن هذه الحكاية تعلَّم، أيها الطالب الكئيب. فإذا لم تصل العام، فإنك واصل بعد عام أو عامين، فلماذا تلوث يدك بدمك، أو بدم غيرك وتقضي العمر شقيًّا؟
ابحث عن سبب علتك وداوها، واقرأ سيَر الرجال، تجد بينهم من لم يكونوا أحسن منك حالًا، فما نالوه من شهرة لم يبلغوه إلا بالكد والجد وسهر الليالي.
قل لي: كم ليلة سهرت، وكم سنة انصببت على كتبك كما يكون الانصباب لأرى إذا كنت تبلغ ما تصبو إليه؟
إن درس شهر نوار وبضعة عشر يومًا من حزيران لا يجديك. فتحصيل البكالوريا لا بد له من خمس سنوات درس متواصل فكيف تريد أن تحقق ذلك في شهرين ثلاثة؟
ففي ليالي الكوانين يقرصك البرد فتسترخي تحت اللحاف، وتلعن أبا الذي دق الجرس ألف مرة، وفي فصل الربيع تستسلم إلى مباهجه، وتناجي زهوره التي توحي إليك بألف معنى … وتظل كذلك حتى تصير على رمية حجر من موعد الامتحان، فتركض إذ ذاك إلى الكتب الكثيرة المطلوب منك درسها.
قلت: درسها، والدرس لفظة مجازية مأخوذة من درس القمح على البيدر، وعليك أن تفعل كالفلاح الذي يظل يدرس ويدرس حتى ينال المحصول.
إن المنهاج لا يطالع مطالعة سطحية. ومن يفعل ذلك يبوء بالخذلان.
فالمعرفة لا تكتنز ما لم تستحل إلى ذوق كما يستحيل الخبز دمًا في أجسامنا.
هذا هو موقفنا من المنهاج أنا وأنت. أنا كأستاذ علي أن أكون دليلك كما كان فرجيل دليل دانتي في الجحيم والمطهر والنعيم.
وفي منهاجنا جحيم ونعيم ومطهر، ولا بد من المرور بها جميعًا، والأمر لله، والامتحان مشتقة من المحنة.
احذر أن تقامر في تحضير المنهاج، فالمقامر خسران إن عاجلًا أو آجلًا.
لا أعني بالمقامرة لعب الورق أو سباق الخيل، بل أعني أن لا تتكل على اليانصيب، كأن تدرس هذا الشاعر أو ذاك الكاتب، راجيًا أن ينزله الحظ عليك في قفة ويقول لك: «تفضل يا عزيزي، خذ موضوعك غنيمة باردة.» إن الذين يفعلون هذا، أساتذة وتلاميذ، ليس لهم أقل نصيب من الأمانة العلمية والتعليمية.
وهناك سبب آخر أدى إلى رسوبك الذي استغربته، ومن حقك ألا تستغربه. أما تركت المدرسة الفلانية؛ لأنها لم ترفعك إلى صف أعلى وأنت تريد أن ترقى إليه؟
إن العلم لا يتعرف إلى الأوتوماتيكية، والطالب كالثمرة، يجب أن يمر في أطوار شتى، محتملًا الحر والبرد حتى الثلج لينضج مثلها ويصير ذا نكهة شهية. فإذا كنت ظننت أنك ربحت سنة أو سنتين، فأنا أقول لك: إنك لم تفز إلا بخيبة مرة، وكانت المصيبة الثانية شرًّا من الأولى.
ثم، أما حاولت أن تخدع أساتذتك ومدرستك، بنقل من هنا وهناك؟
أما توسلت إلى مدرستك حتى تجيز لك دخول الامتحان وأنت غير كفء له؟
إن أحوالًا شتى كان يجب أن تهديك سواء السبيل، ولكنك اتكلت على ما لا يجوز الاتكال عليه من وسائل ووسائط لا تُذكر هنا، فلندعها في القلب تجرح ولا تخرج من الفم فتفضح.
ثم أتحسب أن ما يمليه عليك معلمك سلاح تقاتل به معترك المعرفة؟ لا يا أخي!
إن ما ينقل من هنا وهناك، وتجمع أطرافه وأذياله ليصير دراسة ليس بذي بال عند الممتحن الحصيف.
وعلم الأصول من نحو وصرف وبلاغة إما أعرضت عنه؛ لأنك رأيت كتاب اليوم يصرحون بأن هذا لا يفيد، وقد أعرضوا هم عنه فسرت أنت وراءهم؟
لست أضع كل الأعباء على كتفيك، ولكن أريدك أن تكون أشد انتباهًا، فمهما كان أستاذك غير ضليع، يظل أسمن منك ضلعًا فهو على الأقل يكتب صحيحًا، وأنت — رعاك الله — لا تراعي حرمة اللغة، ظانًّا أنك، إذا استظهرت ما أملي عليك، ربحت المعركة.
لا يا ابني، إن من يسير وراء القدماء ولا يفكر لا تظهر شخصيته. والشخصية أعظم جدًّا من المنهاج المطبق؛ أي السير على الطريق المعبدة.
نريد أن تظهر شخصيتك أدبيًّا في الدراسة الثانوية. أما شخصيتك السياسية والحزبية فهذه موضعها في الدروس الجامعية: الحقوق والطب وغيرهما، وغيرهما!
أتعترف الآن بأنك لم تكن على حق حين كنت تفكر بالإضرابات لأجل قضايا تافهة، وكل ذلك لكي تتخلص من الدروس؟
إذا كانت الشئون الكبرى لا تصح مقاومتها بتعطيل العمل، فكيف بالشئون الصغرى؟
فعند أقل حادث نلجأ إلى الإضراب، ونطلق الكتاب، وهذا عمل لا يتفق مع الدروس الثانوية، والعلم عامة لا يسع معه شيئًا.
إن الشهادات لا تُنال بالاحتجاجات والمؤتمرات، إنما تنال بالدرس الذي لا ينقطع. فلندع معالجة الشئون الطارئة لأربابها. أما أنتم الآن فلا شئون عندكم ولا شجون.
أما المدارس فعليها أن تقف من طلابها موقفًا صارمًا، فلا ترقي ولا ترفع لأجل دمعة فرت من عين، أو كلمة تهديد يرسلها أب جاهل. فالعلم لا يؤخذ غلابًا ولا بالتمني «والخاطرشن» …
قال ابن سيراخ: من أحب ابنه فليهيئ له القضبان حزمًا حزمًا.
ونحن نقول: من أحب تلميذه فلا يراعيه. فصديقك من صَدَقَك من لا صدَّقك.
كنت ألجأ مع الطالب دائمًا إلى البرهان: يقول لي مثلًا: جربني في هذا الصف، وإذا لم أمشِ، نزلني في نصف الفصل. فأقول له: النزول ذل وانكسار، فأنا أضعك الآن حيث أعتقد أنك تستحق، وإذا رأيتك قادرًا أصعدك.
ولكن المحاورة لم تكن تقف عند هذا الحد، فيقول الطالب: والكتب يا معلمي غالية أسعارها، فلا بد من شراء كتب جديدة ودفع المبلغ المرقوم.
ولم أضعف تجاه هذا الطالب الداهية فقلت له: لا تكتب اسمك عليها، واحفظها نظيفة لنستعيدها منك ونعطيك غيرها.
ولا يقتنع الطالب، فيطرح الصوت على أبيه وعمه وخاله وأولاد الحلال من أوجه الضيعة والجيرة، وكلهم يساعدونه حتى نكذب عليه.
أما حق الكذبة فيدفعه هو يوم الامتحان، وقد قيل: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.