النمام عدو السلام
من ذاك الذي نراه في النوادي يبحث بعينيه عن رجل يسكن إليه؟
ينحني على عمرو وينطوي كالخيزران فوق رأس بكر ليصب في آذانهما ما أنتجه من حكايات كاذبة وروايات أحكم صنعها حتى أشبهت الواقع.
حديثه مناجاة، وكلامه همس قلما يتجاوز تخوم شفتيه. ينفرد بهذا ويختلي بذاك، ولا يستقر على حال، فيفر من هذه الزاوية إلى تلك كأنه الزئبق الرجراح.
يرحب به هؤلاء ويحتفي به أولئك، وكأنهم جميعًا في انتظار مقدمه السعيد.
ومن هو ذاك الجوابة الهداج حول البيوت؟ فلا يدخل من باب حتى يخرج من الآخر، إذا لم يقع على المرعى المنتظر؟
يحمل إلى زيد أخبار عمرو، وينقل إلى خالد أبناء مصطفى. فونغراف يعبي ويفرغ، همه بذر الشقاق بين الأصحاب والأعداء، وتجارته الأحاديث، ولكنه يتجر بها تجارة فاجر باع ذمته في سوق الخساسة.
فإذا كنت لم تعرفه فأنا أعرفك به: هذا هو النمام الذي يزرع بذور الفتنة في الأذهان والقلوب ويتعهدها بماء الكذب والنفاق، فتنبت شوك العداوة والبغضاء.
فالنميمة أشد الآفات فتكًا بالهيئة الاجتماعية. كم قبَّح القرآن الكريم ذويها، وكم ضُربت بهم الأمثال، وكم قيلت فيها أشعار، وكم مرة وقف السيد المسيح على روابي أورشليم محذرًا قومه من هؤلاء المرائين، وكم كتب القديس بولس الرسالات الضافية الذيول يحذر بها الأخوة شر النميمة، وقد قيل: «أربعة لا يدخلون الجنة: النمام، والمستهزئ، والمرائي، والكذاب.»
فالنمام — قبح الله وجهه — هو رسول الشر، ونذير الخراب، والبوم الناعب في قصور المودة! فكم فرق بين أخ وأخيه، وصديق وصديقه، فكأنه لم يحفظ من الإنجيل غير قوله: «جئت لأفرق الأخ عن أخيه، والابن عن أبيه!»
وللنميمة أضرار جسيمة فهي تثير كوامن القلوب وتوقد نار البغض. وكم من مشكلة كان يهون حلها على أصحاب النيات الحسنة لو لم يقف بوجههم النمام، وينقل الأخبار المنسوجة على منوال خساسته، فقويت بذلك شوكة الخصام وصعب كسرها.
قال بعض الحكماء: «احذروا لصوص المودات، وهم السعاة والنمامون. فمن أطاع النمام أضاع الصديق.»
ودفع إنسان رقعة إلى الصاحب بن عباد يحثه فيها على أخذ مال يتيم، وكان مالًا كثيرًا، فكتب ابن عباد على ظهر تلك الرسالة: «النميمة قبيحة وإن كانت صحيحة، والميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والساعي — النمام — لعنه الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.»
قال رسول الله: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا. فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر.»
وكلم معاوية الأحنف في شيء بلغه عنه فأنكره الأحنف، فقال له معاوية: «ولكن الذي بلغني ذلك رجل ثقة.»
فأجاب الأحنف: «إن الرجل الثقة لا يبلغ مكروهًا.»
وجاء في سفر الأمثال: «رجل الأكاذيب يطلق الخصومة، والنمام يفرق الأصدقاء، وكلام النمام مثل لقمة حلوة وهو ينزل إلى مخادع البطن. بعدم الحطب تنطفئ النار، وحيث لا نمام يهدأ الخصام ويعيش الناس هادئين مطمئنين.»
وقيل أيضًا: من حرم الخير فليصمت، وإن حرمهما — أي: الخير والصمت — فالموت خير له. وقال الله في كتابه العزيز: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ.
وفي الحديث الشريف: «لا يدخل الجنة نمام. وشراركم المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة.» وقال أيضًا، صلوات الله عليه: «ملعون ذو الوجهين، ملعون ذو اللسانين، ملعون كل نمام!»
وما أجمل ما تكني به العامة عن النمام فسموه «زقاق صحون.»
كان الفضل بن سهل يكره النميمة، وكان إذا أتاه ساعٍ يقول له: «إن صدقتنا أبغضناك، وإن كذبتنا عاقبناك، وإن استقلتنا أقلناك.»
وقال المأمون: «النميمة لا تقرب مودة إلا أفسدتها، ولا عداوة إلا جددتها، ولا جماعة إلا بددتها.» وقال صالح بن عبد القدوس:
وقال الحسن: «ستر ما عاينت أحسن من إشاعة ما ظننت.»
وقال عبد الرحمن بن عوف: «من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها.»
ولذلك قالوا: النمام هو أحد الشاتمين، وقد سبك من بلغك السباب.
وكان لابن الوردي الشاعر غلام رديء المسلك اسمه بهادر فحرره، ولكنه ندم على ذلك؛ لأنه بتحريره إياه كان كمن أطلق وباء في المجتمع. وفي ذلك قال قصيدة مشهورة هذا مطلعها:
ومن صفات هذا العبد أنه لم يكن يحمل إلى مولاه إلا أخبار السوء، ومن طبعه أن لا يهدأ له لسان فهو كما تقول العامة في من كان مثله: «لسانه بسبع شناخيب»، وفي وصفه قال هذا الشاعر المنكوب بعد أن عدَّد شعرًا صفات هذا العبد النمام المبشر دائمًا بالسوء:
ومن الأمثال المصنوعة على قالب كليلة ودمنة، حكي أنه كان في إحدى الغابات الكثيفة شجرة ضخمة طال عمرها فنخَّرت السنون في جذعها. وضعت اللبؤة في قرارة جوفها أشبالها، كما بنى العقاب في شماريخ أغصانها وكره. وبينما كان في وكره يزق أفراخه، إذ بالهر يشرفه بزيارة غير منتظرة افتتحها بالتحية المعتادة: «حياك الله أيها الصديق.» وبعد السلام والكلام شرع الهر بالتدليس والتملق، فتنفش العقاب وأصغى بأبهة ورصانة إلى حديث زائره الكريم. وبعد إفراغ جراب التحيات والسلامات انتقل الهر إلى الغرض الذي من أجله جاء فقال له: «لي معك حديث تهمك معرفته، وإذا لم أقدم حتى الآن على إطلاعك عليه فخوفًا من أن تبوح بالسر.»
وبعدما كبَّر الأمر وجسَّم الخطر أقسم له العقاب بشرفه وبدينه أنه لا يفشي من سره شيئًا. فقال له الهر: «سمعت الأسد يقول لبنت عمه اللبؤة: إنه يترقب فرصة غيابك ليصعد إلى أفراخك ويأخذها زادًا لأشباله.»
فشكره العقاب على نصيحته الغالية، وودع الهر وانصرف.
وفي طريقه عرج على الأسد، وقبل أن يدخل عليه صاح به من بعيد: «أمنِّي يا ملك الزمان، فأنا أحمل إليك نبأ يهمك.»
وكان له الأمان الذي أراد، فدخل وهو يقول: «أسعد الله صباحك يا ابن العم، إن القرابة هي التي حملتني على أن أنقل إليك خبرًا يهمك جدًّا أن تعرفه؛ لتكون على بصيرة من أمرك. إن العقاب المعشش فوق في أعالي الشجرة يتحين فرصة غيابك لينقض على أشبالك ويطعمها أفراخه.»
فتعجب الأسد من هذا النبأ، وربض لا يفارق العرين، ومثله فعل العقاب. وظلا على تلك الحال حتى ماتا وأولادهما واستراح الهر منهم جميعًا.
فلو قلدنا النمام زمام الحكم وقلنا له: كن عادلًا واحكم على الهر بما يستحق من عقوبة فبماذا كان يحكم عليه يا ترى؟
فيا أيها النمام الزنيم، والمشاء الأثيم، ألا أشفق على إخوانك!
ألا رحمة بقلوب العباد، ولا تطلب الحياة بقتلك الناس!
فإذا كان هذا سبيلك لاكتساب عطف الناس فقد ضللت.
كن سليم النية صافي السريرة تجد ثغر الحياة باسمًا لك، والطمأنينة مادة يدها لتصافحك، والسعادة فاتحة ذراعيها لتضمك إلى صدرها.
إن ثوب الرياء يشف عما تحته، ومهما انفسح أمامك الأجل وطال، فلا بد من الافتضاح. وإذ ذاك تغلق بوجهك الأبواب، وهذا إذا لم تطرد كالكلاب.