على أبواب المدارس
جاءني رجل حاشيته رقيقة ولكنه مستور الحال. وبعدما ارتمى على المقعد واسترخى قليلًا، تنهد ونفخ نفخة أرقصت الأوراق على مكتبي، فقلت له: «خير إن شاء الله! أية أزمة أنت فيها؟ لست أرى على وجهك دلائل مرض، ولم يبلغني أنك أصبت بأنف العنزة ولا ذنبها، فما هذا الضنك البادي على وجهك؟»
فتأوه الرجل وقال: يا ليت! دواء الأنفلونزا هدية المقرف، ليمونة حامضة وقرص إسبرو، أما علتي أنا فهي في جيبي. صرنا على أبواب المدارس والجيب فاضٍ. أنا خائف أن يبقى الصبي بلا مدرسة.
فقلت: ما أكثر المدارس يا أبا جميل! فنق واختر منها ما يلائم، وعلى قد بساطك مد رجليك.
– وإذا لم يكن لي بساط بالمرة فما العمل؟
فأجبته: أبلغ بك الضيق هذا المقدار ونحن لا نعرف؟
فقال: لم أحتج بعد إلى القوت، ولكن الأقساط المدرسية وارمة والعام ضيق. الزيتون ما حل، والتفاح أرخص من الفجل. مائة صندوق لا تسدد القسط الأول، وثمن الكتب والقرطاسية، والدخان لا نعرف كيف يكون سعره. كانت الناس تفرِّج عن بعضها، أما اليوم، ومع أن العملة ورق، فالناس تنكر وجودها وتقبرها تحت تاسع أرض. أكثر الناس يكسرون يدهم ويشحذون عليها. عجزنا وما وصل إلى يدنا قرش؛ أنا خائف أن يطلع الصبي بلا علم.
ومرت الأيام وعاد الرجل طلق المحيا، فقلت في نفسي: أبو جميل قرع باب الفرج وفتح له.
فقال بعدما احتبى: أنت تظن أني وقعت على ابن حلال أقرضني القسط. نعم يا سيدي، قد وجدنا القسط في صندوق أم الأولاد. باعت فسطانها المخملي وخاتمها الذهبي، وقالت لي حين أعطتني المال: ما نفع شب طويل عريض ليس في رأسه علم؟ الفسطان يعوَّض، أما العلم فهو كالزرع، إذا لم يغرس في وقته فلا تنتظر منه غلة.
وهنا تأوه أبو جميل وقال: لا تسألني بماذا كافأتها على هذه البشرى … وقمت فورًا إلى ثيابي الجدد وطرت بابني إلى المدرسة. وها نحن ننتظره كما ننتظر الحبة التي نبذرها في تشرين، ولنأكل غلتها في حزيران، أليس العلم غرسًا؟
•••
هذه حكاية أكثرنا أيها الطالب العزيز.
لقد دخلت المدرسة بفضل فسطان أمك، الذي لبسته في ليلة زفافها، وهي تحلم بك. فماذا تفعل أنت حتى تكافئها وتكافئ أباك على تلك الساعات المضنية التي زعزعت أساساته؟
الأبوان لا يترجيان إلا فلاح ولدهما، فاعمل لتخرج مفلحًا، قدر جهاد والدك وتضحية أمك، واكسب من العلم كل ما تستطيع.
وكأني بك تسألني: وماذا أعمل حتى أكون شابًّا ناجحًا؟ إن كان عندك شيء غير الوعظ فهاته.
– نعم عندي هذا السؤال: هل أنت مقبل بكل رغبة على المدرسة؟ فإن كنت كذلك فأنت ناجح وغني عن إرشادي.
إن العلم لا يسع معه شيئًا. فالدماغ كالوعاء، إذا ملأناه فلا نستطيع أن نزيد عليه شيئًا. أما سمعت قول المثل: «بطيختان لا تحملان بفرد يده»؟ وكذلك هو الفكر، فإنه لا يشغل بأمرين في وقت واحد.
قال أحد علماء الكنيسة الأتقياء: على من يريد الترهب أن يخلع ثيابه عند بوابة الدير.
أفهمت معنى هذا القول؟
معناه أن من ينصرف إلى الزهد يجب أن يتجرد من كل ميوله الأخرى. وأنت إن كنت غير زاهد في اللهو والعبث فما لك والمدرسة! أما إذا دخلتها فاقفل الأبواب خلفك جيدًا، واعمل برغبة كلية تدرك غايتك.
إن المعرفة لا تنال باللهو وطق الحنك، فإذا كنت طائشًا كالفراشة فستخرج من المدرسة محترق الجوانح.
ليس المعلم بوليسًا يحمل فردًا على جنبه ليعلم الطالب غصبًا عن رقبته. إنه كبائع الكعك الذي تراه واقفًا عند بوابة المدرسة، فهو لا يقاتلك إذا لم تشترِ منه بل يحاول أن يغريك ويشهيك، ولك أن تفعل ما تريده.
المعلم لا يقدر أن يطعِّمك كما يطعِّم أبوك الأشجار البرية. عندك وسائل كيما تعد نفسك للنجاح. منها الإرادة فاعتصم بها تنجح.
وإذا أعياك القبض على ما ترغب فحاول أن تتعود.
إن العادة توليك نعمًا كثيرة وآثامًا كثيرة. فإذا تعودت إتمام واجباتك صرت رجلًا في الحياة، وحزت المعرفة التي دفع ثمنها فسطان أمك.
التجئ إلى العادة، فإنها تمسي غريزة. فمن ألِف القراءة قبل النوم لا يرقد ما لم يقرأ.
أرأيت العادة كيف حولت القراءة بنجًا؟
فإذا قبضت على كتاب، فلا تدعه حتى تأتي على آخر صفحة منه.
سألت مرة تلاميذي: من قرأ منكم كتابًا كاملًا في اللغة الفلانية؟
فأجابوا: لا نحبها، فلا نفتح الكتاب حتى نطويه.
فقلت لهم: احسبوها شربة زيت خروع، تعودوا عليها تستطيبوها.
فتعود بعضهم عليها وطابت نفوسهم بها حتى رغبوا فيها وكتبوا فصولًا لا بأس بها.
فإذا أردنا وتعودنا بقي علينا شيء واحد وهو الأهم؛ أي الانتباه.
هنا تخطر لي الآية الإنجيلية القائلة: إذ لم يبن رب البيت فعبثًا يتعب البناءون. وهكذا يمكننا القول: إذا لم ينتبه التلميذ فعبثًا يتعب المعلم.
والانتباه لا بد لنا من التعود عليه والمثل يقول: «كل شيء عادة حتى الصلاة والعبادة.»
فإذا مرنت نفسك على الانتباه استفدت كثيرًا مهما كان عقلك غليظًا.
العادة هي التي تخفف عنك جميع أثقال الحياة، فتتحمل المشقات وترضى بحالتك التي أنت فيها.
العادة هي التي تعلمك الانتباه، إذا تعودته تأتيه بدون أقل كلفة.
وهنا يجب أن يهب المعلم إلى نجدتك، فالانتباه لا يكون إلا حيث تكون اللذة والرغبة، فعلى الأستاذ أن يجعل دروسه لذيذة بما يبثه فيها من شخصيته الجذابة. إذا كانت له شخصية.
ومن هنا جاء التصفيق بالأيدي للخطيب المجيد، وبغيرها للمحاضر البائس.
إن قراءة الكتب اللذيذة تسترعي انتباهنا، وتسوقنا بعصاها إلى حيث تريد، ولا يمكن إلا أن ننتبه إذا كنا نقرأ كتابًا يستهوينا ويرغبنا.
هذه رءوس أقلام وفيها بعض الكفاية الآن وسوف لا ننقطع عنك يا أمل الأم والأمة.