العائلات المستورة
إنها كواكب نيرة تهاوت من علياء سمائها، وشهب خبت أنوارها المتقدة، ونسور نبل وكرم شل الدهر أجنحتها، فسقطت من أعالي معاقلها الحصينة، فأبت عليها أنفتها أن تزحف مع خشاش الأرض، فانزوت وفي القلب حسرة، وفي العين دمعة تفجرها الذكرى. تنظر إلى معاقلها بعين مكسورة، ثم تحني رأسها لتنسجم مع واقع حالها راضية بما كتب الله لها.
إن العائلات المستورة هي ذلك النسر الذي قلما يدرك الناس هول فجيعته. فهم لا يرونه على رفارف الشوارع، ولا على أبواب المنتديات مادًّا يده؛ لأنه لا يحتمل أن يقف سائلًا بعدما كان مسئولًا، ويأبى أن تكون يده السفلى بعدما كانت العليا، فهو يصبر ويصبر مرددًا قول المثل: «خليها في القلب تجرح، ولا تخرج من الفم فتفضح!»
إن بشارًا الأعمى، مع جشعه وتكالبه على المال، أدرك ما يعانيه الكرام من ألم حين تعجز أيديهم عن الجود ومؤاساة الناس، فأبرز صورتهم في أجمل إطار حين قال:
ومن ينكر أن تلك العائلات المستورة حقًّا لم تكن دعامة راسخة لبنيان المجتمع، فترك سقوطها فراغًا عظيمًا؟
فطالما كانت عضدًا للفقير، وساعدًا للبائس، وعكازًا للضعيف المسكين، فانتشلت بحسناتها تعساء مطروحين في غيابات الجوع والخوف والجهل. ولكن الدهر الذي لا يرحم جارٍ عليها، فأذاقها مرارة الجوع والخوف، فقبعت في عقر دارها تلتمس قوت من لا يموت.
هوت إلى الحضيض، وليس لها بسطة كف تستعين بها على قضاء حقوق الحياة، فصبرت على نوب الزمان بإباء، ولم يصغر البؤس والحرمان نفوسًا عاشت كبيرة، ويأبى الشرف وعزة النفس أن تموت صغيرة. لم يطرأ على ذلك العنصر الكريم ما أفسده عند فقد المال، فكان كالذهب الخالص لا يأكل الصدأ عرقه المتين مهما تراكمت عليه الأقذار والنار.
ففي هاتيك البيوت التي كانت أبوابها مشرعة للبائسين، ومعجنها سائبًا للعافين، أمست النفوس تتهلل إذا شبعت البطون، وتغتبط إذا فتحت بابها ليخرج منه رغيف يسد رمق معوز.
إن الفقر الحقيقي يتجسم بين تلك الجدران الصامتة حيث لا أيدي تبسط على قارعة الطريق، وحيث العيون تحجبها براقع الحياء، وحيث عزة النفس تترفع عن السؤال، فتتمسك بأهداب الصبر على خواء البطون.
إن كماليات هذا العصر وتقاليده تمتص ما بقي في كأسها فتحاول ستر خصاصتها، ولكن أنى لها ذلك والفقر فضاح! فهي كالمحكوم مؤبدًا بالأعمال الشاقة فلا براح له.
الناس في حفلاتهم، يتحلَّقون حول الموائد الموشَّاة بصحاف ألوان الطعام، يأكلونها بعيونهم وأفواههم، وآذانهم صماء عن تنهدات العيال المستورة، ناسين مآدبها وكوكتيلها وشايها، وتبرعاتها ومبادرتها إلى إغاثة الملهوفين والمنكوبين. ففي كل موسم لا يطرق أحد بابها ليؤاسيها أو يسليها أو يتوجع لها.
أيامها أمست مآتم، ولياليها للنحيب الصامت. تتأسف على الجاه العظيم، وتتلهف على مال فرقت شمله يد القدر الغاشم. وكل مصيبة تصغر متى كبرت، إلا مصيبة زوال النعمة، فإن آلامها وأوجاعها تتجدد كل ساعة. ولكن ذلك البكاء لا يتجاوز صدرها، فهي ترجع صوتها كالمطوقة التي تبكي الهديل. فأين هم الذين سمتهم العرب جابري عثرات الكرام ليتداركوا هذا البؤس الصامت؟
فباسم الإنسانية نسأل ذلك الغني الحديث النعمة أن لا يرفع رأسه اختيالًا وكبرًا، ويخفف الوطء على أديم الأرض، ولا يغره حشد المال ورقًا وذهبًا في صندوقه الذي لا يدخله حتى الهواء القالع … فما ضر ذاك الثري الأمثل لو ألغى مأدبة أو حفلة كوكتيل من حفلات العام، ونفَّس بها عن هذه العيال المسكينة، بينما هو يعلق في صدر قاعته: «الخلق كلهم عيال الله»؟
أنتركها في بؤسها كما ترك جزيمة بن بشر أصدقاؤه وجفوه بعدما أنفق عليهم ماله؟
أبى جزيمة الشهم أن يخرج من بيته فقيرًا حتى يقرع الموت بابه وينتزع درة تلك النفس من صدفها. بل فلنكن كعكرمة الفياض الذي حمل إليه تحت جنح الليل الدامس كيسًا من الدنانير، ولم يُشعر بذلك أحدًا.
فإلى أمثال هؤلاء نلفت أنظار الحكومة، فهم أحق بفضلات الميزانية من الأنانيين الذين يتناتشونها ويسلبون بمراسيم ما يطمعون به منها.
قد تكون في هذه البيوت المسدلة عليها ستور النسيان آنسة ذات جمال وكمال يحول دون تأهلها قليل من المال يكون جهازًا لها، كما تقضي عادات هذه الأيام، فلا تبقى حملًا ثقيلًا على عائلتها التي هي أيضًا عيال على القدر الساخر.
وقد يكون بينها فتى متوقد الذهن بخل عليه الدهر الظالم بقليل من المال؛ لتقبله إحدى المدارس العالية في حضنها حيث يتلقى العلوم ويكون في المستقبل من جنود المعرفة التي تحارب الجهل المخيم في آفاق البشرية.
وقد يكون بينها صبية صغار يتضورون جوعًا، وسيدة انزوت بين جدران بيتها ولم تخرج منه بأثوابها الرثة حياء وخجلًا. وسيد لا يجد غير المعول ليحصل به ما يقوم بتكاليف عائلته المنكودة.
هذا ما نذكِّر به بمناسبة المواسم والأعياد وحلول الشتاء القاسي، وعسى أن تصادف كلمتنا هذه آذانًا تسمع، وقلوبًا ترق، وأيادي تسمح، فالثروة التي لا ينتفع بها الغير أشبه بالطعام الزائد، فإنه يبشم ويتخم، ويضر ولا ينفع.