على بوابة مدرسة
في مثل هذه الأيام تتفتح جراح المعسرين.
يستعد اللبناني للمدرسة في أوائل تشرين، كما استعد في آب للتموين.
فمستقبل أولاده مرتبط بتعليمهم. هكذا يقول، ثم يروح يرهن ويستدين حتى يكون القسط حاضرًا في الحين. أما المئونة فترجأ إلى الغد. يدبرها الله … يأخذ من عند هذا البرغل والطحين، ومن عند ذاك الزيت والرز والحبوب.
يختلق عذرًا لهذا وأسبابًا لذاك؛ فلا يخرج من الدكاكين وسلته فاضية.
أما المدرسة، وخصوصًا إذا كانت أجنبية فغريم يابس، لا بد من الدفع نقدًا في الحال، فلا سندات غب الطلب، ولا غب مرور شهر، لا طالب ولا مطلوب، ادفع وادخل ولا هوادة، فالج لا تعالج. تدفع، تدفع المبلغ المرقوم وأنت واقف على فرد رجل.
كانت الرواتب في الأمس نصف مصيبة، ولكن الحكومة رحمت المعلم بعد ألف يا ويلاه، وزادت له عشرة بالمائة، فزادت المدارس ثلاثين وأربعين، والحكومة لا تسأل ما دام الحال ماشيًا. والحال أوحال، وماشي الحال في وطن الإشعاع.
ترى أما نحن في حاجة إلى وزارة من راديوم حتى لا تنطفي سرج إشعاعنا؟
دعاني إلى ما كتبت عن العيال المستورة مشهدًا رأيته عرضًا منذ أسبوع عند بوابة إحدى المدارس في العاصمة.
رأيت سيدة تغضي حياء ويغضى من مهابتها، رأيتها تلملم ذيول دمعة وتمشي في سبيلها تهمهم وتدمدم، فقلت: ها قد سقطت على الموضوع فلنتقدم.
وتقدمتُ وتقدمتْ هي. وأخيرًا وقفت لتمر العاصفة بسلام. ولكني وقفت أنا أيضًا لأقول لها: ما بك يا سيدتي؟ رأيتك خرجت من ذاك المعهد دامعة.
فتفرست في محاولة أن تعرف إذا كنت من يوثق به، ثم قالت: «يا ويل من يحط عليه الدهر في هذا البلد، عرضت أساوري على أمين صندوق المدرسة فقال لي: اذهبي إلى سوق سرسق، وهناك تجدين من يشتريها منك، أما نحن فخدام علم لا صيارفة.»
فقلت: اجعلنا رهينة في يديك لبضعة أيام، ولولا الخوف من ضياع الوقت على أولادي لتصرفت بها، كيفما دارت بها الحال، ودفعت القسط.
فأجابني: آسف يا سيدتي فلا تضيِّعي وقتك ووقتي فغيرك ينتظر نوبته.
هذه قصتي الحاضرة، وهناك غيرها أقاصيص شتى، منها أن ابني الكبير أرسلناه إلى أوروبا لينهي علومه في إحدى جامعاتها. كنا في بحبوحة يوم راح، فظل يبرق إلينا: أرسلوا دراهم، وظللنا نرسل حتى نهاية هذا العام الذي وقعت به الكارثة. أفلسنا وصرنا إلى ما صرنا إليه. فالأوقاف التي كنا نتبرع لها، والجمعيات الخيرية التي كنا نعضدها لم تشأ أن تتذكر ماضينا، ولا الذين على كراسي الحكم يذكرون ليالينا الطافحة شرابًا، وبيتنا الذي جعلناه لهم مرقصًا.
فقلت: أليس في طائفتك أوقاف.
فقالت: بلى، ولكنهم يزعمون أن الأوقاف للفقراء ونحن لا نزال نحسب من الأغنياء. رحم الله ذلك الزمان الذي كانت فيه مدارسنا ترى أصحاب البيوت الهاوية أحق بالمساعدة؛ لأنهم ساعدوا يوم كانوا قادرين.
فقلت: وأين أبو أولادك لا يقوم عنك بهذه المهمة الشاقة؟
فكزَّت على أسنانها وقالت: الله يقصف عمره، هو الذي رمانا وانسل.
فقلت لها: ولماذا لم تتنكري ما دمت لا تطيقين الظهور؟
فقالت: وكيف أتنكر يا رجل؟! أألبس ثياب المهرجين؟
فقلت: لا، أنت غير مستورة، ستر الله عليك وعلينا، بهذه البودرة وأحمر الشفاه والخدود والأظافر، وأنا ضمين لك، إذا تخليت عنها، تنكرت فلا أحد يعرفك. لقد غرقت يا مولاتي بالكماليات فأصبحت محتاجة إلى الضروريات، لطف الله بك وبأولادك … أليس لك يد في الدواوين؟ فقد قرأت أنهم يصرفون للعيال المستورة مبالغ محترمة وأنت منها، فأسرعي قبل أن يفوت الأوان.
فتأوهت وقالت: يا حسرتي ولَّى الزمان وفاتنا.
فقلت لها: يا ميجنا يا ميجنا يا ميجنا. هذه أحوال الدنيا يا أم فلان، أنت لست من العيال المستورة، ولو كنت صنت بيتك ولم تجعلي منه مأوى للمستهزئين، ولم تنفقي ما أنفقت على الذين أكلوا الطعم و… لما سقطت في هذه الهوة.
لم يعد ينفعك هذا الظهور الذي لا تتنازلين عنه، فاعملي واقتصدي، الزمي بيتك واعملي منذ الغد، فليس العمل عارًا، ولكن العار هو أن تسألي الناس.
وبعد، فلماذا هذا الهوس بالمدارس الأجنبية، ابنك في الصفوف الثانوية، ولدى الحكومة مدارس مجانية من هذا الصنف. ابنك في الصفوف الابتدائية والحكومة أعطت المدارس المجانية ملايين فاستفيدي منها، ادخري حُلاك إلى أزمة أشد. ولكن آفة العيال المستورة أنها لا تريد أن تنزل عن مستواها مقدار شعرة.
ترى المدارس الأجنبية أرفع وأسمى من مدارس بني جنسها، وتريد أن تخفي جراحها ولا تعالجها، وهذا هو عين الخطأ. فامحي من ذهنك صور أرستقراطيتك تفلحي.
إنه شبح عظمة الأجنبي الموهومة لا يفارق مخيلتنا. أتقولين لي: أي فرق بينك وبين أولئك الشحاذين الذين يدورون على بيوت الناس، وفي أيديهم «مناشير من البطاركة والمطاردين» يحثون بها الناس على معونتهم وإسعافهم؟
أما كان أولى بأولئك السادة أن يبذلوا لهم العطاء من مال الأوقاف الذي يتنعمون به، ولا يكلفوا الناس الإحسان حياء؟
اذهبي يا أختي واعملي. تسلَّيْ بالصنارة، وبيعي ما تحبكين وتنسجين بواسطة من تَسَتَّرَ عليك إذا كنت تستحين. صوني وجهك واعملي تقدري على بنيان بيتك المنهار، واصبري وانتظري فما بعد الضيق إلا الفرج.
غدًا يكبر أولادك ويعملون وتعود الثروة إلى مجاريها.