تشرين الأول
في هذا الشهر تعود فراخ الإنسانية إلى أقفاصها. ففي الأوكار والوكنات المدرسية تربى وتدرب عقبان ونسور فتطير محلقة في أجواء الحياة. أما الزرازير والخفافيش — وما أكثرها في المدارس — فتخرج لتسف في السهول، لا تعلو عن الأرض إلا أذرعًا؛ لأنها لم تخلق للقمم.
فمن أحشاء تلك الثكنات، كبيرة وصغيرة، تخرج إلى ميادين الحياة جنود في أيديها عتاد العلم الحديث لتخوض معارك التقدم والرقي وتسير بالبشرية قدمًا.
فمن بين جدرانها، وهي ليست مبنية كالحصون متانة، تكر فرسان المعرفة، وتفر شانة على الجهالة غارات شعواء، وتنقض على الجهل والخوف بما علمتها المدارس من دروس الشجاعة.
المدرسة هي أم العظماء. تتمخض بهم أجنة، وتلدهم ولادة ثانية، ثم تطلقهم في فضاء الكون الواسع، كما تطلق أمات الطيور فراخها حين تستوي أجنحتها وتشتد.
تتكون عقول الناشئة من تربية حقيقية سامية وعلم صحيح، ومن هذه الخلايا يتكون جسم الأمة التي تريد أن تحيا وتساهم في معترك الحياة.
ترسل المدرسة عباقرة بنيها هدامين بنائين. ينصرون الإنسانية المتألمة، ويرشدون المتخبطين في ظلمات الشبهات ومجاهل الترهات. فما أعظم شأن المدرسة وأجزل منافعها للبشرية. فلولاها لبقي البشر في ضلالهم يهيمون.
املئوا المدارس تفرغ السجون. كلمة كان لها دوي يوم قيلت، وقد أعارتها الأمم سمعها فسارت إلى الأمام وقلت فيها الجرائم.
أما الشعوب الثقيلة السمع فظلت تغط في سبات الخمول العميق.
واليوم، وقد أزالت أقلام الكتاب الصماخ من الآذان، فقد سمع كل شعب ووعى، وعلم أن بالعلم والمدرسة نجاح كل أمة، ومن بين جدرانها تظهر أشعة التقدم.
لا نضيع الوقت في تعداد منافع المدرسة، فهي أحدوثة البشر تحت جناح الليل، وفي نور النهار، وكل زمان ومكان، ولكننا نسأل الناس: هاتوا لنا عظيمًا لم تخلقه المدرسة، وهل في الدنيا عظيم بدون علم؟ الجواب: المدرسة أم العظام والعظائم؛ ولهذا انصرفت إليها أفكار كل شعب، فتهافت أغنياء الشعوب على تشييدها. أما نحن فما زلنا مقصرين في هذه الحلبة، وقد سبقتنا الشعوب أشواطًا.
أتتعزى الإنسانية عن عذاب أطفالها بالدارات القائمة على الروابي والقصور الشاهقة؟
ألا تتألم عندما ترى صغارها يتيهون وراء قطعان المعزى وأسراب البقر في الأودية، حفاة عراة يرثي لبؤسهم أشد القلوب تصخرًا؟
وفي المدن، حيث الشوارع العريضة التي تقوم على جانبيها دور اللهو الشاهقة، نرى بؤس الناشئة، وعلى ظهورها الأحمال الثقيلة، تارة بالسلال وحينًا بالحبال، ومن لم يستطع منهم حمل السل تنسل يده إلى البيوت والجيوب.
ألا يعلم أصحاب الثروات التي لا تحصى أن غفلة هؤلاء الصبية الصغار ستنقضي، ويمزق شبابهم الستار الحاجب مستقبلهم فيثورون على عبدة الأموال الذين يقولون: الملك لله، وليس لمخلوقات الله من مالهم نصيب؟
في منعطف الطرق وشوارع المدن وأسواقها، حيث يتسابق الناس كادحين ليستولوا على القرش، يرى المتأمل أفواجًا من هؤلاء الصغار يجدفون ويلعنون ويأتون كل محرم بلا خجل، إذ لم يروا يدًا تضمهم إلى صدر فيه حنان وانعطاف، ومدرسة تغذيهم بالتهذيب والعلم الصحيح.
إن هؤلاء الصغار هم مستقبل البلاد، فإذا شئتم أن يكون لكم مستقبل يرجى فهذبوهم.
أطلقوا، أيها الأغنياء، من شرفات قصوركم المعلقة بين السماء والأرض، وانظروا إلى أبناء إخوانكم هؤلاء الصغار، فإذا شبوا بين براثن الشقاء تعلموا الشراسة والقسوة، وعكروا في المستقبل كأس صفائكم. سيفسدون الهيئة الاجتماعية ويكونون حملًا ثقيلًا على منكب المجتمع إذ يزرعون الفساد فتحصدون أنتم الأكدار، وما هم زارعوه ولكن جهلهم هو الزارع.
أليس منهم اللص الأثيم وسفاك الدماء الرابض لكم في الطريق ليسلب أموالكم وينازعكم البقاء؟
فلو فكرتم بهذا قليلًا وتأملتم به مليًّا، لو نظرتم إلى هذا الفقير البائس لعفتم بعض الكماليات وتركتم موائد القمار وأنفقتم جانبًا من أموالكم على المدارس التي تروض الوحش في الإنسان، فيتسنى لكم العيش في راحة بال، وبهذا تأمنون اللصوص وتتركون أبوابكم في الليل مفتحة ليدخل منها الهواء الجديد المنعش.
كم صغير تنبعث نار الذكاء من جبينه قد ذهب ضحية الفقر وخسرته الإنسانية. كان يرجى أن يكون مخترعًا أو عالمًا أو مهذبًا أو … ولكن عجزه عن اقتباس العلم أطفأ تلك الشعلة وأخمد ذلك القبس.
في أميركا لاموا كرنيجي المثري الشهير؛ لأنه أنفق معظم أمواله على بيوت العلم ولم يخص قسمًا منه ببيوت يأوي إليها الفقراء؛ لأن الكثيرين في البلاد التي نظن حجارتها ذهبًا وفضة كانوا يتألمون من الجوع. أما نحن فنلوم أغنياءنا على إنفاقهم أموالهم في غير سبيلها، إذ لم نجد رجلًا وقف أمواله على مدرسة خيرية تقبل في حضنها أبناء البلدة التي أبصر فيها النور.
لم نرَ بيننا من حوَّل همه إلى إنماء المدارس الابتدائية في البلاد، بل كلهم على وتر واحد يضربون.
أما حان أن ننتبه من سنة الكرى ونهتم بصغارنا اهتمامنا بنفوسنا؟
المدارس الابتدائية ضرورية في كل بلدة في شرقنا العربي، وليس ذلك على الحكومة وحدها، فنحن أيضًا مسئولون عن معاونتها. نقول هذا؛ لأننا نعلم أن في كل وطن من أوطاننا قرى عديدة محرومة من مدرسة ابتدائية تعلم الصبيان المبادئ الأولية من القراءة والكتابة.
فمتى تستيقظ من هذا السبات العميق، من هذا النوم المزعج المملوء أشباحًا مخيفة وأحلامًا رهيبة، ونهتم بشبيبتنا المقبلة؟
وإذا لم نجد من يهتم بنا فمن الضروري أن نهتم بنفوسنا ونعد لصبياننا مستقبلًا سعيدًا. فالذين لا يحسنون القراءة والكتابة في الأمم الراقية تسعة في المائة، أما عندنا فبالعكس.
وفي مناسبة افتتاح المدارس فلننظر إلى الذين تضيق المدارس عنهم وليس لهم مأوى أدبي، هذا إذا كان لهم المأوى الآخر.
فإلى جمعياتنا الخيرية التي أنشئت لإغاثة الفقير نوجه كلمتنا هذه سائلينها — وهي نصيرة البائس — أن تهتم للمدارس الابتدائية وتحول إليها همها، فالفقراء إلى الخبز عندنا قليلون أما فقراء العلم فلا يحصون.
إن مدارسنا أضيق من أن تتسع لناشئتنا، ووقفة قليلة أمام تلك البنايات تنبئنا بالحاجة القصوى إلى دور تتسع لأبنائنا.
إنكم أغنياء ببيوت اللهو على اختلاف أنواعها. فهلموا إلى هذه المكرمة يا من تطمعون بالأجر والصيت الحسن.