إلى الشباب المثقف
يظل هذا الفكر يصحبني ويمسيني كأنه طيف وحيد ابن الرومي، لي حيث انصرفت منه رفيق، عن شمالي وعن يميني، ومن خلفي وقدامي، فأين عنه أحيد؟
ثم غورت الفكرة في اللاشعور، فطفق يشتغل بها عني.
جرى كل هذا في نفسي وأنا غافل عما بي.
وكان إن ثقلت منذ ليالٍ بعد العشاء، فراودني النعاس عن نفسي، فاستسلمت للتجربة.
وما عانقت مخدتي ذاك العناق البريء حتى أقبلت بنات فرويد وابن سيرين تخطر في هوادجها وحدائجها!
وإذا بي أرجع شرخًا، أتخطر في مكتبي كأني غصن بان يداعبه الهواء، وقد قلت في نفسي: ولمَ كل هذا العناء؟ فكما كنا نعالج في اشتداد أزمات التأليف الماضية، مواضيع: الحرية، وحب الوطن، والتأني، والصدق، فلنكتب اليوم عن امرئ القيس ودارة جلجل.
المواضيع كأزياء الثياب. فما علينا لو درنا حول دارة جلجل جولات، فأنكرنا وشككنا، وسفهنا حامل لواء الشعر في النار، وتطور الحلم؛ وللأحلام تطورات عجيبة، فما راعني إلا امرؤ القيس يسدد نحوي رمحه، فقمت فزعًا.
إنها والله أول مرة رأيت فيها رمحًا مسددًا. فتماوتُّ له، فأدرك أنه ينازل غير بطل، فوقف عند رأسي هازئًا، وقال: تكفيني قروحي، فلا تنكأوها ببحوثكم البغيضة. هذا ينظر وجودي، وذاك يفسقني، وهذاك ينصرني! أفلا تستطيعون غير هذا العبث؟
لديكم مئات الدارات، وعندكم مئات العنيزات، وعشرات الحمامات. فما لكم تتأثرون عنيزتي، وتحتلون دارتي؟
إن دور اصطيافكم وطلولنا سيان. فاسألوا كما سألنا … وقفت على الطلول مرة فوقف الشعراء وقفتي، ووقف الشعر.
فقلت في نفسي: قاتل الله الجاهلية! فألطف تحياتهم السيف والرمح. الفرار الفرار.
فجئت الفرزدق فقال لي: إن نار غالب قد طفئت.
وقابلني الأخطل بعباءته الموصلية البراقة، وابتسامته الكزَّة، وعلق يحلف بالصليب، ومار سرجس، إنه لا يريد قتالًا.
أما إذا أزعجته فينتحي له من لياليه العوارم أول … فهو يرى الهوامش التي تعلق على حواشيه أبرد من جلد الحية وأشد صمتًا من السمكة، فما يراها تعني شيئًا.
وفيما نحن نتجادل، أقبل علينا رجل مربوع غير ممتلئ فقال الأخطل: هو ذا الخطفي، قد أجمعنا أمرنا أمس، وبتنا على أن يتوجه أحدنا إليكم، فينبئكم أننا جد أصحاب في الأبدية، نأكل في قصعة واحدة، فإياكم وإيانا …
أما جرير فقال، بعد أن احتبى: يا غياث، منو هذا الأرضي، وما يبتغي؟
فخبره خبري، فاحرنجم عني بعد إقبال، ولم يزد على أن قال: أشتهي والله أن أقول: «دامغة» ثانية فلا تكن موضوعها. وليتك تكون، فلي فيك مرعى خصيب.
ورأيتني أفر من هؤلاء الشياطين الثلاثة وأهيم على وجهي، وأرى عمر يقود الأغر، وحوله صويحباته الثلاث، والابتسامة ملء فمه، وقد عرفته من ثنيتيه، ونظراته المتقدة كالتنور المسجور، فقلت في نفسي: ساعة رضى، لعل عمر يرخص لنا بالرعي في حماه.
ففهم عني بلا كلام، وحذرني مغبة عملي، ثم قال: أنتم يعنيكم الإخلاص في الحب. وأنا كان يعنيني من الدنيا اثنان: الجمال والفن. كلاهما متعة عندي، فاعملوا أنتم ولا تكونوا طفيليين. حسبي تعذيب رواتكم، فلا تزدني، عافاك الله.
فقلت في نفسي: إذن علي بالعميان، فإذا اشتد الخطب أهرب.
فأقبلت على بشار، فرأيته منبطحًا في دهليزه كأنه جاموس، فما أحس بي حتى استوى قائلًا: ليفهم الناس شعرنا ما استطاعوا، فويل جهلهم أخف من ويلات شروحكم السمجة.
وما صدقت أنه الجد حتى بل يده بقائم سيفه الذي يعاتب به الجبابرة فانصرفت راشدًا.
وإذا بحماد عجرد يقهقه ويناديني: أتطلب الخير من عند القرد؟
فأجبته وأنا لا ألوي عليه: قردك يخيف يا حماد.
وسمعت شخيرًا ونخيرًا يتعالى من ماخور على الطريق، فرأيت والبة وأبا نواس سكرانين، فما رجوت عندهما خيرًا.
ومر بي رجل من أهل السمت قيل لي: إنه ابن المقفع، فلم ألحق به.
ورحت أنشد الجاحظ في دكاكين الوراقين، فلقيني أعمى يتعكز على عصاه، فعرفته ورجوت أن يكون أرحب صدرًا من زملائه، فأخذ الشيخ يتلوى كأنه ممغوص. ومما قال: هجرت الناس لأستريح فلم يكفوني شرهم، هذا يثقل علي في سجني برابطة المودة، زاعمًا أنه يعرف فضلي. وذاك يطوفني في الدنيا وأنا رجل ضرير مكسور العصا، ويزيدني نكاية بتقويلي ما لا أقول. ندمت والله، واستغفرت ربي ألف مرة؛ لأنني كتبت «عبث الوليد» فما عبثكم أنتم بنا يا أولادي؟ لست والله من عميان الكدية، أفي كل عصر لي ابن قارح يقرح قلبي وكبدي؟
فقلت في نفسي: ربما سئم هؤلاء المشاهير دروسًا هي حقًّا أثقل من درس البيادر، فجاء في بالي دعبل الخزاعي، وإذا به يرتفع لي من بعيد، يحمل خشبته التي لم يصلبه عليها أحد، فحمد الله وأثنى عليه؛ لأنه استراح بشفاعة آل البيت من منهاج البكالوريا.
ومنيته، مواعد كاذبات فما صدق ولا اغتر. وكان وداعنا صرخة داوية، فاستيقظت على صوت صاعقة انقضت في مكان قريب. فقعدت في فراشي مذعورًا أدلك عيني كالخفاش.