التشبه آفتنا الكبرى
إذا التقيت رجلًا ورأيته مقطب الجبين ملبوكًا مرتبكًا، يضرب التل ولا يصيبه، فاعلم أن يده قد قصرت. وإذا حدثته وراح يشكو لك العسر والضائقة المالية، فاعلم أنه سقط في هوة التشبه فأسرف ولم يقف حتى استحال يسره عسرًا.
إنه إما مبذر، وإما له زوجة غير حكيمة. ومتى اجتمع الاثنان في بيت فرُحْ من دربه لئلا يطمرك ردمه، ولا عاصم لك!
من طبيعة المرأة أن تسأل القادم من أهلها عما صنع الداعون إذا كان آتيًا من وليمة، أو من حفلة كوكتيل، والغاية من هذا السؤال هي أن تزيد عليهم حين تأتي نوبتها؛ ولتظهر أنها من سيدات المجتمع الراقيات …
وإذا كانت المرأة مع زوجها والتقى صديقه وزوجته، فهي تنظر قبل كل شيء إلى ثياب تلك السيدة وحُلاها، وتلسعها عقارب التشبه. لا يعنيها إلا تأمل ذلك الثوب، والسؤال عن ثمن ذراعه، وتكاليف خياطته و… و…
أما وجه صديقتها فهو في الدرجة الثانية من الأهمية؛ لأنه لا يمكن الحصول عليه من السوق.
الناس، وخصوصًا في الشرق مطبوعون على حب الظهور، ولو كان يقطع الظهور. وأكثرهم يطلبون المعالي من غير أبوابها، ويظنون كسب المجد ببذل درهم يجمعونه مجبولًا بعرق الجبين ومصبوغًا بدم القلب.
إنهم ينفقون ما جمعوا في سبل كانوا في غنى عن سلوكهم؛ لأنها تؤدي بهم إلى صحراء التعاسة، بل إلى شيخوخة هم وذل ينضم فيها ضيق الصدر إلى ضيق ذات اليد. والمصيبتان لا تحتملان.
خذها من مجرب ولا تسأل عنها الحكيم: فالشعراء الذين نتهمهم بالكذب صادقون حين ينظمون الحكمة. أما قال أحدهم يصف التشبه:
أجل لقد تفشت أوبئة التشبه والتبذير في هيئتنا الاجتماعية الحاضرة، اللابسة من المدنية ثوبًا مستعارًا، فصرت ترى أيًّا كان من الناس سواء في ذلك النائمون على مهاد الثروة وأولئك الذين يصلون الليل بالنهار بغية الحصول على ما يسدون به فراغًا في بطونهم، تاركين للقدر عائلة يضنيها العوز. يتنافسون في تضحية الدينار على مذابح الكماليات غير مبالين بالحاجات الضرورية التي يطالبهم بها البيت والأسرة.
لقد بات التشبه يمتص دماء الثروة ويجعل الجيوب خاوية خالية، تشكو مرارة وحشة ذلك الوجه الأصفر الخلاب.
ولو أردنا أن نعدد عيالًا جرَّها التشبه إلى الإسراف والتبذير وإنفاق المال جزافًا، لضاق المقام؛ ولهذا نطوي تلك الصفحة؛ لأن كل من يفكر متأملًا بخراب البيوت العريقة وسقوطها عن كراسي النعمة إلى حضيض الذل والفاقة يجد أن السبب الأكبر كان إنفاق الأموال بغير حساب، وهذا هو الداء العضال الذي أصيبت به ناس هذا العصر.
تجد الفتى يجدُّ ليلًا نهارًا ليحصل في شهر بعض المال، ولا يكاد يقبض المبلغ المرقوم حتى ينفقه في الملاهي والملاعب، وعلى موائد الحانات، وبين الغواني اللواتي يبعنه الحب بالثمن الموجع، ويبدين له من ضروب التودد الزائف ما يصدق وإن كان لا يجهل سره.
ومع ذلك ينفق كل ما وصلت إليه يده، غير آسف على تعب قضاه، وشقاء قاساه، متشبهًا بصاحب الملايين، غير ناظر إلى الغد، ناسيًا أن من يكلل شبيبته بالتبذير يتوج شيخوخته بالأشواك الدامية في الجراح.
فما أشد وطأة التبذير في هذا الزمان! وما أقوى شوكة التشبه الذي ألقى الكثيرين من شاهق قصور الرخاء إلى مهاوي الويل والبلايا.
ترى الإنسان يحمل نفسه فوق طاقتها، ويكلفها ما لا تستطيع النهوض بأثقاله؛ ليبرز في أبهة صاحب الثروة، حاسبًا أن ذلك المظهر يخفي فقره وعوزه، لا بل تفاهة عقله، غير عالم أن الفقر سيظهر مهما حاولنا أن نخفيه. إنه كالنار الكامنة في أحشاء الأرض، فلا بد من أن تثور يومًا وتدك شوامخ الجبال.
فمتى يا ترى يقف الرجل عند حده من هذه العظمة الكاذبة التي تحرم الهناء وتقلق راحة الحياة المطمئنة؟
متى نترك المساواة في هذا المجال، واضعين لحياتنا نظامًا نسير عليه، لنأمن سوء العاقبة وشر المصير؟ ونسلك طرق الحياة على مهل، غير شاعرين بتعب ينهك الجسم ويضنيه؟
فما فائدة الرجل من ليلة فخفخة وترف تهرب كالظل، وينقلب صاحبهما في ساعة من نعيم الحياة إلى شقاء قلق وعتب على دهره، ملومًا حسيرًا، يهمهم سابًّا الدهر، وهو الجاني على نفسه؛ لأنه لم يحسن إدارة بيته ولم يعرف كيف يصون ماله وينقذ أسرته من ويل يطحن حبات قلوبهم طحنًا.
ومن أراد أن يعرف الغرور الذي وصلنا إليه في هذا العصر، عليه أن يدخل ناديًا عامًّا، فيجد امرأة البقال والفوال تزمل بثوب زوجة صاحب الأموال الطائلة التي لو أكلها ذهبًا لكفته مئونة الحياة. ونظر ابن الحمار والبغال بحلة ذي الثروة الطويلة العريضة. لا نظنه يستطيع بعد هذا أن يمنع دمعته من الفرار ويقول مع الشاعر:
قضى التشبه على معظم قومنا بالخضوع لشرائعه القاسية، إذ حسبوا أن في انضمامهم تحت لواء المجد الكاذب كل العظمة.
لم يعلم أولئك المساكين أن الناس يهزءون بهم إذا رأوهم يطلبون العلاء بذراع من الجوخ، ويردة من الحرير، ومتر من الكتان!
فيا أيها الناس! رفقًا ببيوتكم، فالدمار يتهددكم. وازنوا بين ظاهركم وباطنكم، لا تظهروا بمظاهر الترف والإسراف إذا كنتم لا تستطيعون أن تحملوا على عاتقكم هذا الحمل الثقيل.
وأنت، يا أخي الذي تضني شبابك الناضر وتذبل غصن حياتك الغض في معترك العمل لتحصل في آخر الشهر دينارين أو ثلاثة، ما ضرك لو أبقيت لغدك بعض ما تحصله؟ فلا تقل، هداك الله: «لا تهتموا بما للغد، فالغد يهتم بشأنه.» وتنفق مالك في سبل لا يرضى بها الشرف، وينفر منها الضمير، بل ادخر ما تستطيع ولو قليلًا لساعة يكبل بها الهرم يديك بقيود الضعف وأغلال القصور.
إذا كنت تنفق كل ما تكسبه فثق أنك لا تبلغ ما تتمناه من الثروة ولو ربحت بيومك الألوف المؤلفة.
وأنتِ، أيتها السيدة الفقيرة التي يحملها غرورها وطيشها على تحدي النساء الموسرات لتقتدي بحركاتهن وسكناتهن، غير ناظرة إلى زوجها المسكين وما يعاني من الأتعاب والشقاء في جمع درهم تنفقه على أمور كانت في غنى عنها لولا تشبهها بمن هي أعمق ثروة، وأعظم قدرًا وأعرض جاهًا. ما ضرك، يا سيدتي، لو كنت زوجة لا تهمها الخزعبلات، ولا تخدعها السفاسف، فتدخر اليوم ما يفرج ضيقها في الغد؟
فلنصغ إلى صوت الواجب، ولنسمع نداء الضمير، ولنكون رجالًا، لا بإسرافنا وتبذيرنا، بل في اقتصادنا وادخار القرش الأبيض لليوم الأسود، كما يقولون. فبهذا نكفل لنا ولأسرتنا مستقبلًا سعيدًا، ولا نخشى جيوش الشدائد متى داهمتنا واحتلت ساحتنا. فالدينار لا يجمع بغير الاقتصاد وخلع ثوب التشبه والإسراف. فلنحذر هذه الأوهام العصرية التي لا ينال منها الإنسان غير الهموم والمهانة، فهي تجر عليه الفقر من حيث لا يدري ولا يظن.
يا سيدي وسيدتي، يقول المثل: «على قدر بساطك مد رجليك»، فما لكما والتطاول إلى ما لا تصل إليه يدكما؟
لا يغرركما ما يقول الناس عن مأدبتكما أو حفلتكما. ولا تنتظرا الإعجاب والثناء حين تظهر صورة مائدتكما. فكل هذا لا يساوي هَم ربع ساعة.
الكرم فتوة، ولكن ما كلف نفسًا فوق طاقتها.
إن الفقر يقف دائمًا خلف التبذير، وهو ينتظر منه أن يفتح له الأبواب، فلنغلقها جيدًا نأمن شر هذا الضيف الثقيل.
لا يغرركم قول الشاعر: «وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم»، فهو لا يعني هذا التشبه الأحمق الذي يقول الكتاب الكريم في أصحابه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ. فحكمة الدهور تعلمنا: «على قدر بساطك مد رجليك.» وإن لم نصغ لها نمنا في العراء، فراشنا الأرض وغطاؤنا السماء.