هل من يعتبر
احتفل العالم المسيحي بذكرى الراقدين، وكما للمسيحيين يوم، كذلك للمسلمين يوم يسمونه خميس الأموات. والجميع يزورون المقابر، يحيون بالأزهار قبور ذويهم، ويحسنون إلى الفقراء والمعوزين بهذه المناسبة.
وبلا شعور رأيني أتوجه إلى مدينة من مدن الأموات، فأوحت إلي سكينتها وهمودها هذه الكلمات فقلت.
هنيئًا لسكان هذه المنازل الهادئة، وسعدًا للنائمين بين جدرانها الضيقة، فقد أمنوا شرور المجتمع، وويلات البشرية المعذبة التي تتمخض بالأوجاع لتلد البلايا والمصايب.
أمانًا لتلك الأجساد الهامدة، فقد عرَّتها المنية من دقائق الحياة، فعادت إلى الطينة التي جُبلت منها، مودعة حركة الوجود، واستراحت من عناء الحياة وضوضى الناس المزعجة، واستكانت في مضجع الهدوء: في المقبرة، مدنية السكون والراحة، حيث تتلاشى مطامع هذا العالم الفاني، وتسقط أصنام المدنية عن كراسيها.
وقفت هنيهة أتأمل وأفتكر.
وقفت لأناجي عظام من سبقوني.
جئت لأتحدث إليهم بالفكر والقلب وأعيش هنيهة بين قوم تعروا من مطارف المادة، وتركوا معها أباطيل الدنيا وترهاتها.
ذهبت لأجالس قومًا إذا غبت عنهم لا يغتابونني، وإن غفلت عن الآخرة يذكرونني، وإذا وثقت بهم فلا يغدرونني.
هناك، في تلك البيوت الحقيرة، بدت لعيني عظمة ليس بعدها عظمة. رأيت عظمة الآخرة في جانب الدنيا الزائلة التي تغر كثيرين من البشر فيبطرون ويرفسون.
حسبوا الحياة والسعادة بالخبز والمال، وما دروا أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وأن حياة النفوس الكبيرة والهمم العالية ترتكز على صخرة ضخمة لا تنال قنابل العلم منها شيئًا، وتلك الصخرة هي الضمير.
إن عظمة البشر، مهما سمت وتعالت، فعند باب القبر تنتهي، ووراء جدرانه تضمحل وتتلاشى، ولكن الضمير الحي وحده يثبت في وجه العدوان ثبوت الصخرة أمام العاصفة. وتلك هي الحياة الثانية التي لا يلاشيها موت ولا تسحقها طوارق الحدثان ولا تنسخها أيدي الزمان.
إن حياة الذكر الحسن لهي أطول من حياة المادة وأكبر شأنًا منها، فالتاريخ — وهو الكاتب العدل — يسجل مآثر قوم كانوا بإخوانهم بارين، ويمنحهم الطوبى، ويحرق لهم بخور الاحترام ويضفر أكاليل الثناء. وطمعًا بهذا الإكرام كان ملوك أرض الفراعنة القدماء يمحون آثار سلفائهم عن المباني ويجعلون مكانها آثارهم لتنسب إليهم ويغنموا الثناء الطيب الدائم.
وقفت هنيهة في مدينة الأموات، فسمَّرتني بمكاني أفكاري، فقعدت على حجارة أضرحتهم، وخطرت ببالي عملية حسابية للذين عرفتهم فيمن ماتوا، ثم نهضت أنفض ثيابي، ورأيني مدفوعًا إلى قبر عالٍ قام على أعمدة من الرخام، مزين بالأكاليل المزركشة والتماثيل البديعة، فتقدمت ووقفت متأملًا علِّي أرى ما يوحي إلي أسرار عظمة ساكنه، ومآثره التي قلد بها جيد الإنسانية، فوقع نظري على بلاطة رخامية أفادتني أن ساكن ذلك الجدث، بل القصر الشاهق، رجل قضى أيامه جامعًا لشتات الدنانير، محملًا إخوانه في البشرية نيره الثقيل. فمن أتعاب أولئك التعساء وعرق جبينهم جمع الثروة التي كانت سببًا لسعادته بضعة أيام وراحة عدة سنين.
عاش في حياته تحت سماء القصور غارقًا بين حشايا الحرير، ورقد رقادًا أبديًّا في ضريح أرفع من قبور الفقراء.
وقفت أمام ذلك الضريح العالي أقول في نفسي: ماذا يقصد هذا الغني من هذا الضريح الشاهق؟ أيطمع بذكر خالد ويرغب في الثناء الطويل؟ كل هذا كان قد ناله مضاعفًا لو أنفق ما أنفقه على هذا القبر في سبيل البر والإحسان. إن هذا الأثر الباطل يزول ولكن آثار الرحمة لا تُمحى مهما تعهدتها السماء بأمطارها، ولامستها الريح بأصابعها.
فيا أيها الغني صاحب الملايين والأملاك المترامية الأطراف ابنِ الضريح، نظفه من الأقذار ما شئت.
ويا أيها الناس ضمخوا فقيدكم بالعطر والطيب، وكفنوه بالحرير والديباج، واحفظوا جسده بين ألواح البلور، ولكن هيهات أن تحفظوه من الفساد، هيهات! فسيقبض عليه الفناء ويتلاشى ذلك الجسم الناعم، ويصبح مقبلًا للدود والحشرات، ولا تبقى غير آثاره التي تستحق التخليد.
ثم حولت نظري إلى جانب ذلك الضريح فرأيت حفرة تبدو عليها المسكنة، تحرسها قطعة من خشب وقد كُتب عليها: «هنا دُفن فلان المسكين اللاجئ إلى هذا البلد.» فتأثرت وقلت: كيف يقولون: لاجئ وكلنا في هذه الدنيا لاجئون؟
فقير، نعم، وقد عرفته من ضريحه:
أهكذا يعيش الفقير ذليل الجانب ويموت محتقرًا مهانًا؟
ثم أيها الفقير في رمسك فليس عليك بالمسكنة من عار، واعلم أن العظمة بالبساطة، وكلما ارتقى المرء، وازداد علمًا، واقترب من الروحيات؛ يعود إلى حضن الطبيعة منبع البساطة والسذاجة.
وهنا اشتد تأثري، فاغرورقت عيناي بالدموع. وحولت وجهي إلى ناحية أخرى من الجبانة، فشاهدت ضريح ولد صغير لم يبلغ الثالثة من سنيه. كان ترابه لا يزال رطبًا، وكانت الأم منحنية عليه، وقد تصاعدت زفراتها، وامتد أنينها، فما رأتني حتى ظنتني شبحًا طالما أرعب الناس في ظلام الليل فلم يأتوا المقابر خوفًا منه. فهدأت روعها وقلت لها: لا تخافي، أنا إنسان لا خيال. جئت في هذه الساعة لأؤنس الأموات في وحشتها. أنت تبكين على ابنك وأنا أبكي على كل هؤلاء الراقدين، بل أبكي على جسدي الذي سيتفرق شمله، وتتبعثر أعضاؤه، ويصبح العقد المنظوم منثورًا.
فضربت المرأة صدرها وقالت: ولدي، وا لوعتاه على ولدي، لم يعرف الخير من الشر. صغيري الملك الطاهر يموت، والعائثون في الأرض فسادًا يعيشون؟ ابني يموت ولم يذق من حلاوة الدنيا، ويعيش أولئك الذين تمرغوا في حمأة الدنايا والرذائل؟ ابني يموت والسفاحون والجزارون يعيشون وينتعمون؟ أيعيش المرائي والنمام والكذاب والسفاك والسارق ويموت ولدي؟
فأجبتها: لا تتذمري أيتها المرأة، وسلمي لأحكام ربك، وتعزي على فقد وحيدك، فهنيئًا له. لقد تخلص من متاعب الأرض ومفاسدها ومهما قصر عمر الإنسان كان سعيدًا.
وتركتها أريد الخروج؛ لأن وطأة الأحزان كانت قد ثقلت عليَّ، فرأيت على طريقي ضريحًا مموهًا بالكلس، فتركته ولم أعرج عليه بل قلت: ما أكثر أمثال هذا الضريح بين البشر.
وكان على جانب القرافة الأيمن ضريح بسيط عرفت أنه مستودع عظام ذاب صاحبها حبًّا لأمته فقلت: أهذا جزاء من يخدم القلم في هذه البلاد، أيظل يصح بها القول: ما زال فيها الألمعي غريبًا؟
رحمة الله عليك أيتها الأيدي البالية! فقد كنت تديرين الأقلام، وتحاربين الظلم والاستبداد والفساد. أهكذا يكون جزاؤك؟
لا فقد بدأت الأمة تشعر بفضل الذين يعلمونها واجباتها وحقوقها. فسوف تكرم رفات ذوي الفضل ويرفع منار العلم والأدب.
وفيما أنا أهم بالخروج، رأيت من عن يميني بلاطة رخامية ناصعة البياض لم يمر عليها أزميل نحات، ولم يحط عليها حرف، فسألت الخفير، قبر من هذا؟
فأجاب: يقال: إنه قبر رجل أوصى أن يظل شاهد قبره غير مكتوب عليه.
فقلت: هذه الصفحة البيضاء هي رمز التاريخ، نجيء الدنيا لنكتب عليها بيدنا أعمالنا، فمن مخبر عني قادة الشعوب المعتدين الجائرين أن هذه البلاطة في انتظارهم، وسيحفر عليها أزميل النحات الأكبر كلمات لا تزول.
وما وضعت رجلي على عتبة الباب حتى عدت وألقيت نظرة على تلك القبور، وقد تمثلت لي رهبة الموت وناديتها: يا بيت الإنسان الأخير، يا مقر الراحة من أتعاب الحياة، أيتها القبور، يخافك بعض الأغرار ويرتعدون من المرور بقربك في ظلمة الليل، ولو عقلوا لجزعوا من المدن والمراقص، وخافوا من المرور بجانب بعض الأحياء — وحوش الإنسانية — الذين يغيرون على بعضهم بلا حق وينصبون الفخاخ والمكايد.
يا مدينة الأموات! أنت مدرسة المتأمل المفكر، أنت تخبرين المرء عن مصير العظمة الكاذبة واضمحلال المال، عن فناء هذا العالم.
فهنيئًا لمن يراك ويعتبر!