حول امتحان البكالوريا
إذا كان الشاعر العربي قال منذ مئات السنين: «وتحت الرغوة اللبن الصريح»، أفما حان لنا أن ننفح في الرغوة لنعلم كم عندنا من الحليب في الدلو؟ فكلمتنا الصريحة نرسلها اليوم حول المنهاج التعليمي باحثين عن الضعف في امتحاناتنا الرسمية. فلو كانت المعاهد تنقي التلاميذ المرشحين للشهادات، كما كانت تنقي المرحومة ستي قمحها وبرغلها حبة حبة، لما وصلنا إلى هذه النتيجة الرديئة، فمن ثلاثة آلاف ممتحن تقريبًا لم يسلم الخُمس، فأين العلة يا ترى؟
إن هذا ناتج عن تهافت أصحاب المدارس على التعبئة والحصول على أكثر عدد ممكن. ومتى كان هذا، فالطالب يفرض صفه على المدرسة، ثم يفرض بعدئذ ترشيحه للامتحان، وهكذا يكون السقوط عظيمًا.
يقول المثل: من القداحة شيء ومن الصوانة شيء، أما إذا كنت تقدح في حجر خفان فإنك تعود بلا شك بخفي حنين.
أصحاب المعاهد والتلاميذ تهمهم الشهادة. أما الثقافة الصحيحة فأمرها لله.
التلاميذ لاهون بالألعاب والأحزاب ورحلات شم الهواء، والمدارس يهمها أن تسلم لها كثرة العدد الناتجة من إحراز الشهادات.
وإذا ضاقت بها دروب الشهادات الرسمية، أعطت هي شهادات من عندها، وعلى حاملها أن يلجأ إلى زعيمه ليسعى في الدوائر الرسمية إلى معادلتها، ويكذب على صاحبه ووطنه، ويدخل في الدواوين والمصالح أنصاف الأميين من حاملي هذه الشهادات.
وإذا عذرنا، قلنا: إن برنامج البكالوريا عندنا مثقل بالمواد، وعلى المعلم والطالب أن يدرسها في عامين اسمًا. أما فعلًا ففي أقل من عام. ففرصة الصيف أربعة أشهر، وفرصة الشتاء ثلاثة أسابيع، ومثلها فرصة الربيع. وهناك من الأعياد ما يعطى بالمفرق، فيعادل أكثر من فرصة فصلية كبيرة.
قد نسينا العطلات التي تفرضها الإضرابات فتضيع وقت التلاميذ وتفقد بها المدرسة مهابتها؛ لأنها تقف مكتوفة اليدين حين تسود الغوغاء.
أجل لقد فقدت أكثر المدارس سلطانها فضاعت البقية الباقية من هيبة المعلم.
المعلم أحد اثنين، إما ذو عضلات وقوة جسدية يكبل يديه القانون الذي يمنع الضرب، أو أنه قليل الظل فيضربه التلاميذ … وتحتاج إذ ذاك المدرسة إلى مدير سرك يحكم بالسوط.
نحن لا نحبذ التربية بالقوة، ولكن بعد تجارب خمس وخمسين سنة تبين لنا أن ابن الإنسان هو ابن عم الدب كلالة، لا يعلمه إلا العصا. وقد قرأت في هذا العام أن إنكلترا رأت أن المعلمين فقدوا سلطانهم، فصارت السلطة للتلميذ حين بطل الضرب.
هذا من حيث التلاميذ. أما المدارس فملقى حبلها على غاربها، وما من يسأل عنها.
إننا نضع الحق على المنهاج. نعم، إن على المنهاج حقًّا، ولكن ليس كل الحق، فقبل أن نطبق المنهاج يجب أن نهيئ للتلميذ انضباطًا يؤدي إلى الانتباه.
في أرضنا نضع الحق دائمًا على القوانين ونحاول إصلاحها، وكيف تصطلح القوانين إذا كان القيمون عليها غير قادرين؟
أسمعهم يقولون: «إن اللغة العربية صعبة المنال، فكيف يتعلمها أبناؤنا وهي على ما هي؟»
وإذا حكينا بصراحة قلنا: «علينا أن نعلم المعلمين أولًا كيف يعلموا اللغة وأصولها.»
«بادروا إلى حجز محلاتكم»، هكذا يقولون في آخر كل إعلان مدرسي. ويكون عندنا مائة مقعد وندعو ألفًا، ويكون عندنا مكان يضيق عن المائة فنقبل ثلاثمائة.
وإذا فتشنا آخر العام المدرسي عن طالب ذي شخصية فلا نجده؛ لأن أساليبنا لا تكتشف الشخصيات. فالطالب بوق ينفخ فيه معلمه ألحانًا ناشزة أكثرها مما وضعه القدماء من الذين عالجوا نقد الأدب.
إن كتبنا المنهجية ليست من معجن مصنفيها، ولا من خبز فرنهم وتنورهم. وهي تسمم عقلية الطلاب الذين يعتمدون عليها ليواجهوا بها الامتحانات الرسمية.
وهكذا، فإنك إذا فتشت عن شخصية بين معالجي أبحاث البكالوريا، فإنك لا تعثر إلا على إسطوانات ذوات ألحان مكسرة.
أما الموضوعات التي تلقى فهي تكرر كل عام بصورة أخرى؛ وسبب ذلك تلك الكتب السطحية المنهجية التي يقصد بها التجارة. فلِم لا تؤلف الوزارة المسئولة لجنة تسهر على الكتب المدرسية وتنقيها من الزوان والشيلم؟ فهذه الكتب الفارغة إلا من الورق وهذا المنهاج المضخم الوارم يجب النظر فيها سريعًا لتصان الثقافة قبل اندثارها الكلي.
فليتنا نعود إلى الشدة في المدارس والقسوة في الامتحانات، ففيهما صيانة كرامة العلم والتعليم.
كان المعلم يضرب بالمخمس؛ أي الكف، فصار الطالب يشهر المسدس، وكفى الله المؤمنين القتال.
وأخيرًا أقول: ما بقي إلا أن تضع مدارسنا الابتدائية لشهاداتها بزة رسمية ذات شرابة وقبعة ورداء، فيكتمل النقل بالزعرور، ومن يمنعها؟