صور ومشاهد
ما أكثر مشاهد الحياة، وما أسرع مرورها!
إنها تمر كالبرق الخاطف الأبصار، وما على الناظر إلا التقاط ما تمثله سينما الحياة ناطقة وصامتة.
وهل نحن غير ممثلين يخرج كل منا دوره كوميديًّا أو تراجيديًّا؟
الزواج مشكلة هذا العصر. كان شاعرنا يقول فيما مضى:
أما ذكور هذا الزمان — وقد أمسى الزواج عندهم قضاء واجب، كما يقولون — فليس يتذكره أحدهم إلا حين يذوي شبابه، أو يذهب ساقه وسماقه، كما تقول العوام.
يستفيق الرجل في عصر الحياة، يستيقظ من غفوته حين يقصر عن الكر والفر، فيفتش على ضوء شيبته عن أنثى يحجر عليها في بيته يوم يصبح في حاجة إلى ممرضة لا إلى زوجة.
إنها إحدى آفات المدنية التي تدعونا إلى معالجتها واجباتنا الاجتماعية. فالبستاني لا ينفك عن الطواف بين أشجاره المثمرة، تارة يلجأ إلى المنفخ ليكافح الجراثيم العائثة بالجذوع والأغصان والأوراق، وطورًا يجيء بالمضخة للرش لتسلم من الكوارث شجراته الحبيبة.
أما نحن فقلما نبالي بجنيناتنا البشرية التي تتطلب منا جهودًا جلى، واهتمامًا منقطع النظير.
إن تهرُّب الشبان من أعباء المسئولية البيتية هو الذي أكثر عدد العوانس في هذا الزمان.
ولكن على من الحق؟ ومن هو المخطئ؟ الفتاة أم الفتى؟
سوف أعرض الآن إحدى صفحتي هذه القضية الخطيرة، وإني لأرجو من القراء أن ينهجوا نهج حكام هذا العصر؛ أي ألا يصدروا حكمهم الآن بل يؤجل ذلك إلى ما بعد الاطلاع على الصفحة الثانية، عملًا بنصيحة أحد القضاة القدامى الذي قال: «إذا جاءك شاكٍ وقد قُلعت عينه فلا تحكم له؛ لئلا يأتيك خصمه وقد قُلعت عيناه.»
اجتمعت بشاب فات الأربعين، وهو يزعم أنه قارب الثلاثين، فقلت له: أراك كبرت يا جميل عن الصبا، وقطعت تلك الناحية، أما وقعت بعد على بنت الحلال تقاسمك السراء والضراء؟
فتأفف صاحبنا ونفخ نفخة تذري بيدر دير، ثم صفع صلعته صفعة رنت لها القاعة التي كنا فيها. وأطرق يفكر، ورحت أنا أتأمل أصابعه المنطبعة على بطيخته، وأنتظر كلامه.
وأخيرًا هونها الله وانفكت عقدة لسانه وقال: وكيف أتزوج يا شيخ، ولم أجد بعد فتاة واحدة ملأت عيني وقلبي؟
فقلت: عجيب! هل انقطع نسل حواء؟
فقال: نعم، اسمع حتى أخبرك. فأسما رشيقة القوام كأن الشاعر يعنيها بقوله:
بهية الطلعة، فتاة متنورة، بنت مثقفة، ذوق سليم، ذكاء حاد، تكفيها الإشارة لتفهم. ولكنها، وا أسفاه! شرسة، سريعة الانفعال، مستبدة برأيها، تريد أن تكون الكلمة الأخيرة لها، فكيف تصفو أيامي بقربها؟
وهند بنت بيت، جمال ساحر، ودوطة ضخمة، معها الكثير من الدنانير الرنانة لا المخشخشة، ولكنها متكبرة، شامخة بأنفها، تعد نفسها فوق البشر، لا تلتفت إلى من هم دونها إلا لتزدريهم. لا يعجبها أحد في الدنيا. فهل يطيب عيشي إذا اقترنت بها واتخذتها شريكة لحياتي؟
وسلمى أسيرة الموضة، تقضي أغلب ساعاتها منكبة على البيانو، تحب اللهو، ولا تُرى إلا متنقلة من سينما إلى مسرح، ومن صالة إلى قاعة، لا تهتم إلا بما تهتز له أوتار قلبها، حمَّلت والدها حملًا ثقيلًا من الدين، فهل يرجى أن تكون ربة بيت في المستقبل؟ وهل تحسن تربية الأولاد على الاقتصاد ما زالت هذه ميولها؟
وجوزفين جامعة لشتات المحاسن، إلا أنها تقامر كوالدتها، وتشرب أيضًا … وإحدى هاتين الآفتين تهدم أكبر بيت، فكيف بهما إذا اجتمعتا؟ ألا تحول بيتي منتدى وقهوة إذا ابتليت بها؟
عفوًا، نسيت أن أخبرك أنها لا تدع السيكارة حتى تمسك نربيج الأركيلة، لا تحدثك إلا عن الماتينيه والسواريه، وعن حفلات الكوكتيل بعبارات هي كوكتيل حقًّا. وبألفاظ كأنها مسبحة الدرويش.
– طيب، إياك أن تنسى شيئًا، هات كل ما عندك.
فتنهد وقال: ونبيهة تعيش مع أهلها بكل رعونة وخشونة؛ ترفس أخاها، وتقاتل أمها، وتلعن أباها إن أغاظها، وتظل معبسة بوجه أهلها، في حين أنها تبتسم لعابري الطريق، وتذوب رقة ولطافة لدى مقابلتها زوارها. قل بحياة ربك، أفلا تعاملني كأهلها متى صارت زوجتي؟
قلت: ربما، وماذا بعد؟
قال: وأنيسة كسلانة، تطيل السهر ولا تستيقظ إلا عند الظهر، فتقضي ما بقي من النهار على غسل وجهها والتضمخ بالطيوب، وضفر شعرها، وتزجيج حاجبيها، وهي لا تقبل نصيحة أمها وتعد كل عمل عارًا، تتأوه إن لمست الحرير، فكأن جسمها من النعنع، فما عساها تفيد البيت يا ترى؟ ألا تدك أساساته؟
وكريمة، لما زرناها قعدنا على مقعد حريري، ولكنه متواضع فتنكر في ثوب من الغبار، فكدنا لا نعرف لونه، وقد رأيت أثاث بيتها مبعثرًا وثيابها غير نظيفة، لحظت أنها لا تهتم بشيء إلا بمطالعة الروايات السخيفة، ولا تتحدث إلا عن أبطال الشاشات البيضاء، فكيف يكون حالي إذا صارت حليلتي؟
وأليس لسانها أطول من حبل الجمَّال، ثرثارة، تثلم أعراض رفيقاتها ونظيراتها، مدعية، تجهل القراءة والكتابة. وتوهمك أنها فيلسوفة عصرها … أنها جميلة جدًّا، وهل يكفي جمال وجه يخلو صاحبه من جمال العقل والأدب؟
وسعدى وقحة متفرنجة، حديثها مخلوطة، كلمة عربية، وكلمة أعجمية وهي نصف أمية، أقول: نصف أمية حتى لا أقول: نصف متعلمة؛ لأنها لا تستحق هذا اللقب، ومتى حمي التنور لا تنطق إلا باللعنات! وهل أقبح من أنثى تسب الدين؟ صدقني إذا قلت لك: إني سمعتها بأذني، رأيتها مرارًا تضرب خادمتها كما تضرب الحيوان، وتقذفها بلعنات لا ينطق بها أولاد الشوارع.
وليلى مترجلة لا ينقصها إلا زوج شوارب، تتجول وحدها في الأزقة، تنفق كل ما يصل إلى يدها على توابل الحسن ومقبلاته، كأنها تجهل:
وجميلة لا تعلم شيئًا من أمور تدبير البيت، تستعين بجاراتها على رتق ثوبها، ومن كانت لا تحسن تدبير نفسها فكيف يمكنها أن تدبر البيت بحكمة ونشاط؟ فأمي صارت على حافة قبرها، وأختاي واحدة تزوجت والثانية ماتت.
فقلت له: يبقى وجودك، ونفرح منك، وأخيرًا؟
فقال: أخيرًا، ولكن واحدة اسمها سليمة، أعجبتني جدًّا.
فقلت بصوت منخفض: الحمد لله.
وأتم هو كلامه: فهي سليمة الطوية صافية النية، ترف على وجهها روح الطهارة وتصبغ خمرة الحياء وجنتيها، وهي تحترم البشر. معلمة، مهذبة، مقتصدة، تكره الاغتياب والنميمة، لا تبالي بالأزياء، لا تميل إلى الملاعب والملاهي، ماهرة في أكثر الأشغال اليدوية، بنت أوادم تقوم بواجبات البيت حق القيام، طبخ ونفخ وهلم جرَّا.
فقاطعته وصحت صيحة فرح وقلت له: ساعة مباركة، خذها.
فقال: وكيف آخذها، وهي ما معها شي، وأنا طفران؟
فقلت له: زاد واحد يكفي اثنين.
فقال: يا ليت، ولكن من أين؟
فقلت: إذن، أنت تطلب العصفور وخيطه؟
قال: نعم.
قلت: إن شاء الله تعيش … حتى يطلع الحشيش …