شبابك على قدر طاقتك
إن عدد السنين، وشيب الشعر، وسقوطه، كل هذا لا يقدم ولا يؤخر.
هل رأيت ثورًا يدركه الشيب أو الصلع مهما يعش؟
ليس العبقري للحراثة، ولا يعيش على عضلات يديه ورجليه، وإنما يحيا ويظل فتيًّا بتلافيف دماغه. فربَّ فتى خرف في الثلاثين، وربَّ شيخ ظل فتي الفكر في الثمانين والتسعين.
إنا لفي زمن يهزءون فيه بالشيخوخة لأنها شيخوخة. هذا هو اعتداد الكثيرين من الشباب، ولا عجب، فالصراع، كما نلاحظه، قائم أبدًا بين الشيوخ والشباب.
نبدأ في البيت، فالشيخ لا يعجبه شيئًا من أعمال ذريته، وهذه غريزة المحافظة على السيادة التي فُقدت أو كادت.
يريد الشيخ أن تمشي الأمور على عقله. يكون ابنه في الثلاثين وما فوق، وإذا أتى ما لا يقره عليه، ولم يستطع أن يسيره كما يروم، هزَّ رأسه وقال: أولاد!
وكذلك أم الأولاد، فإنها لا عمل لها إلا نقد كل حركة من حركات كنَّتها. تفتش دائمًا حولها لعل عينها تقع على من تغمزه على تلك العروس وتقول همسًا: كنا وكنا …!
أما الكنَّة فتقول وهي تتنهد: عجوز!
وإذا خرجنا من البيت الأبوي، عثرنا على أنماط لا تحصى في جميع ميادين الحياة. رأينا الجيل النازل لا يعجبه إلا القليل مما يعمله الجيل الطالع، والجيل الطالع لا يعجبه شيئًا من أعمال السلف، يريد أن يقوض أساس ما بناه السابقون، وهذا هو ناموس الحياة الخفي، فالشباب يسعون ليتفوقوا على شيوخهم، والشيوخ يناضلون عن صرحهم ليظل شامخًا. وهم لو قدروا لردوا الناس إلى عهد المغاور.
كم أضحك عندما أقرأ وداع القرن التاسع عشر في كتاب مجالي الغرر. عد كاتب ذاك المقال عجائب ذلك القرن واختراعاته من الداليجانس إلى المنطاد، فالقطار، والفونغراف، وتساءل عما سيحدث! وما مرت في سمائنا طائرة فدرين عام ١٩١٢ حتى قلنا ضاحكين من القطار: أمن يمشي على خط لا يحيد عنه كمن يروح ويجيء في الفضاء كما يشاء؟
شاء أحد شعرائنا أن يتخيل، فقال في نابليون:
واليوم، وقد فُتحت السماء، وطرنا إلى الفضاء الخارجي، وفكرنا في التسابق إلى استعمار الأجواء واحتلال القمر، فهل يكون الفضل في هذا للشباب وحدهم، أم للشيوخ وحدهم؟
لا لعمري! ليس في الميراث الإنساني شيوخ ولا شباب، بل همم وطاقة وحمية.
فالنبوغ قريحة توجد أولًا، وعمل يوجد أولًا وآخرًا. وما دام الجهاز الدماغي صالحًا للأخذ والإعطاء، فلا تضير الشيخوخة أحدًا، كما لا تنفع الشبوبية شيئًا، إذا كانت بلا طاقة.
إن خيط العبقرية يمتد من المهد ولا ينتهي إلا في اللحد، والأدلة على ذلك كثيرة. فإذا استقرينا التاريخ أنبأنا أن الأعمال الجليلة، في كل ميدان، كان فرسانها من الشيوخ والشبان.
ليست العبقرية بضاعة، فنعطى منها نماذج بلا ثمن؛ إن ثمنها موجع جدًّا.
العبقرية كالأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها ثم تعطيك بقدر ما تحرثها وتغذيها. وكنز العبقرية المطمور لا ينبشه إلا العامل المثابر شيخًا كان أو شابًّا؛ فلكي يكون الشبان فاتحين مكتشفين، فما عليهم إلا أن يجدوا لينبشوا الكنز المدفون بين تلافيف أدمغتهم.
أليس بالكد والتأمل وصلت القردة إلى أن تصور وتعرض رسومها مع رسوم نوابغ الفن؟ فكيف تريد أنت أن تكون شاعرًا، كاتبًا مكتشفًا عبقريًّا، بلا تأمل ولا تفكير؟
إن الثرثرة تعوقنا جدًّا، وتبدد طاقتنا. فلنتأمل كم جاهدت تلك القردة المسكينة حتى حققت ظن داروين في جنسها، فاجتهد أنت واعمل مثلها صامتًا.
يقول المثل: لا يخلو رأس من حكمة، وهذا ما حققته لنا الأيام.
إن الموهبة هي الأساس، أما حجارة البنيان فهي الإرادة، والرغبة والطاقة، وبذل أقصى الجهد. فإذا كنت مزودًا بطاقة ولا تستثمرها فماذا تنتظر؟
لا يغرنك شبابك إذا كنت شرخًا، ولا تهولنك شيخوختك إذا كنت هرمًا. فالقصة قصة طاقة، وعلى قدر طاقتك يكون إنتاجك.
ألا يذكِّر كلامي بقول المتنبي: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم»؟
فالشاعر أو المفكر، أو العبقري يسبق إلهامه العلم؛ ولهذا يكبر المتنبي في عيني كل يوم.
ما عساك تفعل من العظائم إذا كنت تتثاءب ألف مرة قبل أن تنهض من فراشك؟ وإذا كنت هكذا فاعلم أنك شيخ محطم ولو كنت ابن عشرين.
الفتوة وحدها لا تكفي، فليست المسألة مسألة سن.
إذا كنت عبقريًّا ولا تعمل، فإنك تظل حيث أنت وقد يسبقك واحد دونك ذكاء، ولكنه أعظم طاقة وحمية، ويحب عمله من كل قلبه.
يقولون: إنه يقتضي لنا سبعون مليون سنة حتى نقطع الفضاء، ثم تظل تلك الرحلة المليونية بلا نتيجة. أفلا يخطر ببالنا شيخ المعرة الذي قال قبل ألف سنة ونيف:
المعري شيخ وهن عظمه ورقَّ جلده. والمتنبي أخو خمسين مجتمع أشده، وكلاهما سبقا العلماء إلى حقائق أقروها اليوم.
أتريد أن أضع لك مخططًا يريك أنه ليس للعمر تأثير على أصحاب العقول الكبيرة؟ ولكني قبل ذلك أحب أن تعرف ما يقوله غلادستون حول هذا الموضوع، قال: «إن للعمل الذي يمكن استخراجه من الدماغ الإنساني حدًّا معينًا، والرجل الحكيم لا يبذل قواه في عمل لا يطيقه.» فخير ما أتمنى هو إيقاد النار الكامنة في صدور الفتيان؛ لأن في كل هيكل بشري نارًا خالدة تدفعه إلى عمل نافع، يبرز فيه على سواه.
يغتر بعضنا بالشهادات والألقاب العلمية، ويتهافتون على إدراكها بدون علم أو امتحان، وينامون على الثقة. ولكن باكون قال: «إن الدروس لا تعلم كيفية الاستفادة، ففي خارج الكتب حكمة تُكتسب بالملاحظة. وفائدة الكتب يجب أن تُطلب في خارج جلودها.»
والآن فلنقم بما وعدنا، ولنعد إلى الجدول مبتدئين بالشباب النوابغ.
قال رسكين: «أبدع الآثار الفنية اصطنعت في سن الشباب.» وقال دزرائيلي: «كل شيء عظيم من صنع الشباب. إن القلب هو الذي يتسلط على الشباب، أما الرجولية فيتسلط عليها الدماغ. فالإسكندر ونابليون، كانا شابين حين قبضا على المسكونة.»
ورافائيل وبيرون ماتا قبل الأربعين، وروملوس أسس رومية في العشرين، وأسامة بن زيد عقد له لواء الفتح وهو يافع. ونيوتن اكتشف بعض أهم اكتشافاته وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين، وكتس مات في الخامسة والعشرين، وشلي قضى نحبه في التاسعة والعشرين، وأديب إسحق ونجيب الحداد ماتا في هذه السن، ولوثيروس عُدَّ مصلحًا في الخامسة والعشرين، وفيكتور هيغو ألَّف مأساة وحاز ثلاث جوائز وهو دون العشرين، وغوت أنشأ تمثيليات في الثانية عشرة، وابن المقفع مات في السادسة والثلاثين وكثيرون من نوابغ العالم ماتوا قبل الأربعين.
وإذا كانت الطاقة تنتج ما أنتجت في طور الشباب، فماذا يكون منها لو رافقت الشيخوخة؟ هاك جدول الشيوخ:
غلادستون، في سن الثمانين، كانت له عشرة أضعاف القوة والقيمة اللتين يتمتع بهما شاب من طرازه في الخامسة والعشرين، وهوميروس الشيخ الأعمى نظم الأوديسة في آخر العمر، ولزوميات المعري بنت شيخوخة مهدمة، وكان ولنكتون وكليمنصو وتشرشل بين السبعين والثمانين حين ربحوا الحرب العظمى، وقصة روبنسون كروزي كُتبت في الستين، وأفلاطون مات في الحادية والثمانين وهو يكتب، وشوقي ظلت طاقته تعطي حتى الليلة التي مات فيها، وغاليلو ظل في السابعة والسبعين يواصل عمله ويطبق مبادئه العلمية وهو مكفوف البصر، والشدياق والجاحظ ألفا وكتبا في التسعين، وبرناردشو نيَّف على التسعين وظل مرحًا لا تفارقه طاقته.
إن الرجال كالخمرة، فمنها ما يصير خلًّا متى عُتق، ومنها ما يصير نبيذًا فاخرًا. فلا تقل إذن: هذا شاب وذاك شيخ، فما أشبه دماغ الإنسان بالبطارية الكهربائية، فمنها ما يفرغ في الشباب، ومنها ما يظل يعطي إلى آخر العمر. فكن إذن شمسًا، قوية الطاقة لا قمرًا يستمد النور ويستجديه، ويتضرع إلى الغيوم كيلا تحجب نوره المستعار.
وإذا سألتني كيف أعرف إذا كنت شيخت، فإني أجيبك: اسأل قلبك يقل لك. فإذا كنت لا تعتقد أنك كبرت، فأنت لا تزال بخير ولو كنت ابن تسعين.