حفلة ناشفة
٦٧ مرة توالى عليَّ يوم ٩ شباط، وبينا كنت قاعدًا أستريح ذهب بي الفكر إلى الماضي البعيد، وإذا بالسبعة والستين مارون الذين طواهم الدهر يبرزون لي مهنئين بعيد مولدي، مترجِّين لي العمر الطويل … وبعد مجاملات المعايدة ابتدرني أحدهم بقوله: أي مارون منا أحب إليك؟
فقلت: يا بارك الله! من أين جئتم؟ فيكم البركة! كلكم أنا. تفضلوا تفضلوا اقعدوا. وهفا قلبي لمارون الصبي فقلت له: أتذكر القتلات التي كان يطعمك إياها جدَّك؟ فقهقه قهقهة ولد ورش.
وبعد هنيهة أدخل مارون شاب يده في عبِّه، فعرفت أنه أعد قصيدة تهنئة، من تلك البلادات المدرسية التي كنا نهيئها لأعياد معلمينا، فقطعت عليه الطريق بقولي: الضغط عالٍ يا أخا الشباب، لا تزده ارتفاعًا.
فامتثل وأمسك، ولكن خبيثًا من السبعة والستين قال بابتسام: المشايخ تحب التحدث عن الماضي، هات خبرنا عما مر عليك من أخطار نجوت منها.
فقلت له: أقال لك أحد إني كبرت حتى جئت تمتحنني، أم أردت أن تعرف كم مرة أفلت من يد عزرائيل؟
فحنى رأسه كالمستحي، ومط بغنج كلمة لا. ثم قال: ولكن الأحباب يتذاكرون، ونحن من تعرف.
فقلت له: كأنك راضٍ عن أخاديد وجهي، وحواجبي المنتفشة كريش القنفذ، وتحب أن تعرف أين صار دماغي، فإذا كان الأمر هكذا فخذ: سقطت مرة عن رأس الدرج متدحرجًا يوم كنت ابن أربع خمس سنوات، وانكسر عظم جبهتي، ولكني نجوت، وكتبت تلك الوقعة على جبهتي كلمة «لا» بالمقلوب إلى أن أخفتها يد الأربعين وإخوانها. ثم سقطت ثانية عن رأس سطح بيت مع حجر كبير ولكنه لم يمعسني. ومرة ثالثة تدهورت أنا والمحدلة عن سطح «مدرسة النصر» ولكني سلمت أيضًا.
وكنت سائرًا مرة بالليل فضللت الطريق قبالة قرطبا، وصرت على قاب قدمين من الهاوية، ولكن الله ستر وإلا كانت تخَّت عظامي.
والتفت إليهم فرأيت «الموارنة» الصغار يضحكون. فقلت: ما بالكم؟! فهتفوا بمرح الصبيان: كمِّل.
فقلت: ودنوت مرة من حائط لأقضي حاجتي على طريقة بني إسرائيل … فإذا بالحيط أفعى راصدة ولو لم أنتبه لها لاصطدمت بالثعبان وقضي الأمر …
وسهرت مرة في قهوة رأس العين ببعلبك، وفي عودتي إلى «الأوتيل» أطلقوا علي الرصاص وهم يحسبوني غيري، ولكن العمر كان لا يزال طويلًا.
ومرة كمن لي أحدهم في الطريق ليلًا فتبادل التحيات الرصاصية مع غيري وفزت أنا؛ لأني لم أشهد المعركة …
ومرة أطلقت الرصاص من مسدسي في حفلة مرفعية، وأعدته إلى زناري فانطلقت الرصاصة الباقية في شروالي … ولكنها زلقت على المرحوم كرشي، فما أصيب أحد من السكان …
وهنا قاطعني أحد السبعة والستين وقال: أكلُّ حياتك أخطار؟ حدثنا عن أيام ملذاتك.
فأجبته: صدقني يا عزيزي، إذا قلت لك: إنه قلما كان لي يوم فراغ ألتذ فيه، كل لذات حياتي كانت «على الماشي» كما يقولون. الحياة ركض وراء الرغيف، والرغيف دولاب كما تعلم، والدولاب أسرع من الرجلين. حياتي كلها عمل متواصل، حركة بلا بركة، وإذا مِت لا يجدون في جيبي حق الكفن، أتصدقني؟! والله ما زلت كما تركتموني.
فقال شاب منهم: طيب؛ خبرنا عن العظائم التي أحدثت بعدنا.
فقلت لهذا الوقح الساخر: بلا أكل حلاوة … جئت تهني أم جئت تتهكم؟ تظن أنك تحدِّث الإسكندر ذا القرنين أو نابليون. ليس في حياتي قمم تحتاج إلى مصعد كمصعد الأرز، ولا هُوى تحتاج إلى حبال. النضال مستمر بيني وبين الحبر والورق، وأظنك ما نسيت مثل الحبر والورق. كلا الأخوين …
نسيت يا ربي، أن أخبركم حادثة مهمة؛ عندما كنت صحفيًّا عام ١٩٠٧–١٩١٤ حاولوا أن يستريحوا مني، ولكني سلمت وبقيت حتى اليوم لأثرثر معكم في هذه الساعة.
فانتصب واحد منهم، فأمرته بالانطواء فتكوم وهو يقول: حياة اليوم أفضل من حياة الأمس؟
فقلت: حياة اليوم فيها راحة ولكن حياة الأمس كانت ألذ، ومتى كثرت الراحة قلت اللذة. فقال غيره: أنت رجل عرَّكتك الدنيا، فما أمرُّ خيبة عانيتها؟
فأجبته: كأنك تخاطب ابن تسعين. تقول الدنيا: عركتني، فلو كانت عركتني لكانت فزرتني، أما أكبر الآلام فهي خيبة الأمل، وضياع الفضل.
فصاحوا جميعًا: أتندم على الإحسان؟
فقلت: كأنكم تحدثون روكفلر وفورد. لا لم أندم، وسأظل أتبرع «بالملايين» حتى تأتي الراحة الكبرى …
فقال خبيث منهم: أما وقد تحدثت عن الراحة الأبدية، فما رأيك في الموت؟
فقلت: الله يبعده، يظهر أنك قليل الذوق.
وحاول أن يتكلم فقلت: بس، بس، قصِّر حديثك. إن ذكر الموت أمام من كان في عمري مؤلم كنكران الجميل.
فقال واحد منهم، ما زلت أتذكر وجهه جيدًا: حدثنا عن أشد ما يؤلمك. فقلت: ضياع الفضل والتعب.
وقال ثانٍ: وأشد ما يضحكك؟ قلت: مارون عبود الباقي.
وقال آخر: وأشد ما يحزنك؟ قلت: ذكرى مارون عبود الذي راح.
فقالوا جميعًا بصوت واحد: إذن أنت تتمنى طول العمر؟ فصرخت بهم: هذا سؤال يا حمير؟
فضجوا قائلين: قم رح معنا، ولماذا ترجو الحياة؟
قلت: لماذا أرجو الحياة؟ أتمناها لنحيا معًا يا أذكياء.
وما انتهيت حتى رأيت السبعة والستين مارون يخرجون مصطفين كأنهم تلاميذ مدرسة.
فكان مشهدهم مثيرًا للضحك، وخصوصًا عندما أخذوا يصيحون واحدًا واحدًا: باي باي. باي باي.
فصرخت بهم: تخيَّبوا، الله لا يردكم، نسيتم لغتكم!
فرددوها بصوت واحد نكاية بي، وهكذا قطعوا علي حلم يقظتي.