لوحة الجميِّل الخالدة
عندما كنت أروح وأجيء — وما زلت أفعل ذلك عند الاضطرار — أذكر أنني لم أكن أقصر عن قبول دعوة إلى سهرة أو حفلة أدبية أو فنية.
خصصت الأدب والفن؛ لأنني لست ممن يدعون إلى حفلة انتخاب ملكة جمال، مثلًا، وإن كنت لا أقبل إلا بالانتخاب.
وفي عام ١٩٤٠ دُعيت إلى معرض أصدقاء الفن، وكان مكانه في السماء الثالثة من ندوة النواب، هناك عرضت على ذوي الأبصار والبصائر روائع الذين يجعلون الآلهة تصاوير وتماثيل. رقيت إليها على درج مزين بمسوخ نخل مغروسة بالأصص، كالعقول الكبيرة في الأقاليم الضيقة.
ذكرتني بذلك صورة نشرتها الصحف فرأيت فيها الرئيس الأول يعلق على صدر الفنان اللبناني وسامًا يعلن تقدير لبنان للعبقرية والنبوغ الفنيين؛ ولهذا عنَّ لي أن أعود إلى ذلك الماضي وأنشر ما كتبت مرة من تعليقات على هامش ذلك المعرض الناجح.
دخلت ذلك الهيكل العابس فرأيتني فيه لدى كُتاب ومنشئين يدرسون آثار زملائهم يستنطقون تلك الروائع، فتجيبهم بقدر ما في نفوسهم هم من وعي وإلهام، وفي بلادنا السعيدة لا يقرأ الشاعر غير الشاعر، ولا الكاتب إلا الكاتب، فكأن الفنانين عندنا لا يصورون إلا لنا، ونحن لا نكتب إلا لهم. ما رأيت إلا بصرًا حائرًا يرتع في جمال صامت، فيستيقظ الهوى المكتوم ويبوح بسره للقلم.
استقبلتني شخوص الفنان الشهير الأستاذ يوسف الحويك فملت إليها فإذا برب تلك الأسرة المباركة في نقاش حامي الوطيس مع سيدة، كأنه يلقي عليها دروسًا في الفن ولكنها تلميذة رصينة تأخذ وتعطي — في الموضوع فقط — ولا تقبل نفسها إلا ما يقطع عقلها. استنظرني المثال فلم أستطع؛ لأنني كنت على منهج. وطفت في ذلك الفردوس وكان فرجيلي الجميل. وقع نظري على سيدة منبطحة — ظن خيرًا فهي تصميم — إنها مبدأ أوَّلي لفكرة لم ينضجها الحويك بعد، وآثار الفنان كعملية الخلق في سفر التكوين، تكون أولًا «توهو بوهو» وروح الفنان ترفُّ عليها. وأطل على موكب مليحات الجميِّل، من وثنيات وجذعات وقارحات، عذارى دوار ولكن بلا ملاء مذيَّل، طالعات من بحيرة دارة جلجل لكل امرئ قيس … هذه بالورب وتلك بالعرض، أوضاع شتى إلى مثلها يرنو الحليم صبابة. جمال مثير لم أغلغل النظر فيه؛ لأنه جاء بعد تخمة، وما شكرت لئلا أزاد …
ثم غرَّبت في تلك القاعة فإذا بالمسيح مستريح على الأرض بعد موعظة الصليب الشاقة. زوى الجميِّل عنه غانياته الخالعات أكثر من العذار … فهو في وادٍ وهن في وادٍ، مع أنه القائل: الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب.
طول لوحة مسيح الجميِّل ٣٢٠ سنتيمترًا، وعرضها ٩٥، وبحق أسميها لوحة؛ لأنها لوح حقًّا، بل هي لوح وصايا جديدة لفن جديد، أبدعها قيصر لتنام سيدة في الجوزة ببيت الشباب، أبدعها بناءً على طلب المهاجرين، ولولا سخاؤهم لم تكن هذه الطرفة الفنية الخالدة، وكم للمهاجرين عندنا من يد يُعجز الفنان: فن القلم وفن الريشة عن تصويرها. وعلى ذكر سيدة الجوزة أقول: إن صديقي قيصر ضرب الحجر في الجوزة فأكل وأطعم الفن.
لست أقول لك: إن الجميِّل حاذق متقدم في فنه، متمكن من صناعته، فإذا عرفته أدركت مثلي أنه فنان شكلًا ولحمًا ودمًا، وإذا حدثته نمَّ لك عن طبيعته الفنية ما يرويه من روائع الأدبين: الفصيح والعامي. فصاحبنا فنان في حركاته وابتساماته ورموزه وغمزاته.
كثيرًا ما أفتش عن الفكرة في فن اليوم، وقلما أجدها، فأكثر المحدثين قد أهملوها كأنما الشعر والتصوير كخيل الطراد، السابق منها الجواد. أما الجميِّل فهو من المخضرمين، له جديد المحدثين وبديع القدماء، فهو يدرس موضوعه درسًا نفسيًّا، ويحلله تحليلًا فنيًّا قبل أن يهبه الحياة؛ ولذلك نرى في مسيحه بطلًا بين براثن الموت، ثائرًا متمردًا وراء الآباد والآزال، لم يأخذ الموت منه ما وهبته له الحياة. ففي موته بلاغة ناصعة ألوانها لا يدرك تأويلها إلا الراسخون في العلم …
أشهد أنني أعرف مسيح الجميِّل أين رأيته، ولا عجب فالفنان الأصيل أبو روائعه، وهل تختفي ملامح الآباء في الأبناء.
كأن كلمة «حمل الله» بطلت من قاموس الجميِّل، فمسيحه بطل مغلوب على أمره، ويا ويل الدنيا من الخالدين المغلوبين، فلغبتهم انتصار وانكسارهم ظفر.
إن الوهاد الأزلية التي خلقها الجميِّل في جسم مسيحه المسجَّى تظل علينا منها آلاف المواعظ، وفي رؤيتها غناء عن سماع تلك. السيد غلب وذاق حتى الموت موت الصليب، ولكن صرامة شفتيه تعبر لنا حلمه بالغلبة والانتصار، ولكنه في كل حال حلم مفرط في الآلام تحاول الأمومة المفجوعة بالشباب تفسيره فتحار فيه. تنحني العذراء مريم أم يسوع فوقه مفتشة بألف عين عن الحياة الضائعة فلا تجدها، وتحاول أن تبثها فيه من عينيها فلا تفلح، كأني بها لم تصدق أنه مات …
– صبرًا يا سيدتنا، إن حبة الحنطة إن لم تمت لا تعش هكذا قال ابنك، وستأتيك المجدلية بالخير بعد غد.
ليس للمقاييس قيمة في نظر الجميِّل فهو يرسم كأنه يخربش، ويصور كأنه يدهن، ريشته مكنسة، وهندازه ذوقه، وبركاره عيناه، ومن بين منفرجهما تخرج الخطوط متناسقة متوازية، ونكتة فنه أنه من ذوي الوزارتين، يتذوق الأدب إلى حد بعيد، ويكتب كأديب مثقف، ولا غرو فالأدب والتصوير أخوان. بل هما كتاب الجمال والحق في مجلدين.
ولنعد أيضًا إلى يسوع واحة الفن الخالدة. مات السيد فكان وليمة أزلية أين منها الأرغفة السبعة … صار جسده مأكلًا حقًّا، ودمه مشربًا حقًّا … أما الفن وهو من أبناء المعاني، فكان قنوعًا فجعل مأدبته ذكرى حياته، وخصوصًا مأساة موته حديث الإنسانية الخالد. ولقيصر الجميل، خصوصًا، مرعى خصيب في حقل يسوع، فصديقنا رضع حب المخلص مع حليب أمه. فتلك الأم التقية الصالحة تحوط ابنها باسم الصليب المقدس كل ليلة، ولا يهنأ لها نوم إن لم تفعل، فقد تخشى على وحيدها من التوابع والزوابع وهي لا تدري أن قيصرها زوبعة. أما جدوده الجميليُّون فلم تشب دمهم المسيحي شائبة، وهذا ما ورثه عنهم فتاهم فهو لا يتخيل ابن الله إلا كما رسموه له، أو كما رآه فيهم فيجيء مسيحه لبنانيًّا يجمع إلى السذاجة تلك القوة الصارمة التي تخلق منه رجلًا غير عبراني، عضلات مفتولة تدل على أنه نبت عند مغارة أفقا أو نبع قاديشا …
أفتش عن العظمة في يسوع فلا أجدها في الإله بل في الإنسان منه، والفن تمجيد للإنسان؛ وكي نمجد الله يمثله لنا الفن بصورة الإنسان، ثم يخلع عليه ما يخلع من خير سيماء الناس، ويستنبط من يستنبط من المثل العليا، والفنان بل كل ذي رسالة خالد ومخلد بما يعبر عنه.
دع الإبداع الوسط الذي يملأ الأسواق، فالخلق في الفن خير من الواقع، فليكن وكدنا الخلق البديع. إن فن التصوير عندنا رسمًا كان أو نحتًا، سار في طريق الجديد، وقد يكون أفلح أكثر من الأدب لندرة الفنانين وكثرة المتأدبين، وبلية الأدباء هؤلاء الذين لا يعدون العشرة فيلقون جيفهم على قارعة الطريق.
قلت: إن الفن التصوير قد شمر وعدا وإن استراح فتحت عين الشمس. من كان قبل اليوم ينفق الوقت والمال ليصور رجلًا أو مشهدًا عاديين لا معنى لهما في نظر الأرستقراطيين؟ فالأدب الشعبي استيقظ ثم مات مع الجاحظ، إلى أن بُعث منذ أعوام، والتصوير خرج عندنا منذ سنين من عتمة الكنائس والقصور إلى الأكواخ والغابات والجداول يحمد الله على الحرية والنور.
إن الفكرة التي يهملها اليوم الفن الحديث تحل المحل الأول في مسيح الجميِّل الميت، وكذلك في صورة «مسيحه» الشاب، فهو ليس ممن يحولون لك خدهم الأيسر إذا ضربتهم على الأيمن … والدرس النفسي الذي يتجلى لنا في مسيح الجميِّل الشاب فما فارقه قط وهو ممدد على الأرض في سفح جبل صهيون، وستزعم زعمي إذا قدر لك ورأيت هذه الصورة الطريفة التي هي بدعة جديدة في الفن، في الأسلوب والتلوين، ألوان خلقها المؤلف من المعادن فلاءم الكساء ذلك الهيكل الخالد، ألوان تبص.
قال الجميل مؤلفها: إنها من «اللاك» فهمهمت كمن فهم ولم أستقص. وما كانت الألوان قط حقيقة لا غبار عليها، بل هي كلمات الفن للتعبير عما في نفوس أصحابه، هي جمال الذكورة والأنوثة، وخلق فتنة وإغراء غايتهما بقاء النوع الذي نعبر عنه في لغة الأرواح بالخلود.
انظر إلى القمم التي تحرس الإله الراقد، ترَ الجميِّل أنصف شاعر الجليل الأبدي فخلد إلى جانبه محيطًا عز عليه الانفصال عنه، مع أنه عائد إلى أبيه السماوي، فصرخ إذ تذكره: يا أبتاه نجني من هذه الساعة.
ثم لا تنسَ تلك القمة الخالدة التي خلقها الفنان من كتف ستنا مريم، فكانت متممة لهذه الصورة بل لهذا «الكل» الذي ينطبق بألسنة عديدة كالتلاميذ في العليَّة. وانظر إلى الصخر المشقَّق فقد يكون رسمه الجميل تتميمًا للكتاب … فما أجمل المصطاف والمتربع في أقاليم حياة يسوع.
قد ينكر أصحاب المقاييس كتف مريم الضخمة، ولكن الكتف التي حملت (حامل خطايا العالم) … لا تتجاوز المقدار مهما غالى المصور، فالذهن يكذب فيها العين فتبطل المقاييس وتتعطل المصطلحات … وإذا رأيت ذراع يسوع ضخمة، فلا تنسَ أنها ذراع الرب … ناهيك أن مقاييس الجميِّل هي ما اقتضاه التوازن، والجمال اتزان وملائمة. وإذا أغرتك كما أغرتني هذه اللوحة وتبحرت في معانيها فلا تسأل عن النبات القائم حول الشهيد، فالكتاب قد تم في نيسان …
وبعد فلا تتعجب إن رأيتني بين نقدة التصاوير فقبلي قد تنبأ شاول، فإن أعجبتك نبوَّتي فأثنِ علي بما أنا أهله، وإلا فباستطاعتك أن تقول لي ما قال ذاك المصور للإسكاف: احصر كلامك في الحذاء. أما أنا فأقول لك: كل الدروب تؤدي إلى الطاحون، ونحن نقوم الفن بما يلهمنا إياه الذوق، وإن قال قبلنا تولستوي: ليس الفن متاعًا أو لذة أو أُلهيَة، بل الفن عضو حياتي في الإنسانية ينقل إلى حقل العاطفة إدراكات العقل.
ويتوقع الفيلسوف الأكبر أن يخلق الفن بين الناس الوحدة العامة الشاملة ويمحو الجاهلية والعسف والإكراه.
حاشية — إن جولتي في منطقة «أصدقاء الفن» كانت على قدر وقتي في تلك الساعة من عام ألف وتسعماية وأربعين، فلم أتجاوز، غربًا، مسيح الجميِّل، ولم أتعد، شرقًا، تصميم الحويك، فللفنانين الآخرين ثنائي العاطر، فبينهم من عرفت فضله وأقدر نبوغه كالأستاذ مصطفى فروخ — ولكن ما نفع الثناء والإطراء، أهكذا تستثار همم أصدقاء الفن؟!
إن ما نكتب من تقريظ ونقد هو نقد غير رائج في السوق، ولا يصلح رأس مال للتبضع، لشراء القماش والدهان وجميع حوائج النحت والتصوير، ولكن هناك نقدًا آخر مكتوب عليه «تدفع لحاملها شكا على باريس، أو لندن». أما أوراق «عفاريم، برافو كويس كثير»، فلا تمكن صديقنا الفنان من عشا ليلة.
اللهم، لطفًا بأقرب عبيدك إليك، يمثلونك لعابد المال فترتاح نفسه المتبرمة، وينفتح صدره وتنبلج أسرَّته المعبسة كوجه صندوقه، ولكن يده تظل كالدبوس، وشعاره لا يزال إياه، صوب الكيس لا تقرب.
هذا ظن يشبه اليقين، ولعلي أسمع أن فلانًا الفلاني دفع كذا وكذا تعويضًا مما أنفقه أصدقاء الفن في سبيل عرض روائعهم التي حسنت ظن الناس بنا.
فهل من يكذبني؟