طريق الفلاح
ليس للفلاح؛ أي النجاح في الحياة طرق معبدة، ولا خطوط حديدية، ولا أوتسترادات. فعلى كل منا أن يشق هذا الطريق الضيق بيديه. وما أخال الباب الضيق الذي عناه يسوع إلا طريق الفلاح الذي كثيرًا ما نهتدي إليه، ولكن بعد كد وعناء عظيمين. فمنا من يفلح شابًّا، ومنا من لا ينفتح له باب النجاح إلا مكتهلًا، ومنا من لا يدرك شيئًا لا شابًّا ولا كهلًا.
أصحيح أن الحظ يكمن لنا على جانب الطريق، فإن التقينا به صفت لنا الحياة وعشنا ببحبوحة ورخاء، وإلا فإننا نظل نتعثر حتى نصادفه فنسير الهوينا وتفارقنا الحيرة؟
نرى واحدًا ينجح في عمله منذ أول خطوة في هذه الحياة، ونرى آخر يمشي ويظل حيث هو متنقلًا من عمل إلى عمل حتى لا يدع عملًا إلا جربه، ثم عاد عنه وقعد ينظر إليه ملومًا حسيرًا. فما سبب الفرق بين هذا وذاك؟
إذا قابلنا نحن بين الاثنين، فقد نرى الناجح دون الفاشل ذكاءً واجتهادًا. فما العلة يا ترى؟
غالبًا ما يكون الناجح المفلح من الكادحين في الحياة، وهؤلاء هم الذين يوجهون أنفسهم ولا يوجههم آباؤهم وأولياؤهم؛ ولذلك لا يعملون إلا بوحي من رغبتهم، وهنا سر الفلاح. فإذا كنا نحب عملنا شققنا خطة نسير عليها إلى النهاية، وفزنا بأمانينا وتحققت آمالنا.
إن لنا منا وفينا موجهًا في طريق الفلاح، فإذا سرنا بهديه عشنا مطمئنين، وإلا فإننا نظل على هامش الحياة. فما علينا يا ترى أن نعمل؟
علينا أن نتبع ما نميل إليه من عمل، فالعمل الذي نرغب فيه هو الذي يجب أن نتبعه.
أبوك يريد أن يراك بين أكابر العلماء، ولكنك أنت لا تستطيع، وأمك تريد أن يكون ابنها سياسيًّا، فتفتش لك عن كرسي تجلس عليه لتراك قبالة عينيها وتعتد بك وتعتز، ولكنك أنت لا تصلح للرئاسة ولا للسياسة؛ لأنك خُلقت لتكون رجل أعمال وتاجرًا ناجحًا، فهل تضيع ذاتك بين إرادة أبيك وأمك؟
لا بد من وجود ميل في قرارة نفسك، وهذا الميل يجب أن تتبع، ولو كان عملك ليس من الأعمال الجُلى.
أنت هو الذي يشرف عمله، فالناس يعجبهم الإتقان. ولا يمكن أن تخرج شيئًا أنيقًا إذا كنت لا تحب عملك.
لا بد أن تكون فيك قوة ما، فعليك أن تبحث عنها، ومتى اهتديت إليها مشيت في طريق الفلاح، وحق لك أن ترجو خيرًا.
إياك أن تقدم على عمل لا ترجو أن تجيده إجادة تامة. فالعمل الناقص لا تقره نواميس الحياة.
قد تقول لي: ومن أين أعرف مقدرتي؟ وأنا أقول لك: حاول. جرب. وإذا بدأت فواظب.
لا تتطلب مركزًا لا تقدر على ملئه، وإذا حصلت على مركز فلا تطمح إلى منصب أعلى منه، بل ارفع شأن مركزك بإتقانك العمل فيه.
إن المركز الذي تحصل عليه لا يرفع من شأنك إن كنت غير قادر على التصرف فيه وتدبير شئونه، بل تُزدرى ويُنظر إليك باستهزاء وسخر.
وإذا كنت بلا عمل فاقبل بالعمل الذي تيسر لك. وإذا كان دون مقامك الذي يصوره لك طموحك، فأنت تصل إلى ما تطمح إليه إذا أتقنت عملك هذا، فيتهافت عليك أصحاب الأعمال.
لا تطلب منك الحياة إلا ما انتدبتك إليه، فلا تغتر بشهاداتك ووسائلك، فالعمل شيء والحبر على الورق شيء آخر. فرب رجل حامل أسمى الألقاب العلمية لا يستطيع أن يماشي رجل أعمال حصيف، وإن يكن أميًّا.
إن طمعنا بجعل أنفسنا غير ما نحن هو الذي أشاع هذه الفوضى في المجتمع.
انظر إلى الناس، فقلما تجد رجلًا في محلِّه؛ فهذا جراح في مستشفى كان الأجدر به أن يكون جزَّارًا على ظهر وضم، وذاك مربٍّ، لو أنصفته الأيام كان يجب أن يكون راعي بقر أو غنم، وتجد محاميًا لم يخلق إلا ليكون مزارعًا، وفتيانًا يبيعون أوراق اليانصيب أو يحملون السل للعتالة كان يجب أن يكونوا على مقاعد الجامعات العالية يتلقون العلوم العويصة.
إن رغبتنا في المجد الباطل هي التي جعلتنا نتبادل المراكز، وهي التي جعلتنا نزدري المهن، ولا نفكر إلا بالسلطة الفارغة ولو على قنِّ دجاج.
إن كل عمل هو شريف إذا كان صاحبه من ذوي الضمائر الحية، فأصغ إلى صوت ميلك، وأجب نداء رغبتك. وإذا أراد أبوك أن ترث مهنته مع عقاراته، وأنت لا تميل إلى ذلك فقل له: فتِّش عن وارث غيري، وأنا سأفتش عن عمل أحسنه وعقار أستطيع استثماره.
ليس المال كل شيء، فرُبَّ ذي مال لا تلعنه الناس حتى بالأجرة! فلتكن غايتك العمل الشريف، أما المال فلا يبقى.
اهتم قبل كل شيء بأن تكون إنسانًا، وبعد ذلك اختر من المهن الحرة الشريفة واحدة تحسنها وتبز فيها الآخرين، وإلا فخُذْ أي عمل آخر مع أنانيتك فذاك شرف كبير لك.
وإذا كنت بلا أعوان ولا أنصار، فالنصيحة التي أزودك بها، إذا كنت مباشرًا العمل جديدًا، هي فيما قال رسل ساج:
- (١)
أن يوجد مركزًا.
- (٢)
أن يحافظ على الصمت.
- (٣)
أن يلاحظ.
- (٤)
أن يكون أمينًا.
- (٥)
أن يجعل مستخدِمه يعتقد أنه إذا استغنى عنه خسر.
- (٦)
أن يكون مهذبًا.
وأخيرًا اتخذ مهنة فهي عقار لا يبور. ومهما عملت فكن أعظم من عملك وفي ذلك فلاحك.
إذا كان الحيوان يروز حملته قبل أن يقدم عليها، فلا يقفز من عبر إلى عبر إلا بعد التحقق من قدرته على ذلك، أفلا يجدر بك أن تكون أنت خيرًا منه؟!