احذروا الغضب
الغضب هو أحد فرعي غريزة حفظ البقاء في زعم علماء النفس.
فغريزة حفظ البقاء عندهم قسمان: دفاعي وهجومي. فغريزة الخائف دفاعية، فلا تلمه إذا شمع الخيط وأنقذ فخارته من التحطيم، كما عبر أبو دلامة.
أما القسم الهجومي فهو غريزة الغضب التي تشتعل في النفس وتحرق ما يقف في وجهها، وأحيانًا تحرق نفسها ولا تبالي، ولا يطفئ نارها إلا منازلة الخصم. إنها الغريزة التي لا تقاوم. وقد نفخ الشعراء في نارها فأضرموها، حتى إن أبا الطيب حرَّض على الغضب وجعله طويل العمر بقوله:
وكما أن المتنبي لا يهادن أبدًا، فهناك شعراء قبله وبعده حثوا على حب السلامة والمغفرة.
أما السلف الصالح فقاوم بالمثل جاهلية الناس ليكسروا من حدة شرَّتهم وستأتيك أخبارهم.
لنبدأ أولًا بما علمته الكتب السماوية؛ فالقرآن الكريم لم يمهل الغضوب حتى يغفر إلا لحظة حيث قال: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ.
وجاء في الكتاب المقدس: فلا تغرب الشمس على غضبكم. وكما روى متى الإنجيلي، في خطبة الجبل التي نقلها عن لسان معلمه: إن كل من يغضب على أخيه باطلًا يكون مستوجبًا الحكم … فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك فاترك قربانك، واذهب أولًا اصطلح مع أخيك.
وقد ذُكر عن لنكولن أنه كثير المسامحة حتى قال: ليس لنا أن نلوم أحدًا على ما يقوم به من عمل، فنحن جميعًا مسخرون للظروف والأقدار، تسيِّرنا البيئة التي نشأنا فيها، والتعليم الذي تلقيناه، والعادات والوراثة التي تكيف الناس وتلصق بهم طابعها الخالص إلى الأبد.
يقول لك الطبيب: لا «تنرفز»؛ أي لا تغضب. ومع ذلك نرانا نغضب لأدنى سبب. ولعل عذرنا موجود فيما سبق من كلام لنكولن.
قال لي أحد أطباء العيون: عش هادئًا خاليًا من التفكير إذا شئت المحافظة على ضوء عينيك عش عيشة نبات.
فضحكت وقلت: وما رأيك لو عشت عيشة حيوان؟!
فأجاب: لا، إن الحيوان أقل تفكيرًا من الإنسان، هو يغضب حين يفترس، وأنت يجب أن لا تغضب أبدًا …
قلت: إذن تريد أن تجعل مني طوباويًّا حيًّا.
فقال: كن أكثر من قديس، إذا شئت المحافظة على نعمة النور.
وعملت بمشورته أسابيع، فبان لي الفرج، وصرت إذا استفزني الغضب، أتذكر وصية الطبيب، ولكني لم أستطع الحياة بدون فكر.
كنت أغضب إذا غنت الذبانة وحدها، كما قال عنترة، وبقيت كذلك حتى قرأت أخيرًا كلمة العالم البسيكولوجي فرنسيس جيمس: «إن الله يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، ولكن جهازنا العصبي لا يغفرها أبدًا.» فهو يصرعنا فورًا.
نعم، قد رأيت في حياتي أكثر من واحد ماتوا فجأة؛ لأن غضبهم حمي جدًّا، فانفجر الأظان. ولعل المسيح لم يوصِ بالمغفرة ومحبة الأعداء والغفران إلا لأمرين؛ اكتساب مكارم الأخلاق، والمحافظة على الحياة. فأمراض القلب وضغط الدم، والسكري، وقرحة المعدة وغيرها لا يقاومها إلا الهدوء والسكينة والحلم. فالغضوب يعاقب نفسه ساعة غضبه.
قال ديل كرنيجي في كتابه «دع القلق وابدأ الحياة»: «إذا لم نستطع أن نحب أعداءنا، فلا أقل من أن نحب أنفسنا.»
أما نصح المسيح بنبذ الغضب، والغفران سبعين مرة سبع مرات؛ أي ٤٩٠ مرة؟
أما الحمقى من الناس فيعدون الغافر جبانًا، ويا للأسف!
أعرف واحدًا كان يقول لزوجته: إذا حميت أنا ابردي أنت؛ لأننا إذا حمينا كلانا وقفت الحية على ذنبها.
وهكذا استطاع صاحبنا أن يغضب وحده ويموت وحده، ويفسح في المجال أمام زوجته لتعرف عريسًا جديدًا.
ولولا شرور الغضب الكثيرة لما عدوه في النصرانية من الخطايا الرئيسية. ألا تضحك من نفسك حين تغضب؛ لأن أحد الناس مر بك ولم يؤدِّ لك التحية كما عودك الناس من مراسيم؟ فلو نطق أهل القبور وسألتهم عن التي أماتتهم لأجابوك: إن الغضب قصف أعمارنا وأودعنا في هذه البيوت الضيقة المحكمة السد.
نعم؛ نحن معرضون للغضب في كل دقيقة. يغضبنا أكثر ما يحدث في بيوتنا، وأكثر أعمالنا وفي شوارعنا، نغضب حتى إذا لم تجرِ الريح كما تشتهي سفننا أو لم تمر بنا بترتيب.
لقد تنافست العرب في الحلم والتغلب على الغضب، فأصبح الناري الطباع حليمًا، واسع الصدر، طويل البال، كما سنسمع من أخبارهم، وإليك ببعضها:
غضب زياد فأمر بضرب عنق رجل. فقال له ذاك الرجل: أيها الأمير، إن لي بك حرمة. فقال: وما هي؟ فأجاب الرجل: إن أبي جارك بالبصرة. قال: ومن أبوك؟ فقال الرجل: إني نسيت الآن اسم نفسي، فكيف لا أنسى اسم أبي؟
فبرد غضب زياد، ورد كمه على فمه وضحك، وعفا عنه.
قال رجل لرسول الله ﷺ: أي شيء أشد؟ فقال النبي: غضب الله، فقال الرجل: وما يباعدني من غضب الله؟ فأجابه الرسول: أن لا تغضب.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله: لا تعاقب وأنت غضبان، وإذا غضبت على أحد فاحبسه. فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطًا.
وقال الصحابي أبو ذر لعبده: لماذا أرسلت الشاة على علف الفرس؟
فقال: أردت أن أغيظك وأغضبك.
فقال أبو ذر: لأجمعن مع الغيظ أجرًا، أنت حر لوجه الله تعالى.
وقال لقمان لابنه: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة؛ الحليم عند الغضب، والشجاع عند الحرب، والأخ عند الحاجة.
بهؤلاء فلنقتد، ولكن أصحاب الغضب المزمن لا دواء لهم.