الأكواخ منابت العباقرة
عند الألمان مثل يقول: «الفقر هو الحاسة السادسة.» ومعنى هذا أنه إذا كنا نعتمد على حواسنا الخمس لنعمل في هذه الدنيا ونفلح، فالفقر يسلحنا بحاسة سادسة، والستة خير من الخمسة. فلا تقل بعد هذا: أنا ابن فقير، ولا تحسد الغارقين في بحور النعمة، ولكن قل: سأصير مثلهم. وشمر عن زندك، ولا تقضِ حياتك قانطًا بائسًا.
وبعد، فليس المال كل شيء، ولو خلق الناس مكفيين لما فكروا بعلم وأدب، ولظلت الإنسانية تفترش الأرض، ولما رأينا ناطحات السحاب، ولما سابقنا الطيور تحت قبة السماء.
إن الفقر لا يخلو من النعم، أليس في قريتك جبال؟
تأمل تجد أن أقوى الأشجار ترتفع من بين شقوق الصخور إلى الأعالي. فالأرز الذي يتغنى به شعراء العالم، وتقصده الناس من أقصى أقطار المسكونة لهو ابن فقر. لم ينبت في مهاد نعمة التراب والسماد، وإن كانت جذوره تمتد إلى القاع.
هو خالد لأنه يصبر على شظف العيش، فلا يتكل على من يكافح عنه الحشرات الفتاكة.
فاشكر الفقر إذن؛ لأنه يقويك منذ نشأتك، ويجعلك جبارًا عنيدًا؛ لأنك تكون ذقت طعم نار الفقر.
والسنديانة لا تحتاج إلى تربة كثيفة أو عناية وسهر كما تحتاج التفاحة وغيرها من بنات البساتين وربيبات المحراث، فهي بنت الغاب، وفي الغاب مرابض النمور والأسود.
التفاحة تذكرة مع اللذة، أما السنديانة فمع القوة والصرامة والعناد. وتلك هي الرجولة المخشوشنة مربى الغاب.
التفاحة يسيل لذكرها اللعاب، أما السنديانة فتتفتح عند ذكرها الأوداج والأعصاب.
التفاحة بنت سنوات، أما السنديانة فبنت مئات، لم يغرسها ولم يتعهدها أحد، وكذلك العباقرة.
وإذا رأيت فقيرًا اغتنى وهو يرى الإحسان أطيب شيء، فلا تقل: يا سبحان الله! كيف كان وكيف صار، وما أجمله محسنًا!
اعلم أنه خريج مدرسة الفقر النابغ. وهو بإحسانه إلى البائسين يثأر لنفسه من الفاقة، وأخذ الثأر لذيذ، أليس كذلك؟
قال أحد الحكماء: «ليست كل مصيبة لعنة، فكثيرًا ما يكون الفقر في أول العمر خيرًا وبركة.» وهذا ما نراه بأعيننا، فالقابضون اليوم على مقاليد التجارة والصناعة هم أبناء فقر، وذاقوا طعم الحاجة صغارًا. لا أدري من قال ما معناه: يظهر أن أمريكا مديونة للأكواخ؛ لأن أشهر أعاظم العالم، لا في أمريكا وحدها، طلعوا منها.
هل أعدهم لك؟ لماذا؟ عدهم أنت.
ما عليك إلا أن تفتح كتبك لتعلم أن أديسون الأمريكي هو من أبناء مدرسة البؤس، وأن سبنسر الإنكليزي كان غلامًا حافي القدمين. ودزرائيلي الذي وصل إلى رئاسة وزارة بريطانيا لم يكن يرفل في صغره بحلل الديباج.
لا يا أخي، إنه كان آخر الفقراء رتبة، ولكنه كان ذا عقل ثاقب وإرادة فولاذية. وقد عبر عن ذلك بقوله: «إن ما حدث أمس سيحدث اليوم، وأنا قادر على التغلب بالثبات والحمية على أعظم المصاعب.»
ومضى يحاول، ولكنه لم ينجح أولًا؛ لأن المجلس كان يستقبله بالصفير والاستهزاء، حتى قال مرة لأعضاء مجلس العموم: «سيأتي يوم تصغون فيه إلى كلامي.» ثم ظل يعمل حتى جاء اليوم الذي صار فيه دزرائيلي قطب عصره بلا منازع.
وجاء في كتاب الدكتور سويت ماردن عن لنكولن أنه ولد في كوخ خشبي ولم يدخل مدرسة قط. كان وهو شاب يقطع الألواح ليبني له كوخًا خشبيًّا يأوي إليه، وهو بدون بلاط ولا نوافذ. تعلم الحساب على ضوء الموقدة، وراح يجدُّ ويكد حتى صار لنكولن الذي لا نزيده عظمة إذا قلنا: رئيس الولايات المتحدة.
وهناك الرئيس الأمريكي الآخر جيمس غازفيلد. كان كناسًا وبغالًا، وأخيرًا صار قارع الجرس في الكلية التي تخرج منها، وقل لي بعد هذا: ليس لي وسائل لأرتقي وأتقدم.
أأذكر لك الجزار، ومحمد علي، والمير بشير، وغيرهم ممن وُلوا الأحكام؟
أم أذكر لك الفارابي الفيلسوف، والمطران الدبس صاحب تاريخ سوريا الضخم الذي كان طالبًا فقيرًا شديد الحاجة إلى حذاء، فاشتراه له رفاقه، ولم يحل الحسد بينهم وبين تلك المكرمة؟
والأنبياء، صلوات الله عليهم، أليسوا أبناء فقر؟ أما التقط آل فرعون موسى ليكون لهم عدوًّا؟
والسيد المسيح، أما كان ابن نجار، وعاش وليس له مكان يسند إليه رأسه، ثم مات وما على جلده قميص؟
ومحمد رسول الله، هل كان من تجار قريش؟ أما مات ودرعه مرهونة؟
وأبو بكر، أما مات ولا ثروة عنده؟ أما أمر أن تُرسل القطيفة التي كان يتخفف بها إلى بيت المال؟
ثم ما لك ولهؤلاء. جُلْ جولة خفية واسأل عن صروح الأعمال في عواصم الشرق، فيقولون لك هذه لمن وتلك لمن. لست أسمي لك واحدًا؛ لأنك تعرف المشهورين منهم، وستستغرب متى سموا لك جددًا. ليس المهم أن تعرف أسماءهم ولكن المهم أن تعرف أنهم كانوا مثلي ومثلك.
ليس في الدنيا فقير يحق له أن يقول: ليس لدي رأس مال فكيف أباشر عملًا وأبلغ ما بلغ الناجحون في الحياة.
وكيف يقول ذلك من يحمل رأس ماله في يديه وهو لا يعرف أنه حامله؟ اشتر، عفوًا، استعر كتابًا يشرح لك تكوينك العجيب المحصور بيانه بهذا البيت الشعري الصغير:
إن الذين يشقون الطريق إلى العوالم الأخرى، ويحاولون الوصول إلى جارنا القمر ليزوروه زيارة ودية، يعجزون عن خلق شيء مثلك … يخلقون آلات تحتاج إلى وقود ومدبرين، أما أنت فوقودك منك وفيك وتدير نفسك بنفسك. إن القيود التي تديرك لتضحكك إذا فهمت حقيقتها.
أتعرف ما في يديك ورجليك وعينيك وأذنيك ونخاعك من قوى لا تقدر؟
اذهب إلى غرفة التشريح، وإياك أن تقول بعد ذلك: ليس لدي رأس مال أباشر به عملًا. إن في كل واحد منا، حتى الذي ليس عنده عشاء ليلة، جهازًا يمكنه، إذا كد واجتهد، من خلق الأقمار والصواريخ وقنابل وعجائب لم تظهر بعد.
ولكن إذا كنت رخوًا لا يعنيك إلا أن تأكل وتشرب وتنام وغير ذلك، فلا تفلح أبدًا، ولو نادوك ألف مرة في اليوم: حيَّ على الفلاح.
والغريب جدًّا أنك تندب قلة حظك، وتشكو أن لا حظ لك. إنك تريد الدجاجة منتوفة محلوقة مطبوخة مقدمة لك على صينية فضية. إن هذا لا يكون؛ فإذا أردت أن تأكل طعامًا شهيًّا لذيذًا، فلا بد من حرق اليدين. ثم كيف تشكو غياب الحظ وبُعده عنك وهو بين يديك؟
إن في يديك عشرة حظوظ لا حظًّا واحدًا، فأصابعك العشر كل واحدة منها حظ. فاعمل بها وأقبر الفقر.
اعتمد على قول الشاعر وامضِ في طريقك بحزم وصبر، ولا تلتفت وراءك، وإذا كنت لا تعد النجاح إلا في كسب المال، فاعلم أنك ستمسي غنيًّا إذا عملت بحماسة.
بيد أن المال يزول، وهو لم يوجد إلا لقضاء الحاجة، إنه واسطة لا غاية.
أتظن دول الأرض تبيع نابغة واحدًا بملايين الدنانير؟ فاطلب خوالد الأعمال. وإذا هزئ بك غني متخم فقل له: يا مرحبًا بالفقر إذا كان منبتًا للعباقرة.