مصرع العدل والمحبة
في إحدى أمسيات الخريف، كان شبح يتمايل بين أشجار غابة صنوبر تشرف على البحر، وكان ينظر إلى البحر بقلق واضطراب، وكان على قسمات وجه ذاك الشبح بقية من جمال كاد يبتلعها الهزال، فالوجه كالزعفران اصفرارًا. والجسم رق وضمر حتى كاد أن يطير مع النسيم.
كان ذاك الشبح يمشي الهويناء لا ريث ولا عجل، وحيدًا قلقًا كأن وراءه من يطارده. يلقي نظرات تائهة على ما حوله، ويرهف أذنيه ليسرق السمع، فلا يقع في أذنيه إلا همهمة نسيم، وصدى أوراق تتناثر.
كان يرتجف كلما تهاوت ورقة، ويرتعد فرقًا كلما هبت نسمة قوية.
كان هذا الشاب قلقًا جدًّا، يتمشى ويتوجس خيفة، فكأنه والقدر على موعد.
لا يدري أحد ما يتوقعه هذا الظل البشري من عالم الغيب، ولا أي سر ينتظر أن تتلقاه الأرض من السماء، فأشبه هذا المسكين في اضطرابه وهزاله، ظلًّا لشجرة معراة من أوراقها، أو خيالًا هبط من السماوات العلى.
والتفت صوب البحر، فرفع نظره الحائر على بساط البحر الكرمسوتي، فرأى خليج جونيه الذي تحته يتراقص تحت عين الشمس، وهي تهبط رويدًا رويدًا تاركة في الأفق لهيبًا داكنًا كأنه ابتسامة غضب بدرت منها على ما شاهدته وتشاهده من ظلم بني البشر. وحزنت الآكام والقمم لحزن أمها التي توارت في الحجاب، فانتزعت من خزانة الليل أحلك ثوب يلائم حزنها وحدادها.
وهب النسيم بليلًا منعشًا، ثم جفت طراوته وكأنه ندم على ما فعل، فما عتم أن استحال إلى ريح صرصر تصول وتجول في تلك الغابة، فنثرت أوراقها الواهية فكست الأرض صفرة تنسجم مع وجه الزائر البائس.
وبدا القمر من وراء الجبال التي لا تزال تحمل بقية من عطر فضائل الآباء القديسين، فابتسم ابتسامة عريضة، ولكن سرعان ما بادر إلى التلثم بالغيوم. لعله أدرك، أو أن الشمس نقلت إليه نبأ جديدًا عن تجبر الناس واستبدادهم، وما هم عليه من ظلم وبغض، ومحبة ذات وحقد، فغطى وجهه لئلا يراهم.
والطبيعة التي تسمع دبيب المنى هدأت حركتها هنيهة كأنها تصغي إلى صوت الشبح المضطهد المشرد.
أما الشبح، فحين أيقن أنه بمنأى عن مضطهديه، هام على وجهه باكيًا منتحبًا، وإن كان لا يرجو من القدر الأعمى فرجًا لكربته، فهو يعلم المكتوب له في لوح الأزل. إنه سيلفظ آخر نفس من أنفاسه قبل انشقاق الفجر، فمشى هائمًا يروعه تساقط أوراق الأشجار، وتقلقه زغردة الرياح، فينتبه إلى ما لا يدرك وكأنه يقول للرياح: رويدًا رويدًا يا أختي، فسوف لا تهبين إلا على ذئاب في ثياب، زمجري ما استطعتِ إذا كنت مستعجلة.
وكان الشبح يفتح عينيه السوداوين للريح العاتية دون أن تتأثرا بما يصفع وجهه من غبار؛ لأنهما غارتا في محجريهما.
كان ينظر إلى القمر الذي يتخبأ تارة خلف الأغصان، وطورًا وراء الغمام الظاعن في بيداء السماء، فينفر من هذه المداعبة ويقبع كالغزال الشارد.
ولما بلغ ساق سنديانة قضت العاصفة على عنفوانها، قعد عليها يلتمس الراحة.
وأرخى لنفسه عنان التصورات، وراح يراجع تاريخ حياته منذ بلغ التذكر حتى الساعة التي هو فيها.
ندب سوء حظه ومصيره، وكيف بعد أن كان يتسربل ثياب النعمة السابغة، ويتقلب على فرش العزة والكرامة، أضحى طريدًا شريدًا ليس له مكان يسند إليه رأسه.
حاق به الذل، وجاءه الهوان فاحتل دياره، وأصبح له في كل عضو من أعضائه مرتع ومقيل.
فبعد أن كان بين البشر أعز من الحياة وأطيب منها، أمسى أذل من مومس، يُطرد عن أبواب القصور التي كان يرتع فيها بالأمس.
كان لا يرضى إلا بفوق الفوق، وصار يرضى بأقل من القليل، ولا يدرك شيئًا من القليل التافه.
وبينا هو غافل عن كل شيء، حتى وجوده، إذا به يسمع صوتًا يناديه، وقد نزل في مسامعه نزول المطر على زهرة أضناها حر النهار: حبيبي أين أنت؟
– أنا هنا يا زهرتي الذكية.
– حبيبي، وماذا تفعل وحدك في الغابة؟ أما خفت من الذئاب؟!
– وكيف أخاف الذئاب وأنا بينهم؟
– وماذا جئت تعمل هنا؟
– أناجي الله لعله يسمع صوتي.
– والذئاب قلت لك؟!
– ولأجل الذئاب الداجنة أناجي ربي. ما هربت إلى هنا؛ إلا لأنهم سيتغلبون علي. لقد دنت الساعة ومن ينجيني منها؟
وكان المتكلم فتاة سماوية الجمال، إلهية الحُسن، كالتي رآها سليمان وهام بها في نشيد أنشاده، ولكنها غير ملتحفة بالشمس والقمر والنجوم؛ لأنها ليست بطالعة من البحر. هي جبلية مثلنا، خطبها هذا الشبح المسكين قبل أن يصير الشبح الذي سبق وصفه، وقبل أن يصاب بدائه العضال، ولكنها لم تتخلَّ عنه لشدة حبها له، ولم يبعدها عنه الداء القتال الذي ألمَّ به فأحاله عن العهد.
آثرت هذه الفتاة الموت على حياتها بدون حبيبها. وها هي قد دنت منه، ورسمت على جبينه قُبلة المحبة التي هي أقوى من الموت.
وبعد سكوت لا تصفه الأقلام هتفت به: هيا بنا يا حبيبي، إلى العش الذي أحسسنا فيه بالدفء. ألا ترى أنك ترتجف كهذه الأوراق التي تتساقط حولنا وعلينا؟ قم ولا تيأس، لا تقنط من رحمة الله.
– أي عش بقي لنا يا حبيبي؟ لقد مزقته الرياح، والفراخ مهيضو الجناح.
– قم قلت لك، انتصر على هذه السويداء بالرجاء.
– عبث، دعيني أرقد هنا مستريحًا، ما بقي من عمري إلا دقائق معدودة، اتركيني هنا وامضي إلى البيت وحدك.
فانتحبت الحبيبة وكادت تولول لو لم يزجرها بقوله: ابلعي صوتك، وإلا اهتدوا إلينا وقتلونا معًا شر قتلة.
وتهاوت عليه وطرقت عنقه، فصرخ: إياك، ابعدي عني، ألا ترين سائر الأصدقاء والخلان الأوفياء قد هجروني ونبذوني؟ لم يعودوا يكترثون لي، فاتركيني وشأني، دعيني أموت وأنا أنظر إلى هذا الصنم الضخم الذي يلجئون إليه خدعة واحتيالًا … لا أجدف ولا ألعن، ولكني أقول: الويل للذين يأكلون اللباب ويلهون المساكين بالقشور.
– قم معي، والله لا أروح ولا أدعك وحدك، الليل كافر يا حبيبي.
– ليس أكفر من هؤلاء …
ولما أعيتها الحيلة، قعدت حدَّ رأسه تداعب شعره الذهبي بأناملها الفضية.
وبعد سكوت طويل، زمجرت الرياح، فارتعدت فرائص الشبح، وبكل تعب وجهد رفع رأسه والتفت نحو الشجرة التي قبالته. وبعد تأوه وتنهد قال لصاحبته: انظري إلى هذه الشجرة التي هي أمامنا. ألا ترين أن الرياح لم تُبقِ من أوراقها سوى خمس ورقات؟ انظري إليها جيدًا، تفرسي بها.
وظلت تظنه يهذي حتى قال: إن ساعتي الأخيرة مرهونة بسقوط هذه الأوراق الخمس، ومع سقوط آخر ورقة ألفظ آخر نفس من أنفاسي.
– ماذا؟ أنت تموت؟ هذا لا يكون، لا يا حبيبي.
قالت هذا وطوقت عنقه بذراعيها وأردفت قائلة: أنت تموت؟ أنت تفارق الحياة وأنا أبقى؟
ثم أخذت تهطل الدموع بغزارة. وكانت كلما حدقت نظرها إليه، أمعنت في الشهيق وإرسال الزفرات الحرى.
وعند ذلك هبت ريح شديدة فذهبت بثلاث ورقات من الورقات الخمس، فهتف الشبح المسكين: مهلًا أيها القدر لا تنزل غضبك ولا تجرد سيف نقمتك. مهلًا أيها الحاكم الصارم. مهلًا وارحم والدتي التي سيرمي بها فعلك في هاوية اليأس فالانتحار، ألا تدري أنها ستمسي ثكلى من بعدي؟ بالله مهلًا، لا تقسُ علي، فلست أقوى من تلقي ضرباتك، واحتمال تعذيبك.
ولكن لا، فلتكن مشيئة المبدع، فكل شر يأتي من عنده هو السبيل إلى إيجاد ما هو أحسن.
خذ هذه الروح واذهب بها إلى دنيا أفضل، وارمِ هذا الجسم حيث تشاء، فلا خير فيه ما دامت خاصتي لا تعرف له قيمة.
ظنوه شيئًا كلا شيء.
رحماك اللهم، ألا ترد عني كأس الموت؟ ألا ترحم شبابي؟ ألا ترثي لصباي؟ حوِّل نظرك عني، إلى غيري، فأنا وحيد لوالدتي وركنها الوطيد.
أواه! ما من فنائي مناص. هذا ما حل بالغابرين حين زاغوا وفسدوا.
فأجابه صوت رددت الأودية صداه، وسمع في أطراف الغابة: لا مناص، لا مناص!
وتلت الصوت زمجرة ريح شديدة أطاحت بالورقة الرابعة. فصاح الشبح: ها قد سقطت الورقة الرابعة، ولم تبق إلا واحدة تكاد تسقط. فهيا أسرعي إلى البيت يا حبيبتي، ونادي أهلي وأقاربي ليأتوا إلى هذا المكان، فقد دنت الساعة التي أسلم فيها روحي؛ لا يجيئون لأنهم يخافون مني. يخافون أن تسري إليهم العدوى. آه يا ربي!
فصاحت الفتاة بملء فيها: أنا لا أبرح هذا المكان، فإما أن نذهب كلانا إلى البيت أو أبقى بقربك إلى ما شاء الله.
فقال الشبح: لا سبيل إلى البيت؛ ابقي أنت هنا لأنك لست مثل أهلي قلبك من تراب. آه ما أنبلك وأشرفك وأطهرك، وما أشد ظلمهم وبغيهم وخبث نياتهم، ولكن ابتعدي عني قليلًا فإني أخاف أن تحرقك أنفاسي الحرَّى.
قال هذا وتمطَّى، وبعد ألف جهد أخذ غصنًا يابسًا خط به على الثرى: ما أثقل الحياة في أرض ماتت فيها الفضائل.
وهبت الريح مرة ثالثة وحملت الورقة الخامسة إلى مكان بعيد، واغبرت السماء، وانتشرت في الأفق غيوم سوداء مكفهرة تنذر بمطر غزير.
وطلع الصباح على جثتين: الشبح وبجانبه حبيبته الفتاة النبيلة، وفوق رأسه ومن حوله والدته وإخوانه: المروءة والدين والمحبة والوفاء والشرف.
فسلام على فقيدين وفيين نبذتهما الدنيا، ولما فقدتهما ندمت حين لا ينفع الندم.
لقد مثل الشاعر العظيم مصرع العدل والأخوة، فشبههما بفتى وفتاة، وشبه الدين والمروءة والمحبة والوفاء والشرف بالورقات الخمس التي، إذا تعرت منها شجرة المجتمع البشري، فقد كل فضيلة وانهارت فيه أركان السعادة البشرية.
إن الضمير، وهو الحارس الأمين لشجرة الإنسانية، هو الذي يوجهنا في سبيل الحفاظ على الورقات الخمس لئلا تصير شجرتنا حطبًا لا ثمر فيها ولا ظل لها.
فعبثًا نطلب أخوة بدون عدل، ولا عدل بدون محبة.
وإذا قالوا: العدل أساس الملك فنحن نقول: العدل أساس المجتمع لا أساس الملك وحده. فالملك زال ويزول، أما المجتمع فباقٍ حتى قيام الساعة.
والويل للمجتمع إذا خلا من المحبة. أما غُفرت ذنوب مومس المجدل لأنها أحبت كثيرًا؟