من وحي الأعياد
عيدٌ بأية حال عدت يا عيد؟!
كذلك تساءل الشاعر الجبار منذ ألف عام ونيف. وها نحن نتساءل اليوم، بل أكثر منا كل عام مضى: ترى ما يحمل لنا هذا العام بين ثنايا ثوبه المبطن.
الأعياد واحات يستريح فيها الإنسان هنيهة ثم يغذ في سيره إلى حيث لا يدري، ولكن ما لنا وللواحات. فالواحات صارت كلَا شيء؛ لأننا صرنا نقطع الأجواء قاعدين. فاستراحت أجسامنا وتعبت عقولنا وأفكارنا.
كنا نصلي هاتفين: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، أما اليوم، والسماء تهددها الجبابرة، فلنسأل لها السلام بدلًا من الأرض التي أخرجت من أحشائها ما دفع بنيها صعدًا.
يقول أبو الطيب في شطر بيته الآخر: بما مضى أم لأمر فيك تجديد.
منذ ألفي سنة وأكثر كان لبني إسرائيل عيد يسمونه عيد التجديد، وقد قال سليمانهم: لا جديد تحت الشمس. فماذا تراه كان يقول لو قام اليوم ورأى إنسان هذا العصر يحاول فتح السماء بأقماره وصواريخه؟
وبعد فتح السماء، يا إخوتي، ماذا تنتظرون؟ ألا تكفيكم خيرات الأرض؟ اتركوا هذه الأسرار مكتومة لتظلوا تقولون: المجد لله في العلاء.
إنكم تزعمون أن قنابلكم العتيدة تفني الأرض. والأصح كان أن تقولوا: «تخربط» المسكونة وما تفني أحدًا غيرنا. فالأرض تتكون بشكل جديد ليرثها غيرنا، فلا تتعبوا قلبكم يا مساكين!
تأدبوا يا قضاة الأرض. هكذا قال داود. ومع كل هذا إنني أتمنى للعلماء أن يعودوا من شطحتهم الجوية غانمين، فلعلنا نقضي ما بقي من العمر في سياحة ممتعة في كوكب غير هذا الكوكب.
أما الأعياد، وهي الغنية بالذكريات، فإنها تخمة للسعداء، وحسرة للأشقياء، وضربة على البخلاء …
كنا صغارًا وكانت أعيادنا على قدنا، ولما كبرت آمالنا وأمانينا، فصارت أعيادنا حسرات.
كنا ننتظر العيد في شبابنا، أما اليوم فصرنا نعد العشرة ونقول: ترى هل نعيش إلى العيد القادم؟
أما الفقير فعيده مأتم، ومع ذلك يساهم فيه قدر المستطاع.
المعسور والميسور كلاهما يتباريان في حلبة العيد، وما قتل الناس غير التشبه والمنافسة، ولولا أنفق الأغنياء كماليات الأعياد على عمل البر والإحسان لما شعر الفقير أن غنى البخيل جريمة كبرى.
ندعو بعضنا بعضًا إلى ولائم كلها تخمة لنا، أما الفقير فله الله. ومن يعلم مشيئة علام الغيوب؟ فما أجمل أن ندعو الفقراء إلى مأدبة من مآدبنا السخية ونواكلهم على المائدة. ألا نكون، إذا فعلنا، قد عملنا بدعوة جديدة وأسلوبًا طريفًا من أساليب الحياة؟
وإذا كان هذا الاقتراح لا يعجب السراة، فليعدوا في الأعياد مأدبتين؛ واحدة للعراة الذين ما عليهم من الخام ريحة، وواحدة للسراة المموهين بالذهب.
ولكن ممن نطلب؟ فالكرماء المستورون غير قادرين، والبخلاء يوم العيد عندهم مناحة.
قلت فيما سبق: العيد ضربة على البخلاء. وقلت اليوم: العيد مناحة صامتة. والسبب هو أن البخيل لا يقوى قلبه على مفارقة رفقاء العمر من ماله، تلك القروش التي ألقاها في حبس الدم، فشابت وهرمت في صندوقه.
جميع الناس يفرحون في الأعياد، وينتظرون مقدمها، إلا البخيل، فإن دقات قلبه تزداد رويدًا رويدًا كلما اقتربت ليلة العيد. فهو يتلوع سلفًا لفراق حبيبه القرش الأسود، ولا كان اليوم الأبيض.
إنه البخيل يوم العيد حتى بالابتسامة، فلا يفتح شفتيه على مصراعيها، يشق باب فمه نصف شقة، وينظر إلى المعيِّدين وكلهم لا يسوون في نظره قرشًا واحدًا يفلت من الحبس.
عرفت عملاقًا من هؤلاء البخلاء، فترحمت على أبي العتاهية القائل:
كان هذا البخيل المثالي عقيمًا، قلت: عقيمًا وأنا أعني ما أقول، فجاء لداته يقولون: أنت لا تطمع في عقب، أليس من الخير أن تعطي قسمًا من ثروتك الوافرة إلى ابن أخيك؟
فأعمى ذلك الخبر الأسود نظره، ولكنهم لم يتركوه وشأنه، بل راحوا يداورونه. فراح يعتذر وينشر العلل. وأخيرًا اهتدى إلى حل من باب: «عين لا تقشع وقلب لا يوجع.» فكتب سندًا لأمر ابن أخيه يستحق بعد ثلاثين سنة.
هذه حكاية هذا البخيل العبقري. أما أنا فما عرفته إلا على أبواب التسعين، فزرته إذ ذاك ورأيته يهمهم ويدمدم، فقلت: خيرًا إن شاء الله.
فقال: وأين الخير؟ كتبت سندًا لابن أخي منذ ثلاثين سنة، على أمل أن يقبضه بعد موتي، وها أنا عشت ولا بد من الدفع.
فقلت: اشكر ربك إنك عشت. عيد مبارك.
فصرخ: ومن أين تأتي البركة؟ هل يجيء من الأعياد غير الخسارة؟ الموت أحب إلي من الحياة بعد فراق ألف عملِّية تذهب غدًا من صندوقي …
فقلت: الخير كثير.
فقال: المال مثل الأولاد، لا أحد يغني عن أحد.
فتركته حين أجهش بالبكاء، ومشيت وأنا أقول: لو عرفت أن الرجل عنده مأتم لألف عزيز يفارقونه غدًا لما جئت صوبه في هذه الضيقة.
ثم انفجرت ضاحكًا وأنا أخرج من الباب وقلت: هذا لم يحظ به الجاحظ حين سمَّى بخلاءه أصحاب الجمع والمنع.