مع الشمس
تحية أيتها الطالعة من وراء جبالنا لتلقي علينا ابتسامتها المحيية. ابتسامة الأمل لطفلها.
داست أقدام الأجيال رءوس السنين، واضمحلت الدهور وسحقت شعوبًا لا تحصى، وأنت لا يزال شبابك يتجدد.
هرمت الآثار وانسحقت تحت حوافر خيل الزمان الجامحة، وأنت ما لا تزالين ضاحكة مبتسمة. ضاحكة من عظمة الإنسان وسرعة فنائه. ضاحكة من كبريائه وعجرفته. هازئةً بعظائمه الزائلة كالظل.
في العصور الغابرة نازعت الخالق الألوهية، واغتر بجمالك الإنسان، فطأطأ لك الرأس، وعفر الجبين بالتراب.
حسب في جمالك الباهر قوة الخالق. ظن في ابتسامتك حياة وجود، ولا بدع أن عبدك، فكثيرون هم اليوم من يعبدون الجمال ويسجدون للابتسامة.
إن رفع الإنسان الضعيف الهياكل على الأعمدة القوية ليناجي تحت سمائها بهاءك الأبدي وجمالك الأزلي، فاليوم يشيدون القصور المزخرفة والبيوت الجامعة لشتات الرونق والبهاء، ليعبدوا في داخلها جمالًا زائلًا.
هذه البيوت، لو قيست بهيكلك العظيم «قلعة بعلبك» لما كانت دونه قوة بالنظر إلى حالة الإنسان. فاليوم يدرك المرء الشباب في سن الصبا، والشيخوخة في الشباب؛ وهذا ما يجعل الأثمار غير ناضجة وشهية. هذا ما يفقدها بعض معاني اللذة والجمال.
ينتظر الفقير طلوعك على الوجود ليجد في سبيل اكتساب لقمة يسد بها رمقه.
تصبو إليك الضوضى لتحيا؛ لأن انحجاب وجهك عنها يجر عليها الوحشة فتموت.
الجاهل يراك حملًا ثقيلًا على البشرية؛ لأنه ينقطع عن اللهو إلى العمل، عن الملذات إلى الحياة الحقيقية، إلى الجد والنشاط.
والعاشق يصبو إلى غيابك ليخفي بين أحشاء الظلام وحشته وحزنه، والليل أخفى للويل.
أيتها الشمس! كم شهدت من الحروب الطاحنة، وكم اصفر وجهك حين وقعت عينك على متاعب البشرية المعذبة!
كم غطيت وجهك بالغيوم كيلا تري ما نراه. وكم كسفت من الأنوار فمثلت بأدوارك هذه ما يطرأ على الإنسان، هذا المخلوق القوي كإله، والضعيف كاللاشيء.
أيتها الشمس! كم شاهدت من فظائع البشر، فكنت وما زلت تضحكين لكل شيء وتهزئين بكل شيء: للموت والحياة، للخراب والعمران، للعلم والجهل؛ فكأنك عالمة سرًّا لا تفشينه لمخلوق، عارفة أن كل شيء صائر إلى الزوال. كأنك شاعرة بضعف الإنسان الذي يدَّعي الألوهية ولا يخجل، يتدرع بالقوة ولا يستحي.
إنك تمثلين في كل يوم أطوار الحياة، فأنت في الصباح لطيفة، وفي الظهر فتاة قوية، وفي المساء عجوز هرمة رسمت يد الشيخوخة خطوط اصفرارها على جبينك.
في الظهر تمثلين المرء في أيام عزه وجبروته حين لا تستطيع أن تتفرس به النواظر، ولا تمتلئ العين من النظر إليه.
وفي المساء تمثلين دور سقوطه حين ينظر الجميع إليه بعين المزدري الضاحك من الزوال، غير المفكر بهذا السر العظيم. سر الانقلاب والاضمحلال.
أيتها الشمس! أنت أصدق مؤرخ لو نطقت، أنت رافقت الإنسانية من المهد، وسترافقينا إلى اللحد، شاهدت مآتمها وأعراسها، شبابها وشيخوختها.
وفي هذه البقعة الخضراء نظرت إلى عبَّادك الفينيقيين تجري في عروقهم دماء الحياة، يرفعون القصور العالية ويذللون البحار، واليوم تشاهدين أطلال مجدهم وبقايا آثارهم.
رأيت الشرق في أعلى سماء التقدم، ونظرت الغرب يحل محله. وسترين غير الاثنين في مقام لا نظنه يصل إليه.
أيتها الشمس! لماذا لا تحسدك النجوم على مقامك السامي؟ لماذا لا تحاربك لنرى كيف تتطاحن الكواكب؟ أم أنت منزَّهة عن كل خصام وشقاق؟
خلقت لتمجدي الله دائمًا، ولن تتسلقي جدار حقوقك وواجباتك كما يفعل الإنسان الحقير أمام خالقه الجبار ولا يخجل.
كنتِ شاهدًا على طرد آدم من عدن، على ضلال قايين، على دماء هابيل، على الطوفان الذي كان لِيغسل الأرض من أدران الإثم.
رأيت دخان رومة مرتفعًا إلى الغمام ولم تأسفي، سمعت ضجة سقوط أسوار أريحا ولم ترتعدي. نظرت ضربات مصر ولم تنتقمي لها من فرعون الظالم …
والمارتينيك، وبومباي، وقرطاجة، وسان فرنسيسكو، محقها الدهر وسحقتها الأقدار تحت أقدامك، فابتلعتها لُجَّةُ العدم، وأنت ناظرة إليها بثغرك الذهبي، ولم تزده رهبة الفناء صفرة.
أيتها الشمس! رأيت الجبابرة تغتالهم الصعاليك، كما شاهدت الفقير يموت على الطريق أمام أبواب القصور.
كل يوم تطلين على الوجود بجمال غير متغير، فهل لك أن تُعَلِّمِي المتلونين المتقلبين أن يثبتوا؟
أنت تشاهدين الآثام كل ساعة ولا تغضبين على أحد، فهل لك أن تُعلمي الجالسين على كرسي موسى سعة الصدر فلا يغضبوا للأمور الطفيفة؟ أنت لا تنتقمين عندما ترين ما تنقبض له أسرتك، فهل تعلِّمين محبي الانتقام الصبر والأناة؟
إن حملك خفيف ونيرك طيب. فهل يسمع ما أقوله عنك أصحاب الأحمال الثقيلة التي يسقط تحتها الفقير كما يسقط الكوخ المتداعي تحت أقدام الصاعقة؟
أنت لا تقاومين الغيوم إذا وقفت بوجهك؛ لأن ذلك من واجبات الريح، وهي تبددها من أمامك. فهل يتعلم منك البعض فلا يتجاوزون حدودهم؟
لم نسمع أنك اهتممت بأن تمطري عوضًا عن الغيوم، فهل يفهم ذلك منك أولئك المتداخلون بما لا يعنيهم؟
أيتها الشمس! كم أتمنى أن تظهري بغتة في ظلمة الليل لتري فظائع البشر ومفاسد المدنية؛ لتعلمي السر الذي ندرك به الشباب في الصبا، والشيخوخة في الشباب؛ لتنظري في القصور المقامرين والمقامرات، وفي الحانات السكيرين والسكيرات.
لقد سقطتِ عن عرش الألوهية ولم تغضبي. وبعدما كان يناجيك الإنسان كالإهة عظمى، أمسى يفكر بالصعود إلى جوارك، بل إليك لولا نارك! ولا أحسب أنك نسيت صلاة الفيلسوف نون الذي كان يقدمها لك في صور منذ خمسة عشر جيلًا ساجدًا لك هاتفًا بك: «يا ملك النار ومبدأ العالم، أيتها الشمس المنظمة الأزلية لحياة البش،. من عجلتك الذهبية ينزل العمر، وإذا ما هجمت على الليل يهرب عن عرشه. إن مرجة السماء الواسعة تتهلل بقدومك، وتحت قرصك تنبت الحياة وتنمو. يا من قمصانك المرصعة بالنجوم تنير السماء، أعيريني أذنًا صاغية واستجيبي لصلاتي.»
فأجابتني الشمس: من بدء الخلق وأنا أتمم واجباتي، ولا يعتدى علي ولا أعتدي، وأولًا وآخرًا، لا حول ولا قوة إلا بالله.