ولا ريب في أن الفلسفة والعلم سيواجهان مراجعة أساسية، ما دام تعدد الأساليب الخاصة
المتميزة واللهجات واللغة لا يقدم نفسه بوصفه تعددًا يمكن السيطرة عليه، بل بوصفه تعددًا
لا
يمكن اختزاله أو التقليل من شأنه. ولذا، ليس من المستغرب أن تحتل الترجمة مكانًا لافتًا،
عند
القول بإمكان علم العَرَضي والفريد، إما بوصفها ترجمة بين اللغات، أو بوصفها ترجمة من نظام (خاص متميز) إلى نظام آخر (نظام التصورات
والمبادئ العامة … إلخ)، كما هو حاصل في معظم مقال «شيبوليث» [المائز]
Schibboleth وكتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» Signsponge.
إن وصف هيدجر للشيء يضعه من منظور حركة استملاك متبادل هي نفسها غير متمركزة، تأتي
بالنطاقات المحيطة بالشيء إلى عدم الخفاء في الوقت الذي تأتي فيه هذه النطاقات بالشيء
إلى
الحضور. وفي مقاله «البناء السكن الفكر» Building Dwelling
Thinking (١٩٥٤م) يضرب هيدجر مثلًا على حركة الاستملاك المتبادل هذه — التي
تسمي الشيء — بوصف فينومينولوجي لجسر:
في كتابه «إسفنجة العلامة/علامات بونج»، يهتم تأكيد الشأن الفريد الخاص المتميز
عند دريدا
بطبيعة «التوقيع» و«اسم العَلَم». وقبل كتاب «خطوة-لا» بسنة واحدة، قُرِئ كتاب «إسفنجة
العلامة/علامات بونج» بوصفه عملًا دقيقًا وصعبًا من خلال فكرة حدث التوقيع الذي يشكل
تفرد
النص. فلماذا يكتسب فرانسيس بونج، بوجه خاص، هذه الأهمية في هذا السياق؟ لعل عمل بونج
يرتبط
باتجاهات في فلسفة ما بعد الحرب في فرنسا تتعارض مع وصف هيدجر للشيء بتأكيدها التفرد
والجسدية
على نحو يصطدم مع هيدجر. وعلى سبيل المثال، يؤكد ليفيناس الحسية البشرية وترحيبها بجسدية العالم في تعابير لا تَفهم الأشياءَ من منظور
الإفصاح عن العالم فقط. ومن هنا، يذهب ليفيناس إلى أن المتعة المقترنة بالحسية البشرية
ترتبط
بعالم يُفهَم على نحو مختلف، يتعلق ﺑ «مجموعة نهايات مستقلة، تجهل إحداها الأخرى»
(Totality and Infinity, p. 133).
III
لا يكتفي النص بتمثيل الشيء تمثيلًا ملائمًا في خصوصيته الفريدة المائزة (المستحيلة)،
بل
يحمل في الوقت نفسه خصوصية مؤلفه الفريدة. فلا بد أن نص بونج قد كتبه بونج حقًّا وصدقًا،
ولا ريب في أنه نصه:
«سيتكهَّن بونج بأنه لا يوجد شخص آخر ملائم، سواء لكتابة نصه أو للتوقيع عليه. لم
يَعد يوجد ذلك التمييز — ضمن حدود الشأن الخاص المتميز — بين جذعَي الملاءمة والصفة
المائزة» (Signsponge, p. 28).
ولا يُعد هذا التكهن نزوعًا نَرْسيسيًّا، أو حتى طموحًا إلى «تَرْك علامة مائزة» أو
«إنشائها» بالمعنى السطحي، بل خضوعًا زائدًا لقانون الشيء على طريقته الخاصة.
تعني الكتابة «الخاصة المتميزة» إنتاج نصوص يكون المرء على استعداد لنشرها باسمه. وهذا التشديد على الخصوصية المائزة يكمن وراء الجزم
بأن فلاسفة من أمثال هيجل لا يكتبون نصوصًا خاصة، أي غير مستعدين للتوقيع عليها باسمهم بدلًا من التعميمات والكليات، ﮐ
«الحقيقة» مثلًا على حد فرضهم:
«يتنكر كل فيلسوف للخصوصية المميزة لاسمه، كما يتنكر لخصوصية لغته وظروفه، فيتحدث
باسم المفاهيم والتعميمات التي لا تخصه وحده بالضرورة» (Signsponge, p. 32).
ومن ثَم، تصبح الكتابة الأدبية الخاصة المتميزة غير قابلة للفصل عن عملية التوقيع
الخاصة المتميزة، لا بمعنى الكتابة باسم المؤلف الخاص فقط، وإنما بمعنى تأكيد المصادفات
أو العوارض التي يمكنها
أن تؤلف في مجموعها تفرد الشأن
الخصوصي المتميز أيضًا. ومن هنا، أولًا: تأكيد مصادفة حيازة اسم بعينه (اسم
«فرانسيس بونج») لا اسم آخر؛ ثم ثانيًا: تأكيد الكتابة في لغة بعينها؛ وأخيرًا، ثالثًا:
في
زمان ومكان (فتأريخ العمل هو أيضًا توقيع). والأكثر من هذا، فبدلًا من الحديث عن الكاتب
الذي «يحوز» هذه المصادفات أو العوارض، لعله من الأدق الحديث عن الخصوصية المائزة للاسم
واللغة والزمان والمكان … إلخ.
ومن بين هذه المصادفات أو العوارض المؤكدة باسم الخصوصية
المميزة، فأول ما يظهر بوجه خاص في كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» علاقة
الكاتب ونصوصه باسم العَلَم. فإذا كان بونج يتمتع بقدر من الامتياز في هذه الأمور، فربما
لأن شعريته المائزة تؤكد عَرَضيتها (مثلًا، مصادفة حيازته اسمًا بعينه) بوصفها — وهنا
المفارقة — سمة جوهرية لنصوصه الشعرية. وعليه، فإن إعادة وَسْم أسماء الأعلام بميسم
الأوصاف، والعكس بالعكس — وهو ما لاحظناه في القسم السابق المتعلق بالشيء — ينطبق بالقدر
نفسه، وفي الوقت نفسه، على العلاقة بين «فرانسيس بونج» والنص. ويشهد الاهتمام بالحروف
والجناسات التصحيفية وما أشبه — في مجموع أعماله — على تأكيد توقيع الكاتب في كل موضع
من
أعماله. ولا يعني ذلك طريقةً في التعبير عن نزعة نَرْسيسية غير متمركزة أو غريبة الأطوار،
وإنما هو جزء من برنامج أداء الشأن الخاص المميز أو
اسم العَلَم وثَلْم الأسلوب الخاص المائز. ومن
منظور المناقشة الواردة في نهاية الفصل السابق، قد يقول قائل إن بونج يطمح إلى جعل توقيعه
—
بالمعنى المتعارف عليه — توقيعًا يعبر عن تفرد العمل
بأقوى التفرد وأعلاه.
إن تأكيد المصادفات أو العوارض التي تشكل الخصوصية
المميزة يَرْقَى — في النهاية — إلى برنامج التوقيع مرتين؛ أي لا يُكتفَى بوضع الاسم في قاعدة النص وأساسه بل
جَعْل هيئته المادية شأنًا من شئونه دون مراء، بسماته الخاصة المائزة، ومن ثَم الاستغناء
عن
الحاجة إلى التوقيع بالمعنى الأول. وأما عن اسم العَلَم فيصبح التوقيع به مخلدًا بوصفه النص، وبرغم ذلك، «هل يكسب التوقيع أم يخسر بصيرورته
شيئًا؟» (Signsponge, p. 26).
من الممكن لأحدنا أن يرى بالفعل التعقيد الذي يضفر المحاكاة في هذا الأداء المتعدد؛ فأولًا: الشيء الذي يُمثل في تفرده في نص،
وقد أسْلَم نفسَه إلى هذا المطلب، يصبح هو نفسه — ثانيًا — «شيئًا» (آخر)، بالمعنى نفسه
حتى
عندما يحمل — ثالثًا — علامة بصمة مؤلفه الفريدة وخصوصيته المائزة له.
ومن الممكن إعادة بيان ذلك من منظور فعل التوقيع والتوقيعات، واضعين في الحسبان «التوقيع» بالمعنى المعتاد لإنشاء علامة فريدة
محل ثقة:
«سيعلِّمنا بونج كل الطرائق … وكل العمليات التي يمكن بها لأحدنا إنشاء توقيعه على
نص، وإنشاء نصه شيئًا، وإنشاء توقيعه شيئًا والشيء توقيعَه»
(Signsponge, p.
20).
وعندئذٍ، سيجعل هذا البرنامجُ الشيءَ يوقع على نفسه في النص وبوصفه النص، وبرغم ذلك
وفي
الوقت نفسه، إنشاء النص/الشيء في توقيعه.
ولا بد من الاعتراف بأن هذا البرنامج المعقد مستحيل. فبخصوص الأمر الأول، يغدو كل حديث عن «إنشاء توقيع الشيء» حديثًا
إشكاليًّا غامضًا. فالحق، يصبح الشيء la chose «عشيقة
فظيعة، والأشد استبدادًا أن تظل صامتة، حين يكون عليَّ أن
أعطيها الأمرَ نفسَه الذي تعطينيه» (Signsponge, p. 16). وفي التقابل بين بونج والشيء، يظل
الشيء غير ملتزم حتى بالأمر «المُتلقَّى» عنه. والأكثر من هذا، فبقدر ما يكون بونج هو
«شيء»
التفرد نفسه في أي لحظة، فهو ليس أكثر انخراطًا من الشيء. فما مشروع بونج هنا سوى «شِبْه
هَلْوسة محاكاتية»، ومحاولة «لمواءمة الآخر مع نفسه بتَرْكه يكون كما يكون»، «تَرْكه
يوقِّع
على نفسه وهو يوقِّع في مكانه باسمه» (Signsponge, p. 138).
سيبدو الأمر، منذ البداية، أمر استيلاء على توقيع الشيء بواسطة التوقيع عليه وتأسيسه
وتشكيله «بنحوٍ خصوصي مائز، في كتابة جديدة» (Signsponge, p. 132). وعلى سبيل التمثيل، يستشهد دريدا
بسطور من عمل بونج «طيور السنونو» The Swallows أو بأسلوب طيور السنونو:
«ريشة مسنونة ذات رأس فولاذي، مغموسة في مداد أزرق وأسود، اكتبْ نفسَك بسرعة! …/
كل طائر يطير في الفضاء مندفعًا، يقضي أطيب أوقاته يوقِّع على الفضاء. […] ترحل
الطيور عنا ولا ترحل عنا: لا وَهْم في ذلك أو خداع» (Signsponge, p. 132–4).
ومع ذلك، لا يحقق طائر السنونو، كلا ولا بونج، تقديمًا خاصًّا مائزًا هنا، لأسباب
سأشرحها على النحو الآتي. من الناحية التخطيطية، يتعلق عدم حدوث الأمر الخاص المميز —
الذي
يبدو أنه يخيب رجاء منهاج بونج — كما أوضحتُ في الفصل السابق — بعدم إمكان فصل المحاكاة
عن
مَهْواة الانعكاس التكراري mise-en-abyme.
وما تحتله المحاكاة من كتاب «إسفنجة
العلامة/علامات بونج»، بوصفها سؤالًا، لا يقل عما تحتله في مقال «جلسة مزدوجة». ﻓ «الشيء»
الذي نوقش يُلزِم المرءَ «بإعادة التفكير في المحاكاة من جميع جوانبها …» (Signsponge, p. 4).
وفي موضع متأخر نسبيًّا من قراءة دريدا، يقدم دريدا نص بونج «حكاية خيالية»
Fable، الذي يتكون من سطرين شعريين فقط، ولكنه النص الذي
«يصلح لتبديد كل شيء على نحو سري لا يمكن الاستعاضة عنه بغيره» (Signsponge, p. 102)، هذان السطران هما:
«بالكلمة يبدأ هذا النص لذا/سطره الأول يقول الحقيقة» (Signsponge, p. 102). ويمكن لأحدنا أن
يتعرف، هنا، على حركة إحالة معممة كالتي ظهرت في نص مالارمه «محاكاة» في الفصل السابق،
أي
إزاحة المحاكاة بكلا معنييها: معنى التقليد/التمثيل،
وبالمعنى الفينومينولوجي الذي قَوامه عرْض ما
يكون ظاهرًا والتقديم (الذاتي).
ويمكن رسم هذه الحركة من جديد إلى ما لا نهاية في
نص «حكاية خيالية» بطريقة تخطيطية («بالكلمة يبدأ هذا النص لذا/سطره الأول يقول الحقيقة»).
فأولًا، تؤدي القصيدةُ ما تقوله، فهي تفعل ما تدعيه،
أي تبدأ بالكلمة by. وثانيًا، تمثل القصيدةُ أيضًا ما
تفعله، فتشير إلى نفسها بتسمية (ذاتية)، يبدو
أنها تؤسسه مع ذلك. وثالثًا، لم يَعد أحدنا بقادر — من ثم — على الزعم بأنها «تفعل» تمامًا
ما تقوله، لأن ما يُفعَل ليس إلا تمثيل الفعل. ولكن هذا الفعل الممثل ليس موضوع التقليد بوصفه تسمية خارجية. فالقصيدة لا تمثل شيئًا
أو تعيد تقديمه، بل إنها لا «توجد» إلا بوصفها ذلك الانتقال المتردد بين «الفعل» و«تمثيله»
من دون تمييز بينهما. ومن ثَم، يغدو المُحال إليه — المقلد أو المُحاكَى — عميقًا بلا
قاع
من دون مشار إليه. ولا تنعكس القصيدة على نفسها؛ لأنها ليست هي «نفسُها» بوصفها مشارًا إليه؛ فما طريقتها في الوجود إلا هذه الحركة
السريعة من دون تمييز أو تطابق بين «الفعل»
و«التمثيل» الذي يشكلها (يفككها) في المقام الأول.
تعلن قصيدة «حكاية خيالية» — وإن كانت تتكون من سطرين شعريين فقط — عن «بنية» أو
«حركة»
تتحكم في الهَلْوسة المُحاكية في شعر بونج: المطالبة
بتمثيل مستحيل، وتوقيع خاص مميز، وقبل ذلك المطالبة بطريقة تُسلِم فيها اللغةُ نفسَها
للشيء
كي تنقل طبيعته الخاصة المائزة، التي هي أيضًا بلا مفر لغة تصف أو تنهض بهذا التحول (كما يحدث تمامًا عند هيدجر، ﻓ الشعر لا يمكنه سوى أن يصبح شعر
الشعر). ويعطي دريدا هذه الحركة العميقة بلا قرار اسم «الفتنة» allure، وهي حركة تنتجها الكتابة حتى عندما تشكل الصعوبة الحقيقية في الكتابة
(قارِن ذلك ﺑ «الفتنة» fascination عند بلانشو). وعن
المنشفة الإسفنجية sponge-towel بوصفها النموذج المولد
[البَرادايم] ﻟ «الشيء المتعذر والموضوع المستحيل»، نقرأ الآتي:
«قصة المنشفة الإسفنجية … هي حكاية خيالية حقًّا … محاكاة لواقع بلا أصل وتأثير من
تأثيرات اللغة (حكاية رمزية)، غير أنه بذلك، وبه وحده، يمكن للشيء بوصفه آخر وبوصفه
شيئًا آخر أن يحدث بفتنة حدث غير قابل للاستملاك والمواءمة (البُدُو الجديد في
مَهْواة). حكاية الفتنة الخيالية (وأنا أُسمي باسم «الفتنة» سلوكَ الشيء الذي يأتي من
دون إتيان، الشيء الذي يهمنا في هذا الحدث الغريب)، حيث لا شيء يحدث سوى ما يحدث في
قصيدة «حكاية خيالية»» (Signsponge, p. 102).
لقد آلَ
الشعر الهيدجري، هنا، إلى حركة لغة خارقة
لا وصف لها أو عميقة بلا قرار، يجري فيها تأكيد تفرد الشيء — الآخر —
بوصفه سرد استحالة وجوده. وتبقى القصيدة بما هي أثر فريد
لهذه
الخطوة-لا pas. وعلى سبيل المثال، ما طائر السنونو سوى أسلوب في الوجود
هو نفسه أسلوب في الكتابة: «لا يني كل طائر من طيور السنونو
عن دفع نفسه — وبذل نفسه من دون إبطاء — عبر فعل التوقيع على السماوات، طبقًا لنوعه»
(
Signsponge, p.
132). وما يأتي الشيء إلا ليعيد وَسْمَ نفسه
بوصفه كتابة، والكتابة تحاول وَسْم نفسها بخصوصية طائر السنونو الفريدة. ولا
يصبح طيران الطائر نشاطًا «مصورًا» بوصفه كتابة توقيعية
٢١ عبر السماء فقط، وإنما كتابة القصيدة مصورة في طيران الطائر أيضًا. إذ يتداخل
الحدث وسرده في هلوسة محاكاتية، فيعيد كل منهما وَسْمَ الآخر وسْمًا عميقًا. ولم يَعد
معنى القصيدة مرجعًا مأمونًا (طائر السنونو
«الواقعي» أو «الخيالي») خارج النص. ولا يمكن أن يتناسب هذا الفيض من التوقيع مع أي قراءة
شكلية. فنص «١٤ يوليو» لا يدور «عن» اسمه
فقط، ولا
يكمن «معناه» في حركة انعكاسه على نفسه، أو في «نفسه»، أو في «الكتابة». ولا يشير النص
إلى
شيء آخر، كلا ولا إلى نفسه، وإنما يشير إلى نفسه
بوصفها ذلك الآخر، في حركة مكوكية من «اللااختلاف» الغريب. ومن هنا، فهذا
الشيء/اللاشيء الهَلْوسي هو طريقة وجود
طيور السنونو أو بأسلوب
طيور السنونو. ولأن هذه الطيور تكتب نفسَها في السماء، وعبر الصفحة، فليس من
الممكن تحديد محل إحالة هذه الكتابة:
«إن الضمير t’ الراجع على الفاعل [في العبارة
tu t’écris vite!] يرجع على نفسه، مشيرًا إلى
نفسه، ويدل بوضوح أن عليه القيام بالتوقيع على النص، وبرغم ذلك تطير الإحالة بعيدًا
في هذه الحركة الجوية، في وضع الشيء خطيًّا في مدار» (Signsponge, p. 132).
ويمكن لأحدنا الحديث عن
استبعاد المعنى في النص،
لا بسبب بعض القصور أو التباس أو إيماء إلى ما لا يمكن وصفه، بل الأحرى بسبب
فائض المعنى في الخصوصية الدلالية للقصيدة، الذي يعادل
تقريبًا استبعاده.
٢٢ والأكثر من هذا، فلأن قصيدة بونج تسكن في الشكل الخطي للأشياء وأسمائها، بعدد
من الجناسات التصحيفية المتنوعة واشتقاقات الألفاظ (التخيلية) … إلخ، نجد هذا اللااختلاف
الغريب يستر الفرقَ بين الأسماء والأشياء (كما في نص «١٤ يوليو»): «أنت لا تعرف ما إذا
كان
يُسمِّي أو يصف، كلا ولا ما إذا كان الشيء الذي يصفه/يسميه هو الشيء أو الاسم، اسم نكرة
أو
اسم عَلَم» (
Signsponge, p.
118).
هكذا، لا يمكن فصل ممارسة بونج الشعرية عن السقوط إلى
مَهْواة الانعكاس
التكراري وسيكون التوقيع الخالص — سواء أكان توقيع الكاتب
أم الشيء — حدثًا فريدًا لتسمية (ذاتية) غير قابلة للتكرار، وبالضرورة «عديمة المعنى»
لأنها
لا تصلح إلا ﻟ هذا-الشيء-الآن. وهذا التوقيع المساوي
للطبيعة مستحيل. ومطلب التفرد مستحيل أيضًا. ومهما
كانت محاولة الانتباه إلى تفرد الشيء فإن عنصر التعميم لا مهرب منه. إذ من شأن الحدث
الفريد
أن يُضرَب به المثل فيُستعمَل في إيضاح حدثٍ غيره
وشرحه. وذلكم معناه أن الحدث الفريد — من حيث كونه يُضرَب به المثل — يُلمِح إلى احتمال
مناقض للحدث الفريد بوجه عام. والحق إن الشيء يعاني في هذه الناحية من مأزق مزدوِج؛ فأولًا:
ينبع تفرد الشيء من تَمنُّعه على التعميم وأن يغدو مضرب المثل. لذا، قد يقول قائل إن
الشيء
يصون قوته برفضه أن يُضرَب به المثل، وثانيًا؛ أمكن القول بالقدر نفسه، برغم ذلك، إن
تفرد
الشيء ينبع من طريقته المغالية في أن يكون مضرب المثل. إذ كلما تَمنع على أن يُضرَب به
المثل صار أدعى إلى أن يُضرَب بتفرده المثل. وكلما ضُرِب بتفرده المثل قَلَّ التفرد،
والعكس
صحيح. فيبدو الأمر كما لو أن بنية فراكتيلية غير منطقية تكرر نفسها على مستوى مجاليها
الأصغر والأكبر كليهما.
وإن من شأن الأشياء:
«أن … تكون دائمًا أمثلة من دون مثال على التفرد نفسه، ضرورة الأمر الاعتباطي
التصادفي العارض، شأن كل نصوص بونج وكل توقيعاته، دائمًا فريدة، من دون مثال، ومع ذلك
تكرر الشيء (نفسه)، هو نفسه، بلا كَلل» (Signsponge, p. 90).
مشهد التوقيع هو مشهد «الشيء نفسه في عدم تطابقه مع نفسه»، مشهد البُدُو الجديد في
مَهْواة: «ما التوقيع إلا تثبيت في مَهْواة (الشأن الخاص المميز) نفسها: نزع الاستملاك»
(Signsponge, p.
132). ودريدا حريص، في الوقت نفسه، على فصل هذا الارتباط المزدوِج في
توقيع الشيء عن «ميتافيزيقا الخاص المميز، أو ميتافيزيقا القرب، أو مرةً أخرى ميتافيزيقا
الحضور» (Signsponge, p.
98). وبالأحرى، يعني الشيءُ، في سلسلة من التلميحات إلى هيدجر شِبْه
تهكمية، «الشيءَ الأقرب بما هو الشيء المستحيل، الأكثر إتاحة والأكثر نكرانًا، الشيء
الآخر
دائمًا أو شيء الآخر الذي يجعل من الشيء شيئًا، أو فلنقل شيئية الشيء»
(Signsponge, p.
92).
وإذن، يوحي «نزع الاستملاك» بالرباط المزدوِج في
لا حدث الإيرايجينيس في مَهْواة. فلا شيء يقع
على نحو خاص متميز بمعنى الشأن الفريد الخالص أو العام الخالص. ولربما يتصور أحدنا الآن كيف يمكن أن تؤدي إعادة التفكير في
«الشيء» إلى تفسير يضع هيدجر في مَهْواة؛ فأنحاء أي شيء «هنا/هذا/الآن» في تفرده لم تَعد تعكس عكسًا استملاكيًّا ما قاله هيدجر عنها
في مقاله «الشيء». فالشيء لن يكون ممكنًا إلا في الفتنة، وقد حُددت بالفعل اﻟ pas (الخطوة/الوقفة).
و«إزاحة» هيدجر هذه، هي السياق الذي يُعيِّن موقع أهمية ممارسة بونج الشعرية:
«يبدو لي أن بنية التثبيت في مَهْواة، كالتي يمارسها بونج، تكرر هذا المشهد في كل
مرة: كل مرة، ولكن كل مرة بأسلوب خاص متميز بالضرورة» (Signsponge, p. 50).
في مقاله «الموضوع هو الشعرية»
The Object is Poetics
(١٩٦٧م)، يؤكد بونج بالمثل أن كل شيء هو في حد ذاته حدث وجود فريد («ولكن ما الذي
يوجد، أولًا وأخيرًا، لحسن الحظ؟ التعاقب في طرائق الوجود
ليس إلا. هناك الكثير والكثير من الأشياء، على عدد ما شئتَ من إغماض طرف العين»).
٢٣ وإذن، تهتم طريقة الكتابة الخاصة عند بونج ﺑ «الحدث» النصي الذي يهيئ، في عذاب
بنية
مَهْواة الانعكاس التكراري، انفتاحًا على تفرد
الآخر في قوة تدخله، حتى عندما يمحو هذا التدخلُ نفسُه مكانتَه الفريدة (المطلقة). لا
يمكن
أن يوجد الآخر
الخالص. والأكثر من هذا، بقدر ما تكون
اللغة شرط إثبات الآخر يمكن لأحدنا القول إن الآخر لا بد أن يغدو مشوبًا غير محض عبر
عملية
التعميم التي تجري
لإظهاره. ومن الجائز القول إن
الخاص المميز هو تأثير ذلك الذي يبدو أنه يتجاوزه. تقول إيرين هيرفي إن «الخاص المميز
المحض
أو الخالص» مفهوم تَشكل
فيما بعد، «ولعله يشير إلى
ما يتجاوز اللغة وليس العودة إليها … ولذا فهو
نتاج
اللغة، وإنْ يكن مجاوزًا لها».
٢٤ لذا، لا تنفصل شعرية بونج أيضًا عن
مَهْواة
الانعكاس التكراري؛ لأن التوقيع يعيد الوَسْم من جديد حتمًا، ولكن هذا الجانب
من النص يُقدم بشكل مفيد للغاية في مقالته اللاحقة عن تأريخات الأيام.
إن تأريخ يوم، حاله من حال اسم العَلَم أو التوقيع، فريد وخاص مميز. ولكنه حتى يكون
قابلًا للقراءة أصلًا، لا بد أن يمحو — إذا جاز التعبير — تفرده المزعوم بقابليته للتكرار
في التقويم. ويُعد التضاد بين الفريد والعام صارخًا في حالة تأريخات الأيام على الأخص؛
فتكرارها منقوش فيها بفضل وظيفتها في دورة التقويم. فيظهر تأريخ يوم بوصفه نفيًا لما
يسميه
في تفرده، بالضرورة. هذه هي بنية قابليته للقراءة، ومن دون تلك البنية، لن يكون تأريخ
اليوم
أكثر من إشارة أو علامة مُطلسَمة لا تُفَك شفرتُها، وليس تأريخ يوم إطلاقًا:
«يمحو تأريخُ اليوم نفسَه في قابليته للقراءة عينها، إذ لا بد أن يمحو في حد ذاته
قدرًا من سمة تفرده لكي يُديم في القصيدة ما يخلد ذكراه؛ وفي ذلك تكمن فرصة ضمان
عودته الشبحية. ولأن هذا الإلغاء عبر حلقات العودة من أخص لوازم حركة تأريخ اليوم
عينه، فما يجب أن يَحتفل بنفسه من الآن فصاعدًا هو اندثار تأريخ اليوم أو فنائه،
وذلكم نوع من اللاشيء أو الرماد» (Schibboleth, p. 318).
ولكن هذا «الرماد» أبعد من أن يكون عدمية محضة في تأريخ اليوم. إذ تعني قابلية الإعادة
التي تشكل تأريخ يوم من الأيام أن تفرده الفاعل بشكل خادع في يوم «الثالث والعشرين من
فبراير» يُخلي السبيلَ لا إلى إخفاء عام للهُوية، بل إلى تأريخ اليوم «نفسه»، إلى «ثالث
وعشرين من فبراير» آخر في أعوام سابقة ولاحقة. وبفضل قابليته للتكرار الأصيلة فيه، يحشد
تأريخُ يوم «واحد» إمكان الاحتفال بأكثر من حدث واحد: هل يوجد «الثالث والعشرون من فبراير»
واحد أو الكثير منه، حتى لو تحدث أحدنا عن السنة نفسها؟ إن قصيدة سيلان
Celan «الكل في واحد» In
Eins، باحتوائها أربع لغات تتعلق بتأريخ يوم «واحد»، تفتح تأريخَ هذا
اليوم على احتمال أن يكون مثل هذا التعدد «في أماكن متفرقة … وفترات زمنية مختلفة، ولغات
أجنبية متمايزة، مقترنًا بإحياء الذكرى السنوية نفسها»:
الكل في واحد
الثالث عشر من فبراير. وفي
شغاف القلب
عادة دارجة مميزة مستيقظة. معك
أهل
باريس
ولا مرور.
(Schibboleth, p.
319)
ويؤدي هذا التعدد الذي لا يُحصَى ضمن حدود تأريخ يوم إلى تعليق السياق المحدد. وتصبح الخصوصية الشعرية — كتأريخ يوم
— متميزة بهذين المظهرين الآخرين من مظاهر الأدبي المشروحين إجمالًا في مفتتح هذا الفصل؛
فتأريخ يوم — بوصفه إعادة وَسْم ﻟ «نفسه» غير قابلة للحسم — يكتسب تعقيدًا لا يمكن أبدًا
نَمْذجته:
«إنه يحشد معًا … اندماجًا واضحًا وسريًّا، إلى حد ما، للتفردات التي تتشارك فيه
وتتقاسمه؛ وفي المستقبل ستستمر في تشارك التاريخ نفسه وتقاسمه»
(Schibboleth, p.
326).
يبدو أن تأريخَ يومٍ عالقٌ بين طريقتين هما الرماد أو العدمية؛ فأولًا هذه «الإحالة
إلى
الرماد» الكامنة في صيرورته فريدًا تمامًا ومن ثَم غير قابل للقراءة ولا التكرار؛ وثانيًا
العدمية غير القابلة للانفصال عن قابليته للتكرار والقراءة. وتتحرك قصائد سيلان في الفضاء
بين هذين الطرفين. وإذا أمكن إعادة وَسْم التفرد بواسطة إمكانه الإحالة عددًا لا يُحصَى
من
المرات إلى تأريخات أخرى … إلخ، فهي تظل مع ذلك «إعادة وَسْم فريدة» (Schibboleth, p.
314):
«لعلنا نقول إن الكتابة الشعرية تأريخ بكل ما في الكلمة من معنى، فنضفي عليها
راديكالية وتعميمًا بلا فطنة. وتلك هي كل شفرة التفرد التي تعطيها قدرَها وتستدعيه،
تعطيها زمنَها وتستدعيه مع المخاطرة بفقد ذلك كله في تعميم هولوكوستي لتكرار المفهوم
وقابلية قراءته، في يوم الذكرى السنوية وفي تكرار ما لا يقبل التكرار»
(Schibboleth, p.
20).
وهذا الاقتصاد نفسه المتعلق بالفريد والعام، الذي فيه يُمحَى تفرد الحدث على الرغم
من
أنه يُصان أيضًا في غيرية جديدة غير خالصة، يعمل في اقتران التوقيعات وضمها معًا في ممارسة
بونج الشعرية. وقد كان منهاجه، كما رأينا أعلاه، «أن يجعل توقيعَه نصًّا، ونصه شيئًا،
والشيءَ توقيعَه» (Signsponge, p.
20).
يبدو، للوهلة الأولى، أن توقيع الشيء، في ظروف ظهوره عينها، قد مُحيت بالضرورة في
تعميم
اللغة، ولكن لم يَعد بمستطاع أحدنا الحديث بدقة عن «تعميم اللغة» أو عن اللغة بوجه عام،
وليس السبب الوحيد في ذلك أن فحوى نص بونج تنحو بأكملها إلى الخصوصية وعدم قابلية التكرار،
إذ بعد اعتبار الإيرايجينيس في مَهْواة، لم يَعد
بالمستطاع الحديث عن اللغة بوجه عام بأكثر من الحديث
عن «الوجود بوجه عام»؛ فالحق إنه ربما تكمن، ها هنا، السمة الأشد راديكالية لاهتمام
بونج
بالتفرد؛ إذ يغدو الإيرايجينيس، غيرُ المستملك، غيرَ
متمايز عن حدث الشأن الفريد في رباطه المزدوِج.
وما يبدو أنه يمحو توقيع الشيء/الكاتب، لا يمكن
أن يكون تعميم اللغة بل توقيعُ آخر، توقيع الآخر
المتأثر بمضاجعته التوقيع الأول، والحق إن كليهما يتأثر بآخره. وتكمن خصوصية الحدث النصي
(إذ يعيد الشيءُ واسمُ العَلَم وَسْمَ أحدهما الآخر) فيما يُسمى «المصادقة على التوقيع»
حيث
يُرسَم كلا التوقيعين ويُمحيان (توقيع الكاتب وتوقيع الشيء). أو الأحرى، لأن هذا «المحو»
يُعد شرط ظهورهما عينه فإن التباين بين الشيء والكاتب هو التباين الذي فيه «لا يكون ما
يُتبادَل شيءٌ محدد يُوقَّع عليه في النهاية، بل يحدث كل شيء بواسطة التوقيع نفسه»
(Signsponge, p.
126). وعندئذٍ، تغدو المصادقةُ على التوقيع اسمَ النص نفسه، وخصوصيته غير النقية.
ولما كان كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» نصًّا نظريًّا، فبالمستطاع التوقف عند
هذه
المرحلة من التحليل بعد تتبع المناقشة المعقدة حول البنية ومنشأ ذلك الغشاء hymen المقاوم من الفريد والعام الذي يشكل نصًّا أدبيًّا، والخلوص إلى
الآتي:
«عندما يؤَمِّن كل نص مصادقةَ توقيع من الشيء الآخر، وحين يضمن كل نص المصادقة على
توقيع الشيء الآخر، يجد نفسَه مزودًا بخصوصيته غير القابلة للاستبدال، ومن ثَم مزودًا
بتوقيع منفصل عن الاسم الدائم للمؤلف «العام»» (Signsponge, p. 128).
والحاصل أن كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» لا يكتفي بالتنظير لإمكان علم الشأن
الفريد، وإنما يحاول أيضًا ممارسته.
ويظهر علم العَرَضي الممكن بوصفه علمًا للحدود بالضرورة. وفي هذا الصدد، من المناسب
النظر بإيجاز في مفهوم الحدود في فلسفة العلم.
كثيرًا ما كان الافتراض في فلسفة العلم، وفي الممارسة العلمية، أن الظواهر يمكن تفسيرها
اختزاليًّا؛
٢٥ بمعنى أنه يجوز من حيث المبدأ، في يوم من الأيام، تفسير السيكولوجيا من منظور
البيولوجيا، والبيولوجيا من منظور الكيمياء، والكيمياء من منظور الفيزياء. وتتعرض هذه
الفرضية،
٢٦ المعروفة أيضًا بأنها «وحدة العلم»، لكثير من النقاش مؤخرًا. وعلى سبيل المثال،
تحدى هيلاري بوتنام تحديًا مقنعًا النزعة الاختزالية، فذهب إلى أنه برغم إمكان
استنتاج ظواهر المستوى الأعلى، في بعض الحالات، من مستوى
أدنى، فإنه لا يمكن تفسيرها على هذا النحو.
٢٧ فمثلًا، قد يسعى «تفسير» على المستوى الذري إلى إيضاح السبب في أن سدادة لا
يمكنها المرور من ثقب دائري صغير، ولكنها يمكن أن تمر من خلال ثقب أكبر. وبرغم ذلك، فمثل
هذا التفسير سيناقض اسمه عند تبني قدر من التفاصيل من شأنه دفن الفَهْم «في كتلة من
المعلومات غير ذات صلة». ومن ناحية أخرى، يشير التفسير إلى «أن الكائنين الكبيرين صلبان
تقريبًا، وأن أحد الثقبين كبير بما يكفي لمرور السدادة وأن الآخر ليس كذلك»
(
p. 206).
والأكثر من هذا، فحتى استنتاج ظواهر المستوى الأعلى من مستوى أدنى غالبًا ما يكون
مستحيلًا في ذاته:
«وبالنظر إلى البنية الصغرى للسدادة واللوح، فمن الممكن استنتاج الصلابة. ولكن بالنظر إلى البنية الصغرى للدماغ
والجهاز العصبي، ليس من الممكن استنتاج أن علاقات الإنتاج الرأسمالي ستوجد. فالموجودات نفسها يمكن أن توجد في الإنتاج السلعي
السابق على الرأسمالية، أو في الإقطاعية، أو في الاشتراكية، أو بطرائق أخرى»
(Putnam, p. 209).
الاستنتاج، هنا، مستحيل بسبب ما يسميه بوتنام «شروط الحد»، بمعنى أن الرأسمالية تستند
في
وجودها إلى شروط عَرَضية من وجهة نظر الفيزياء.
وعليه، «تتمتع قوانين الرأسمالية ببعض الاستقلالية مقابل قوانين الفيزياء» (p. 209). فما يكون
«عَرَضيًّا» في مجال يصبح جوهريًّا بل تشكيليًّا في مجال آخر: «يستند التطور إلى نتيجة
البنية الصغرى (التغاير في النمط الجيني)، ولكنه يقوم أيضًا على الظروف (وجود الأكسجين
…
إلخ) التي هي ظروف عَرَضية من وجهة نظر الفيزياء
والكيمياء» (p. 209).
من الواضح أن هناك مسألة كيف تُحدد «شروط الحد»، ولأي غرض، في المجالات النطاقية
المتنوعة التي تؤسسها جزئيًّا. ولأن هدف بوتنام الأساسي مساءلة النزعة الاختزالية من
جوانبها المختلفة فهو لا يضع في الحسبان مسألة أين يتوقف «العَرَضي»، أو كيف يمكن تعريفه،
أو كيف يخضع للتحول إلى أمر غير عَرَضي في أي مجال معين. تلك هي الفجوة أو الثغرة المثمرة التي
يتموضع فيها علم الشأن العَرَضي المفترَض عند دريدا.
ويجب أن يكون الجانب البارز في هذا العلم المفترَض هو الاهتمام بالحدود والتكميلات parerga: «الحدود أو التخوم» بالمعنى الغالب للمصطلح عند بوتنام. ولأن «العلم» —
كما يُفهَم عادةً — لا ينفصل عن رفع الفريد إلى العام، فليس من المستغرب أن يكون «الحد»
الأوضح في الاعتبار هو الحد بين التفرد والتعميم. وقد تتبعنا بالفعل في كتاب «إسفنجة
العلامة/علامات بونج» اقتصاد العلاقات الذي يظهر بمقتضاه التفرد والتعميم. فإذا كانت
الفلسفة والنقد الأدبي والأفكار المتوارثة عن اللغة غير منفصلة، على ما يبدو، عن محو
التفرد، فلا بد أن يؤكد أحدنا بالقدر نفسه من الضرورة أيضًا أن «الفلسفة والهرمنيوطيقا
والشعرية لا يمكن إنتاجها إلا ضمن حدود خصوصيات متميزة ولغات [مختلفة]، وضمن نطاق مجموعة
من
الأحداث وتأريخ الأيام» (Schibboleth,
p. 337). كذلك، «يُؤرخ القولُ دائمًا، سواء عرف أحدنا هذا أو لم يعرف،
وسواء اعترف بذلك أو أخفاه» (Schibboleth, p. 313). وتشكل هذه الحجة أساس الكثير من
المعرفة التاريخية والنصية الفاحصة (غالبًا من أفضل نوع تقليدي) التي يكرسها دريدا، في
كثير
من الأحيان، لتلك النصوص التي يقرؤها. وعلى سبيل المثال، ما يلاحظه دريدا من أن مشاعر
فرويد
العائلية وطموحاته تختلط في كتابه «ما وراء مبدأ اللذة» Beyond the Pleasure Principle بتأملاته الفكرية اختلاطًا لا ينفصم، وبطريقة لا تعمل على النيل من فرويد
فحسب، وإنما تثير التساؤل عن المدى الذي يمكن معه قراءة التحليل النفسي بوصفه علمًا
للتأثيرات الفردية أيضًا. سيكون التحليل النفسي مؤرخًا، بمعنى غير ازدرائي من شأنه أن يشكل على وجه التحديد اهتمامه بتحدي
التصورات السائدة عن العلم، والحق إن أحد الإمكانات الأقوى إثارة التي يفتحها لنا كتاب
دريدا «إسفنجة العلامة/علامات بونج»، هو إمكان دراسة أصل النظريات العلمية وظروف تكوينها
بالنظر إلى تأريخها بهذا المعنى، أي التفكير العميق في دور ما أسماه بوتنام «شروط
الحد».
من هذه الناحية، يبدو عمل دريدا «إسفنجة العلامة/علامات بونج» تأملًا تفكيكيًّا في
الحدود، لنقل الحدود بين «الحياة» و«الكتابة»، بين «الصدفة العارضة» و«الحتمية اللازمة»،
وبطبيعة الحال بين «الكلمة» (أو الاسم) و«الشيء». يسعى كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج»–
حاله في ذلك من حال كتاب «خطوة-لا» في تناوله بلانشو — إلى مقاربة حدث التوقيع الذي يشكل عمل بونج. وبوصفه طورًا من أطوار علم
الشأن الفريد، المفترَض، يسعى كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» إلى التحقيق في الصلة
«بين
نص محدد، وما يُسمى مؤلف محدد، واسمه المحدد بوصفه اسم عَلَم» (Signsponge, p. 24). وبكلمات أخرى، لِسائلٍ
أن يتساءل: ما الآثار التي يمكن افتراضها من المصادفة التي تجعل شخصًا يَتسمَّى باسم
محدَّد
دون اسم آخر؟ تبدأ السيرة الأدبية بعد «حدث التوقيع»، ولا تتساءل عن وضعية التوقيع، لا
تتساءل عن العلاقة بين النص والتوقيع والكاتب الذي يَدَّعي أن النص ﺑ «اسمه». فبدلًا
من
مجرد افتراض أن النص كذا ينتمي إلى المؤلف فلان، شرع دريدا في استكشاف تعقيدات هذا الانتماء
نفسه. ولا يعني ذلك إنكار أن فرانسيس بونج مثلًا هو مؤلف — لنقل — «تغرب الشمس في مَهْواة»
Le soleil place en abîme، بالمعنى المعتاد لكون هذا
النص نصه. النقدُ النصي أو تحقيق النصوص شأنٌ تجريبي يستبعد — بحكم طبيعته — المجال الذي
ينشغل به دريدا: مجال بنية اللاانتماء وعدم المِلْكية، الذي يؤثر في أي توقيع ممكن أو
انتماء خاص مميز، والذي يؤلف قوته واستمراريته، فيما يقول دريدا. ونتناول هنا فكرة «حدث
التوقيع» كما تبلورت في كتاب «خطوة-لا». يقول دريدا عن محققي النصوص:
«قد يتساءلون عما إذا كانت قطعة معينة من الكتابة قابلة حقًّا لتعيين مؤلف بعينه؛
وأما بخصوص حدث التوقيع، والآلية الغائرة لهذه العملية، والمبادلة بين المؤلف المذكور
واسمه الحقيقي … فلا يوجد أي تخصص من التخصصات التي تهتم بالنصوص المعروفة بأنها
أدبية يثير هذا النوع من الأسئلة» (Signsponge, pp. 24–6).
وفي مقال لاحق (عنوانه «تفسير التوقيعات» [١٩٨١])،
٢٨ يناقش دريدا تفسير هيدجر لاسم العَلَم «نيتشه»، بوصفه «ليس سوى اسم لفكره»
(
p. 250)، أو إيماءة كلاسيكية «تفصل شأن الحياة أو شأن
اسم العَلَم عن شأن الفكر» (
p. 250). ذلكم، على وجه
التحديد، افتراض وجود حدود محكمة (بين الكتابة و«الحياة» هنا)، وذلكم موضع شك دريدا.
ويؤكد
بونج، على عكس هيدجر، عدم جوهرية الاسم أو عَرَضيته الظاهرة. فالاسم، في حقيقته، لا ينفصل
عن ثَلْمٍ معين في الأسلوب («ذلكم قانون الخصوصية المميزة ونمطيتها»،
[Signsponge, p.
20]):
«فيما أرى، لقد عرف فرانسيس بونج، أولًا وقبل كل شيء، أن المرء عليه الانشغال
بنفسه، وأن يترك نفسَه مشغولًا بها، حتى يعرف ما يستمر من الاسم والشيء … وهو إذ
ينشغل باسمه يضع في حسبانه انهماكه بوصفه كاتبًا ذاتَه في اللغة، وأن هذا أمر يجري بالفعل» (Signsponge, p. 26).
ومن هنا، يأتي اهتمام دريدا على طول كتابه «إسفنجة العلامة/علامات بونج» بالتوقيع
المخلد: الخصوصية المائزة المنقوشة في النص، وبعثرة حروف الاسمين «فرانسيس» و«بونج» في
ثنايا أعمال فرانسيس بونج.
ويلاحظ المرء أن اسم العَلَم والشيء يحتملان تشابهًا حاسمًا منذ البداية. فكلاهما
طريقتان في كتابة تفتقر إلى الدلالة. ولعل فكرةَ بونج التي مُفادها أن الطبيعة نقش غير دال مهمةٌ هنا. والأكثر من هذا، يتضح على الفور أن
اسم العَلَم نفسه يحتل هذه الوضعية؛ فهو بنموذجيته الفريدة في الإحالة يقع بشكل حاسم
خارج
عمومية المعنى التي تشكل اقتصاد اللغة. وفي مقال دريدا «أبراج بابل»، نقرأ:
«ينتمي الاسم
pierre [= حجر] إلى اللغة الفرنسية، وترجمته إلى لغة أجنبية لا بد أن تنقل
في الأساس معناه. لكن الأمر ليس كذلك مع اسم العَلَم
بيير Pierre، الذي يُعد انتماؤه إلى اللغة الفرنسية غير مؤكد».
٢٩
فالاسم بافتقاره إلى الدلالة (إذ لا تُترجَم إحالته الفريدة إلى لغة أخرى) يؤسس وضعيته
الخاصة. وبرغم ذلك، ثمة أيضًا «عدم يقين أو مصادفة …
بين اسم العَلَم واللغة الأم» (Signsponge, p. 116)؛ بمعنى أن وجود اسم العَلَم في لغة
من اللغات يعطيه دومًا قدرة معينة على أن يعني
(مصادفةً)، من خلال الجناسات التصحيفية والتوريات … إلخ، فيتنقل عبر الحد المفترَض بين
الصدفة والدلالة. ويتحرك في ذلك النطاق الذي يلعب فيه بونج، مؤكدًا عَرَضية اسمه داخل الشكل الخطي للنص. وعلى سبيل المثال، يلاحظ دريدا
«دراما كاملة بين تلفظات المقطع pon، الذي يتكاثر في معجمه وكأنه أختام عديدة أو توقيعات مختصرة مبتورة مكثفة»
(Signsponge, p.
96). وهنا، يسكن تفرد اسم العَلَم في حدث التوقيع الذي يميز نصًّا من
النصوص.
ومن ثَم، يفيض توقيع بونج وينتشر في ثنايا النص
وَفْقًا لمنهاج أو توقيعٍ خاص (الدال على نفسه بافتقاره إلى الدلالة): «سيعيد فرانسيس
بونج
وَسْم نفسه». وللوهلة الأولى، يبدو أن هذه العبارة المتكررة — «سيعيد فرانسيس بونج وَسْم
نفسه» (Signsponge, p.
8) — تُسمِّي مظهرًا صريحًا في نصوص بونج، ألا وهو رغبته في ألا يكتب
سوى من خلال اسمه، وأن ينتج نصوصًا تخصه هو وحده. ولكن هذه الرغبة تنطوي على تعقيد إذا
أعدنا التفكير في كلمة «نفسه» himself في هذه العبارة، حيث
تتجلى خصوصية هذه الكلمة بقدر أكبر في الضمير الفرنسي se:
Francis Ponge se sera
Remarque. فالضمير se يمكن أن يكون هو الاسم «فرانسيس
بونج»، معبَّرًا عنه بتوقيع هائل متناثر في كل أعماله. ولربما يؤدي ذلك كله بالمرء —
في
النهاية — إلى التفكير في الاسم بوصفه موضوع تعليق. فمن بين تأثيرات عمل بونج عدمُ الحسم
بين ما إذا كان يقوم بتسمية الشيء أو وصفه، أو اسم الشيء. يشير الاسم إلى نفسه طيلة الوقت
في فائض التوقيع الغائر، وهي قراءة ليست أقل تسويغًا من غيرها، ما دامت العَرَضية الأصيلة
في علاقة حروف الاسم باللغة الأم أمرًا يخضع له الكاتب.
كيف يمكن لأحدنا أن يمارس علم التفرد أو يطبقه؟ وَفْقًا للضرورة التي نوقشت بالفعل
في
كتاب «خطوة-لا» (تجنب اللغة الشارحة)، فإن ممارسة دريدا ﻟ «علم التفرد»، وهو يقرأ عمل
بونج،
هي أيضًا محاكاة لا مفر منها لبونج نفسه، فممارسته هي برنامج عملي من هذا النوع الفريد.
نص
دريدا نفسه
يحاكي نسخة بونج الخاصة ﻟ
المحاكاة. وذلكم يعني القول إن بونج/«بونج»
Ponge/“Ponge” قد غدا مركز نوع من التأمل الشعري الذي
يوجهه بونج نفسه إلى الأشياء والأسماء.
٣٠ ومن ثَم، لا «تناقش» قراءة دريدا علاقة القصيدة بالشيء من أجل بونج، بل الخضوع
نفسه لقانون الشيء في حالة
بونج-الشيء Ponge-thing (أي: علاقة القصيدة بالشيء عند بونج). ويصبح كتاب «إسفنجة العلامة/علامات
بونج» المثال الأشد تركيزًا وإبهارًا حتى الآن لمعالجة قضية فلسفية أو أدبية في وضع أدائي،
مع الانخراط مرةً واحدةً في كل طريقة من الطرائق الثلاث التي يشكل بها الأدبي حدًّا
داخليًّا لتصورات العلم النظرية.
يعني تقليد بونج، أولًا وقبل كل شيء، الخضوع للتفرد ولغيرية شيء بونج بطريقة تنتج
نصًّا
يستملك بونج وحده خصوصيته المائزة: «ينبغي عليَّ الخضوع لقانون اسمه بطريقة ما، وأيًّا
كان
ما يمكنني قوله» (Signsponge, p.
18). وإذا كانت القراءة تُعد حدثًا من هذا النوع، فعندئذٍ:
«يجب عليَّ التوقيع، اﻟ «أنا» لا بد أن توقِّع، ولذا لا بد ﻟ «أنا» أن تتصرف
بوصفها آخر، بوصفها هو. وبكلمات أخرى، لا بد أن تعطي «أنا» نصي شكلًا فريدًا خصوصيًّا
مائزًا على نحو مطلق» (Signsponge, p. 25).
ومن ثَم، يصبح كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» محاولة لجعل «شيء فرانسيس بونج»
Francis-Ponge thing يوقع على نفسه بوصفه النص الخاص
المائز لشيئه، حتى عندما يعترف دريدا بكُنْه خصوصية بونج المميزة له حتمًا. لذا، يأتي
عنوان
الكتاب — Signséponge — الذي سيكون التعبير Signedponge ترجمةً
أخرى له. وكما هو حاصل مع بونج، سيتجه النص المنتَج نحو حالة من اسم العَلَم مستحيلةٍ: مَسْرحة لإحالة فريدة.
وبرغم ذلك، فإن تقليد المحاكاة البونجية، هذه المحاولة، هذا الحدث، هو بالفعل في
مَهْواة
لا مفر منها. ومن ثَم، يلعب دريدا، في عدة مناسبات، (كما فعل مع نص مالارمه «محاكاة»)،
باحتمال أنه لا شيء يحدث في الافتتان بمَسْرحة الافتتان. ومثلما اهتم بونج بماليرب
Malherbe أو بيكاسو
Picasso من خلال اللعب بأسمائهما على أنها أشياء فوَسَم
تفردهما عبر ترميز لعوب، كذلك يفكر دريدا في اسم
«فرانسيس بونج». ولا تؤكد محاكاته لبونج عَرَضية أسلوب بونج واحتمالاته فحسب، قارئًا
نصوصه
بوصفها توقيعًا يُشتت حروف اسمه Fr s Pon
s … إلخ، وإنما ينفتح أيضًا على «علم عدم
اليقين» المتقلب أو علم الاحتمال العَرَضي.
وأما بالنسبة إلى الاسم، فيمكن تناول «فرانسيس» أولًا. كيف تُؤكَّد خصوصية الشيء
وعَرَضيته، الذي يحمل اسمًا بعينه له شكل محدد في كتابة دريدا المحاكاتية؟ الاسم «فرانسيس»
Francis ينتمي إلى كل القيم المرتبطة بالرغبة في الصحيح
الملائم المتميز: على سبيل المثال بكلمات مثل: frankness [الصراحة والمجاهرة]؛ freshness [العذوبة والنضارة]؛ francity؛ والعديد من الكلمات
الأخرى (علاقتها ﺑ Francis [فرانسيس] في اللغة
الإنجليزية مماثلة). وتصبح الكلمة Francifying مرتبطة
بالإعراب عن النقي أو الصحيح الملائم المتميز. ومن ثَم، فهي اسم ﻟ فعل الكتابة نفسه طبقًا لمنهاج بونج، ألا وهو ثَلْم الأسلوب
الخاص المائز: «أنْ يدل على نفسه بافتقاره إلى الدلالة (خارج المعنى أو المفهوم)، أوَليس
ذلك هو الشيء نفسه بوصفه توقيعًا؟» (Signsponge, p. 40).
وحقيقة الأمر أن الحرفين fr يؤكدان في ظهورهما عينه عدم
يقين احتمال اسم بعينه أو مصادفته، وبذلك يؤديان — بافتقادهما الدلالة —
الخصوصيةَ المميزةَ التي يمثلان منهاجها. وبالفعل يمكن رؤية النص، هنا، إذ «يفعل» ما
«يُمثله» بالطريقة الإشكالية ﻟ «حكاية خيالية»، يجذب العملية بأكملها إلى مَهْواة (أخرى)،
حتى في المحاكاة أو التظاهر بها. بل إن أكثر الإشارات «المفتقرة إلى الدلالة» تنطوي على
بنية شبيهة ﺑ نعم المزدوِجة التي حللناها في الفصل
السابق. فلا يكاد يُكتَب أو يُنقَش حرف واحد حتى تؤكد إمكاناتُ المعنى نفسَها. وتفرده
الظاهر — بقدر ما يمكن تحديده، ومن هنا قابليته للتكرار — لا يكاد يتأكد حتى يتضاعف ويتغير
شكله. وكما رأينا في الفصل الثالث، ليس الشأنُ مسألةَ «مادية الدال» بل مادية ذلك
اللااختلاف الغريب بين الدال والمدلول الذي بمقتضاه تقبل أي إشارة التكرار تلقائيًّا،
وذلكم
إعادة وَسْمها.
يُعاد أداء كل التشابك المعقد للتوقيعات المذكورة من قبل، ويُعاد وَسْمها على نحو
فريد
بطريقة ترميزية، إذا جاز التعبير في شيء دريدا،
الإسفنجة l’éponge، وهي اسم الشيء الأقرب في صورته إلى اسم
العَلَم «بونج» Ponge. ذلكم هو ما يُقدم تقديمًا واضحًا
بوصفه ما يؤسس «الحدثَ هنا والصدفةَ والفُسْحةَ في هذا الحدث» (Signsponge, p. 64):
«العلامةُ تَمتص التوقيعَ The sign sponges the
signature.
العلامة تَمتص، فيما يمكن عَدُّه صفقةً، بوصفها المُوقِّع أدناه، بعدة طرائق. [١]
العلامة تَمتص The sign sponges عملَ العلامة، على
أساس أن sponges فعل مضارع، تَمتص «علامةَ» الذات
بقدر ما تَمتص (الشيءَ والتوقيعَ). [٢] إسفنجات العلامة The sign
sponges، على أساس أن “sponges”
اسم جمع، ويمكنك وضْعُه بين علامتي تنصيص إذا شئتَ، «إسفنجات» العلامة؛ [٣ من ثم] اسم
الإسفنجة الذي هو علامة، واسم العلامة الذي هو أيضًا — كما أوضحنا — إسفنجة. اسمُ
الإسفنجة علامةٌ، والإسفنجةُ علامةٌ. [٤]، ثم أيضًا، بونج العلامة [الإسفنجة هي بونج
éponge-est Ponge]، اسمُ عَلَمِ المُوَقِّع
والصديق هنا يُقدِّمان مُسْنَدَ العلامةِ ويَئولان إليه …» (Signsponge, p. 100).
الاقتباس مقطع الأوصال هنا، برغم وجود المزيد من هذه الحركة الدورانية المدوِّخة
التي
تحاول فيها اللغةُ الالتفافَ على نفسها لتقولَ، بشكل مستحيل، العلاقةَ الفريدةَ التي
تُثير
فتنتُها حركةَ اللغة. والكثير مما يحدث هنا له علاقة بشيء-فرانسيس-بونج الذي يصعب معرفة
من
أين يبدأ. عند تناول الجملة المشار إليها ﺑ [1] في المقتبس أعلاه — «العلامة تَمتص» —
نجد
أنها تؤسس إعادة إثبات حالة النص بوصفه ما يجعل توقيعَ الشيء (أو الكاتب) غيرَ متميز
ولا
ملائمًا له، كلا ولا هو بالنقي أيضًا. كلاهما «مُمْتَص»، ولكن الامتصاص هنا ليس معناه
المحو. فالجانب غير المتميز من الإسفنجة sponge (وهي بونج
Ponge في «حالة انحطاطه» إلى إسفنجة)، ألا وإنها شيء
يمتص الماء بنوعيه النظيف والوسخ، هذا الجانب منها ليس متميزًا تمامًا كلا ولا غير متميز
تمامًا. وينسحب الأمر نفسه بصورة متلازمة على كلمة «إسفنجة»
sponge التي تحتوي اسمَ العَلَم «بونج»
Ponge بوصفه — فقط — توقيعًا «امْتَصه»
sponged أو تَشَرَّبَه الاسمُ النكرةُ، أي علامة
الإسفنجة sponge. الغريبُ أن تغدو جوانبُ الشيء، هنا، أمثولةً أو تمثيلًا كنائيًّا– عند بونج — لحالة
اسم الشيء. ومن هنا، لا نتيقن مما إذا كان دريدا
— وهو يُمثل بونج محاكيًا إياه — يتحدث عن الشيء أم عن اسم الشيء؛ نظرًا إلى أن كليهما
في
هذا الحدث النصي يمثِّل أحدُهما الآخرَ تمثيلًا غائرًا: «اسمُ الإسفنجة علامةٌ»، والعكس
أيضًا «الإسفنجةُ علامةٌ».
إن الإسفنجة، و«إسفنجة» العلامة، والإسفنجة sponge بما
هي «بونج» Ponge، في لعبة علاقاتها التي لا تنفصم، لا تصبح
مثالًا على الحدث النصي نفسه بقدر ما يكون شيئًا
يحمل معه علاقة فراكتيلية بمقاييس أوسع. فكلاهما
موسومان بحدث التوقيع نفسه. الكلمة الواحدة تجسد مشهدَ مَهْواة التوقيع (التوقيعات) الغائر،
مشهدًا خارج الاستملاك. لذا، «لا تؤسس الإسفنجةُ حدًّا للقياس فقط (أمثولة أو تمثيلًا
كنائيًّا أو استعارة)، بل تؤسس الوسط الفعلي لكل صور التشبيه ومبدأ الاستعارة نفسه»
(Signsponge, p.
72).
وبالنظر إلى هذه الفقرات الدورانية المدوِّخة — نوعًا ما — عن كلمة
sponge، تكون النتيجة الطبيعية لتصور علم الشأن الفريد
هي تجنب المصطلحات المفاهيمية التعميمية. فبدلًا منها، وإنصافًا لتفرد الشيء الذي نحن
بصدده، يتعلق الأمر بالاستسلام لمطالب الغير أو الآخر، حتى يضطلع أحدنا بكتابته الخاصة،
وإذا جاز التعبير بفعل مستمر من أفعال إعادة التعريف وعدم التطابق: «اسمُ الإسفنجة علامةٌ،
والإسفنجةُ علامةٌ» (Signsponge, p.
100). معنى الإسفنجة في حالة سيلان بحكم التركيب نفسه المتحقق في كل
جملة، إذ يتحول المعنى ويَتخصص في آنٍ، على نحو يُبْدِي اللغةَ بلا معنى تقريبًا بالنسبة
إلى مَن يأتيها باردًا. ويقينًا، كفَّتْ كل الفروق المتعارف عليها بين الحَرْفي والاستعاري
عن العمل منذ فترة طويلة.
كذا، تُلخِّص الإسفنجة في حد ذاتها (بوصفها مشهد التوقيع) الرابطة المزدوِجة التي
يتضمنها الشأن الفريد الذي حللناه من قبل. الإسفنجة (الشيء) تجري مَسْرحتها في تحليل
دريدا
لمشهد التلوث والتداخل المتبادل بين الصحيح الملائم والخاطئ غير الملائم. ومن ثَم، تبدو
«الإسفنجة» (العلامة) مثالًا على ما تُسمِّيه، على الشيء الذي يُعرفه بونج تعريفًا دقيقًا بقدرته على امتصاص الماء النظيف
والوسخ، الصحيح الملائم والخاطئ غير الملائم، وبرغم ذلك فأنْ تغدو الإسفنجةُ مثالًا بهذه الطريقة النقية البارعة، فذلكم يجعلها
الاستثناء الوحيد لما تمثله (التمزيق الغائر
للصحيح الملائم)، لأنها ستُسمِّي عندئذٍ بطريقة غير إسفنجية، وسيبدو أنها تدمج ما تفعله بما تسميه أو تمثله، ومع ذلك، فهي تمثل الإسفنجيةَ
التي — لهذا السبب — تضرب مثالًا بطريقة غير صحيحة ولا ملائمة بالقدر نفسه؛ لأنها على وجه التحديد تضرب مثالًا جيدًا للغاية، ويصبح التعبير
«جيدًا للغاية» هو نفسه «سيئًا للغاية»، وهكذا: ما من نهاية تنتهي إليها الالتفافات أو
الانكماشات الفراكتيلية لهذا المثال من دون مثال، الذي تَئول إليه الإسفنجة، ومن ثَم،
تتخذ
محاكاةُ دريدا التمثيلية لشيء الإسفنجة the ponge-thing
شكلَ علاقة فراكتيلية مع ممارسة بونج Ponge ﻟ المحاكاة. والحق إن الالتفافات أو الانكماشات لن تَتكثف إلا
بالاعتبار الذي بدأنا به، ألا وهو أن الإسفنجة تُلخص في ذاتها الرابطة المزدوِجة التي
يتضمنها الشأن الفريد الذي حللناه بالفعل. فهي نفسها صورة لرابطة التفرُّد العامة على
طول
أعمال بونج، بصيرورتها هي نفسها فعليًّا «مثالًا من دون مثال» لكل الأمثلة الأخرى التي
بلا
مثال، وهكذا، يَتكشف الفراكتل، مرة أخرى، بمقاييس مختلفة عن ذي قبل:
«تفيض الإسفنجة بالنشاط بين لا أحد. تفيض بالنشاط بين الشخص واسم العَلَم واسم
الشيء واسم عَلَم الشيء أو الاسم النكرة لشخص» (Signsponge, p. 80).
ودريدا، إذ يُسلِم نصه لدعوة الآخر، يبدأ في تعيين قانون شيء-فرانسيس-بونج
the Francis-Ponge-thing من منظور اسم «فرانسيس بونج»
نفسه. «فرانسيس» (الذي يرتبط بقيم الحزم، والرغبة في الصحيح الملائم، وثَلْم الأسلوب)
«مقترنٌ» بكل التعقيدات المصاحبة ﻟ sponge من حيث كونها
Ponge. وتجد الرغبةُ في ثَلْم التوقيع الصحيح الملائم
نفسَها في مواجهة الضرورة التمزيقية للإسفنجة بوصفها
مثالًا على الحركة خارج الاستملاك:
«فرانسيس وبونج، قِرانٌ محظوظ بلا شك. لكن هذا الزوج، كأي بيت سعيد، له تاريخ
ويقضي وقته في عمل مَشاهِد» (Signsponge, p. 68).
ولا تحتاج هذه المشاهد إلى أن يُعاد إنتاجها هنا (فتعقيدها مثبِّط). وبرغم ذلك، يمكن
استنتاج عدة نقاط؛ حين أسلَم دريدا نفسَه لقانون نصوص بونج، جعل اسمَ بونج الملاءمةَ
الأغرب. فهو يعين بشكل جد غريب ومقلِق (ولقائل أن يقول بشِبْه هَلْوسة محاكاتية) اقتصادَ
شعرية بونج: «هل سأكون قد اكتشفت المجرى الكامل لعمله من صدفة اسمه؟»
(Signsponge, p.
116).
وهذا الإمكان يُعدَّل على الفور؛ إذ يجري تأكيد تفرد بونج وتقديره على السواء. ويمكن
لأحدنا أن يقول عن أداء دريدا: «أنت لا تعرف ما إذا كان بونج يُسَمِّي أم يصف، كلا ولا
ما
إذا كان الشيء الذي يصفه/يعيِّنه هو الشيء أم الاسم …» (
Signsponge, p. 118). والأكثر من هذا، ليس
اسم العَلَم سوى اسم من عدد كبير من المتغيرات والعوامل التي تشكل خصوصية النص المائزة
له.
والحق إن كتاب دريدا «إسفنجة العلامة/علامات بونج» يشتمل على العديد من التحفظات التي
تشير
إلى أن هذه العلاقة بين اسم الكاتب والنص (النصوص) ينبغي ألا تُعمم بهذا القدر من التسرع
الذي يتجاوز مشروعات فرانسيس بونج المائزة له. ففي موضع آخر، يتهكم دريدا من موضة راجَتْ
في
الفكر الفرنسي مؤخرًا لا هَمَّ لها سوى اكتشاف «دوافع» أفكار الكاتب وتفسيرها من خلال
اسمه
وصورته الخطية.
٣١ وما راجت هذه الموضة إلا انطلاقًا من التحليل النفسي الفرنسي في الأساس. ولعل
أحدنا لا يخلط بين كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» وذلك النقاش الساعي إلى افتراض
وجود
دافع عند الكاتب يدفعه إلى نقش صورة اسمه بهيئة مخصوصة في عمله. فما أسخف النظر في عمل
من
أعمال الكاتب بقصد الإشارة إلى حروف اسمه المنتشرة في ثناياه وأعطافه.
يظهر كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج» بوصفه أداءً فاتنًا لما قد يبدو عليه علم
الشأن
العَرَضي الممكن. فمن خلال «كلمة» الإسفنجة sponge يجري
استقصاء بنية فراكتيلية تؤدي بطريقة فريدة البنيةَ الشاملة للرابطة المزدوِجة التي تُشكِّل
الحدث في عمل بونج. وبالطريقة نفسها، تؤدي التفككَ
الضروري لأي محاولة تسعى إلى تأسيس شأن صحيح ملائم خاص متميز: فما كان عمل بونج حدثًا فريدًا إلا بفضل حده الفراكتيلي —
(«إسفنجيته») — الذي يُحرِّف العلاقات بين ما هو نفسه وما هو الآخر، بين الصحيح الملائم
والخاطئ غير الملائم، بين الفريد والعام. وعلى هذا، يُعد العمل نفسه، كما يقرأه كتاب «إسفنجة العلامة/علامات بونج»، مثالًا على الحدث
نفسه الذي يحمل علاقة فراكتيلية إلى موضوعات ممكنة أخرى في علم الصدفة أو علم عدم اليقين، أكثر منه
مثالًا على علم الشأن العَرَضي الممكن.