كتاب البؤساء١ (١)
«والآن ماذا يكون عطيل؟ إنه الليل، جرم شاسع رهيب، فالليل قد أغرم بالنهار، والظلمة تعشق الفجر، والأفريقي يعبد المرأة البيضاء، وعطيل يكون له من ديدمونة نور وخبال مهيج. ومن ثم فما أسهل دبيب الغيرة إليه؟ إنه لعظيم وإنه لمبجل مهيب، إنه يسمو برأسه على جميع الرءوس، ويمشي في حاشية من الشجاعة والحرب وقرع الطبول وألوية الوغى والصيت الذائع والمجد الفاخر، يتلألأ عليه عشرون انتصارًا، وترصعه الدراري في حلكته، ولكنه بعد أسود الأديم، فما هو إلا أن تنفث الغيرة نفثتها فينقلب البطل وحشًا والأسود عبدًا ويتصل ما بين الليل والموت.
وإلى جانب عطيل وهو الليل، ترى «أياجو» وهو الشر، هل الشر إلا صورة أخرى من صور الظلام؟ على أن الليل ليل الدنيا، وأما الشر فهو ليل الروح. فما أعمق ظلمة الخيانة والنفاق، لسواء كان ما يجري في خلال العروق مدادًا أسود أو غدرًا ذميمًا — فكلا هذين واحد.
يعرف ذلك من قُضي عليه بمدافعة المين والبهتان، فإن الإنسان ليخبط مع اللؤم في ظلمة كظلمة الأعمى، ولو أن الرياء أريق على طلعة الفجر لانطفأ منه نور الشمس، وهذا بعينه هو الذي يعرض لنور الله من أثر الديانات الكاذبة.
إن «أياجو» بجانب عطيل لكالهاوية بجانب الجرف المنهار، يهمس في أذنه أن تقدم، فإذا الفخ ناصح بالعمى، وعاشق الظلام يقتاد الأسود والخداع يهب الليل بديلًا مما يحتاج إليه من ضياء، والرياء يصحب الغيرة صحبة الكلب للمكفوف.
فعطيل العبد وأياجو الخائن يأتمران بالبياض والطهر. وأي شيء لعمري أهول من ذلك؟ إن هذين السبعين الضاريين من سباع الظلمة يعملان على وفاق. إن هذين المظهرين المتقاربين من مظاهر الخسوف ليتمالآن بين زمجرة من أحدهما وتهاتف من الآخر على خنق فاجع للضياء.
وتعال نسبر غور هذا الأمر العميق. إن عطيلًا هو الليل، وإذ كان ليلًا وكان يريد أن يقتل فأي سلاح يا ترى يختاره لفعلته؟ السم؟ الهراوة؟ الفأس؟ المدية؟ كلا. بل الوسادة، فالقتل عنده هو أن يستهوي من يقتله إلى الهجوع. ولعل شكسبير نفسه لم يقصد هذا الذي نشير إليه، ولكن العقل المبدع ينساق على غير إرادة منه في معظم الأحيان إلى ما هو خليق بقالبه، فيكون هذا القالب قوة. وعلى هذا النحو ماتت ديدمونة قرينة الليل مكظومة الأنفاس تحت وسادتها التي تلقت عليها قبلتها الأولى ولفظت عليها النفس الأخير …»
انتهى ما أردنا نقله من كلام فكتور هيجو. نقلناه من كتابه على ويليام شكسبير، واخترنا هذه الكلمة بغير كثير بحث ولا مقارنة؛ لأنها أجمع ما رأينا لشتات ما يُعاب على هذا الأديب في شعره وكتابته، ويكاد يتفق عليه أئمة النقاد من أنصار المدرسة الحديثة. أما هذه العيوب على الجملة؛ فهي إطنابه في غير طائل، وإيثاره القشور المموهة على اللباب المثمر، والتفاته من الأشياء إلى علاقاتها الوهمية دون علاقاتها الصحيحة، وأنه عظيم الشغف بالأخيلة الضخمة يستحضرها، ويحتفل بتزويقها، والتزيد منها تقديمًا لوقع الكلام في السمع على مغزاه في الذهن، ومسراه في النفس، ومصدره من القريحة المنزهة والسليقة الخالصة. وترى هذه العيوب ظاهرة على هذه الكلمة في طريقة تناوله لشخصية عطيل، وفي عكوفه على جانب واحد سطحي من هذه الشخصية، وهو سواد لونه الذي جعله محور وصفه، وطفق يبدأ منه ويفتأ يعود إليه، ويفتن في تكريره ويدخله في ضروب شتى من المجاز والطباق واللعب بالألفاظ. وهكذا كان سواد الرجل هو السر في حبه لديدمونة، وهو السر في الصلة بين عطيل و«أياجو»، وهو السر في اختيار الوسادة لقتل حبيبته، وهو القرينة التي جلبت ذكر الخسوف، وسباع الظلمة، والشر، والمداد الأسود، وكلب المكفوف وكل ما أفاضه الشاعر على وصفه من كنوز خياله الغني بهذه الثروة الزائفة. فأي علاقة لهذه الأشياء كلها غير الوهم والتمحل؟ ولم تخل من المآخذ التي سردناها هنا وتكثر وتختلف حسنًا وقبحًا حسبما يسعفه الحدس ويمده اللفظ. ونظنه لا يقل منها إذا أقل إلا عن عوز إلى المادة وعلى أسف لنزارتها وضيق موردها، وبعد يأس من توفيرها والإغراق فيها، وليس ترفعًا عن هذا السفساف أو كراهة لما فيه من عوار وتشويه.
ولو كان هيجو كتب تلك الكلمة في إبان حداثته لكان له شفيع من نزوات الصبا وما فُطر عليه الشباب من الاغترار ببهرج الأشياء، وقلة التمحيص والكلف بأول زينة تطالعه وتجذب نظره دون التفطن إلى دخيلتها أو البحث عن سر علاقاتها وروابط معانيها، ولكنه كتبه بعد إذ نيف على الستين وبلغ غاية النضج. فالعيب في طبيعة مواهبه لا في غرارة سنه وحداثة تجاربه.
كذلك لا نرى الاعتذار له بتقدم زمنه وغلبة الميل إلى الزخرفة في أهل جيله، وأن الآداب كانت عند ظهوره متخلفة والعلوم قاصرة والنظريات الخلابة فاشية في أبحاث العلماء فشوها في قصائد الشعراء وإنشاء البلغاء. فهذا عذر لا يخلي صاحبه من النقص، ولا يبرئه من وصمة الزغل الذي انغمس فيه عصره، وكأي من أديب مطبوع نبغ في عصر هيجو أو في عصور تماثله ولم تؤخذ عليه هذه العيوب ولا قاربها كأنه صاحب البنية القوية يعيش بين المرضى ولا تنتقل إليه عدواهم؟ ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد بأدباء الإنجليز والألمان والطليان الذين عاصروا هيجو وشاركوه في فنون الكتابة وسلموا من عيوبه، فإن في نشأة المتنبي وسلامة شعره من سخف الصنعة وبهرج المحسنات في إبان رواجها وعنفوان نشأتها ما يغني ويدل على أن الفطرة الصادقة تعصم صاحبها من مثل هذا الزلل، أو تصده عن الإيغال فيه على الأقل أيًّا كان الوسط الذي يحيط به.
وأعجب ما في الأمر أن ترد العبارة التي اقتبسناها وعشرات من أمثالها في عرض كتاب عن شكسبير يتضمن نقد أدبه وتقدير فحولته، فهل درس هيجو أدب شكسبير حقًّا؟ ليخيل إلينا أن النفي أولى بأن يكون الجواب على هذا السؤال مع غرابته وصعوبة توجيهه، وإلا فإن الذهن الذي يدرس شكسبير ولا يتثقف به ولا ينتفع منه بما يزيح عن بصره غشاوة الفتنة بالظواهر والتخايل بالصنعة الباطلة والزخرف الملفق، لهو ذهن من أفشل الأذهان وأبعدها عن استقامة الفطرة في الفهم والأداء، وليس ذهن هيجو من الاعوجاج والخباء بهذه المنزلة؛ لأننا نُبصر له وميضًا يخطف الأبصار أحيانًا، ونجد بين سطوره من براعة الفهم وحسن الإيحاء والإلمام ما يونق ويعجب. فكيف نُوفِّق بين هذا الذكاء وبين هذا العجز عن الاستفادة والقصور عن الفطنة إلى مواطن الجمال الحقيقي ومزايا الأدب العالي؟ أم لعله ذكاء المنار الذي شبهه به نيتشه إذ يقول: إنه منار ولكنه مقام على أوقيانوس من الكلام الفارغ؟
على أننا لا نحب غلو نيتشه في النقد ولا نحسبه يعني كل ما يقوله، ولا نذهب مذهب الآخرين الذين يتهمون هيجو بالسرقة واصطياد جميع محاسنه المأثورة من غيره، ونرجح أن الرجل لو أصاب من يُفهمه شكسبير فهمًا جيدًا في شبابه لانتفع به كثيرًا.
•••
وكيفما كان الرأي في مواهب هيجو، فمما لا شك فيه عندنا أنه حرم في كتابته مزيتين من مزايا الأدب الرفيع والعبقرية العالية؛ وهما مزية الفطنة إلى الجمال البسيط الصادق، ومزية التعمق في الفكر. وليست هاتان المزيتان بضدين كما يتوهم بعض المقلدين الآخذين بأطراف الآراء الواقفين عند القريب من حدودها. إذ نحن لا نفهم لماذا لا يكون الفكر العميق جميلًا؟ ولكننا نفهم أن شهود الجمال والشعور بالتعب منه لا يتفقان ولا يجتمعان في لحظة واحدة، وأن الجميل شيء غير المتعب في النظر. فالذين يكد رءوسهم ويشق على بصائرهم أن يدركوا بواطن الأفكار الكبيرة، يحق لهم أن يحسبوا الفكر العميق والجمال متناقضين، وأن لا يروا بينهما نسبة ولا صلة، ولكن الذنب في ذلك ذنبهم واللوم عليهم. وليس هذا القصور منهم بمانع أحدًا ممن لهم قدرة على التبصر واستكناه خبايا الأمور أن يستروح أجمل الجمال من أعمق الأفكار.
•••
ولا بد من كلمة موجزة قبل الختام في التفرقة بين الجمال البسيط الصادق، وزخرف الصناعة الكاذبة، فمما لا يقبل الجدل أن النفوس مجبولة على أن تطلب الجمال، وأنها لا تكتفي بالنافع. ونحن لا نشرب اليوم في قعب من الخشب؛ لأننا لا نقتصر في صنع أدواتنا على تحري المنفعة البحتة منها، ولكننا نشرب في آنية تحمل الماء كما يحمله القعب مع جمال في اللون والصنعة والملمس والمنظر، ولكن هل ترى أننا لو جئنا بالقعب الأول ووشيناه بالحرير الناعم، وحليناه بالذهب البراق، وعلقنا على حواشيه من الجواهر النفيسة ما تغلو قيمته وتسر رؤيته، أتظنه يكون بهذه الحلية المصطنعة أجمل رونقًا مع اعتباره آنية للشرب مع كوب الزجاج المتقن البسيط؟ كلا. وسبب ذلك أنه لم يعد قعبًا ولا كوبًا، ولكنه عاد شيئًا مستعارًا له الجمال من غيره لتكلف الإعجاب والنفاسة، وأما الكوب فهو بخلاف ذلك؛ لأنه جميل وهو كوب لم يُستعر له شيء من خارجه.
وكذلك يجب أن تكون المعاني، جمالها في ذاتها، وفيما تؤدي به وظيفتها، وفيما تلزم به طبيعتها، وليس فيما يضاف إليها من ألفاظ منمقة وأخيلة مستعارة متكلفة.