كتاب البؤساء١ (٢)
وبعد ما بيناه من الرأي في أدب فكتور هيجو، هل أحسن حافظ أو أساء بترجمته هذا الكتاب أو هذه الرواية — إن صح أنه رواية — وليس هو كذلك؟ ولنعلم قبل البدء بالجواب أن كتاب البؤساء كسائر كتب هيجو محشو بما يؤخذ عليه من عيوب الصنعة والفكر، وأنه في رأي كثير من النقاد أضعف مصنفات الشاعر من الوجهة الفنية؛ إذ ليس فيه صورة شخصية واحدة كاملة الشكل صادقة التحليل، وقلَّ فيه ما يطابق الحقيقة من أوصاف النفوس وأطوار الفكر والجسد وأكثره مما لا يقره كتاب الطريقة «النفسية» ولا يرضى عنه الثقات من نقاد فن الروايات.
ومن الأمثلة على أخطائه في هذا الجزء الصغير الذي أبرزه حافظ اليوم وصفه لفانتين في مرضها وما يتخلل سياق الفصول أحيانًا من تحليل السرائر وتعليل الخوالج والخواطر، فإنه لم يفلح فيما تعمل له من هذا القبيل إلا نادرًا، وكان فلاحه فيه قريب المدى قليل الجدوى. فهل أصاب حافظ أو أخطأ في انتقائه هذا الكتاب للترجمة؟ قد يُقال: إنه لم يخطئ؛ لأنه أخرج لنا كتابًا من جنس الأدب الذي تعود قراؤنا أن يعجبوا به، ولا سيما في العهد الذي ظهر فيه جزؤه الأول، وأنه إذا كان الشغف بالزخرف وخلابة اللفظ مما يُعاب على فكتور هيجو، فإنه عيب لا ينكر من عيوب الأدب عندنا في الجيل الماضي. ولسائل أن يسأل: هل هذه وظيفة المعربين يا ترى؟ وهل كل ما يُطلب منهم أن ينقلوا إلينا ما هو قريب من عيوبنا موافق لأذواقنا، وإن كانت على خطأ وضلال؟ هذا هو موضع النظر. وقد يقال من ناحية أخرى: إن حافظًا أخطأ خطأ مضاعفًا؛ لأنه في هذا الوقت الذي أخذت فيه العقول تتفتح على الصواب، وتفطن إلى فضائل الآداب الصحيحة وأصول النقد الحديث، جاءنا بكتاب يضلل النشء ويدس في روعهم أن ما يعجب به المعجبون من آداب الغرب لا يختلف في روحه ومنهجه عما يعجبنا نحن من الآداب العتيقة وصنوف البلاغة الغثة الممجوجة، فيختلط عليهم الأمر ولا يتبين لهم فاصل ظاهر المعالم بين الصدق والتمويه والأصالة والتقليد، قد يقال هذا، وقد يقال ذاك، ولا يخلو القولان من قسط من الصواب.
على أننا لا نعني بهذا القول أن العمل ضار لا نفع فيه، ولا أنه قليل النفع أو ضئيله، فإن للكتاب محاسنه كما لا يخفى، وفيه الجيد كما فيه الرديء، وليس من الصعب أن يُتَلافى خطؤه بلفت النظر إليه وتصحيح وهم الواهمين أنه مثال للأدب الأوروبي المختار وقدوة يقتدي بها المحدثون من أنصار الأساليب العصرية. فإذا قرأه القارئون وهم على علم بمآخذه فقد لا يتسرب إليهم كثير من خطئه. ومن يدري فلعل هذا الخطأ لا يضرهم إلا ريث أن يشعروا به فيصلحهم وينفعهم؛ لأنهم على الأكثر بين غافل عنه لا يدقق في فهمه فهو بمعزل عن خيره وشره، وبين متنبه له فهو محترز منه. ومن هنا تهضمه المعدة القارئة وتستخلص منه ما يفيد ممزوجًا بقليل من الضرر الذي لا يشعر به إلا ساعة التهيؤ للخلاص منه.
ولكننا نعود فنقول: إن غير هذا الكتاب قد كان أولى بالعناية والمشقة التي صبر عليها حافظ حتى ترجم ما ترجمه إلى الآن في جزأيه. وهو أقل من ثلثه. وليست اللغة الفرنسية بالفقيرة في مؤلفات أبنائها وغير أبنائها، وليس قليلًا فيها من آثار العبقرية ما يجمع بين الاقتدار والبلاغة واللذة الأدبية.
•••
أما هذا الجزء الثاني من حيث هو ترجمة من عمل حافظ، فلا خلاف في أنه ذخيرة طيبة بين ذخائر اللغة العربية، وصفحة نادرة من صفحات البلاغة فيها. ولا نغالي إذا قلنا: إننا نرى الترجمة العربية أعلى طبقة في البلاغة من طبقة بعض التراجم الإنجليزية في لغتها. وهنا نقف …
نعم نقف هنا لأننا لا نستطيع أن نزيد على ذلك مزية أخرى للترجمة العربية، ولا يسعنا أن نقول: إنها تضاهي الترجمة الإنجليزية التي بين أيدينا في الدقة وضبط العبارة. واللوم في ذلك على حافظ؛ لأنه اختار أن يتصرف بلا ضرورة تلجئه إلى التصرف سوى الاسترسال مع طنين الألفاظ أو تحاشي ما يحسبه نابيًا عن السمع منافرًا للاستطراد. وأول ما لفتنا من ذلك أننا قرأنا في الكتاب عبارة خيِّل إلينا أنها لا تكون في الأصل، وهي: «فلم يكد يلمح تلك التحايا لأنه وقع في ذهول قد افترس طائر حلمه»، ولو أننا وجدناها في الأصل لما استغربنا كثيرًا لأنها شبيهة بنمط هيجو في الكتابة. وخطر لنا أن نراجعها فلما رجعنا إلى الكتاب إذا هي زائدة لا أثر لها، فكأن حافظًا لم يكفه ما في عبارة هيجو من هذا المجازات والاستعارات على وفرتها حتى أراد أن يتمها، وليته وفِّق إلى صواب في زيادته، فإن الحلم يُوصف بالرجاحة والوقار ولا يُشبَّه بالطائر المستوفز الخفيف.
وقد راجعنا جملًا متفرقة هنا وهناك، فألفينا بعض الحذف والتحريف في أكثر الفقرات التي بحثنا عنها اتفاقًا للمقابلة. ومنها هذه الجملة في الصفحة الرابعة وهي: «ولبث ما شاء الله يرى السعادة في يقظة الضمير، فكان كلما بضع الندم على ماضيه من فؤاده بضعة شعر في نفسه بوفر تلك السعادة، ولقد تكفلت حسنات الشطر الثاني من حياته بغسل حوبات الشطر الأول»، وترجمتها نقلًا عن النسختين الفرنسية والإنجليزية: «وكان سعيدًا بما كان يخامر ضميره من حزن يعتريه من أثر ماضيه، وبأن يرى شطر حياته الثاني على نقيض من شطرها الأول، فعاش في دعة، وقد عاودته الثقة واطمأن»، ومن قوله في الصفحة الخامسة: «على أنه لم يشهد مشهدًا لهذا العراك كان أشد هولًا وأعظم مراسًا من ذلك الذي مر به حين دخل عليه جافير ولفظَ أمامه ذلك الاسم الذي درج في أثناء النسيان، فاضطربت له نفسه من داخل الجسد، واستخذى عند سماعه، وعجب لذلك الجد الذي لا يفارقه العثار»، وأصلها: «ومما ينبغي أن يُقال: إنه لم يعرض له عارض كهذا الذي مر به في حاضره. وما اشتد العراك بين الفكرتين المسيطرتين على ذلك الرجل المنكود الذي نصف عذابه كما اشتد بينهما في ذلك الحين، وقد خطر له ذلك على شيء من الإبهام ولكنه على غموضه بعيد القرار، خطر له مذ لقيه جافير بكلماته الأولى عندما دخل عليه مكتبه، فبهت حين فاه أمامه بذلك الاسم الذي تعمق في قبره، وكأنما أسكرته غرابة جده المنحوس»، ومنها وصفه للعجلة في (صفحة ٤٨) فإنه حذف في ثلاثة أسطر أكثر من سطر مع لزوم ما حذفه من الوجهة التاريخية، ومنها قوله عن فانتين في (صفحة ٦٦): «ولقد كان لتشويه خلقها أثر في تشويه خلقها»، والذي يقوله هيجو: «إن ألم الجسد قد أتم ما بدأه ألم النفس»، وقوله في (صفحة ٨٠): «وكان رئيس الجلسة في أراس ممن يعظمون مادلين ويبجلونه»، والذي في الأصل: «أنه كان يسمع باسمه المبجل في كل مكان»، وقوله عن حاجب الجلسة في الصفحة نفسها: «فسلَّم وانحنى حتى كاد يمس الأرض بجبهته، وحتى تبين مادلين إعظامه في حماليق عينيه»، والذي في الأصل نقيض ذلك؛ وهو «أن مادلين سمع في ذهوله قائلًا يقول له إلخ ولم يتبينه ولا رأى شيئًا في حماليق عينيه». وقد كان الواجب على المُعرِّب أن يُنبِّه إلى هذا التصرف وليس عليه كبير حرج؛ لأنه لم يمس جوهر المعنى في عمومه إلا في مواضع محصورة مما قابلناه، ولكنه سكت عن التنبيه وزاد على ذلك أن قال في هامش الصفحة الثامنة والثلاثين: إنه في «هذه الصفحة وحدها قد أضاف كلمات من عنده دعاه إليها حسن المقابلة في المعاني واطراد القول» وهذا خلاف الحقيقة كما ترى.
•••
ولا نأخذ على حافظ بعد ما سبق إلا مأخذين قد يَسُرُّه أن يُعابا عليه؛ وهما الحرص على إرضاء الجامدين من بقايا المدرسة العتيقة، والمبالغة في الخوف من الابتذال حتى كاد هذا الخوف يكون جبنًا أدبيًّا في بطلنا الجندي القديم.
أما إرضاء الجامدين فإنه لم يظفر به ولن يظفر به بعدما أعنته طلابه وأجهده تحريه ولا نخالهم يقيلون له عثاره، فقد سقط في بعض الأغلاط التي كان لا يتعذر عليه اجتنابها، وسيحاسبونه عليها، فلا يحسبون له ما تجاوزه من المفردات والعبارات التي يتحرجون منها بلا حرج فيها غير الحرج الذي في عقولهم والضيق الذي في حظائر نفوسهم.
وإنا لنعجب غاية العجب من رجل يمارس ترجمة صفحة واحدة من لغة أجنبية، ثم يأبه بعدها لتجني هؤلاء القاعدين المتشدقين الذين لا يحسنون أن يكتبوا ولا يدعون غيرهم يكتب. وهل في لغة العرب كلها منذ ألَّف فيها المؤلفون إلى اليوم كتاب واحد أو بعض كتاب وافق شرطهم في الكتابة أو خلا من مآخذهم فيها؟ أليس في القرآن الحكيم كلمات من جميع اللغات التي عرفها العرب وحروف على غير القياس الذي اخترعه النحاة بعد ذلك؟ بلى! ولكن هؤلاء القاعدين المتشدقين لا يروقهم أن يكون في الكلام حرف أعجمي أو وضع على خلاف السماع. فمن لحافظ إذن أو لغير حافظ بإرضائهم؟ وماذا يعنيه من رضاهم وغضبهم وإنهم لأحرى بالخجل ممن يعيبون عليهم؟ وهل مُمَاشاة سُنَّة الأحياء في اللغات، ونبذ الجمود الذي لا تقر عليه حياة، عيبٌ يُعاب؟!
وأما الابتذال فقد أخطأ حافظ فهمه، وينبغي أن نحاول تعريفه قبل أن نُبيِّن وجه الخطأ في فهم معناه. فالابتذال عندنا هو أن تتكرر العبارة حتى تألفها الأسماع فيفتر أثرها في النفس، ولا تفضي إلى الذهن بالقوة التي كانت للمعنى في جدته، ومن ثم فالابتذال مقصور على التراكيب ولا يصيب المفردات. وما دام للكلمة معناها الذي يُفهم منها، وهي سرية مصونة؛ فلن يتطرق إليها الابتذال ولو طال تكرارها، وإلا فنيت اللغة وانقرضت جميع مفرداتها بعد جيل واحد.
وعلى هذا ليس مما يُشكر عليه حافظ، ولا مما يُعد توقيًا منه للابتذال أن يستبدل «عابا» بعيب في قوله: «وقد كان أيسر عاب بها أنها حدباء» أو معناة بمعنى في قوله: «وهذان أيضًا لا معناة للإبقاء عليهما»، أو خرصت بظننت في قوله: «ثم رفعت لي قرية فيممتها فخرصت عليها أنها قرية رومانفيل»، أو بسل بحرام في قوله: «بسل على أن تموت فانتين» إلى أمثال ذلك مما هو بالحذلقة أشبه. وما عناؤك أن تسلم من ابتذال اللفظ فتقع في فكرة مبتذلة؟
ولنا أن نلوم حافظًا على شيء آخر؛ ذلك أنه حذف عناوين الفصول وأدمجها كلها في فصل واحد فوزع من الكتاب ما قسمه صاحبه، وقد أفسد عليه هذا الولع بالوصل الذي ظنه من لوازم الأسلوب العربي جملًا كثيرة سمعناها منه ثم عدنا فقرأناها على وضع آخر. ومنها هذه الجملة في وصف أهل الجلسة حين قام بينهم مادلين يعترف على نفسه بالجريمة: «فذهب بأهل القاعة وحالوا إلى عيون تنظر، وأفئدة تخفق، فلم تعد ترى فيها قضاة ولا مدعين، ولا تلمح أشراطًا ولا مدافعين — أُنسِيَ كلٌّ غرضه — نسي الرئيس أنه جاء للرئاسة، والمدعي أنه قام للاتهام، والمحامي أنه مثل للدفع، والحرس أنهم أقيموا للحراسة»، فقد سمعناها منه هكذا ثم لج به وسواسه فأضاف «الواو وقد» قبل نسي فذهب بما لمفاجأة الاقتضاب من معنى بليغ في هذا المقام. وغريب هذا منه مع أنه أحسن الفصل في غير جملة من الكتاب.
ولكن لا ننسى أن حافظًا جهد لاجتناب النقص والخلل، وأنه أراد خيرًا وصنع خيرًا؛ فاستحق عذرًا جميلًا وشكرًا جزيلًا.
وإنا لعاذروه وشاكروه، وحامدون له ما أفاد به من فضل وعناية.