الوضوح والغموض في الأساليب الشعرية١
قرأت للأديب الحاذق «صدقي» مقاله في الهواء الطلق، واستوقفني منه إشارته إلى الفرق بين عبارات الأفهام وعبارات المشاعر، وأراه على صواب بيِّن في هذه التفرقة، فإنه مما لا يقبل الجدل أن للعلميات وما نحا نحوها أساليب تختلف عن أساليب الشعريات وما يخرج من ينبوعها ويتولد من معدنها، ولكل منهما نمط من القول لا يساغ ولا يصلح في سواه. وهذا الذي أردت إجمال الكلام عليه في هذه الكلمة.
يقول الأديب: «ولربما يدين الريحاني بأن العبارة الواضحة المعتادة تخاطب الأفهام وأن المشاعر تُخاطب بلغة أخرى، وبهذه اللغة الأخرى نحن ندين ولكن غير مطموسة الرموز، بل تتراءى معانيها خلف نقاب من الشف لا هو يسترها إلى حد أن يخطئها العيان، ولا هو يبديها إلى حد لا يعود معه لخيال القارئ عمل.»
وهذا صواب لا شية عليه، ولا سيما الإلماع إلى سبب استهجان الوضوح المفرط في عبارات الشاعر وهو أن يشل حركة الخيال ويبطل عمله — بيد أنه يجب أن يقال هنا: إن رفع ذلك «النقاب الشفاف» واجب، بل فرض مقضي على الشاعر كلما تسنى رفعه دون إخلال بالمعنى أو تعطيل لمتعة الخيال؛ إذ ليس الفرق بين أسلوب العلم وأسلوب الشعر في درجات الوضوح والغموض، وليس ذلك النقاب الشفاف بالحائل بين ما هو من سبيل العقل، وما هو من سبيل الخوالج النفسية. وإنما الفرق الذي بينهما أو الحائل الذي يفصلهما كائن في طبيعة الأشياء التي يتناولها كل من العقل والخيال وفي طريقة التناول وكيفيته. فلو أننا جئنا بدرس من كتاب الكيمياء فلففناه بالغلائل والحجب وأطلقنا حوله من البخور والدخان كل ما في جعبة الطلاسم والسحر لما صار شعرًا، ولو أننا جئنا بفن من فنون الشعر فغمرناه في بحر من النور لا تخفى فيه خافية، وبسطناه حتى لا موضع فيه لالتفاتة لما صار علمًا، وإنما يبقى الأول علمًا غامضًا ناقصًا، ويبقى الثاني شعرًا مبتذلًا ناقصًا كذلك.
ولا أذكر أنني قرأت بيتًا أو جملة قط لفحل من فحول الشعر والبلاغة فأحسست للقائل اختيارًا في وضوح عبارته أو غموضها، فإن المعنى إما أن يكون واضحًا بطبيعته فلا يكون تعمد إخفائه للمبالغة والترويج إلا شعوذة ينبو عنها، بل يستحي منها كل طبع نزيه، وإما أن يكون غامضًا بطبيعته فليس للشاعر أو الكاتب حيلة فيه، ولا يُقال حينئذ للذي يحتوي كلامه الغموض: إنه ذاهب فيه مذهبًا خاصًّا يقصده ويُؤْثِره على سواه. وهذه آثار أئمة الشعر وفحول البلاغة في الشرق والغرب بين أيدينا فليبحث فيها من شاء، فهل تظنونه يجد في أطوائها معنى واحدًا مما يعد من آياتهم وغرر أقوالهم وشواهد بلاغتهم حجبوه قصدًا أو على غير قصد؟ إن وجد فإنما يكون ذلك بين سقطهم الذي يعتذر له ويتمحل فيه التأويل، لا في المميز المنتقى الذي يُشاد به فضلهم وتذيع لأجله شهرتهم.
ولقد تقترن العبارة البليغة بمعاني جمة لا تزال تسترسل في الذهن حتى يحتويها الغموض في ظلال الفكر البعيدة، وشعاب الخيال المستسرة، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون لهذا الكلام البليغ نصيب من الغموض الذي لا بد تنتهي إليه معانيه ذهابًا مع الخيال ومطاوعة لتداعي الخواطر وتلاحق الصور. انظر مثلًا إلى هذه الآية الكريمة: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ فلعمر الله أي ثروة معنوية فيها وأي وضوح وإيجاز؟
ثلاث كلمات موجزات هيهات تأنس لكل ما قيل وصفًا لأول طلوع الفجر ما تأنسه فيها من إعجاز التعبير ووفرة المدلول وتنوع الصور واتساع مجال السبح للخيال. وما خطرت لي هذه الآية مرة إلا تفتحت أمامي فجأة صورة كاملة للفجر البهيج، بعضها تهم به العين في ضحوة النهار، وبعضها يلوذ بعالم الأحلام من غرابة ونفار، فيهب على نفسي نسيم الصباح الندي، وأتمثل الطبيعة يتنهد به صدرها كأول ما تدب الحياة في الجسم بعد طول السبات، وأستروح أنفاس الرياض شائعة في كل مهب ومطار، سيارة بنفحات الرياحين والأزهار، وتتبادر من هنا وهناك طيور طار عنها النعاس وخلائق فارقها كسل الظلام وشملها من «نفس» الصبح ما يشملها من نوره فإذا هي حية صادحة، مستوفزة صائحة، وإذا الفجر كله كأنه نفس عميم من أنفاس القدرة الخالقة المبدعة: قدرة الحياة الأبدية المتجددة.
وهذه الصور الكاملة تلهمك إياها كلمة «تنفس» بسرعة البرق وخفة السحر ولذة الحلم. فهل حفلت قط كلمة بمثل ما حفلت به هذه الكلمة الواحدة في موضعها من الأشكال المأنوسة والخواطر القريبة والبعيدة؟ وهل في هذه الكلمة أو في الكلمات الثلاث أثر لأقل تعمل أو غموض؟ فمن هنا نعلم أن القدرة في التعبير لا يعوقها الوضوح أن تبتعث الخيال إلى آخر مداه ونهاية سبحه، وأن الذي يهرب إلى الإبهام فرارًا من الجلاء إنما يهرب من عجز ظاهر إلى عجز مستور.
وانظر كذلك إلى هذه الآية القرآنية في الإنذار بيوم القيامة: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ فأي هول لا يسبق إلى الروع من هذه الآية المعجزة؟ وأي دهشة تفوق دهشة العقل من تلك الصورة الموجزة؟ أي بلاء ذاك البلاء الذي يذهل الوالدة عن رضيعها ويتغشى الناس بحيرة السكر وهم مفيقون؟ ليخيل للإنسان أن جهنم نفسها قد جنت من ضراوة وجوع فزحفت بأهوالها تلتهم الخلق التهامًا، وما لهم من مهرب وما هم بمهتدين إليه لو أصابوه، وأن الخيال ليهجم عليه الهول من هذه الصورة الداهمة حتى ليكاد يحجم عن استفسارها كما تحجم الفريسة عن التأمل في وجه آكلها، فهو يبلغ أوج الشعور في وثبة واحدة، ولكنه لا يحرم قليلًا ولا كثيرًا مما هو مدمج في تفاصيلها. والآية كما تراها ليس في مفرداتها أو تركيبها أو معناها مسحة من خفاء أو كتمان.
كذلك ترى بلاغة هذا التمثيل حيث وجدتها على تفاوت في الدرجات والمناهج والأساليب، فإذا التفتنا من القرآن إلى الشعر في لغتنا ألفينا شواهد كثيرة على هذا الوضوح الحافل بالأشباه والخواطر: ومن هذا الباب استهلال البحتري في وصف الربيع:
وبيت مسلم بن الوليد يصف مجهلًا من الأرض:
ولا يقل عن هذه الطبقة قول ابن الرومي يذكر بلدًا «بغداد»:
أو قوله الفكه الذي تناهى في ضبط الشبه حتى لا مزيد للعيان، ولكنه يخلي للخيال منصرفًا سهلًا إلى تصور الهيئة النفسية ومعاني الملامح، فيعطيها حقها من التأمل المضحك المطلوب. ونعني بيتيه المشهورين في تشبيه الأحدب:
وقول أبي تمام يتحسر على عهد نعيم فقده:
وقول قطري بن الفجاءة يفتخر بمواقفه:
وقول المعري:
ولا يكاد يخلو كلام شاعر أو كاتب مجيد من أمثلة حسنة على هذه البلاغة المكشوفة السافرة؛ ومن هذه الأمثلة يظهر لنا أن ازدحام المعنى قد يعبر عنه بلفظ لا ازدحام فيه، وأن الكلمة لا تحضر في الذهن معناها المراد بها ولا تطلق أعنة الخيال إلى أبعد غاياته لغموض يشوبها أو لوضوح يبديها ويسطع عليها، ولكنها تحضر المعنى وتطلق الخيال متى وقعت في موقعها واستوت في سياقها؛ فمن اقتدر على ذلك فليعالجه، وليعلم أنه مستغن عن ظلل الغمام وسدل الإبهام بنصوع بيانه وصفاء وجدانه، وأما من يلوح له معناه الواضح صغيرًا فيثقله بالسجف المصطنعة والتعاويذ الملفقة، فإنه إنما يلجأ إلى الاحتيال، ويبيع على الناس بضاعته بأغلى من ثمنها الحلال.