الاشمئزاز١
إذا حضرت مجلسًا تذكر فيه قصة رجل من أهل الدنس والسيرة القبيحة فانظر إلى السامعين وراقب سحنتهم، فإنك ترى أكثرهم يظهرون التقزز والاشمئزاز، فيشدون مناخرهم، ويطبقون شفاههم، أو يشيحون أحيانًا عن المحدث بأبصارهم ووجوههم. وربما اشتد الانفعال ببعضهم فيتفل على الأرض ويمتقع لونه. وإذا توالت هذه الانفعالات في النفس ثبت منها على الوجه لمحة يُعرف بها أهل الترفع والعزوف.
وإذا رأيت أحدًا يمر بشيء مما تعافه الأنفس، وتكره رائحته الأنوف، فانظر إليه تره يفعل ذلك أيضًا، ولكنه هنا يشد منخريه ليعلق أنفاسه فلا تصعد إليهما الرائحة الكريهة، ويطبق شفتيه لئلا ينفذ من بينهما الهواء الفاسد، ويدير وجهه كي لا يبصر مبعث ذلك النتن، ويتفل إذا دخلت الرائحة إلى جوفه فهاجت فيه غدد اللعاب.
فالأصل في الاشمئزاز أنه حركة جسدية، ولذلك كان أثره في الوجه جسدانيًّا جُبلت عليه الأعضاء للوقاية مما يضر الجسد ويكدر الحواس، وذلك بعض ما يُستدل منه على أن كل معنوي في عواطف الإنسان وخلائقه، فإنما أصله من الجسد أولًا، وأن الإنسان عاش زمانًا في مبدأ خلقه لا حكم عليه لغير الجسم، ولا محرك له غير مطالب الطبع الحيواني من جلب رضى أو دفع أذى. فلما تولد فيه الإدراك العالي والإحساس المعنوي تخلفت عليه مسحة من الحس الجسداني، وبقيت هذه المسحة ظاهرة في أطهر العواطف وأنزه الآداب، وهذه الأنفة مثلًا أليس أرقى ما يسمو إليه أدب النفس ونبلها أن تنفر عن الدنايا، وتتأذى من ذكر المعائب والمخازي، وتأنف من كل وضيع ذميم؟ ولكنك تنظر فلا ترى على وجه الرجل الشريف فرقًا بين أثر الأنفة من خُلُق وضيع وأثر الأنفة من جيفة منتنة. فكلا الأثرين في السحنة سواء كما رأيت. وقد عُرف العرب بدقة وصفية في وضع أسماء المحسوسات واختيار ألفاظها قبل أن يشاركهم فيها غيرهم من أصحاب اللغات، فمن يسمع كلمة الأنفة ولا يتبادر إليه أن فيها معنى مما يتعلق بفراسة الأنف؟ وذلك لأنه ليس في جسم الإنسان جارحة تظهر عليها سمة الترفع ظهورها في الأنف، وإنما علة ذلك ما قدمناه — وربما كان سبب هذه الدقة في هذا النمط من كلمات العرب أنهم كانوا قوم بادية تكثر بينهم الفراسة والقيافة لحاجتهم إليهما في حياتهم. والفراسة كما تعلم هي رد الملامح المعنوية إلى أصولها الجسدية، واستكناه شيء في النفس بشيء في الجسد.
وكما يكون الاشمئزاز المادي داعيًا لصاحبه إلى الصد عن مبعثه وكراهة التطلع إليه، كذلك يلزم أن يكون الاشمئزاز المعنوي صارفًا للعزوف عما يأباه من خبائث الناس وفضائحهم، ومانعًا له عن إطالة النظر إلى أدران نفوسهم وقذر أخلاقهم، وإلا فهو اشمئزاز طبع أبخر لا يشم ما يشمئز منه، ولهذا كان أكبر برهان على احتقارك إنسانًا أن لا تُعرِّض به ولا تخوض في مثالبه، وليس البرهان عليه ذمك إياه ونيلك منه، إلا أن يكون ذلك لغرض تحتمل من أجله محنة النظر إلى ما نعافه، ولهذا أيضًا كان أكثر الناس وقوعًا في أعراض الناس وجدًّا وراء صغائرهم وخسائس جبلاتهم هم أكثرهم فضائح وأرذلهم مروءة، إذ كانت النفس الكريمة تتأذى من انكشاف هذه العورات لها ولا تطيق النظر إليها، وما يطيق النظر إليها إلا الذين لا يخجلون منها لو انكشفت للناس فيهم، وهم في ذلك كالأطفال في جهلهم، وإن لم يكن لهم عذر الأطفال.