ساعات بين الكتب (١)
قصر ملا
الآن، وفي أسوان، أي سبيل إلى غير الوحدة ومناجاة الأحلام؟ وأي مشغلة للفراغ أجمل
من قضاء
الوحدة في قصر ملا، أو بين صفحات كتاب؟
وقصر ملا هذا هو طلل دارس منصوب للرياح من أينما أقبلت:
درسته الريح ما بين صبا
وجنوب درجت حينًا وطل
جمع منظره بين وحشة القدم المتبدد، ونضرة الصبا المتجدد، وقامت حوله وديفة منيفة
١ تعرف باسمه ويرتاح إليها الطارق من سآمة ذلك الشبح المهجور في أكمته؛ وهي رباوة
٢ أثرية ذات طباق يعلو بعضها على بعض، في كل طبقة منها حياض الأزهار والنوار،
ومنابت العشب والبهار، تنتهي من بحبوحتها إلى العليا إلى جانبها الغربي فتشرف من ثم على
النيل، ويستقبلك الجبل الغربي تليه الجزر والجنادل المعترضة في جوف النهر، وهو ينساب
بينها
انسيابًا، فروعًا وشعابًا، وتجلس هناك بعد الغروب فتنظر أمامك إلى المقياس في هيكله القديم،
وإلى النيل يجري وكأنه لا يجري، وإلى الجنادل قد اطلعت رءوسها على متنه كأنها بعض حيوانه
يتنسم هواء الليل، وإلى الجبال ممتدة على طول الأفق كالديباجة السوداء حول تلك المناظرة
الساحرة. فيجلو لك ضوء الكواكب منها صورة قاتمة، كأنها الصورة الفحمية رسب فيها الظل
من
جانب وطفا من جانب، فإذا كانت الليلة مقمرة أخذ القمر يرفع عنها سدفة
٣ بعد سدفة، ويزحزح منها رواقًا بعد رواق، كمشاهد الحلم البعيد العهد بالذاكرة
تستعيده، فيتألف في ذهنك شتاته، وتبرز لك غوامضه، حتى إذا اتسق الضياء وانجابت عن تلك
المواضع ظلال الغسق، مثلت أمامك وهي إلى مشهد حلم غابر أقرب منها إلى مشهد تراه بين يديك،
وتحس صلابة أرضه تحت قدميك، فإذا نظرت في تلك الساعة إلى القمر، ثم نظرت إلى تلك الأماكن،
آنست بينهما ألفة وسرارًا، وعرفت لهما حرمة وجوارًا، ورأيت من عزلة الأماكن وانفرادها،
وبعد
الجالس فيها عن استشعار الصلة بغيرها، ما يوهمك أن القمر لا يطلع في تلك الساعة على غير
تلك
البقعة من الدنيا.
وقد كنت أتوردها الفينة بعد الفينة
٤ أقضي هزيعًا من الليلة — هناك — فأجلس على صخر قديم ساوره
٥ النيل أعصارًا ثم قنع بمسح أقدامه، وطغى عليه أعوامًا فلم يظفر بغير المرور من
أمامه، وأعوض العزلة بمساجلة بنات الأحلام، ومسامرة عرائس الشعر. ولله هن ما أجدلهن
وأطربهن! وما أشد امتزاجهن باللحم والدم وأقربهن إليك في نسب النفس من بنات وعرائس! فهن
والله خفيفات ظريفات، أخف من كواعب الأنس وأظرف وأعز منهن في القلب وأشرف، لأن القلب
بخلقهن
كما يشاء ويرضى، وكما يرسم الأمل ويملي الهوى، ومن له بأن يجد من حسان الإنس من توافق
الأمنية وتنزل على حكم الوفاء؟ وأنى له منهن بمن يصطفيها وتصطفيه على العلات، ومن لا
يفترق
لها أمل عن أمله، ولا ينفصل لها ضمير عن ضميره، ولا خاطر عن خاطره؟ ولقد كن لا يغببني
في
ليالي الصيف القصار، ولا يفترن عني على شحط المزار، وتوسط المهامه والقفار، وكأنما يكذبن
لي
وصف دعبل حين قال في هذه الديار:
هبطت محلًّا يقصر البرق دونه
ويعجز عنه الطيف أن يتجشما
وإن امرأ أضحت مساقط رحله
بأسوان لم يترك له الحزم معلما
وسامح الله دعبلًا ما أقل حمده ورضاه وأكثر تجنيه وشكواه! أتراه كان لا يلمح الطيف
في
لياليه بأسوان ولا يسري إليه البرق في سمائها، أم كذلك دأبه لا يزال يهجو الديار وسكانها
ويجتوي الأرض ومن عليها، ويستبعد البعيد والقريب منها؟
أوَلم يتأوبك يا دعبل في ليالي غربتك طيف من بغداد ولياليها، ومجالس الأنس فيها؟ أوَلم
يبلغك وأنت مستلق على ساحل النيل ليلة من ليالي الصيف، صدى المزاهر في قصور الخلفاء،
وشدو
القيان الفاتنات المفتونات يغنين للجمال والحياة، ويغني الجمال والحياة فيهن أنشودة الفوز
للحب والسعادة؟
أوَلم تحمل البرق عشية من عشيات نأيك، وقد ذهب بك الشوق، وقعد بك النوى، رسالة إلى
حبيب
فارقته في ربوع دار السلام؟ أو تحية إلى أخ من مقارضيك الشعر على شواطئ دجلة؟
ولكن من لك بالإخوان وأنت القائل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدًا
ولك العذر يا دعبل، فأحسبك قد صدقت على كره من الصدق وبئست الشكوى الصادقة، ولقد يحق
لك
أن تضع أسوان بحيث يعجز الطيف عن تجشمها ويقصر البرق دونها؛ لأن خليقًا بلحظك الشزر أن
لا
ينام، ولعمري لا يعجز الطيف إلا عن تجشم مكان واحد؛ هو سرير الساهر! فهو أهول من عرين
الأسد
وأخوف للمدلج إليه من وادي التيه.
نعم وللبرق أجدر أن يقصر عن مكان لا يجوده السحاب، ولا يحمله إلى جوه ركاب!