ساعات بين الكتب (٢)
تقول الولادة لصاحبها:
وكذلك تقول لي العرائس الزائرات، الدانيات النافرات. عرائس الشعر وبنات الأماني.
عهدتهن لا يلممن نهارًا بصاحب، ولا ترسلهن السماء إلا على أشعة صباح ندي البكورة أو مساء سري الأصيل، ويا لهما من ساعتين فيهما للنفس جذل وكآبة، وحركة وسكون، وضياء وظلام، ونهار وليل، فأما إذ تنصب أشعة الشمس على الأرض كأنها وابل من السهام المحماة، أو كسيل من النار، فهن مقصورات في المقاصير، لائذات بحوافي الأنهار، ناعسات في أفياء الرياض والبساتين. وهن في جو مدار السرطان أجدر أن يشفقن على أجنحتهن الهفافة من سعير القيظ وهجيره، وعلى وجوههن الناعمة أن يسفعها الهواء المضطرم بهوجه وزفيره.
فكنت إذا انفردت بذلك المكان، أقبلن عليَّ من كل صوب مع همس النسيم، ومنامسة الشجر، ورقرقة النهر، وشذى الرياحين، ووسوسة النجم. وحدثنني بكل لسان، وناجينني بكل بيان، لا يخطئن لغة من اللغات مما ينطق به الطير أو يومئ به النبات. فكم جرس شجي لهن كأنه صدى الوتر المقطوع في الغرفة المهجورة. وكم ضحكة ذات رنين يدور في مسامع النفس كما يدور فيها هزج الابتسامة الصامتة. وكم لثمة تلمسها الأيدي قطرة ندى وتحسها الشفاه رضاب ثغر برود اللمى. وكم نظرة تشخص بعينيك لها ثم تمحى عنك في لألاء الضوء، فإذا أنت شاخص إلى الفضاء ممتلئ العين بالهواء. وكم عبث لهن وكم دلال وكم صد لا يبلغ أقبح الهجر حتى يرتد إلى أحسن الوصال. لا أملُّ عبثهن ولا يمللنه، ولا أقطع حديثهن ولا يقطعنه. وربما لج بهن العبث والمراح فيختبئن عني ساعة في ألفاف الروضة حتى إذا أمعنَّ هربًا، وأعيينني بحثًا وطلبًا، خرجن إليَّ من جانب الطلل ضاحكات، أو أقبلن على أكف الموج سابحات، وتسابقن إليَّ كما يتسابق الأطفال الغيارى، وكلهن حبيبات إليَّ أثيرات لدي، خلا واحدة منهن كانت مولعة بالأذى، مسلطة على النكاية، قد دلها اللعب والفضول على سهم قر في جانب القلب، وكاد يندمل جرحه، فما زالت منذ عرفته تدمن اللعب فيه، وتنكأه حتى تدميه، لا يزيدها النهي إلا إغراء، ولا الغضب إلا استهزاء، ووالله لا أعلم أأنا أحبها أم أقلاها، وهل هي أود أخواتها إليَّ أم أقساهن عليَّ. ولا أدري أدلها اللعب والفضول على ذلك السهم، أم أنا قد دللتها عليه، وكانت تعصاني إذ أنهاها عن مسه أم كانت تطيعني بتلك المخالفة وترضيني بذلك الإغضاب؟ لا أعلم. وكثيرًا ما يجهل الإنسان أسرار نفسه.
•••
كذلك تنصرم الليالي. فإما تنصف الليل أو كاد لبثت برهة أنظر إلى الدنيا تغرق في جوف الليل الحالك العميق، وأنصت إلى لاغية المدينة تهبط رويدًا رويدًا في ذلك الجب الأسود، فما هي إلا هنيهة ثم لا يسمع منها السامع إلا أنين ساقية يضربون بها المثل في طول الأنين والنحيب، والأهتاف النواتية يجأرون في شمال المدينة بأصوات هي بأصوات العناصر أشبه منها بغناء بني الإنسان.
•••
أيها الليل: إن ظلمًا من الفلك الدائر أن جعلك مهجع الحواس، ومخدع العقول، وإن فيك يا ليل من مسارح النظر، ومطارح الفكر، لما هو أرفق بالحواس من النهار وأحلى، وأحوج إلى العين والفؤاد وأجلى.
أيها الليل: لئن أنامت فيك الطبيعة أبناءها لقد أسهرت عشاقها وأخلاءها — أولئك تأويهم إلى أحضانها، وتكنفهم بحنانها. وهؤلاء تظهرهم على ظاهر زينتها وباطن جنانها، وتمتعهم بمباهج خدرها ثم تطلعهم على سرائر وجدانها، وكلًّا أرضت بما قسمت، فلا عقَّت الأبناء، ولا ظلمت العشاق والأخلاء.
أيها الليل: أنت رب الأرباب الأقدمين وإله الآلهة الأولين. فيك فلا بدع يتهجد العباد، وتنطلق أروح الآلهة المحبوسة، وفي ظلامك الذي يشرق فيه نور الضمير يجد الكافر إلهه ويظفر التائه المضلل بقطبه. قال يونج: «بالليل يعود الملحد نصف مؤمن بالله.» وقد صدق. فما من شك في أن نجومك وظلامك هما من نور الله ووقاره، وهما أول من علم الإنسان الوحي، وصوب أذنه وعينه إلى عالم الغيب. ثم خالك الناس أيها الليل ماردًا يروضه الله ولا يحله من قيده سواه، فقال أيوب ساهرك المعذب وراعيك المقيد يروي للناس تبكيت الله له على شكواه: «قل أين منازل النور ومكامن الظلمة، فتقودها إلى مقرها وتدلها على سبيل بيتها؟» وهل أحوج من هذا المارد الأعمى إلى الدليل؟
ولو أن أيوب كان ينطق بلسان امرئ القيس لرأى ذلك المارد وقد:
أو رآه وهو جاثم كما قال ابن جندق المري:
وحاشا لك أيها الليل أن تحار، وإنما تحار وتهتدي فيك الأفكار، ومن أين ينالك القيد وأنت مطلق النفوس من القيود والآصار، إنك أيها الليل لأهيب من أن تقيد، وأجل من أن تحد، إنك لأشبه الوقت بالأبد: ساكن مظلم سحيق. أو ألست ابنه البكر كما خبرنا أجدادنا القدماء؟ فلا جرم أراني كلما دخلتك كأنما قفلت آلافًا من السنين إلى الماضي الدائر البعيد أو وثبت آلافًا من السنين إلى المستقبل. فأنا فيه كالطارئ الوحيد.