ساعات بين الكتب (٣)
الكتب كالناس؛ منهم السيد الوقور، ومنهم الكيس الظريف، ومنهم الجميل الرائع، والساذج الصادق، والأريب المخطئ، ومنهم الخائن والجاهل والوضيع والخليع. والدنيا تتسع لكل هؤلاء. ولن تكون المكتبة كاملة إلا إذا كانت مثلًا كاملًا للدنيا.
يقول لك المرشدون: اقرأ ما ينفعك. ولكني أقول: بل انتفع مما تقرأ، إذ كيف تعرف ما ينفعك من الكتب قبل قراءته؟
إن القارئ الذي لا يقرأ إلا الكتب المنتقاة كالمريض الذي لا يأكل إلا الأطعمة المنتقاة. يدل ذلك على ضعف المعدة أكثر مما يدل على جودة القابلية.
واعلم أن من الكتب الغث والسمين، وأن السمين يفسد المعدة الضعيفة، وأنه ما من طعام غث إلا والمعدة القوية مستخرجة منه مادة غذاء، ودم حياة وفتاء. فإن كنت ضعيف المعدة فتحامَ السمين كما تتحامى الغث، وإن كنت من ذوي المعدات القوية، فاعلم أن لك من كل طعام غذاء صالحًا.
وإن من منظر أنت تراه فلا تود أن تراه بعدها، أو صوت تسمعه ثم لا تحب أن تسمعه آخر العمر. فلا أدري من أين داخل القراء أن الكتاب إنما يُقرأ قراءة واحدة، مع أن الكتاب أخفى رموزًا وأكثر مناحي نظر من المنظر والصوت. وأنت تنمو بعقلك أكثر من نموك بحواسك، فأنت أحرى أن تعاود النظر فيما يُمتحن به نمو الفكر، ومن كان يفهم أن قراءة الكتاب شيء غير الإتيان على كلماته، وأن درسه مطلب غير استظهار صفحاته، فعليه بلا ريب أن يكرر قراءته كلما استطاع؛ لأن كتابًا تعيد قراءته مرتين هو أغنى وأكثر من كتابين تقرأ كلًّا منهما مرة واحدة.
ثم اعلم أنه ليس بأنفس الكتب ولا بأجلها الكتاب الذي تتوق إلى إعادته بعد قراءته، وليس بأفرغ الكتب ولا بأقلها الكتاب الذي تقنع بتركه بعد الفراغ منه. فإنك ربما صادفك الكتاب الأجوف المغلق فأعجبتك رنته فجعلت تقلبه على كل جنب لعلك أن تخلص إلى لبابه ولا لباب له، وربما صادفك السِّفر القيم الشافي فانتهيت إلى آخره مرتاحًا مصدقًا فقنعت بذلك منه. وقد عهدنا الناس يمنعهم البخيل فيراجعونه ويلحون عليه ويعطيهم المنعم الكريم فيهجرونه ويعرضون عنه، وتلك ضرائبهم في مصاحبة الكتب. فلا تكن في المطالعة من هؤلاء.
وطريقتي في القراءة أن لا أذهب مع الطرف في الصحيفة إلا ريثما أذهب مع الفكر في نفسي. فقد أتناول الكتاب أبدأ فيه حيث أبدأ إذا كان من غير الكتب التي يلتزم فيها الترتيب والتعقيب، فيستوقفني رأي أو عبارة تفتح لي بابًا من البحث والروية، فأمضي معها وأطويه فلا أنظر فيه بقية ذلك اليوم أو أنتقل منه إلى كتاب آخر، وأجد هذا التوجيه في أنفس الكتب كما أجده في أردئها، فلا أميز بينها في الابتداء، ولا يكاد يستدرجني إلى المضاء في المطالعة غير موضوع يستوعب ذهني ويأخذ عليَّ المؤلف فيه باب الانفراد بالفكر دونه.
فأما وقد عرفت رأيي في الكتب وطريقتي في المطالعة فهلمَّ نقرأ.